"واجتمع كل جماعة بني إسرائيل في شيلوه ونصبوا هناك خيمة الاجتماع، وأخضعت الأرض قدامهم، وبقى من بني إسرائيل ممن لم يقسموا نصيبهم سبعة أسباط، فقال يشوع لبني إسرائيل: حتى متى أنتم متراخون عن الدخول لامتلاك الأرض التي أعطاكم إياها الرب إله آبائكم...؟!" [1-3].
إذ صارت شيلوه تمثل الحضرة الإلهية وسط الشعب، فيها أُقيمت خيمة الاجتماع، وهناك تُقدم ذبائح الرب وتقدماتهم، لذا اجتمع الكل مع يشوع في حضرة الله ليروا أن الأرض قد أخضعت قدامهم والميرث قد أعد. إنها صورة حية لالتقائنا جميعًا ككنيسة الله وشعبه، نجتمع مع الرأس يشوع الحقيقي وفيه كأعضاء جسده (أف 5: 3) لندرك إمكانياتنا الجديدة، إن الأرض قد أخضعت، فصار جسدنا مقدسًا لله، وصارت حياتنا بكليتها له، يرثها كملك له، ونرث نحن أمجاده. في شيلوه الحقيقية - كنيسة العهد الجديد- لا تنصب خيمة اجتماع إنما يحل روح الله القدوس فينا، ويجعلنا هيكله المقدس، فلا نرث أرضًا نُزعت من ملوك بشريين وإنما يصير كل شيء خاضعًا لنا، نرث السماويات وننعم بالملكوت الأبدي.
كم كان قاسيًا على قلب يشوع بن نون أن يرى بعضًا من شعبه قد عبر الأردن، وانهارت حصون أريحا أمامهم، وانهزمت عاي بملكها ورجالها، وانهارت المدن المقاومة... كل شيء قد أعد ولم يبق شيء سوى أن يتسلم الأسباط الميراث! ألم يعد الرب الوليمة، وأرسل إلي المدعوين، ولم يُكلفهم الأمر بعد إلاّ الحضور للتمتع بها، لكنهم في استخفاف اعتذروا (مت 22: 3). هكذا يحزن قلب عريسنا يشوع الحقيقي، الذي أعد كل شيء لنا، ولم يتركنا في عوز إلى شيء...، حارب عنا وغلب، ومات وقام ليقيمنا معه، وأفتتح أبواب الفردوس للطبيعة البشرية التي تغربت عن السماء زمانًا (2 كو 5: 2، عب 11: 16)، وقدم لنا روحه القدوس سندًا ومعينًا، ولم يعد بعد لنا عذر... صار الملكوت قريبًا إلينا لكننا مع هذا كله فنحن متراخون عن الدخول إلى ميراثه الذي وهبنا إياه.
لقد طلب يشوع أن ينتدب عن كل سبط ثلاثة رجال يمثلون السبط يقومون ويسيرون في الأرض ويكتبونها بحسب أنصبتهم ثم يأتون إليهم [4]. لقد حدد يشوع عملهم "يقومون، يسيرون في الأرض، يكتبونها، يأتون إليَّ يقسموها". من هم هؤلاء الرجال؟ وما هي هذه الأعمال؟ بلا شك هؤلاء الرجال المنتدبون عن الأسباط أنما يمثلون في حياة الإنسان ثلاثة أمور: الفكر والقول والعمل، هكذا تقف الكنيسة كلها - وكأنها بالسبعة أسباط - ويقدم كل عضو فيها فكره وكلماته وتصرفاته بين يدي يسوعنا الحيّ القادر أن يُقدسنا، فيصير هؤلاء الرجال الثلاثة علامة تقديسنا في المسيح يسوع بروحه القدوس. إن كنا نُحاسب عن كل فكر خفي وشهوة خفية أو نظرة مستترة (مت 5: 28) وعن كل كلمة بطالة (مت 12: 36) وكل تصرف شرير، فتكون هذه سرّ حرمان الإنسان ميراثه الأبدي، فإنه على العكس إذ تتقدس هذه الطاقات تصير أداة مقدسة خلالها نُكلل ونرث إلى الأبد!
أما أعمالها فهي أولاً "يقوموا"... فإننا إذ نتقدم إلى يشوعنا بفكرنا الداخلي ولساننا وبقية أعضاء جسدنا، يقيمها فيه أدوات مقدسة تمارس حياته المقامة كحياة لها. لنبعث كل ما لنا لدى يشوع الحق القادر أن يهبنا القيامة كعمل يومي مستمر، فنحيا بحياته، ونحمل سماته فينا، ويحق لنا شركة أمجاده! وكما سبق فكررت أكثر من مرة أن سفر يشوع كسفر الميراث هو سفر القيامة، فلا ميراث بدون الحياة الداخلية المقامة فيه وبه!
أما بعد القيامة فيقول "يسيرون في الأرض"، أي ينطلقوا إلى أرض الميراث، فنحن مدعوون بعد أن تمتعنا في المعمودية بسرّ الدفن والقيامة، ونتمتع بالقيامة مع كل يوم جديد خلال التجديد اليومي المستمر، أن نسير في الأرض المقدسة أي نتذوق عربون السموات ونحن بعد على الأرض. عندئذ "يكتبوها"، أي يدركون أبعادها قدر استطاعتهم ويتعرفون على أسرارها غير المدركة. وأخيرًا يعودون إلى يشوع... ففي كل مرة نكتشف أسرار الحياة الأبدية إنما نرجع بالأكثر إلى يسوعنا، ندخل أعماقه ونعيش فيه على أعماق جديدة حتى نلتقي به أخيرًا وجهًا لوجه. ولعله قصد بالعودة إلى يشوع لتقسيم الأرض الرجوع إليه في اليوم العظيم لنلتقي به كواهب الميراث، وينعم كل منا بنصيبه الأبدي! العدد 1- 48: 1. أنصبة بقية الأسباط...
قلنا أن العلامة أوريجانوس يرى في كل ما حدث في أرض الموعد يحمل رمزًا خاصًا بالحياة السماوية حتى وإن لم ندركه الآن. على أي الأحوال قسمت بقية الأرض على بقية الأسباط الستة بالترتيب: سبط شمعون، سبط زبولون، سبط يساكر، سبط أشير، سبط نفتالي وأخيرًا سبط دان.
إن لم تجد لك موضعًا في الأسباط السابقة فاطلب أن تكون منتميًا إلى أحد هذه الأسباط فإن "شمعون" الذي يعني (مستمع) إنما يضم جماعة المستمعين للوصية والطائعين لله. وسبط "زبولون" الذي يعني (مسكن) إنما يضم من تنفتح قلوبهم لله مسكنًا له. وسبط "يساكر" أي (الجزاء) يُشير إلى طالبي المكافأة السماوية، وسبط "أشير" أي (سعيد) يحوي المغبوطين بالرب المملوئين من فرح الروح القدس، وأخيرًا "دان" أي (يدين) يضم الذين يدينون أنفسهم لا الآخرين[1]. العدد 11- 28: 2. نصيب بنيامين...
يُحسب سبط بنيامين أصغر الأسباط وأقلها عددًا، لكن آخرين يصيرون أولون، فقد جاءت قرعته بين السبعة أسباط: الأول. وقد جاءت "قرعتهم بين يهوذا وبني يوسف" [11], كان لبنيامين أصغر أولاد يعقوب معزة خاصة لدى أخيه يوسف، الذي أعطاه نصيبًا مضاعفًا عندما جاء مع إخوته إلى مصر في قصر فرعون، والذي لم يحتمل أن يراه فتوارى ليبكي بمرارة! إنه الأخ الوحيد له من أبيه وأمه، يحمل له مشاعر حب خاصة، وقد انتقلت هذه المشاعر بين أبنائهم أيضًا. لكن فيما بعد التحم سبط بنيامين بالأكثر مع سبط يهوذا ليكونا معًا مملكة يهوذا، عاصمتها أورشليم التي كانت من نصيب بنيامين. التحام بنيامين بيهوذا ليس أمرًا غريبًا، فإن بنيامين يعني (ابن اليمين) فيُشير إلى السيد المسيح الجالس عن يمين أبيه، والخارج من سبط يهوذا. العدد 49- 51: 2. نصيب يشوع بن نون...
"ولما انتهوا من قسمة الأرض حسب تخومها أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطههم" [49]. ليس عجيبًا أن ينتظر يشوع لينال نصيبه في وسط شعب الله بعد أن يتمتعوا هم بالأنصبة، ليس تهاونًا منه بالميراث، لكنه يُحسب أن ما يناله كل واحد منهم إنما قد ناله هو، وينتظر ليحتل نصيبه في وسطهم ليكون الشعب نفسه هو نصيبه. هذه صورة حية لفكر المسيح نفسه الذي يُحسب كل ما نملكه إنما يملكه هو بكونه رأسنا الذي يتمجد في جسده المُكرم... إنه يبقى كمن هو آخر الكل حتى يفرح بكل مختاريه شركائه في الميراث الأبدي.
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [أي جمال وأي اتضاع تظهره هذه العبارة بخصوص يشوع، فقد كان بحق جديرًا أن يحمل اسم يشوع ربنا ومخلصنا. يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطهم، حسب قول الرب: أُعطوه المدينة التي طلب تمنة سارح في جبل أفرايم، فبنى المدينة وسكن بها" [49-50]. إنه هو الذي أعطى الميراث لكل بني يهوذا، ولأفرايم ولنصف سبط منسي، وهو الذي أعطى الميراث للشريف كالب بن يفنة، وهو الذي بعث ثلاثة رجال من كل سبط ليطوفوا في كل البلاد ويصنعوا الخطة ويعرضونها عليه بعد عودتهم. هو الذي حدد مصير الكل، وترك نفسه للموضع الأخير! لماذا أراد أن يكون آخر الكل؟ ليؤكد أنه هو الذي يصبح أول الكل (مت 19: 30). لم يأخذ نصيبه من الميراث من نفسه، إنما استلمه من الشعب، إذ يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون في وسطهم" [49]، لكن "هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً" (1 كو 10: 11). لقد عُرضت علينا كصورة لكي نلاحظ بدورنا المبادئ التي تممها يشوع في هذه الأعمال، ويقول: "إزداد تواضعًا تزداد عظمة وتنال خطوة لدى الرب" (سيراخ 3: 7)، وأيضًا: "إذا اختاروك رئيسًا فلا تتكبر ولكن كن بينهم كواحد منهم" (سيراخ 32: 10). أنظر بأي وسيلة كان رئيسًا للشعب؟! هو الذي أدخلهم الأرض المقدسة، أرض الموعد، وكان خليفة موسى ومع ذلك لم يسمح لنفسه أن يأخذ نصيبه من الأرض وإنما انتظر أن يتسلم من الشعب قطعة أرضه. أنه رئيس الشعب، ومع ذلك فإنه إذ استلمها يشوع الجدير بهذا الاسم بنى الأرض التي أُعطيت له، وأقام فيها الأبنية حتى تكون جديرة بهبة الله والميراث الروحي[2]].
إن كان يشوع يرمز للسيد المسيح فليتنا نصنع ما فعله بنو إسرائيل، نقدم ليشوعنا أرضًا أو نصيبًا في وسطنا، نقدم له قلبنا مركز حياتنا كنصيب الرب، يتسلمه أرضًا فيُقيم فيها مدينته المقدسة ويسكن فيها [50]. إن كنا لا نقدر أن نبني له مدينة فينا، فإن العلي لا يسكن في مبانٍ من صنع الأيدي، فإنه بروحه القدوس يُقيم مدينته الروحية الحصينة ليسكن فيها، محولاً قلبنا إلى سمائه المقدسة. هذا ما أكده السيد نفسه بقوله: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي عنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23).