الحب والجنس والله

أرزنا

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
7 أبريل 2007
المشاركات
1,100
مستوى التفاعل
26
النقاط
0
الإقامة
قلب يسوع
سلام المسيح:


الحب والجنس والله

مقدمة:يحاول الانسان في عالمنا اليوم أن يتحرر من مختلف القيود التي تكبّله وتأسر حريّته وانطلاقته. ولكنّ تحرره من قيوده لا يكون سليما وناضجاً ، الاّ اذا كان واعيا ومدركا معنى وجوده وما يختلج في أعماق نفسه والاّ انتقل من عبوديّة الى عبوديّة وبقي في دوامة من الغربة عن ذاته الأصليّة . ففي مجال الجنس والحب كثيرا ما نجد الإنسان المعاصر مستعبداً ومقيّداً بأغلال تكبل انسانيته بالرغم من تكرار محاولته أن يتحرر من هذه القيود التي تأسر انطلاقته العاطفيّة. ويعود سبب ذلك الى أنّ الانسان ليس واعيا في كل حين أو مدركاً معنى الجنس والحب في أعماق كيانه الانسانيّ مما يجعله لا يعيش حياته الانسانيّة في عمقها. ومن هنا أهميّة معالجة موضوع الجنس والحب في اطار الأبعاد المختلفة التي تقوم عليها حياة الانسان.ينطلق هذا البحث أولاً من الواقع الحياتي المعاش في البيت وموقف الأهل من الجنس ثم يسلط الأضواء على جوانب الانسان المختلفة: الاجتماعيّة والفلسفيّة والدينيّة والنفسيّة فيحاول التوصل الى نظرة متكاملة الى الجنس. ويتطرق البحث بعد ذلك الى موضوع الحب في واقعه الحاليّ وفي عمقه الإنسانيّ ثم الى علاقة الحب مع الله في سره الثالوثي وينتهي بكلمة عن البتوليّة المكرّسة واكتمال إغلاقاً للحلقة التي تبدأ مع الله وتنتهي فيه.

1- التربيّة الجنسيّة في البيت

يقول أحد الاختصاصيين في التربية والعلاج النفسي إنه، مدة عشرين سنة قضاها في ممارسة العلاج النفسي ، كان يسأل من يعالجهم عن التربية الجنسية التي تلقوها في محيطهم البيتيّ فكان فكان تسعون بالمائة من هؤلاء يجيبون بأنهم لم يتلقّوا أية تربية جنسيّة في بيوتهم. ويضيف هذا الاختصاصيّ أنه يفهم تماما هذا الجواب لأنه عانى هو أيضا من النقص التربوي نفسه في محيطه وهناك احصاء تمّ على مئة شخص مراهق تبين أن عشرون شخصاً تلقوا تربية جنسية من أهلهم وثمانون لم يتلقوا أي شيىء عن ذلك.
هناك ولا شك إهمال كبير في مجال التوعية الجنسيّة في البيت، وغالباً تعود أسباب ذلك الى موقف الأهل السلبي من الجنس. فنجد أن أسئلة الأولاد عن الجنس تضع على المحك موقف الأهل من هذا الموضوع وتكشف عن صعوباتهم في هذا المجال الخفيّ من حياتهم وتشعرهم في آخر المطاف بحياتهم الجنسيّة الخاصة، التي يحيطونها بالتحفظ الزائد والسرية وموقف الأهل هذا له طبعاً ما يبرره نظرا الى الرغبة الطبيعية والمشروعة لدى الانسان في أن يحيط بالسرية والغموض النواحي الحميمة من حياته الشخصيًة ولكن يا للأسف فإنه ما يتعدى الأمر هذا التحفظ الطبيعي والمشروع فيصل الى ردود فعل غير سليمة مما يدل حقيقة على عدم التآلف السليم مع الناحية الجنسية من الحياة الزوجيّة المشروعة.فكثير من الناس ينتابهم شعور مبهم وتعلق تجاه الجنس وهذه الناحية الحميمة من حياتهم قد تصبح بالنسبة إليهم مرتبطة بنحو أو بأخر بالخلاعة والمجون.
أما الشعور غير السليم بالقلق والإثم تجاه الجنس فله من الناحية النفسية ما يفسره على أصعدة مختلفة. فقد يرجع إلى رواسب الصراع العاطفي في سن الطفولة ويستمر في مناخ تربوي غير سليم حتى الكبر . وقد يرجع هذا الشعور غير المتزن غلى التربية التي تقمع الجنس والتي تلقاها الأهل في طفولتهم مما يجعلهم يواجهون بدون إتزان حياة أولادهم الجنسية . فثمة أسباب خفية وعميقة تصد الأهل وتمنعهم من توعية أولادهم في أمور الجنس. حتى في حال اقتناعهم النظري بضرورة التوعية الصحيحة في هذا المجال .
ونتيجة لتهرب الأهل من الإيجابة السليمة والناضجة على أسئلة أولادهم العفوية في مجال الجنس فقد يشعر الأولاد تدريجياً بأن ميدان الجنس غامض ومحرم . ولهذا فكثيراً ما يتقمص الأولاد موقف أهلهم من الجنس فيحاولون أن يتهربوا من مواجهة نزعتهم الجنسية مواجهة صريحة وجريئة فيتجاهلون وجودها أو يقمعون حركتها فيهم. كل هذا قد يؤدي ولا شك إلى الكبت الجنسي بلغة فرويد مؤسس التحليل النفسي ، مما يجعل الإنسان يقمع لا إرادياً وعفوياً إندفاعه الجنسي فينتج بسبب ذلك نفور غير سليم من الجنس نفور قد يرافق الإنسان مدى الحياة وقد ينعكس سلباً على علاقته بالجنس الأخر وقد يتسبب عند الزواج في تعكير الحياة الزوجية أو في تهديمها . ومن ناحية أخرى فقد يؤدي الكبت الجنسي إلى تعطيل الطاقة الجنسية بمنع تطويرها وانضاجها وأنسنتها . فقد تبقى هذه الطاقة الحيوية المهمة في حالتها البدائية الغريزية فيصبح الإنسان لا يعرف إلا الإشباع الجنسي الفوري واللامشروط ولا يستطيع التوصل إلى مستوى العلاقة الجنسية الناضجة والحب السليم .
فما هي النظرة الإيجابية الى الجنس التي تساعد الإنسان على أن يكتشف إندفاعه الجنسي فيفجر بالمقابل طاقاته للحب في جوّ سليم ومتزن ؟ هذه النظرة الإيجابية الناضجة مرتبطة حتماً بالنظرة المتكاملة الى الإنسان في جوانبه المختلفة : الفلسفية والنفسية والدينية ، إذ إن الله خلق الإنسان وحدة متكاملة فلا يمكننا أن نفهم جيداً رغبته الجنسية دون أن نفهم مقوماته الأخرى التي من ضمن كيانه الإنساني ككل .

2 – الفلسفة والجنس
ما هو الإنسان وكيف نعرّفه ؟ ثمة تعريفات كثيرة للإنسان إنطلاقاً من أبعاد كيانه المختلفة . فإذا إنطلقنا من بعده الإجتماعي فبإمكاننا أن نعرفه على أنه الكائن الإجتماعي الذي يسعى الى إقامة شركة مع الأخرين . فهو يحس في أعماقه بأنه لا يكتمل ولا يحقق ذاته إلا بهذه الشركة والوحدة مع الأخرين . وقد حدد الفيلسوف الإغريقي أرسطو الإنسان على أنه " حيوان إجتماعي" . ولا يعني هذا طبعاً أن الإنسان فصيلة خاصة من الحيوانات إذ هو يختلف جوهرياً عن الحيوان بسبب مقوماته المميزة : والتفكير والإرادة الحرة ومشاركته البنوية في حياة الله . فالإنسان وهو يشبه الحيوان جسميّاً يختلف عنه جوهريّاً بأنه اجتماعي . ففي عالم الحيوان هناك ولا شك مجتمعات أوبالأحرى تجمعات لا تتعدى كونها تكاملاً غريزياً ووظائف متكاملة . أما في عالمنا الإنساني فإن العزلة التي نشكو منها لا تزول أبداً بالتكامل الغرائزي والفطري بل بالإنفتاح الإراديّ والإختياريّ على شخص آخر بالإتحاد الكيانيّ به . وهناك اسطورة رواها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون وهي تصور رمزياً السعي الإجتماعي الذي يقوم به الإنسان من خلال سعيه الجنسي الى الإتحاد بشخص آخر يكمل كيانه انها اسطورة " الأندروجين " . وتقول هذه الأسطورة انه في قديم الزمن كان ثمة كائنات بشرية تجمع في جسدٍ واحد أعضاء الذكر والأنثى إلاّ أن غضب الآلهة شطرها ، فأصبح منذ ذلك الحين كل من الشطرين يحن الى اللقاء بالشطر الآخر ليسترجع منه الكيان الواحد الأصيل . هذه أسطورة طبعاً وليست حقيقة تاريخية ولكنها تشير ولا شك الى المعنى الأعمق للنزعة الجنسية في الإنسان ذاك المعنى الذي يجعله يتخطى الجانب الحيواني الغريزي الى الإتحاد الشخصي الأكمل .

2- الكتاب المقدس والجنس

وفي سفر التكوين من الكتاب المقدس ورد نص يعبّر بعمق عن نزعة الجنس الاتحادية عند الانسان فنقرأ: " وأما آدم فلم يوجد له عون بإزائه . فأوقع الرب الاله سباتا على آدم فنام فاستلّ إحدى أضلاعه وسدّ مكانها بلحم وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة فاتى بها آدم . فقال آدم : هذه المرأة هي عظم من عظامي ولحم من لحمي .هذه تسمى امرأة لأنها من امرىء أخذت ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً ." ( تك2/20-24) فاذا تعمقنا في دراستنا لهذا النص الكتابي من سفر التكوين وجدنا أنه ليس تفسيرا بيولوجيّا عن كيفيّة خلق المرأة الأولى بل إنه يعبر بأسلوبه الأسطوري تعبيرا عميقا عن العلامة الصحيحة التي تشدّ الرجل والمرأة أحدهما الى الآخر. فكل منهما يتجه بطبيعته الى الآخر لأنه لا يكتمل بدونه فيحن الى الاكتمال به حتى اذا اتحد به بالزواج يؤلف وإياه جسداً واحداً بالمعنى الكتابي لكلمة الجسد وهي تشير الى الانسان بكيانه الكلي : جسماً وعقلاً وإرادة وعاطفة وانفعالات ورغبات الى أخره.

4- علماء النفس والجنس
يتبع
 

أرزنا

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
7 أبريل 2007
المشاركات
1,100
مستوى التفاعل
26
النقاط
0
الإقامة
قلب يسوع
رد على: الحب والجنس والله

٤- علماء النفس والجنس

ومن ناحية أخرى فإن ما توضح بأسلوب أسطوري عند الفيلسوف أفلاطون وفي النص من سفر التكوين قد ردده علماء النفس في عصرنا باسلوب آخر. فإن سيغموند فرويد مثلاً وكان يميل في أول الأمر إلى اعتبار الميل الجنسي مجرد غريزة لإزالة توتر عضوي مزعج، قد وسّع في وقت لاحق مفهومه للجنس ، فاعتبره طاقة اتّحادية في الانسان . ويقول كذلك المحلل النفساني إريك فروم : " إن الانجذاب الجنسي لا يرد أبداً الى حاجة جسدية وإلى تفريغ توتر مزعج، بل حاجة عميقة، وهي الحاجة الى الاتحاد بين قطبين متضادين". فما هي إذن النزعة الجنسيّة عند الانسان؟ من جهة ، هي حقّا حاجة غريزيّة والحاجة الغريزية العاديّة هي حاجة إلى شيىء ما ، فاذا استهلك الانسان هذا الشيىء زال توتره العضوي وارتاح. فحاجة الانسان الى الطعام مثلاً تزول باستهلاكه الطعام ، وكذلك حاجته الى الشراب والى الحرارة والى الهواء والى أمور كثيرة أخرى . أمّا الغريزة الجنسيّة عنده التي تسعى أساسا الى الاتحاد الإناني فليست حاجة الى شيىء فقط بل هي أيضاً وأهم من ذلك حاجة الى شخص إنساني والشخص له استقلاليته ولا يستهلك أبداً وإلاّ أصبح شيئا. فالنزعة الجنسيّة عند الانسان ليست إذن حاجة غريزية عادية بل هي حاجة غريزية إلى الالتقاء والاتحاد بشخص آخر.
و بإمكاننا أن نتعمّق في معرفتنا للنزعة الجنسيّة فينا، من خلال متابعة التطور الجنسيّ عند الإنسان منذ الطفولة.ففي المرحلة "الفميّة" تكون النزعة الجنسيّة مبهمة، و مركّزة على الفم، الذي هو المصدر الأساسي للمتعة عند الطفل.
و لكن يلاحَظ، في هذه المرحلة، أنّ ما يرتاح إليه الطفل ليس حليب أمّه فحسب، بل ما يناله مع هذا الحليب و من خلاله، ألا وهو العطف والدفء الإنسانيّ. فيقول الروائيّ الإنكليزيّ شكسبير بأنّ ما يطلبه الرضيع ضمنيّاً، عندما ينهل الحليب من ثدي أمّه، هو أن يلفّه حضورها الدافىء، لكي يتّحد بها كما كان يفعل عندما كان جنيناً. وبعبارة أخرى، ليس ما يطلبه الرضيع حليب والدته فقط، بل الوالدة نفسها، أو بالأحرى حنينها. وإثباتاً لذلك، نجد أنّ الطفل الذي يحرم حنان أمّه أو مربّيته يذبل جسديّا و نفسيّا، و لو كانت جميع حاجاته البيولوجيّة محقّقة على أكمل وجه.

و من ناحية أخرى، فإنّ الطفل، لعدم نضوجه الإنسانيّ، يحاول لا شعوريّاً، أن يحقّق الإتّحاد بأمّه، عن طريق إشباع غريزته الطعاميّة فقط. فقد نشاهده مثلاً، عندما يرضع من ثدي أمّه، يمتصّ حليبها بنهم و إندفاع، و كأنّه يحاول أن يلتهم أمّه مع حليبها.
ولهذا، فلا بدّ أن يتخطّى الإنسان هذه المرحلة الفميّة ليصبح راشداً، و ذلك بتخطّيه شيئاً من نزعته الإستهلاكيّة الطفليّة، عبر إدراكه التدريجيّ لحدود حاجاته الخاصّة التي تصطدم بعالم الآخرين.

5- العادة السرّيّة ونزعة الجنس الاستهلاكية

في سياق الكلام على ضرورة تخطي نزعة الجنس الاستهلاكيّة في الطفولة ، لا بد من التوقف عند مشكلة الاستمناء ( العادة السرية) التي يعاني منها الانسان من الجنسين، انطلاقا من سنوات المراهقة مما يجعل الواحد لا يتخطى نزعة الجنس الاستهلاكيّة ويبقى في عزلة ، منغلقاً على نفسه وغير منفتح بشكل سليم على الأخرين من الجنسين . إنّ هذه العادة المتفشية عموما لدى المراهقين أكثر انتشارا لدى الشباب حيث 75 % من الطاقة الجنسية لديهم ترتكز في الأعضاء التناسلية و25 % فقط في المجال العاطفي والعلاقات الاجتماعيّة.
ويقال إنّ هذه العادة الجنسيّة ليست مضرة صحيّا إذا لم تتكرر تكرارا مبالغ فيه. ولكن بما أن الانسان ليس مجرد جسم وأعضاء مختلفة بل هو كائن اجتماعي متكامل فإن نشاطاته المختلفة على المستويات المختلفة متداخلة بعضها ببعض وليست منفصلة الواحدة عن الأخرى . ولهذا فإن لم يكن هناك ضرر كبير على المستوى البدني فهناك ولا شك أضرار مختلفة مرتبطة بالمستويات الأخرى النفسيّة والاجتماعيّة والروحيّة . وتوضيحا لذلك نقول ، بأن العادة السريّة تستنزف حقيقة الطاقة الجنسيّة في الإنسان على حساب نضوج شخصيّته وتفتحه الإنساني السليم، إذ إنها تؤدي الى انغلاق الإنسان وانطوائه على نفسه وإضعاف إرادته وشل قدرته على تكوين علاقات حميمة مع الأخرين من الجنسين.ومن هنا ضرورة أخذ الخطوات الحاسمة لمعرفة العلل المسببة لهذه العادة في كل حالة وذلك من النواحي النفسيّة والاجتماعيّة وللتحكم في اندفاعه الغريزة الجنسيّة والسيطرة على قبضتها. وأمّا من الناحية الروحيّة فإن الله المحب والرحيم لا يريد أن يتقوقع الإنسان ويبقى فريسة أنانيته في عزلة عن ذاته الحقيقيّة مع الآخرين بل يريد حقا أن يحرر الإنسان من نرجسيّته ويطلق طاقاته الجنسيّة لبناء شخصيّته. فمن هنا أهميّة الاسترشاد الروحي والانقتاح على الرب في ضعفنا والتقرب منه في الصلاة والأسرار المقدسة. غير أن هذه الناحية الروحيّة لا تستغني أبدا عن المستويين النفسي والاجتماعي . ولهذا فإنه من الأفضل أن تتضافر معاً كل المساعي ، على المستويات المختلفة لمساعدة الانسان على الخروج من سجن اندفاعيّته الغريزيّة.

6- سلبيّة المتعة الجنسيّة البحتة
يتبع
 

أرزنا

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
7 أبريل 2007
المشاركات
1,100
مستوى التفاعل
26
النقاط
0
الإقامة
قلب يسوع
رد على: الحب والجنس والله

6 – سلبية المتعة الجنسية البحتة
ويمكننا أن نوضح مما سبق أن الإنسان المتزن جنسياً هو الذي يستطيع أن يتخطى نزواته الجنسية ، عبر مراحل طفولته ومراهقته فلا نزعة الجنس الإستهلاكية تتغلب عليه وتطفى على ما هو أهم ألا وهو الإنفتاح بشكل سليم على الشخص الآخر والإتحاد الشخصي به . ومن هنا نفهم السلبية في مختلف التعامل الجنسي في مراحل النمو الإنساني بعد الطفولة . وهذه السلبية لا تتخطى المتعة الجنسية البحتة مثل العادة السرية التي سبق ذكرها والعلاقات الجنسية المنحرفة والمختلفة داخل الحياة الزوجية وخارجها . إنها كلها تسعى إلى اللذة من أجل ذاتها وتجعل السخص الإنساني مجرد متعة إستهلاكية لا أكثر . ولهذا فهي تترك الإنسان فارغاً حزيناً إذ يفشل أخيراً من التوصل إلى الإتحاد الشخصي بالآخر الذي هو حقاً الهدف الأعمق للنزعة الجنسية عند الإنسان .
ويعبر طاغور عن السلبية في العلاقة الجنسية المنحرفة وما يرافق ذلك من شعور بالإخفاق فيتكلم بكلام شعري وفلسفي ويقول :" أمسك بيدها وأضمها إلى قلبي . أحاول أن أملأ ذراعي من سحرها وأن أنهب بقبلاتي عذوبة إبتسامتها وأن أشرب بعيني لحظاتها القائمة . ولكن أواه ! أين ذلك كله ؟ من يقدر أن يفصل عن السماء زرقتها ؟ أحاول أن أمسك الجمال ولكنه يفلت مني تاركاً بين يدي جسداً فقط فأتراجع خائباً تعبا . فكيف يمكن للجسد أن يلمس الزهرة التي تطالها الروح وحدها ؟"( الجنس ومعناه الإنساني لكوستي بندلي – الصفحتان 41 – 42 ). وإذا بقي التركيز في العلاقة العاطفية على اللذة الجنسية مهما اشتدت فإن اللقاء الشخصي الأعمق يبقى سراباً . ونلاحظ في كلام طاغور استخدامه العبارات التالية وهي تدل على سلبية الإستيلاء والإستهلاك في الحب الذي ينحرف عن عمق العلاقة الشخصية: " أمسك أملأ ذراعي أنهب أشرب" . وبالإضافة إلى ذلك نجد عدم إمكانية النزعة الإستهلاكية أن توصل وحدها إلى لقاء شخصي واتحاد عميق:" احاول أن أمسك الجمال لكنه يفلت مني – تاركاً فقط بين يدي – فأتراجع خائفاً تعباً ".
وزد على ذلك أن النرجسيّة في المتعة الجنسية البحتة هي التي تحول دون تخطي النزعة الإستهلاكية نحو الحب الإتحادي الأعمق . ويعبر الكاتب جان جيونو عن ذلك جيداً في روايته "أنشودة الكون " وذلك من خلال الحوار الآتي بين إمرأة وعشيقها:

" المرأة : ما الذي يدخل فيك عندما تلمسني ؟ هذا الدفء جلدي الناعم هذا كل شيء . هل تتعتقد أنك سوف تتمكن يوماً من أن تسمع قليلاً صوت دمي ؟ وهذا لن يحدث أبداً . إنك أصم أصم ... وأناني أيضاً ...
العشيق : أناني أنا ؟
المرأة : نعم . أذناك وعيناك ويداك أنانية . إنك ترى لنفسك تسمع لنفسك تلمس وتأخذ لنفسك . إنك تنظر ماذا ترى ؟ إنك لا ترى شيئاً . إنك ترى لنفسك . ترى كل ما كل مايمكن أن تجلب لك من لذة لا أكثر من ذلك " ( الجنس معناه الإنساني لكوستي بندلي ص. 42 – 43 )
فالنرجيسية في الحب الشهواني هي التي تجعل الحب ناقصاً بحسب تفكير الروائي : " إنه يرى لنفسه – يرى كل ما يمكن أن يجلب لنفسه من لذة لا أكثر من ذلك ".

7-الشهوانيّة الجنسيّة وأزمة الإنسان المعاصر

إذا أردنا أن ندرس الواقع المعاش في الشهوانيّة فإنه من الضروري أن ندرس هذا الموضوع في اطار عالمنا اليوم . فقد أراد المجتمع البشري في يومنا هذا أن يحرر الجنس ، كما أراد أن يحرر الإنسان من التبعيّات والقيود التي تكبّله وذلك ليعيد اليه اعتباره وليحرر انسانيّته . ففي العديد من المجتمعات تحرر الجنس من قيود التزمت الخانقة كالجهل والخوف والتعصب الديني وأصبح المجتمع الإنساني في الغرب وفي الدول المتطورة خاصة ينظر الى الجنس نظرة متحررة . ولكن الجنس يبقى مع كل سرابا وعبودية وضياعاً إن لم يستند إلى أسس أصيلة وعميقة . وهذا ما نلاحظه متفشيّا في العالم ، على الأصعدة الفكريّة والاجتماعيّة والدينية ، فقد أصبح الإنسان مع تقدم العلم والتقنية وتطور وسائل الانتاج والتصنيع يقبل بنهم على الاستهلاك بشتى وجوهه وأشكاله المغرية فأصبحت الآلة والمادة تتحكّمان فيه، وتقيدان حريته الشخصيّة، فضاع في متاهة حاجاته وغرائزه. وعلى الصعيد الجنسي أيضاً أصبح الإنسان يقبل على الاستهلاك محاولاً بذلك أن يحرر طاقاته الكامنة وأن يداوي جزعه وفراغه. وبالرغم من نزعته العميقة الى الحب وحاجته المشروعة الى الصداقة الأسمى ، نجد الإنسان في عالمنا الحالي سجين مجتمعه الاستهلاكي وفي سيطرة أنانيّته وما ينتج عنها من تعثر وتمزق . فعندما يصبح سلوك الحب سلوكا ليس فيه عطاء ولا انفتاح على شخص آخر ، بل يمسي ذا أهداف أنانية امتلاكية ، فانه سرعان ما يخضع الإنسان لعبوديّة الرغبة وحدودها ويبقى بالتالي حبه للجنس الآخر شهوانيّا ونرجسيّا.
ويقال اليوم ويا للأسف إنّ العلاقة الجنسيّة في بعض المجتمعات الغربيّة قد أصبحت تافهة وقليلة التعبير . وسبب ذلك يعود ولا شك الى أن العلاقة الجنسيّة مثل الأمور العصريّة الأخرى أصبحت آلية ومصّنعة وسهلة المنال فقدت جاذبيّتها الانسانيّة وقدسيّتها الأصليّة وفصلت تدريجيّا من بعدها الاتّحادي الأصيل وأصبحت تستهلك كما تستهلك الأطعمة والكحول ووسائل التخدير المختلفة وتحوّلت الى متعة شهوانيّة تقصد من أجل ذاتها ، بغية تخدير الإحساس بالجزع والفراغ. فأفرغ الجنس من معناه الإنساني العميق ألا وهو لقاء الأخر في كيانه الانساني العميق ألا وهو لقاء الآخر في كيانه الانساني الشخصيّ وصار الانسان وكأنّه مغلق عليه في دوّامة من الفراغ والامعنى.
فكيف يخرج الانسان من هذه الحلقة المغلقة التي دخل فيها في عصرنا ؟ في الحقيقة لا خروج من هذا المأزق الذي جعل الإنسان في غربة عن ذاته الأصليّة إلاّ إذا رجع الى نفسه في عمقها ووعى حقيقة عبوديّته وأدرك أنّ تحرره رهن بتخلّصه من قبضة نزواته ، وذلك بتخطي شهوانيّته ونرجسيّته لينفتح كما يجب على الجنس الآخر ويلتقيه شخصيّا ، ويتحد به كشخص له كيانه وذاتيّته لا كمادة تستغل وتستهلك.



8– الحب الناقص وأبعاد الحب الثلاثية
ومن ناحية أخرى فإن إنقتاح الإنسان على الجنس الآخر والتقاءه والإتحاد به شخصياً قد لا يؤدي به ويا للأسف إلى حب عميق بل إلى حب ناقص وذلك لأنه قد يحب الواحد الجنس الأخر لأجل متعته الآنية فقط فلا ينفتح كما يجب على شخص آخر في عمق كيانه الإنساني بل يبقى على إتصال سطحي مع مظهره الشكلي والخارجي . وبالمقابل إذا ما إنفتح الحب بين الجنسين على عمق الكيان الإنساني تتوضح عنئذ أبعاده المختلفة المتداخلة والمترابطة بعضها ببعض : الجسدية والعاطفية والروحية . وكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة له أهميته وإتجاهه الخاص في إطار الكيان الإنساني الواحد . ولهذا يبقى الحب ناقصاَ إذا لم يشملها جميعاً على نحو متكامل . وبإمكاننا أن نشبه الحب بصاروخ ذي ثلاث طبقات : فالطبقة السفلى هي البعد الجسدي والطبفة الوسطى هي البعد العاطفي والطبفة العليا هي البعد الروحي . وكل طبقة من هذه الطبفات الثلاث تهدف الى الطبقة التي تليها فهي ليست هدفاً في حد ذاتها . فالطبقة الجسدية ليست هدفاً لذاتها بل هدفها هو إطلاق العواطف فهدفها هو إذن هو البعد العاطفي . والطبقة العاطفية بدورها ليست هدفاً لذاتها بل هدفها هو الإنفتاح على الإنسان الآخر في عمقه الروحي فهدفها هو البعد الروحي . وأخيراً فإن هدف الطبقة الروحية هو تعميق البعدين الجسدي والعاطفي في الكيان الإنساني الواحد والتوصل غلى الحب الأعمق المتزن . فكما أن كل طبقة في الصاروخ تدفع الطبقة التي تليها إلى فوق كذلك الأمر في الحب المتزن بين الجنسين . فالعلاقة الجسدية بينهما تجمعهما وتحرك عواطفهما والعلاقة العاطفية بينهما ترفعهما تدريجياً الى مستوى التقارب والإتصال الإنساني الأعمق والعلاقة الروحية تدعم بدورها علاقتهما الإنسانية وتعمقها وتوحد بينهما وتجعلهما متحدين على كل المستويات وتفتحهما على الآخرين وتدعوهما الى المحبة والعطاء والتسامي الى آفاق الحب الواسعة .


9 – الحب الحقيقي الناضج
ومن هنا نرى أن أصالة النزعة الجنسية في الإنسان تكمن أخيراً في التكامل بين الحب الجسدي الشهواني والحب العاطفي والحب الروحي الأعمق مما يحعل الإنسان يتخطى صعيد الأنانية والإستهلاكية ويفتحه على عمق الشخص الآخر . ففي التكامل بين هذه الأبعاد الثلاث من الحب يتوصل الإنسان الى الحب الحقيقي الناضج الذي لا تتحكم فيه الغريزة الجنسية ولا تتسلط عليه نرجسيته . وهذا الحب الحقيقي الذي يجمع بين شخصين هو وحده الذي يوجههما الى إتحاد أعمق بينهما . فيلتزمان بأن يحب بعضهما بعضاً حباً مستمراً يجعل كل منهما يحترم شخصية الآخر في ضعفه وقوته ويقدره ويعتبره هاماُ في حد ذاته معترفاً بذاته واستقلاليته على اساس العطاء المتبادل بينهما.
وعليه فإن الحب الحقيقي ليس أصيلاً وناضجاً إلاّ بالعودة والإخلاص والأمانة والتضحية والمشاركة على مختلف المستويات في السراء والضراء وحتى الموت كما هو الحال تماماً في الحب الزوجي الناضج . ففي الحب الزوجي الأصيل يحب شخصان وأحدهما حباً عميقاً وفياً مما يجعلهما يلتزمان أن يهب أحدهما نفسه للآخر دون تحفظ ويتعهد أحدهما الآخر بحيث يوحد حياته ومصيره مع الشخص الآخر فيدخلان في شركة حياة متكاملةعلى مختلف المستويات الفردية والإجتماعية والفكرية والروحية والدينية . وهذا الحب الزوجي بطبيعة الأمر لا يعرف الحدود بل يطمح الى أكبر عطاء ممكن . فالشركة الحميمة والإتحادية بين الزوجين ومن خلال اتحاد جسديهما يفيض عنهما ليخلق حياة جديدة تحددهما وتوحدهما وتفتحهما على عالم الآخرين .فإن أطفالهما هم في الواقع ثمار حبهما المتبادل وعربون إستمراريته ونموه. وإنجاب الأطفال والإهتمام بهم هما في الحقيقة امتداد طبيعي للحب الزوجي الأصيل فيحافظان على أصالته ويردعان الأنانية التي تزول تماماً بل تحاول أن تدمر الشركة الزوجية وتهدّمها .

10 – الحب والله : أين الخطيئة ؟
ويتبين لنا مما سبق أن الحب الحقيقي إذا كان أصيلاً وعميقاً ينزع الى الإستمرار في الوفاء والعطاء . فلهذا المحبّان يحسّان بعمق وحق أن حبهما لا يمكن إلا أن يكون أبدياً ولكن ويا للأسف لا يستطيع المحبان أن ينجوان من محدودية الزمن الزائل فيقترن حبهما إذن لا بالسعادة فحسب بل بالكآبة والحنين الى فردوس سليب أيضاً والى مطلق يتراءى ولاشك ولكنه يبقى بعيد المنال .وبكلام آخر فإن الحب البشري ينزع الى الله سبحانه وهو المطلق الأكبر فلقد قال الفيلسوف الإغريقي أفلاطون عن الحب البشري " إنه إشتهاء الأبدية . إن الحب البشري في عمقه هو حقاً توق الى الله من خلال المحبوب . فيقول الشاعر الإطالي دانتي موجهاً كلامه الى حبيبته بياتريس :" هل تعتقدين أنني كنت إشتهيت بهذا المقدار رؤية الله لو لم تكن المحبة في نظرك؟"
إن سر الحب البشري الذي يجمع بين البشر هو حقاً الله بالذات و"الله محبة" كما يقول لنا الإنجيلي يوحنا في رسالته الأولى . ولقد دعا الله الإنسان الى الوجود حباً له ودعاه في الوقت عينه الى الحب . وفي هذا المجال يقول البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي في وظائف العائلة المسيحية عالم اليوم " أن الله محبة وهو يعيش في ذاته سر مشاركة شخصية في المحبة . وعندما خلق الجنس البشري على صورته ومثاله وواصل حفظه في الوجود طبع في كيان الرجل والمرأة البشري الدعوة الى الحب والمشاركة فيه وبالتالي القدرة عليه والمسؤولية تجاهه".
ولكن يا للأسف قد يخطأ الانسان في تحديد الله وهو يسعى إليه ويتوق إليه ضمنياً في ممارسته للحب. فكان الجنس ولا يزال يأخذ طابع المطلق ، في كل زمان وفي كل مكان فيبدو وكأنه هو طريق الخلاص للإنسان وتصبح النشوة الجنسيّة وسيلة حاسمة لاستعادة الذات الضائعة في متاهة اللذة والامعنى. فكما كان الجنس يعبد في الحضارات القديمة وذلك من خلال رموز جنسية نلاحظ كذلك في عالمنا المعاصر ظاهرة عبادة الجنس وذلك عبر الأفلام والمجلاّت والملصقات الخلاعيّة والأنترنت والخليوي. وظهرت في السنين الأخيرة حركة الهبّيين الذين أفقدهم المجتمع الآليّ أصالة هويتهم وكيانهم فلجأوا الى المخدّرات وإلى الإتصال الجنسي لبلوغ اللامحدود الموجود في أعماق الانسان فلقد قال أحد المغنّين الهبيّين: " ان اله الحب يحب نفسه من خلال العمل الجنسي" ولكن هل يبلغ العمل الجنسي هذا المطلق الذي ينزع إليه؟ تعلمنا الخبرة الانسانيّة عكس ذلك إذ لا تستطيع النشوة الجنسيّة العابرة ولا الحب العميق الذي يتخطى الغريزة أن يدركا المطلق وهو يتخطى إمكانيات الانسان . فالاتحاد بالآخر، أيّا وجهه وعمقه لا يبلغ الوحدة الكاملة المنشودة لأسباب كثيرة ، أهمها أن الانسان مخلوق ، أي غير كامل ولا يمكنه أن يتوصل في حبه البشري الى الوحدة الكاملة والامتناهية . ولهذا ، ثمة شعور عميق بالعزلة في صميم الحب البشري وهذا الشعور بالذات هو أخيراً الدليل القاطع الى المرمى الأعمق للجنس والحب البشري كدعوة ضمنيّة لكن صميمه ومستمرة ، الى تخطي الذات. للإتحاد بالمطلق اللامتناهي ، الذي هو سبحانه بالذات . ومن هنا نرى أن توق الإنسان الى اللامتناهي المطلق عن طريق الجنس والحب كتوقه الى الجمال والكمال، ما هو طابع الحضور الإلهي الحقيقي في القلب البشري وهو يتغلغل في أعماقه وفي صميم علاقته مع الآخر.وبمأن الحب البشري مهما كان ناضجاً يبقى بشرياً ومحدودا لذلك يحتاج الانسان في حبه إلى أن ينفتح دائماً على الحب الإلهي الذي هو أصل كل حب وينبوعه. فالزوجان يحتجان حقّا الى نعمة المسيح الفادي.والى سره الفصحيّ المطهّر والمحيي لكي يتطهر حبهما ويزداد امتلاءً بعطاء الذات وينفتح كما يجب على محبة الأخر . وقد رفع الزواج في المسيحيّة الى رتبة سرّ من أسرار الكنيسة السبعة مما يجعل اتحاد الزوجين ، وأحدهما بالآخر ، راسخا في المسيح الذي مات وقام وأعطانا حياة جديدة به وفيه . ونعمة سر الزواج ليست فاعلة ومثمرة طبعاً بمعزل عن ادارة الأزواج ، ورغبتهم الواعية في الإتحاد بالمسيح الذي يمكنه أن يجمعهم ويساندهم ويعضدهم في مجهودهم اليوميّ عبر متطلبات حياتهم وتضحياتهم وفي وسط مشاكلهم وآلامهم وأفراحهم.

11- الجنسان وسر الله الثالوثيّ

والله كما نعرفه بحسب إيماننا المسيحيّ هو شخص وثالوث: الآب ولإبن والروح القدس. ويعبر علم اللاهوت عن سر الله الواحد في ثالوث انطلاقا من فيض المحبة المتدفقة التي هي جوهر الله بالذات . فعندما نقول إنّ الأقانيم في الله ثلاثة، نعبّر بذلك عن أن المحبّة الإلهيّة تقوم على ثلاثة أوجه:
المحبة التي تهب ذاتها وهذا أقنوم الآب ، والمحبة التي تتلقّى تهب ذاتها ، وهذا أقنوم الابن ، والمحبة التي تجمع الآب والابن بالآب ، وهذا هو أقنوم الروح القدس. فندعوالأقنوم الأول الآب لأنه في ذاته فيض من الحب ، وندعو الأقنوم الثاني الابن لأنه يقوم في ذاته على محبة الآب له وهذه المحبة التي تنبثق من الآب لتفيض على الابن منذ الأزل وللأبد هي الأقنوم الثالث أي الروح القدس.

فالله سبحانه الذي هو حقاً في ذاته فيض كبير من الحب الدائم والأزليّ لمّا خلق الانسان ، سكب فيه، على مثاله فيضا من حبه. فنقرأ في الكتاب المقدس أنه على صورته، أي فيضاً من الحب : " خلق الإنسان على صورة الله خلقه " ( تك 1/27) ويحدد الكتاب المقدس صورة الله بأضافة الكلمات التالية : " ذكراً وأنثى خلقهم" معبراً بذلك عن الجنسين كصورة الله الذي هو فيض من الحب المعطي والمستقبل. فكما أن الله واحد في ثلاثة أقانيم متحدين ببعض اتحاداً صميماً من خلال العطاء المتبادل، كذلك الإنسان مدعو في الزواج إلى الأتحاد الصميم بالعطاء المتبادل. ولهذا فالأتحاد بين الرجل والمرأة في الحب الزوجي العميق ما هو إلاّ صورة وإن غير كاملة للأتحاد الكامل بين الأقانيم الثلاثة في الثالوث الأقدس.وعلى مثال الأتحاد الإلهي الثالوثي الذي يحقق الوحدة الكاملة دون ذوبان أو انصهار فإن اتحاد الزوجين في حبهما يحقق مبدئيّا الوحد بينهما وإن بنحو غير كامل كما أنه لا يلغي شخصيّتها بل يؤكدها.وهكذا تتحقق صورة الله الثالوثيّة في الحب البشري ولكن يبقى هذا الحب البشري مجرد صورة للثالوث الأقدس . ومن ناحية أخرى فإن هذه الصورة تكتمل كلما ازداد الانسان انفتاحا على الله وحبه بالايمان به والتعبد له ومحبته في الآخرين فيتطهر الحب البشري وينضج ويكشف حقا عن الحب الإلهي الذي هو نبعه الأصلي ويتمجد هكذا الله سبحانه في سر فيض حبه الكبير

12- البتوليّة المكرسة واكتمال الحب

ولا بد من كلمة خاتميّة حول الحب ، في مجال الدعوة الإلهيّة الى البتوليّة المكرّسة في الكهنوت وفي الحياة الرهبانيّة . فالرب يدعو من يشاء الى البتوليّة ومن يستجيب لندائه يستجيب حقا لحبه مكرسا نفسه له ولخدمته ومتجاربا مع حبه له فينفتح تدريجيا على الحب اللامتناهي ويسعى الى محبة الرب الذي أحبه ويحبه حبا شديدا . ويزداد قلبه تحرّرا من نرجسيّة حب الذات ليحب الآخرين ويشاركهم في ما منحه الرب من حب واسع يشمل العالم، فيشهد بحياته الله الحب وللملكوت هذا الحب. ويقول البابا يوحنا بولس الثاني في ارشاده الرسولي، في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم : "إنّ البتوليّة ، اذ تحرر قلب الانسان تحريرا فريدا ، ليزداد اضطراما بمحبة الله وجميع الناس ، تشهد أنّ ملكوت الله وبره هما تلك الجوهرة الكريمة التي يجب اقناؤها بوصفها الخير الأوحد الأكيد الباقي."
ومن عاش البتولية المكرسة على حقيقتها وعلى مثال القديسين من الرهبان والراهبات الذين في الكنيسة منذ أيّامها الأولى وحتى اليوم ، فهو لا يستطيع طبعا أن يغلق قلبه دون الحب البشري ، اذ انه سيعرف الحب بنوعه الأصلي الالهي. فنذر البتوليّة لا يضع الانسان على هامش الحياة منفيّا عن الحب البشري متقوقعا في نرجسيّته بل يفتحه بنعمة الرب العامل فيه ، لينفتح على الحب الذي لا حدّ له فتصبح حياته موجهة الى نداءات الحب الأكبر على مثال حب المسيح ، الذي " أحبّ خاصته الذين في العالم فبلغ به الحب لهم الى أقصى حدوده" (يو 13/4).
وفي الكنيسة وضمن تقليدها الكاثوليكي والأرثوذكسيّ، أمثال حية كثيرة للحياة البتوليّة وهي تقترن بخدمة الآخرين في عطاء الحب المجّاني الكبير. وفي عالمنا المعاصر ، وبعد الحرب العالميّة الأخيرة تأسست رهبانيّة بروتستانتينيّة اسمها " إخوة تيزيه" وكان ذلك خلافا للتقليد البروتستانتي الذي نبذ من حيث المبدأ فكرة الرهبنة والبتوليّة . وفقد شهد مؤسس هذه الرهبانيّة ،الأخ روجيه شوتز، أنه اكتشف تدريجيّا مع مجموعة من الشباب أبعاد البتوليّة المكرّسة فكانوا ينذرون ذواتهم للرب لمدة سنة فقط ويجددون نذرهم عاما بعد عام الى أن شعروا برغبة في ان ينذروا ذواتهم أبديّا وأن يعيشوا حياة رهبانيّة . فلم يفطنوا في أول الأمر الى أن نذر العفة المكرّسة قد ينسجم مع متطلبات العالم المعاصر ، ثم أدركوا أخيراً أنّ هذا هذا النذر هو في الواقع تمّرس على الانفتاح على البشر أجمعي وأنه يلّبي بالتالي تلك الدعوة الملحة الى التزام شؤون الناس ومشاكلهم وهي أمور يتميز بها عصرنا.ولقد أصبحت ضيعة تيزيه بالفعل محجة للشباب مؤمنين وغير مؤمنين يتواردون اليها ليجدوا مناخ محبة وانفتاح وحوار وتحسس عميق لمشاكل العالم الثالث وتفهّم لانتفاضة الشباب وسعي جادّ نحو وحدة المسيحيين والمصالحة بين البشر.
فبقدرما يستجيب الإنسان لنداء الحب الإلهي عبر بتوليّته المكرسة ينفتح على حب لا حدّ له لله سبحانه ولاخوته البشر فيقدّم بالنتيجة شهادة حيّة في عالمنا الحالي للحب الثالوثي السماوي لذلك الفيض الكبير من الحب الذي لا يزول.
الخاتمة

ونجد في آخر المطاف أن الجنس هو دعوة الى تعمّق علاقتنا الصميمة مع ذواتنا ومع الأخرين ومع الله . غير أنّنا نجد الإنسان المعاصر يعيش في دوامة من الغربة عن ذاته الأصليّة فيبقى الجنس في نظره غامضاً ومكبلاّ بقيود مختلفة تعيق انطلاقته السليمة. ومن هنا ضرورة توضيح رؤيتنا للجنس انطلاقا من أبعاده المختلفة ، حتى يستطيع الإنسان أن يعي ويدرك معنى الجنس والحب في عمق علاقته الثلاثيّة مع ذاته ومع الآخرين ومع الله فينفتح ويتحرر الى المستوى الإلهي حيث يتجلّى الله الثالوث الذي هو الحب بالذات وينبوع كل حب وبقدر ما يلتقي الإنسان ذاته الأصليّة ويحاول في علاقته مع ذاته ومع الجنس الآخر أن ينفتح على المسيح الرب ويمشي معه يتحرر فعلاً من القيود التي تكبّل اندفاعه الجنسي ويتطهر حبه وينمو ليحقق الأتحاد الناضج والأعمق بالآخرين من الجنسين بالرب وهو الآخر المطلق ومصدر الحب ومصيره.

المرجع كتاب الأب يوسف بربي راهب يسوعي عراقيّ. مارس التعليم في مدرسة رهبانيّته ببغداد، ثم في جامعة دمشق. وعمل سنين عديدة في المجال الرعويّ لا سيما بين الطلاب الجامعيين والأسر والمربيّن المسيحيين.
ولهذا السبب اخترنا الموضوع المهم لمنتدى الأسرة المسيحيّة لأهميّته.
 

أرزنا

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
7 أبريل 2007
المشاركات
1,100
مستوى التفاعل
26
النقاط
0
الإقامة
قلب يسوع
رد على: الحب والجنس والله

سلام المسيح

الاخ الفاضل
سلام ونعمة الرب يسوع المسيح معك
ربنا يباركك على هذا الموضوع

شكرا على مشاركتك والله يحمي الجميع
 

GIGILOVELY

New member
عضو
إنضم
12 يونيو 2007
المشاركات
62
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الإقامة
in alex
رد على: الحب والجنس والله

ميرسي علي الموضوع المهم ده ربنا يعوض تعب محبتك
 
أعلى