السمات الأساسية للمحبة - أوليفييه كليمانت

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
السمات الأساسية للمحبة - الفيلسوف الفرنسي العاصر والعلم الأبائي أوليفييه كليمانت
7288318648.jpg


+ التقدم في الطريق الروحي ليس له في الواقع العملي إثبات آخر باتٌّ وتعبير أفضل من أنه هو نمو قدراتنا، دونما توقف عند حد، على أن نحب حباً باذلاً لا يتوقع أي تكريم، حباً حاراً نزيهاً لا يتطلب أن يُرَدَّ له العوض، حباً يتسم بتعاطف يجعلنا نخرج عن أنفسنا ونندمج مع الآخر ونشاركه أحاسيسه. إنه القدرة على اكتشاف أن للآخر عمقاً داخلياً سرياً كما لي، ولكنه متمايز لأن الله اراده كذلك.

+ في العالم الساقط تمزقت وحدة البشر، والكل يتصارع ليغالب الفناء. وأنا كإنسان أحاول أن أتخلص من القلق الذي يعصرني بإلقائه على الآخر الذي يصير هو بدوره كبش الفداء لإنحصاري المأسوي الذي يجعلني أنظر للآخر وكأنه عدوي. ولكن في المسيح قد تحوَّل جحيمي الداخلي إلى كنيسة فيها الله والقريب معاً، ولم يَعُدْ لي بعد من عدو، ولا يكون انفصال بين ذاتي والآخرين. فحقيقة العمق الروحي تتبين بدقة في محبة الأعداء بحسب الوصية الإنجيلية التي تتعارض مع المنطق البشري، والتي لا تتخذ قوة معناها إلا بصليب المسيح وقيامته اللذين عندما يسريان فينا يمداننا بقوة مكِّننا من تنفيذ هذه الوصية.
[رأيت يوماً ما ثلاثة رهبان أُهينوا معاً، فالأول اغتمَّ بشدة وتنغَّص، ولكنه سكت. والثاني تقبَّل الإهانة لنفسه بفرح ولكن حَزِنَ على مَنْ أهانه. أما الثالث فلم يفكر إلا في خسارة قريبه الذي أساء إليه ففاضت عيناه بالدموع من فرط شفقته عليه. فالأول كان الذي يحكم تصرفه المخافة، والثاني الرجاء في الثواب، والثالث المحبة](1) -سُلَّم السماء للقديس يوحنا كليماكوس (الدرجي).

+الأعجوبة الحقيقية بالغة الصعوبة هين إذاً، تكمن في تحقيق مثال المحبة العملية بالمفهوم الروحي الإنجيلي لهذه الكلمة: "الأغابي" أي محبة الآخر من خلال محبتنا لله.

+الدخول في علاقة صميمة مع الله هو في الواقع: الانقياد الواعي لحركة محبته الإلهية الفائقة التي تنسكب فينا بالروح القدس من خلال إيماننا بالمسيح، والتي توحي لينا أن الآخر –وهو كل إنسان أياً كان- هو "قريب" لنا قرابة صميمة تفوق الأنساب الجسدية بكثير.

+العلاقة بهذا "القريب" هي التلاقي مع المسيح الذي يجعل ذاته في كل إنسان يتألم: المنبوذ، والمسجون، والشريد –كما يُذكِّرنا بذلك مشهد الدينونة الأخيرة في الإنجيل (متى 35:25-40): "كنتُ جوعاناً فأطعمتموني؛ كنتُ عطشاناً... كنتُ عرياناً... كنتُ مسجوناً.. الحق أقول لكم: كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم".

+المحبة "الأغابي" تعلن لنا أن كل إنسان، وعلى وجه أخص كل إنسان يتألم، هو سر المسيح، هو "مسيح آخر"، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم. فالإنسان جُبِل ليكون على علاقة صميمة بالله الواحد المثلث الأقانيم.

قول للقديس باسيليوس الكبير:
[بعد أن أعطانا الرب هذه البذار الحيَّة وألقاها في قلوبنا، يأتي ليطلب الثمار فيقول: "وصية جديدة أعطيكم: وهي أن تحبوا بعضكم بعضاً" (يوحنا 34:13). فالرب إذ يريد أن يستحث نفوسنا على مراعاة هذه الوصية، لم يطلب من تلاميذه برهاناً على أمانتهم له وإيمانهم بهم: لا اجتراع عجائب، ولا إجراء معجزات خارقة –مع أنه سبق فأعطاهم بالروح القدس القدرة على عمل ذلك. ولكن ماذا يقول لهم؟ "سيعرف الجميع أنكم تلاميذي بالمحبة التي ستكون لكم نحو بعضكم البعض" (يوحنا 35:13).
وهكذا يوحِّد الرب بين هاتين الوصيتين (محبة الله ومحبة القريب) بأن يجعل كل ما يُحْسَن به للآخرين أيَّاً كانوا (ولا سيما المحتاجين) يعود عليه هو نفسه. فيقول: "كنت جوعاناً فأطعمتموني..." ثم يضيف: "كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (متى 35:25-40). وهكذا بمراعاتنا للوصية الأولى يمكننا أن نراعي الثانية، وبتطبيقنا عملياً للثانية تعود للأولى: محبتنا للرب، هي بالتالي محبة للقريب، فالرب يقول: "الذي يحبني يحفظ وصاياي" و"وصيتي هي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم" (يوحنا 15:14؛ 13:34)(2) –عن قوانين القديس باسيليوس)

+فكرة الأشعة المنبعثة من وسط دائرة: فالأشعة تبدو متفرقة كلما ابتعدت عن المركز، وتتجمع وتتقارب بقدر اقترابها من المركز الذي هو الله. في هذا التشبيه تمثيل مبدع لشرح علاقتنا بالقريب، فانكشاف حقيقة الآخر كذاتٍ أو نفسٍ حية لا يمكن أن يُستعلن لنا إلا من خلال علاقتنا الصميمة بالله.

قول للقديس دوروثيئوس – من غزة:
[هذه هي طبيعة المحبة: بقدر ابتعادنا عن المركز (في مَثَل الدائرة) فهذا يعني أنان لا نحب الله، وبنفس القدر نتباعد عن القريب. ولكن إذا كنا نحب الله بالحق فإننا نقترب إليه بالمحبة. وبالتالي نجد أنفسنا متآلفين في حبٍّ حقيقي للقريب](3).

***

+نحن جميعاً "أعضاء" جسد المسيح السري، كما يقول القديس بولس: "أعضاء بعضنا لبعض". وحدة بشرية متشاركة في الجوهر الواحد، وكأنها في الواقع إنسان واحد. وفي هذا "الجسد غير المحدود" تسري المحبة كدمٍ إلهي – بشري.

من مجموعة أقوال الآباء:
[قال شيخ راهب: قضيتُ عشرين عاماً أجاهد لكي أنظر إلى جميع الناس وكأنهم إنسانٌ واحدٌ](4).

***

+هذه الوحدة المنجمعة والمتكاملة في المسيح لا تتحقق إلا بالروح القدس الذي يُومئ إليه التقليد منذ عصر الرسوليْن بولس ويوحنا بأنه روح "الشركة"، وروح الشركة هذا هو الذي يكشف للبشرية عن سر وحدانية الثالوث الأقدس ويدعو البشرية إلى المشاركة فيه.

قول للقديس غريغوريوس النيصي:
[عندما تستبعد المحبةُ الكاملة المخافة أو عندما تتحول المخافة إلى محبة، عندئذ كل من سيشملهم الخلاص سيكونون في و حدة متوافقة، ينمون معاً بنفس الكمال الإلهي الواحد. حيث سيحس الجميع أن كل واحد منهم هو في الآخر، وأنهم كلٌّ واحد كائن في الروح الإلهي الواحد... وإذ تربطهم وحدة الروح القدس وتحتضنهم كأنها برباط السلام، سيكون الجميع جسداً واحداً وروحاً واحداً... ولكن الأفضل هنا أن نقتبس كلام الإنجيل حرفياً: "ليكون الجميع واحداً كما أنك أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يوحنا 21:17). واستنباطاً من كلام الرب هنا يمكننا أن نقول: إن رباط الوحدة هو المجد، وهذا المجد هو الروح القدس، وكل مَنْ على دراية بلغة الكتاب المقدس سيفهم معنى ذلك إذا ما انتبه إلى قول الرب: "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني" (يوحنا 22:17). وفي الواقع، هو منحهم حقيقة هذا المجد عندما نفخ فيهم وقال: "اقبلوا الروح القدس" (يوحنا 22:20)](5).

***

+الإنسان الذي تقدس لا يعود بعد منفصلاً أو منعزلاً عن الآخرين. وبقدر ما يعي جيداً أنه لم يعد منعزلاً في شيء أو مفترقاً من أحد، بهذا المعيار فقط يعرف أنه سائر في طريق القداسة. إنه يحمل نفسه البشرية جمعاء، كل الناس بآلامهم وقيامتهم، دونما تفرقة بين إنسان وآخر...

+إنه في المسيح يتحد بـ "آدم في معناه الشامل الكلي –أي الطبيعة البشرية كلها". ذاته لا تعود مهمة بعد. إنه يحتوي كل الناس في صلاته، وفي حبه، دون أن يقضي على أحد أو يدين أحداً إلا نفسه وحدها، ويحسب نفسه دائماً آخر الكل.

+إن قلبه ينجرح للغاية من أجل قباحة العالم، ومن أجل مآسيه التي تتزايد دائماً عبر التاريخ، وإذ يحس أنه منسحق مع المسيح يستشعر أيضاً أنه يقوم معه ومع الكل، فيتحقق أن القيامة هي التي ستسود أخيراً، وأ، فرحة القيامة ستغلب كل سلبيات الدنيا.

قول للقديس أنبا مقار:
[الذي استؤهلوا أ، يصيروا أبناءً لله، وأن يولدوا من فوق من الروح القدس... قد يحصل لهم أن يبكوا يحزنوا على سائر الجنس البشري، وتجدهم يتوسلون إلى الله من أجل آدم وكل نسله، ساكبين الدموع الحارة، مضطرمين بحب روحي عميق من أجل كل البشرية. وأحياناً أيضاً تتأجج روحهم بفرحٍ غامر وحب شديد، حتى إنهم يودون –لو كان ذلك ممكنا- أن يأخذوا كل الناس ويضعوهم في قلبهم، دون أن يفرقوا بين أرديائهم وصالحيهم. ثم أحياناً أخرى من فرط تضاع الروح، ينحنون تكريماً أمام كل إنسان، إذ يعتبرون أنفسهم آخر وأدنى الكل. ثم بعد ذلك يجعلهم الروح القدس من جديد يحيون في فرح يفوق تعبير اللسان](6). –العظة (8:18)

***

+حياتنا وموتنا الروحيان لهما دورٌ كبير في علاقتنا بالآخر. قال أحد القديسين، بناءً على خلاصة تعليم الإنجيل: "في اليوم الأخير سنُحاسب على المحبة (تنفيذاً أو تقصيراً)".

قال الأبَّا أنطونيوس:
[الحياة والموت مرتبطان بعلاقتنا بالقريب (أي كل إنسان). فإذا ربحنا أخانا (وعلى الأخص المتخالف معنا) ربحنا الله، أما إذا أعثرنا أخانا فإننا نخطئ إلى المسيح](7) –(من أقوال الآباء)

***

+لكي نجد دالة وثيقة عند الله ليس لنا طريق آخر سوى الرحمة، أو ما يُسمى في اليونانية: "sympathie" وهي تعني: اتساع القلب وقدرته على مشاركة الآخرين آلامهم وأحاسيسهم.
+إنسان ليس لديه رحمة، ولا يتوجع لمحن الناس قد وضع حائلاً بينه وبين الله.

قول للأبَّا بامو:
[سأل أبا ثيئودور الفرمي أبا بامو: "قل لي كلمة (انتفع بها روحيا)". فبالجهد قال له: "ثيئودور اذهب وليكن عندك رحمة حانية على الكل، لأن الرحمة تعطينا أن نتكلم بدالة مع عالله"](8) –(من أقوال الآباء)

***

+فرحمة الإنسان الحانية على كل الناس تؤدي حتماً إلى الاتحاد بحنان الله نفسه الذي يبديه نحو العالم. القديس غريغوريوس النيسي يتكلم عن حنو الله وإحساسه بآلام البشر وعن مشاركة الله الإنسان في عواطفه وأحاسيسه. يقول باسكال: "سيظل المسيح يعاني أشد الآلام حتى نهاية العالم".

قول لمار إسحق السرياني:
[إذا أردت أيها الأخ نصيحة فائقة جداً فإليك بهذه النصيحة: ليكن معيار الحنان لديك في ارتفاع دائم إلى الحد الذي فيه تحس في قلبك بحنان الله نفسه نحو العالم](9).

***

+الرحمة الإلهية الواجب بأن نكون عليها: هي أن نحب الناس إلى الحد الذي فيه نكون مستعدين ولو حتى أن نكون محرومين من خلاص أنفسنا نحن إذا كان في ذلك خلاص لهم، كما التمس ذلك بتوسل شديد موسى النبي والقديس بولس الرسول.

+هي أيضاً: أن نحب الناس محبة باذلة حتى الموت من أجلهم وهذه هي المحبة الله نفسه التي منحها لنا في ابنه الوحيد...

قول لمار إسحق السرياني:
[هذه هي العلامة المميزة التي فيها نعرف أولئك الذي بلغوا إلى الكمال المسيحي: إنهم إذا أسلموا أنفسهم للنار عشر مرات في اليوم الواحد من أجل محبة الناس، لا يروون غليل حبهم. وهذا ما قاله موسى النبي لله: "إن غفرت خطيتهم. اغفرها لهم. وإلا فامْحُني من كتابك الذي كتبت" (خروج 32:32). وهذا أيضاً ما قاله المغبوط بولس: "فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي..." (رو 3:9)... بل إن الرب الإله نفسه في محبته للخليقة، أسلم ابنه وحده للموت على الصليب: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 16:3)... وهكذا القديسون المتمثلون بالله قد سكبوا على الكل من فيض حبهم](10)

__________
(1) JEAN CLIMAQUE: L'Échelle Sainte 8e degré 29
(2) Basile DE CÉSARÉS: Grandes Régles 3,1 et 2 (PG 30-340)
(3) DOROTHÉE DE GAZA: Istructions (SC n° 92 p. 286)
(4) Apophtegmes des ceux qui vieillissent dans l'ascèse (sc n° 1 p. 407)
(5) GRÉGOIRE DE NYSSE, Quinzieme Homélie sur le Cantique des Cantiques (PG 44, 1116)
(6) MACAIRE DE l'ÉGYPTE: Dix-huitième Homèlie Spirituelle, 18,8 (PG 34, 79)
(7) Apophtegmes, Antoine, 9 (PG 77)
(8) Apophtegmes, Pamo, 14 (PG 65, 37)
(9) ISAAC LE SYRIEN: Traitès Ascètiques, 34e traitè (Ed, Spanos, p. 151)

(10) ISAAC LE SYRIEN: Traitès Ascètiques, 81e traitè (p. 307)

مقالات مترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chr
étiens des
Origines - Olivier Cl
ément
منابع الروحانية المسيحية في أصوولها الأولى - الفيلسوف الفرنسي العاصر والعلم الأبائي أوليفييه كليمانت
ترجمة وإعداد رهبان دير القديس أنبا مقار
 
التعديل الأخير:
أعلى