ليتورجيتنا وإبداعات الإيمان -

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
أبونا الراهب سارافيم البرموسي

- ليتورجيتنا وإبداعات الإيمان


قليلاً ما نتحدّث حول الجمال اللّيتورجي في كنيستنا السكندريّة الثقافة، المرقسيّة التسليم، القبطيّة التاريخ، الأرثوذكسيّة الإيمان. كثيرًا ما نختزله في نغمةٍ! إلاّ أنّ الجمال اللّيتورجي يتعدّى نغمة تهتز لها النفس طربًا إلى معنى مُرتّل يُغيّر النفس لتلتقي المسيح في حضرة سمائيّة تشعر بألفة معها كما لعائلة بيت الله كما يكتب القديس بولس. أن نكون معًا في الحضور الإلهي هذا هو المعنى الأصيل للّيتورجيّة. وحينما نجتمع بقلب واحد وعلى إيمانٍ واحد بل متطلّعين إلى الرجاء الواحد، يأتي الله الذي يتناغم حضوره مع الوحدانيّة. فالله لا يُقدِّس التشرذم الإيماني ولا يُبارِك على الانقسام الجماعي بحضوره الفاعل؛ إنّه إله الوحدانيّة التي يتناغم فيها أقانيم الثالوث في حبِّ.

نجتمع معًا ولا يملك علينا سوى شوق التغيُّر إلى تلك الصورة عينها صورة يسوع محبوب النفس الذي بإمكانه وحده أن يُجمِّل كلّ قبحٍ رسمه العالم والشرير على صورتنا الأصليّة الإلهيّة.

نجتمع معًا في تضرُّع أن يسكب علينا الروح الواحد فنتّحد في الحبّ لنخرج للعالم في وحدانيّة الحب نكرز لهم بجمالٍ لا يمكن استحضاره من بيوت التجميل؛ هو جمال الروح الوديعة الهادئة الصافية المحدِّقة في شوقٍ إلى العلاء تتنسّم رائحة المسيح الذكيّة التي يجلبها الروح القدس وتعيد انتاجها في العالم حيّة بشهادة الفضيلة.

في عالمٍ لم يَعُد فيه من إمكانيّة توحُّد ولو حول مائدة عائليّة، تدعونا الكنيسة لنتّحد معًا في خبز التسبيح الذي يرفعنا فوق العالم الحاضر ويثبِّت وجوهنا إلى أورشليم العليا أمّنا جميعًا. وبينما نتغذّى معًا على خبز التسبيح الذي يتحوَّل إلى شهد العسل في القلوب التائبة والمنكسرة تحت أقدام المُخلِّص، يقدِّم الله لنا أثمن ما في الوجود، يقدِّم ذاته، ليرفعنا فوق الوجود المادّي. يقدِّم ذاته في كسرةٍ من خبزٍ ورشفةٍ من كأسٍ، تحمل سرّ الحياة، وتُغيّر الحياة. خبز التسبيح اللّيتورجي لا ينفصل عن خبز الحياة المأكول في شوق الحبّ.

ليتورجيتنا يستشعرها القلب المترّجي الله في توبة. كلّ كبرياء وذاتية تأنف من الحضور للاجتماع اللّيتورجي جملةً إذ يضع الإنسان أمام حالة من السكينة الضاغطة على قلب الإنسان المعاصر والذي يفرّ بكلّ ما يملك من تلك القوة ليتجنّب تلك السكينة المؤلمة. نعم السكينة مؤلمة لأنّها فاضحة لخواء الإنسان. هي أشبه بتوقُّف المُخدِّر لمريض جراحه متقيّحة، يغيب الألم مع المخدِّر ولكن توقُّف المخدِّر يجعل من أنينه صدّاحًا حتى إلى عنان السماء.

السكينة اللّيتورجيّة ليست نتاج نغمات خارجيّة بقدر ما هي سكينة حضور روح الله الوديع للروح الإنسانيّة والذي يجعلها تنصت لصوت الله الشافي العذب الذي يأتي كما من نسيمٍ رطب على وجهٍ لفحته شمس الظهيرة.

كلّ صخبٍ ليس من اللّيتورجيّة القبطيّة في شيء؛ فإن جاز لنا أن نشير إلى ميزة رئيسة للّيتورجيّة القبطيّة عن الكثير من ليتورجيات الكنائس الأخرى، نجد أنّ الخشوع الصوتي واللّحني الذي يستحضر اتّضاع الإنسان أمام الله لينال منه ملء قوّته فيخرج من الصلاة اللّيتورجيّة مسيحيًّا فتيًّا بالمسيح لا بذاته.

إلاّ إننا كثيرًا ما نتوقّف عند اللّحن اللّيتورجي وجماله لأنّ الصوت بطبيعته تستقبله إحدى الحواس الأكثر تأثيرًا في النفس؛ حاسّة السمع. بيد أنّه علينا بنفس القدر أن نكتشف الجمال اللّيتورجي في النصّ وما به من مدلولالات ومعانٍ وجمالات ترفع النفس إلى مواجهة الحبّ مع الله الثالوث. هذا يتطلّب فقط أن يكون الإنسان في حالة احتياج لله شاعرًا بهشاشته ويكون في الوقت عينه غير مكتفٍ بذاته.

المعاني تؤسِّس للإيمان وهو ما يجب أن ننتبه له إذ أن إيماننا يتشكّل من المعاني التي تذخر بها عبادتنا اللّيتورجيّة أو عبادتنا الشخصيّة التي أوصت بها الكنيسة من نسيج الإنجيل وليس من موضع آخر. التغرُّب عن المعنى يؤدِّي إلى اغتراب عن الإيمان الذي يُميِّز حسّ الجماعة الكنسيّة من نحو الله. ليتنا نتوقّف عند المعاني اللّيتورجيّة بالكثير من التأمُّل والتمعُّن والفهم ولكن الأهم بالكثير من الصلاة؛ فالصلاة هي التي تبقينا في حالة الاتضاع والذي يكرِّس الاتّصال بيننا وبين الله لننال البصيرة وننعم بدفء النور.

هبنا أيها الآب السماوي اتضاع الحبّ

لننال من ملء قوّتك التي ترفعنا فوق أركان العالم الزائل

إلى أعمدة عرشك الإلهي فوق الزمني

لك المجد مع الابن الحبيب والروح المحيي.

أمين.
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
- ليتورجيتنا وإبداعات الإيمان



طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها، تلك كلمات القديس يعقوب في رسالته (5: 16)، وهي حقيقة اختبرتها الكنيسة بعمق عبر العصور والأجيال. فكلّ من تبرّر بدماء المخلِّص وقدّم حياته ذبيحة له متجرّدة من الذات، صار من الأبرار الذين لهم دالة عنده.

إنّهم يسيرون حول عرشه كأبناء في بيت أبيهم، كلّ ما يسألونه في الصلاة ينالونه. إن كانت تلك الطلبة التي رفعها الربّ يسوع من أجل أولئك الذين يحيون على الأرض، إن كانت صلاتهم بإيمان تحقِّق لهم ما يطلبونه فكم وكم تكون فاعليّة الصلاة هناك بقرب العرش ومن أولئك الذين اكتسوا بالتمام برداء البرّ الذي لا تقربه شوائب الخطيئة بعد.

طلبة البار قادرة فلا تحارب وحدك، لا تتّكل على قواك وطلباتك وحدك مهما كانت صادقة وفاعلة وقويّة، استخدم كلّ وسائل ووسائط النصرة لكيما تتحرّك بقوّة نحو إكليل الغلبة. تحصّن بأولئك الذين تعكس نفوسهم مجد الخلاص وقد صار الله مُمّجدًا فيهم.

لك سحابة من الشهود فلما لا تستظل بها من لفحات الظهيرة، لماذا تحيا في صراع الشكوك مع أنّ نظرة خاطفة لسحابة الشهود تزيل الشكوك من جذورها وتحُرِّر أرضك من زوانها لتبذر بذار الملكوت.

لا تستبدل نداءك ليسوع بندائك لآخر ولكن دعِّم نداءك له بندائك لمحبيه وللقريبين منه. ليتك تشعر بمفهوم العائلة السماويّة ولا تدخل في بدليات يسوع أم آخر. فكلّ صلاة من أبنائه هي قوّة لصلاتك المرفوعة للربّ يسوع، فلا ترسل صلاة خافتة بل دعّمها بتضرُعات محفل ينتظر أن يرفع صلاتك كبخور أمام العرش.

شارك الجموع المصليّة في اللّيتورجيا تضرُّعها من أجل صلوات وشفاعات خاصّة تقدّمها والدة الإله البتول مريم عن كلّ من يسألها. هي لا ترفض طلبة الخاطئ بل ترفعها إلى ابنها الحبيب متوسّلة من أجل شفائك. هي أمٌ أحشاؤها مليئة بالرحمة والحبّ والحنان، لا تحتمل ألم متوسِّل إلى الابن الحبيب إلّا ودعمته بحنو الأمومة.

إذ ليس لنا دالّة ولا حّجة ولا معذرة من أجل كثرة خطايانا.

نحن بك نتوسّل إلى الذي وُلد منك يا والدة الإله العذراء

لأنّ كثيرة هي شفاعتك ومقبولة عند مخلِّصنا

أيّتها الأم الطاهرة

لا ترفضي الخطاة من شفاعتك عند الذي ولد منك لأنّه رحومٌ وقادرٌ على خلاصنا

(قطعة 3 / صلاة الساعة السادسة)

كلّما زاد عدّد المصلين لأجلك في وجعك، من السمائيين، كلّما كنت أقرب إلى الصحّة. احشد الجمع السمائي؛ نادِ ربوات الملائكة ورؤساء الملائكة والشهداء والمعترفين والرسل والمبشرين والإنجيليين وآباء البريّة، اطلب منهم صلاة عنك وعن وجعك. اطلب أن تشاركهم مائدة الحمل في أورشليم العليا في ذلك الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهّد في نور القديسين. ادفع أشواقك إلى فوق في الهيتنيّات (في القدّاس الإلهي) لأنّها فترة لحشد متضرّعين عنك.

تذكّر أولئك الذين دلّوا المفلوج على فراشٍ من ثقبٍ أمام يسوع، وكان شفاؤه من أجل إيمان أولئك المخلصين الذي وثقوا أنه مجرّد النزول أمام يسوع يعادل الشفاء. صدّق أنّهم قادرون أن يضعوك أمام يسوع حتى يتحرّكوا من أجلك. إن رفض المفلوج ما كان يفعله أصدقاؤه ما كان له بملاقاة الربّ يسوع وما كان له بالشفاء. حمّلهم بالصلاة أمام العرش حتى يحملونك أمام العرش..

تذكَّر أنّه مجرّد ذكر اسم أحد الذين غلبوا العالم وانتصروا في معركة الوجود الأرضي ونالوا الإكليل السمائي هو أمر مرعب للشياطين لأنّهم ذكرى فشل للشيطان وانفلات من قبضته، لذا فإنّ تذكار القديسين هو إعلان أنّ النصرة للمسيح وأنه غلب العالم في أولئك الذين تبعوه إلى النهاية وأنّ خدعة الشيطان بأنه لا أمل في الإصلاح هي ادّعاء تقوِّضه حياة القديسين. شارك في نطق أسماء القديسين في الهيتنيات والذوكصولوجيّات والمجمع حتى تعلن أنّك تنتمي لهؤلاء المنتصرين وأنّهم عائلتك الجديدة وسندك الأكيد أمام عرش النعمة.

خاطب بقلبك وبصوتك بل وبعينيك أيقونات القدّيسين، اسبح في المجد والأفراح الأبديّة معهم وقل لهم أريد أن أشفى وليس لي أحد يلقيني في البركة. دعهم ينادون يسوع من أجلك. كلّما صدق قلبك في نداء جموع السمائيين كلّما ارتفعت التضرّعات بقوّة عنك.. ليأت يسوع وتشفى.
 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
ليتورجيتنا وإبداعات الإيمان



من الصلوات الغنيّة والمتكرّرة بكثرة في اللّيتورجيا بمختلف أشكالها وأنماطها هي صلوات استدعاء الرحمة مثل: كيرياليسون، ارحمنا كلّنا معًا، شعبك وبيعتك يطلبون إليك..، ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، ارحمنا يا الله ثمّ ارحمنا.. إلخ. كلّها صلوات ترتكز عند نقطة واحدة وتنطلق منها وهي الاحتياج الإنساني للغفران والنعمة الإلهيّة والستر في مخابئ العلي مع تجديد العهد وكسر قيود الشرّ.

لا يمكننا فهم المعنى الغني لطلب الرحمة في تلك الصلوات دون أن ندرك أنّ الكلمة اليونانيّة / القبطيّة الواردة في تلك الصلوات هي إليسون (من إليوو) وهي الكلمة التي قد استخدمها مترجم العهد القديم إلى اليونانيّة عن العبريّة في الترجمة المعروفة باسم السبعينيّة. كلمة إليسون تشير إلى التعاطف إلاّ أنّ الكلمة العبريّة المعبّرة عن إليسون هي [حِ سِ د]. وكلمة [حِ سِ د] لا يمكن ترجمتها في كلمة واحدة إذ سيكون ذلك إخلالاً بالمعنى الغني الذي للكلمة.(1) كلمة [حِ سِ د] تستند على ثلاثة معاني متداخلة يمكن أن تشكل أعمده لفهم هذه الكلمة ألا وهي:

- الثبات steadfastness

- القدرة strength

- الحبّ love

تعبّر تلك الكلمة عن الرابطة والالتزام بين أطراف في علاقة كالتي كانت بين الله يهوه وشعب إسرائيل. الكلمة نشأت في مناخ من الحديث عن العهد وكأنّ [حِ سِ د] هي الالتزام بالحماية القادرة والمستمرة والنابعة عن الحبّ من يهوه تجاه شعبه وخاصّته.

من هذا المعنى يمكن أن تستمد صلاتك بُعدًا جديدًا وهي تناجي الله بالـ كيرياليسون، إذ وبينما تناجي الله مطالبًا بالرحمة فأنت لا تسعَى إلى عفو ملوكي كالذي كان يقوم به الملوك والأباطرة في بعض المواسم والمناسبات، الأمر ليس كذلك على الإطلاق!!

الرحمة الإلهيّة [حِ سِ د] تنبع من العلاقة التي تكوّنت بينك وبين الله بعد أنّ قدّم لك هذا الفداء الإلهي دون أي دور من جانبك. من تلك العلاقة والتي أخذت شكل العهد في مياه المعموديّة يمكن لتلك العلاقة أن تستمر وخاصّة بعد سكنى وثبوت الروح القدس فيك ذاك الذي مُسِحْتَ به. العلاقة الآن قائمة على عهد حبّ وإمكانيات هائلة من عون الروح القدس. إلاّ أنّ الجسد العتيق المنتفخ بالذات يريد على الدوام أن يفسد تلك العلاقة ويخرق ميثاق العهد. لم يفت الربّ يسوع أن يُحصِّن الإنسان ضدّ تلك السقطات فكان السرّ الإفخارستي من بعد التوبة هو بمثابة قبلة الحياة من جديد لمن خرج خارج دائرة العهد وعانى من الفقر والجدب والجوع والاحتضار بعيدًا عن دفء الربّ يسوع.

ويأتي الدور الإنساني وهو النداء طالبًا الرحمة الإلهيّة [حِ سِ د] والتي من سمتها:

- الثبات؛ فالله لا يتغيّر إن تغيّرت أنت.

- القدرة؛ فالله القدير يستطيع أن ينتشلك من أيّة حفرة قد تسقط فيها مهما كانت عميقة.

- الحبّ؛ فالمحبّة الإلهيّة الفائضة باللطف نحونا لن تتوقّف يومًا مهما تمرّدت عليها، فالله أمين وإن كنّا غير أمناء.

لذا لا يمكن لأيّ مُصلّي أن يطلب الرحمة، ولا يستطيع أن يتمتّع بطلبة الكيرياليسون إن لم يكن في علاقة مع الله؛ فكيف لمن لم يستشعر بعلاقة أن يطالب الله بترميم العلاقة بالحبّ العطوف والنعمة الرحيمة؟!

حينما تقول كيرياليسون مع الجمع المصلّي في الكنيسة أو في مخدعك في المنزل أو حتى في الطريق يجب أن تشعر بأنّ الله محبّ لذا فهو يغفر ويرحم، أنّ الله أمين لذا فهو يتراءف، أنّ الله قدير لذا فهو ينجي ويعفو.

كيرياليسون من الطلبات القديمة في الكنائس الرسوليّة كلّها، كانت تصدح بها الكنائس. كانت طلبة خارجة من القلوب قبل الأفواه تستند على يقين في حبّ الله.. في الأغابي التي نراها متمثّله في ذلك الصليب فوق الهيكل. أثناء الكيرياليسون إن اعتراك شك ولو لحظة في الحبّ الإلهي؛ ارفع عينيك إلى ذلك الصليب والمُعلَّق عليه لتدرك الحبّ وقيمته الأبديّة. هذا الذي على الصليب قَبِلَ كلّ الجراح لكيما يحييك، هو يسرّ بالرحمة والغفران أكثر ممّا تحتاج أنت. ارفع نداءك بالكيرياليسون إليه مع الجمع المُصلِّي على خفقات قلب ممتلئ بالاحتياج واليقين، بالحبّ والألم، بالشوق والجوع.. ثق أنّك لن تخرج من الصلاة إلاّ وأنت مبرّرٌ لأنّ الكيرليسون كانت صلاة العشّار الذي خرج مُبررًّا.. اقرع ليفتح لك، ولتكن قرعاتك قرعات الشوق والحبّ والجوع لوجه الربّ يسوع حتى يطلّ عليك بوجهه الحنون..
 
أعلى