الرد على شبهة: لماذا لإله محب كلي السلطان أن يسمح بحدوث شر والم؟

إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
3,632
مستوى التفاعل
295
النقاط
83
الإقامة
في اورشاليم السماوية
theodicy%5B1%5Ds.jpg


بقلم مينا ميشيل ل. يوسف


إن الشر والألم المتفشي من حولنا، يبدو أنه يصرخ ضد حقيقة وجود إله، أو على الأقل ضد أن يكون هذا الإله صالح وقدير[1]. وهذا ما عبر عنه أحد الفلاسفة بقوله:


"إما أن الله يريد أن يمحو الشر ولا يستطيع، أو أنه يستطيع ولا يريد؛ أو أنه يستطيع ويريد. فإن كان يريد ولا يستطيع فهو عاجز؛ ولو كان يستطيع ولا يريد فهو شرير (غير صالح)؛ وإن كان يستطيع ويريد، فما تفسير وجود الألم والمعاناة والشر في العالم؟!"[2].


والمعضلة المسيحية تكمن في أن الوحي المقدس يقدم لنا ثلاث حقائق غير منسجمة معاً، وأي محاولة للتخلي عن إحداها ينحرف بالمسار نحو هرطقة[3]! تلك الحقائق هي:




فهناك تناقض بين هذه الأضلاع، بحيث إذا صح إثنين منهن يصبح الثالث خطأ[4]! فإذا قلنا أن الله ضابط الكل وأنه صالح، فكيف للشر أن يحدث؟ وإذا قلنا أنه صالح والشر موجود، فهل معنى هذا أن الله ليس ضابطاً لكل شيء؟ ولذلك استغل الفليسوف الاسكتلندي "دايفيد هيوم" هذه الحجة ليدلل على أن الإيمان المسيحي لا يمكن أن يتماشى مع العقل[5]. هذا ما دفع مدارس فلسفية ولاهوتية عدة لمحاولة التوفيق بين هذه الأضلاع الثلاثة، ولكن للأسف كان عليها دائماً أن تضحي بإحداهن! فهناك من ضحى بحقيقة أن الله ضابط الكل وليس مسئولاً عن الشر، ليدافع عن حقيقة صلاح الله وواقعية وجود الشر والألم. وهناك من ضحى بصلاح الله، ليحافظ على حقيقة أن الله ضابط الكل ومهيمن على الجميع ولا شيء يحدث خارج مشيئته أو رغماً عنه. وهناك من دعى إلى أن الشر وهماً ولا يوجد شيء اسمه ألم، ليدافع عن حقيقة كون الله صالح وكونه ضابط الكل. ولكن يقدم لنا الكتاب المقدس الثلاث حقائق معاً، لنؤمن بها معاً، دون انتقاص لإحداهن في سبيل أخرى. فهو يؤكد لنا ان الله صالح وأنه ضابط الكل وأن الشر حقيقة واقعة.



الحقيقة الأولى: الله صالح:


إن الخطأ الأول الذي وقع فيه البعض، هو تصريحهم سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن الله هو مصدر أو الخالق الشر[6]. ولكن، كيف لهذا التصريح أن يتفق مع حقيقة صلاح الله وأنه لا يسر بالشر[7]؟ فالقول بأن الله خالق الشر يعني أيضاً ضمنياً أنه يرتكب الشر، وحاشا أن يكون الله كذلك[8]! فالله "نور وليس فيه ظلمة البتة" (1يو5:1)؟ وكيف لإله خلق الكون والإنسان حسن جداً أن يكون خالقاً للشر[9]؟ إن ذات هذه التساؤلات قد ساقها قديماً حبقوق النبي قائلاً: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبر منه؟" (حب13:1).


ومن أشهر المقاطع الكتابية التي تستخدم من قبل البعض لتبرير القول بأن الله خالق الشر هو قول أشعياء النبي: "أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشر. أنا الرب صانع كل هذه" (اش7:45)! وصحيح أن كلمة "شر" هنا هي بالعبري "רע"، وهي ذو معنى مزدوج فهي قد تشير إلى الشر بمفهومه الأخلاقي، وكذلك الشر بمفهوم الكوارث والشدائد[10]. ولكن سياق نص الأصحاح لا يتحدث عن الشر الأخلاقي، لكنه يتحدث عن سيادة الله وسلطانه وكيف أنه سيأتي بالملك الفارسي كورش ليحرر شعبه العاصي من شر السبي البابلي. فالشر المراد هنا هو الشر الطبيعي أو التأديبي وليس الأخلاقي. وهذا ما تؤكده الخلفية التاريخية للنص، فأقصى شر كان في مخيلة يهود زمن كتابة سفر اشعياء هو السبي، الذي مصدره كان الله كتأديب لهم[11]. فالله بحسب هذا النص هو خالق ومصدر الشر الذي آتى على شعبه بسبب عصيانه الذي هو السبي[12]. ولا تشير الآية بأي حال من الأحوال إلى أن الله خالق الشر الأخلاقي.


فقول أن الله هو مصدر أو خالق الشر الأدبي يتعارض بقوة مع صلاحه، ومع قول الرسول يعقوب: "لا يقل أحد إذا جرب إني أجرب من قبل الله، لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدا. ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته" (يع13:1-14). إن التجارب التي يتحدث عنها الرسول هنا هي التجارب الأخلاقية [هذا غير التجارب التي تحدث عنها بولس في (1كو13:10) بقوله أن الله يجعل معها المنفذ]. فالله بحسب هذه الآية ليس خالقاً للشر الأدبي والأخلاقي.




الحقيقة الثانية: الله ضابط الكل:


الخطأ الثاني الذي وقع فيه البعض في محاولتهم للتوكيد على صلاح الله، هو قولهم بأن الشر الحادث في العالم يقع بمعزل عن مشيئة الله[13]؛ ولا شأن لله به. ويقدمون نظريتان شهيرتان لاثبات وجهة نظرهم:



[1] انسحاب الله لصالح حرية الإنسان:


تنادي هذه النظرية بأن الله خلق العالم ووضع له قوانين طبيعية ثابتة تحكمه. فالله لا يتدخل فعلياً في صنع الأحداث لكنه يراقبها من بعيد تاركاً الحرية للإنسان لإكتشاف هذه القوانين بطاعتها تارة وعصيانها تارة أخرى؛ وهو ما يسبب الحوادث والأمراض والمآسي[14]. فالله –كما يقول جريجوري بويد- فوق الزمن ولا يتأثر بأي شيء يحدث على الأرض وتفاعله مع العالم لا زمني[15]! ويشرح "مونت سميث" تلك النظرية بقوله: عندما صنع الله الطبيعة حد من سيادته، إذ التزم وارتضى بعدم التدخل فيها، تاركاً اياها تتحرك وفق مسارها[16]. بل ويذهب إلى أبعد من ذلك بقوله:


"عندما خلق الله الإنسان بروح وفكر وشعور وإرادة، حد الله من سيادته بشكل كبير. كما أثار دهشة السماء حين منحه إرادة حرة، وضعت عليه قيداً؛ إذ سمحت للإنسان بأن يختار ما هو ضد إرادة الله الثابتة.. ولم يحقق الإنسان إرادة الله عندما أكل من الثمرة، وعدم تحقيق إرادة كائن ما هو بكل يقين تقييد له!"[17].


أو بحسب تعبيرات كوستي بندلي البليغة:


"الله يمد الخليقة بالوجود وينسحب منها بآن، كي يتسنى لهذا الوجود أن يقوم بحد ذاته. ينسحب منها كما ينسحب البحر لتوجد القارات"[18].


ويرى الباحث، أن على الرغم من تبني الكثير من المفكرين المسيحيين هذا الإعتقاد، إلا أنه لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد ترديد لذات نظرية "فولتير" القائل بأن الكون هو بمثابة ساعة حائط، صممها ساعاتي إلهي، ثم تركها تدور وشأنها[19]! وهو ذات اعتقاد الربوبيين الذين يرجعون سبب الشر والألم إلى ضعف الإنسان وجهله وعدم قدرته على فهم قوانين الطبيعة[20].


ويرى الباحث، أن هذه النظرية تنتقص من سيادة الله في سبيل التأكيد على حرية الإنسان المطلقة. فصحيح أن الله خلق هذا الكون ووضع فيه قوانين وضوابط ومنح فيه للإنسان إرادة حرة، ولكن هل معنى هذا أن الله ترك الإنسان فريسة لهذه القوانين الطبيعية القاسية[21]؟! هل كبل الله نفسه بهذه القوانين العمياء لتمنع يده من أن تفعل ما يريد؟ ألم يغير الله على مدار صفحات الوحي المقدس كثيراً جداً القوانين الطبيعية ليفعل ما يشاء[22]؟ فهو كما قال عنه المرنم: "كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفي الأرض في البحار وفي كل اللجج. المصعد السحاب من أقاصي الأرض. الصانع بروقا للمطر. المخرج الريح من خزائنه" (مز6:135). وأيضاً: "الكاسي السماوات سحابا المهيئ للأرض مطرا المنبت الجبال عشبا. المعطي للبهائم طعامها لفراخ الغربان التي تصرخ" (مز8:147)


فسيادة الله حقيقة كتابية واضحة تنبع من كونه هو الله والخالق والسيد لهذا الكون[23]. وسيادته سيادة كاملة ومطلقة ولا تمنح له من إنسان أو من موقفٍ[24]! فهو لم يخلق الكون وتركه للقوانين وسنن الطبيعة لتتحكم فيه؛ فهو إلى الآن "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب3:1). وكلمة حامل في الأصل اليوناني تعني أكثر من مجرد الحفظ والحماية، فهي "φέρω" وتعني أيضاً يحضرها ويسوقها ويحركها ويقودها[25]! فالرب يحرك ويهيمن ويقود ما ما يحدث كقول بولس: "حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أف11:1).





[2] الشيطان:


التعليل الآخر الذي قدمه بعض المفكرين المسيحيين، هو قولهم أن الشر والألم الواقع على الأرض هو نتاج لتحركات الشيطان. فالشيطان يجول في الأرض كأسد زائر يبتلع، ويجرب، ويلطم بالأمراض، ويتسلط على البشر! فالله لا علاقة له مطلقاً بتحركات الشيطان، فهو لا يريد الشر ولا الألم، ولا يحطم ولا يدمر ولا يتواطأ مع أي قوة تنال من الإنسان من حياته ومن سعادته[26].


ولكن يرى الباحث، أنه إذا كان الله حقاً لا علاقة له ولا يسمح للشر أن يحدث؛ فكيف لنا أن نثق في أنه يجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير؟! لو كان الشر يدخل عالمنا دون قصده وسماحه؛ فما الضامن ألا يباغتنا شراً في يوم يكون أكثر من احتمالنا ويتسبب في إنهيارنا ودمارنا[27]؟! فلا شيء يحدث في هذا الكون بمعزل عن سماح الله خيراً كان أو شراً؛ فلو كانت مشيئته ألا يحدث أمراً، لما حدث! فصفحات الوحي المقدس كثيراً ما تقدم لنا أنه حتى الشر الذي يحدث، هو جزءاً من ترتيب الله؛ ولا يعني هذا أن الله هو مصدر أو خالق الشر[28]. لأنه لو كان من الممكن أن يحدث شيء في الكون الله لم يسمح به ورغماً عنه؛ لكان للسبب وراء حدوث هذا الشر (الشيطان، حرية الشخص.. إلخ) سيادة وسلطان أكثر من الله على مجريات الأمور[29]!


لذا، فهذه النظرية ما هي إلا انعكاساً للثنائية الشهيرة (Dualism)، والتي تعتقد في وجود قوتان متساويتان تعملان في هذا العالم، قوة الله الذي لا يفعل ولا يسمح سوى بكل ما هو صالح وخير، والشيطان الذي يتحرك كيفما يحلو له ليفعل كل ما يريد من شرور ودمار في العالم من حولنا[30]! فهذه النظرية تقودنا حتماً نحو الإعتقاد بأن الشيطان هو إله وليس مجرد مخلوق خاضع هو بدوره أيضاً لسيادة الله، وقد وضع الرب له حدوداً لا يتخطاها!



[3] الرؤيا الكتابية لله ضابط الكل:


1- الله وحدوث الشر:


يقدم لنا الكتاب المقدس صورة مختلفة عن الله، فهو الخالق الذي لا يحدث شيئاً في الكون بمعزل عنه[31]، فهو لم يخلق الكون وتركه للقوانين الطبيعية تحركه؛ إنما كما قال الرسول بولس: "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع28:17). فكل ما يحدث في هذا الكون بما في ذلك الشر، هو ضمن دائرة سلطان الله وبسماح منه[32]؛ أنه لا يسبب الشر ولكنه يحكم عليه ويعين حدوده[33]. أنه لا ينتظره ليحدث ولكنه يسمح به أيضاً! وسماحه هذا معناه أنه قرر وحتم أن يسمح به[34]!



2- سلطان الله ومسئولية الإنسان:


الله في صلاحه لا يريد أن يلغي الإرادة البشرية التي خلقها حرة فهو يسمح للإنسان أن يعمل ما يختاره[35]. فالله لا يصنع شراً ولا ينتهك إرادة الإنسان؛ ولكن كل من الشر وإرادة الإنسان هما تحت سيادة الله[36]. فهو يسمح بالشر أن يحدث من خلال الاعمال الإرادية للكائنات العاقلة[37]! فيؤكد لنا سفر يونان أن البحارة ألقوا يونان في البحر بإرادتهم دون إجبار أو رغماً عنهم؛ فقد كان قرارهم اختيار شخصي حقيقي لأناس مسئولين أخلاقياً (يون15:1). ولكن في ذات الوقت يذكر لنا السفر أن هذا الأمر كان من قبل الرب؛ ففي صلاته الشهيرة يرى يونان ما وراء أيادي أولئك البحارة إذ يرى يدا الله القدير بقوله: "لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار.." (يون3:2)[38]. فالله قضى بوجود الشر، وقضاءه هذا قضاء السماح للكائنات الأخرى التي تجريه باختيارها وحريتها؛ فهي إذاً مسئولة[39]. أو بكلمات "سبرول":


"الله لا يجبر الشر على الحدوث، ولا يفرضه على خليقته. ولكن هذا معناه أن الله قرر أن يسمح به أن يحدث. فإذا لم يسمح به لما حدث، وإلا لما كان الله ضابط الكل"[40].


فالله يسمح بالشر أن يحدث ليستخدمه لإتمام مشيئته وخطته[41]. فالله لأنه كلي الحب وكلي القدرة يسمح بالشر [دون أن يكون مسئولاً أو ملوماً عليه أو يقترف شراً أو ذنباً][42]؛ فهو يجعل هذا الشر يعمل معاً للخير الأعظم حتى يتسنى لنا أن يكون لدينا أعظم سبب نسبحه لأجله[43]! ويشرح "بخيت متى" ذلك الأمر بطريقة بليغة بقوله:


"يعمل الإنسان الشر، ويقصد به أن ينتج الشر؛ ولكن الله يدير عمل الإنسان الشرير إلى شيء طيب قصده الله!.. ولولا هذا لما سمح الله للشر بالدخول. فلقد سمح له لكنه قضى أن لا يفلت زمام الشر من يده"[44].


إن الصورة التي يقدمها لنا الوحي المقدس عن الله هي أنه ضابط الكل، فيقول المرنم: "إن إلهنا في السماء. كلما شاء صنع" (مز3:115)، وصلى داود قائلاً: "لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد.. لك يا رب المُلك.. وانت تتسلط على الجميع" (1اخ11:29-12)[45]. وأيضاً: "كل ما شاء الرب صنع في السموات وفي الارض في البحار وفي كل اللجج" (مز6:135). ويقدم الباحث هنا عدة نقاط لسيادة الله وسلطانه على أنواع مختلفة من الشرور:



أ‌- دائرة أخطاء وشرور البشر:


كما سبق القول، أن كافة أفعال واختيارات البشر الحرة هي تحت هيمنة وسيادة الله بحسب إعلان الوحي المقدس. دون أن ينتقص ذلك من حرية الإنسان ولا من سيادة الله بطريقة تعجز عقولنا عن ادراكها! فيوسف لم يرى فقط في ما فعله اخوته معه أن الله حوله للخير: "أنتم قصدتم لي شرا. أما الله فقصد به خيرا" (تك20:50)؛ ولكنه أيضاً ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ رأى أن الله كان مهيمن على أخطاء اخوته وسمح بها لقصد عظيم عنده، بقوله: " فقد ارسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الارض وليستبقي لكم نجاة عظيمة. فالآن ليس انتم ارسلتموني الى هنا بل الله.." (تك7:45-8)!! كما أن الكتاب يؤكد أن الرب سمح لشمشون أن يظل على عناده وخطأه رغم نصائح أبواه له ألا يتزوج من الفلسطينيات، بقوله: "ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين" (قض4:14). وكذلك يعلق الوحي المقدس على رفض أبناء عالي الكاهن الاستماع لنصائح أبيهم بقوله: "لأن الرب شاء أن يميتهم" (1صم25:2)!




ب‌- دائرة الرياسات والتاريخ:


في الوقت الذي يؤكد لنا فيه سفر الخروج على حقيقة أن فرعون والمصريين أذلوا شعب الله القديم بعبودية قاسية (خر8:1-14)؛ يخبرنا أيضاً كاتب المزمور أن هذا الفعل كان تحت سيادة الله الكاملة وكان في مشيئته أن يحدث؛ بقوله: "جعل شعبه مثمرا جدا وأعزه على أعدائه. حول قلوبهم ليبغضوا شعبه ليحتالوا على عبيده" (مز25:105)[46]! وصحيح أن الحروب التي شنها الأشوريين ومن بعدهم البابليين على الأمم القديمة عامة وعلى شعب اسرائيل خاصة، كان يحركها مطامعهم الشخصية وأتت قراراتهم ومخططاتهم بكامل حرية ملوكها وقادتها؛ إلا أن الكتاب يؤكد أيضاً على حقيقة أخرى موازية لهذه الحقيقة وهي أن هذه الشعوب كانت في يد الرب "قضيب غضبه" (إش5:10)[47]؛ وهو الذي أصعدها وآتى بها على شعبه (حب6:1)!! فكثيراً ما استخدم الرب أناس أشرار وكوارث طبيعية ليعاقب بها شعوب كانت تحيا في الشر[48]! وهكذا شهد نبوخذنصر الملك بقوله: :وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل" (دا35:4).



ت‌- دائرة الشيطان والأرواح الشريرة:


إن سيادة الله وسلطانه ليس فقط على المؤمنين باسمه، إذ يمتد حتى إلى البشر الأشرار بل وإلى الشيطان نفسه[49]! فمثلاً حين أخطأ داود وأحصى شعب اسرائيل؛ تارة ينسب ذلك الخطأ بأنه كان بسبب غواية من الشيطان (1اخ1:21)، وتارة يقول الوحي أن الله هو الذي أهاج داود ليحصي الشعب (2صم1:24)[50]! فأيهما نصدق؟ يرى الباحث أن هذان الشاهدان يؤكدان على حقيقة أن كل تحركات الشيطان لا تخرج عن مشيئة الله وسماحه! وهذا هو عين ما حدث أيضاً مع أيوب؛ فصحيح أن الشيطان هو الذي ضرب أيوب بالمرض وموت أولاده وضياع ممتلكاته؛ إلا أن للقصة بعداً أخر. فهذا الشيطان حين أراد أن يجرب أيوب ليدمره ويجعله يجدف على الله؛ قبل أن يتحرك آتى أولاً للرب وطلب منه قائلاً: "أبسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك" (أي9:1-11)؛ فقال له الرب: "هوذا كل ما له في يدك وإنما إليه لا تمد يدك" (أي12:1)[51]. أي أن الله سمح للشيطان بمقدار محدد من الشر لا يتجاوزه مع أيوب[52]! ويشرح أوسم وصفي سبب سماح الله للشيطان أن يجرب أيوب قائلاً:


"كان الله مثل الجراح الذي يمسك بشعاع الليزر الشيطاني، ليقطع ورماً روحياً خبيثاً موجوداً في قلب أيوب وفي روحانيته"[53]!


كما أنه لا يمكننا إغفال عدة مشاهد في الكتاب المقدس يؤكد خلالها الوحي المقدس أنه حتى الأنبياء الكذبة هم أنفسهم تحت سيادة وسلطان الله؛ فيقول حزقيال النبي: "فإذا ضل النبي وتكلم كلاماً، فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي, وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل" (حز9:14)[54]. وهذا هو ذات ما حدث حين أراد آخاب الملك الشرير أن يتحالف في حربه ضد راموت جلعاد مع يهوشافاط الملك؛ وطلب يهوشافاط الاستماع إلى كلمة من الرب على فم الأنبياء؛ فآتى آخاب بأنبياء كذبة حثوه على الدخول في المعركة. ثم آتى ميخا النبي معلناً الحق بقوله: "فقال رايت كل اسرائيل مشتتين على الجبال كخراف لا راعي لها.. قد رايت الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه وعن يساره. فقال الرب من يغوي اخاب ملك اسرائيل فيصعد ويسقط في راموت جلعاد.. ثم خرج الروح ووقف امام الرب وقال انا اغويه. فقال له الرب بماذا؟ فقال اخرج واكون لروح كذب في افواه جميع انبيائه. فقال انك تغويه وتقتدر. فاخرج وافعل هكذا. والان هوذا قد جعل الرب روح كذب في افواه انبيائك هؤلاء والرب تكلم عليك بشر" (2أخ16:18-22؛ 1مل20:22-23) [55].




الحقيقة الثالثة: الشر حقيقة موجودة:


تحاول بعض الأديان والمعتقدات أن تنكر الألم والشر وتترفع عنهما؛ إما بالقول أن الألم والشر مجرد خداع ووهم غير حقيقي؛ رغم أن كل من يجتاز ألماً سيدرك مدى سذاجة هذا الرأي إذ أن الألم واقع ملموس وليس وهماً في العقول[56]! أو بقولهم أن الشر ليس له وجود إنما هو نتيجة الاستخدام السيء من قبل الإنسان لحريته[57]. ولكن ماذا نقول عن التفجيرات البركانية والأعاصير المدمرة والأمراض الوراثية[58]؟ وقال آخرون أن الشر ليس شيئا قائماً بذاته؛ إنما هو غياب الخير؛ كما أن الظلمة هي غياب النور[59]! ولكن هذا الرأي يتناسى أن الكتاب المقدس يقدم لنا صورة مجسمة حقيقية للشر تتمثل في الشيطان وملكوته! كما أن المسيحية –كما يقول فيليب يانسي- تؤكد على وجود الشر كبرهان على حالتنا الساقطة[60]!


فالشر حقيقة موجودة وواقعة في عالمنا، صحيح أن الرب يستخدم الشر ويحوله للخير؛ إلا أنه في ذات الوقت لا يزال هذا الشر شراً[61]؛ وفاعل هذا الشر سيظل آثيماً مسئولاً عن أفعاله[62]! وليس الشر والألم حقيقة فقط، بل نكاد نؤكد على أنه جزءاً لا يمكن فصله من الخطة الإلهية! فتخيل معي يوسف بدون سنى الألم، والفتية بدون الأتون؛ ودانيال لم ينزل إلى الجب[63]؟! فربما ليس لدينا إجابات وافية أو فهماً كاملاً لأسباب وقوع الشر والألم؛ ولكن هنا يأتي دور الإيمان. فالإيمان –كما يقول دايف ايرلي- هو الثقة في الله في وسط والثقة فيه بالرغم؛ والثقة فيه ليس فقط في الوقت الذي نرى فيه ولكن حين لا نرى أيضاً![64].



إن قضية الألم والشر لهي قضية عسرة الفهم والإدراك، فهي درب محفوف بالغموض وأي انحراف يؤدي بنا إلى الإنزلاق. فلا يسعنى سوى أن يكون بنا من الإتضاع حتى نقول مع الرسول بولس: " فاننا ننظر الان في مراة في لغز لكن حينئذ وجها لوجه. الان اعرف بعض المعرفة لكن حينئذ ساعرف كما عرفت" (1كو12:13). فيا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما ابعد احكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لان من عرف فكر الرب او من صار له مشيرا. او من سبق فاعطاه فيكافا. لان منه وبه وله كل الاشياء.له المجد الى الابد.امين (رو33:11).


الرابط

[1] Greg Bahnsen, "The problem of evil Part1". Website of Covenant media foundation. Read on Apr. 3,2012. Available at http://www.cmfnow.com/articles/pa105.htm

[2] ناشد غالي، الألم بركة أم لعنة. (القاهرة: دار النشر الأسقفية، 2010)، 7

[3] Greg Johnson, "How could a good, all-powerful God create a world full of suffering & evil". Website of Center for Christian studies. Read on February 20,2012, available at http://christianstudy.homestead.com/files/classes/defending_the_faith/lesson10.htm

[4] لين جاردنر، أين يوجد الله عندما اتألم. ترجمة نبيلة حنا. (القاهرة: هيئة الخدمة العربية المسيحية، 2011)، 353

[5] Greg Bahnsen, "The problem of evil Part1". Website of Covenant media foundation. Read on Apr. 3,2012. Available at http://www.cmfnow.com/articles/pa105.htm

[6] Group of Theologians, "The glory of God in the problem of evil". Website of Contend for the faith. Read on May 1, 2012. Available at http://contendforthefaith2.com/prob.html

[7] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 323

[8] Gordon Clark, "God and evil- The problem solved". Website of Clarkson Community Church. Read on April 20, 2012. Available at http://tonybartolucci.com/reading/clark.pdf

[9] Group of Theologians, "The glory of God in the problem of evil". Website of Contend for the faith. Read on May 1, 2012. Available at http://contendforthefaith2.com/prob.html

[10] Group of Theologians, E-Sword Version 7.9.8 on CD. (USA, 2008), Strong's Hebrew Dictionary: H7451

[11] Group of theologians, Quest Study Bible. (Michigan: Zondervan, 2003), 1046

[12] Group of theologians, " Why does Isaiah 45:7 say that God created evil? ". Website of Got Question. Read on May 15, 2012. Available at http://www.gotquestions.org/Isaiah-45-7.html

[13] Group of Theologians, "The glory of God in the problem of evil". Website of Contend for the faith. Read on May 1, 2012. Available at http://contendforthefaith2.com/prob.html

[14] فايز فارس، الله المحب والإنسان المتألم. (القاهرة: دار الثقافة، 2008)، 21

[15] جريجوري بويد، هل يلام الله. ترجمة سمير محفوظ. (القاهرة: دار الثقافة، 2009)، 45

[16] مونت سميث، العهد رحلة من الاغتراب الى المصالحة. ترجمة عاطف المرفوض. (القاهرة: جذور للترجمة والنشر، 2011)، 55

[17] المرجع السابق، 55

[18] كوستي بندلي، الله والشر والمصير. (بيروت: تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر، 2007)، 32

[19] المرجع السابق، 313

[20] أوسم وصفي، الألم. (الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2010)، 24

[21] فايز فارس، الله المحب والإنسان المتألم. (القاهرة: دار الثقافة، 2008)، 44

[22] جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي. (القاهرة: الكنيسة الانجيلية بقصر الدوبارة، 2005)، 289

[23] J.D Douglas & Merrill C. Tenney, The New International Dictionary of the Bible. (Michigan: The Zondervan Corporation, 1987),960

[24] Gise Baren, "The sovereignty of God". Website of Protestant Reformed Churches in America. Read on May 25, 2012. Available at http://www.prca.org/pamphlets/pamphlet_42.html

[25] Group of Theologians, E-Sword Version 7.9.8 on CD. USA, 200), Strong's Hebrew & Greek Dictionary: G5342

[26] نادر ميشيل، الألم هل من معنى. (بيروت: دار المشرق، 2002)، 24

[27] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 329

[28] Group of Theologians, "The glory of God in the problem of evil". Website of Contend for the faith. Read on May 1, 2012. Available at http://contendforthefaith2.com/prob.html

[29] R.C.Sproul, Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers, 2010), 172

[30] Gordon Clark, "God and evil- The problem solved". Website of Clarkson Community Church. Read on April 20, 2012. Available at http://tonybartolucci.com/reading/clark.pdf

[31] Ibid.

[32] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 19

[33] جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي. (القاهرة: الكنيسة الانجيلية بقصر الدوبارة، 2005)، 287

[34] R.C.Sproul, Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers, 2010), 172

[35] فايز فارس، الله المحب والإنسان المتألم. (القاهرة: دار الثقافة، 2008)، 27

[36] R.C.Sproul, Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers, 2010), 173

[37] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 323

[38] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 326

[39] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 20

[40] R.C.Sproul, Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers, 2010), 175

[41] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 324

[42] John Piper, "All things were created trough Him and for Him". Website Desiring God. Written on Aug. 12,2007, read on May5, 2012. Available at http://www.desiringgod.org/resource-library/sermons/all-things-were-created-through-him-and-for-him

[43] Group of Theologians, "The glory of God in the problem of evil". Website of Contend for the faith. Read on May 1, 2012. Available at http://contendforthefaith2.com/prob.html

[44] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 29-30

[45] يوسف رياض، ما هو الحق- الاختيار. (القاهرة: دار الاخوة للنشر، 2001)، 22

[46] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 324

[47] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 21

[48] Wayne Grudem, Systematic Theology. (Michigan: Zondervan, 2000), 325

[49] Gise Baren, "The sovereignty of God". Website of Protestant Reformed Churches in America. Read on May 25, 2012. Available at http://www.prca.org/pamphlets/pamphlet_42.html

[50] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 21

[51] ناشد غالي، الألم بركة أم لعنة. (القاهرة: دار النشر الأسقفية، 2010)، 15

[52] Gise Baren, "The sovereignty of God". Website of Protestant Reformed Churches in America. Read on May 25, 2012. Available at http://www.prca.org/pamphlets/pamphlet_42.html

[53] أوسم وصفي، الألم. (الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2010)، 34

[54] بخيت متى، عقيدة الاختيار. (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 24

[55] Gise Baren, "The sovereignty of God". Website of Protestant Reformed Churches in America. Read on May 25, 2012. Available at http://www.prca.org/pamphlets/pamphlet_42.html

[56] لين جاردنر، أين يوجد الله عندما اتألم. ترجمة نبيلة حنا. (القاهرة: هيئة الخدمة العربية المسيحية، 2011)، 385

[57] كوستي بندلي، الله والشر والمصير. (بيروت: تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر، 2007)، 33-34

[58] نادر ميشيل، الألم هل من معنى. (بيروت: دار المشرق، 2002)، 24

[59] كوستي بندلي، الله والشر والمصير. (بيروت: تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر، 2007)، 42

[60] فيليب يانسي، أين الله في وقت الألم. (القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2009)، 86

[61] R.C.Sproul, Classic teachings on the nature of God. (Massachusetts: Hendrickson Publishers, 2010), 175

[62] فايز فارس، الله المحب والإنسان المتألم. (القاهرة: دار الثقافة، 2008)، 45

[63] ناشد غالي، الألم بركة أم لعنة. (القاهرة: دار النشر الأسقفية، 2010)، 18

[64] Dave Earley, 21 reasons bad things happen to good people. (Ohio: Barbour Publishing Inc., 2002), 9

 
أعلى