هل يزرع الملح؟
للقمص عبد المسيح بسيط
" وحارب ابيمالكالمدينة (شكيم) كل ذلك اليوم واخذ المدينة وقتل الشعب الذي بها وهدمالمدينة وزرعها ملحا " (قض9 :45).
يستخدم الكتاب المقدس الأساليباللغوية والبلاغية والمجازية التي تعبر عن موقف معين، كما يستخدم المفردات اللغويةبمعاني حرفية ومعاني بلاغية مجازية كالتعبير المجازي الذي تستخدم فيه الألفاظ بغيرمعانيها الحقيقية لعلاقة المشابهة (التشبيه والاستعارة) أو التلازم (الكناية) أوغير ذلك كالمجاز المرسل، وهذا معروف حتى في لغة الخطاب العادي الذي نتخاطب به فيكل مكان، مثلما يقول الإنسان شربت ماءً ويقول آخر شربت المر، ويقول ثالث شربت منكيعاني، فالأول يتكلم عن شرب حقيقي للماء والثاني يعبر عما يعانيه من مرارة فينفسه والثالث يعبر عما يعانيه مصاعب وآلام نفسية. ولم تعبر الكلمة في الحالاتالثلاث عن معنى واحد، بل عن ثلاث معاني. وهكذا عندما يقول الكتاب " زارعالأرض " و " زارع الريح " و " ما يزرعه الإنسان إياه يحصد". وفي هذه العبارات الثلاث لا تعطي الكلمة معنى واحد بل ثلاث معاني؛ (1)زراعة الأرض، أي وضع البزور في الأرض وريها، (2) زارع الريح، أي الذي يتعب بلا ثمنولا ثمر، (3) ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، أي يجني الإنسان ثمرة أعماله.
ولكن المشككين في الكتاب المقدس كثيرا مايحاولون تشكيك المؤمنين بتفسير أي نص بمعنى حرفي لا يتناسب مع الموضوع الفعلي للنصولا يشرح معناه الصحيح " لكي يضلوا (كما قال الرب يسوع المسيح) لو أمكنالمختارين أيضاً " (مر13 :22).
وقد وجد هؤلاء المشككين ضالتهم فيما جاء في سفرالقضاة قوله: " وحارب ابيمالك المدينة كل ذلكاليوم واخذ المدينة وقتل الشعب الذي بها وهدمالمدينة وزرعها ملحاً " (قض9:45)، وهنا هللوا وراحوا يشككون المؤمنين قائلين أن الكتاب المقدس قد أخطأ خطئاًفاحشاً إذا قال " أن الملح يزرع "!! وحاولوا تصوير الأمر على أنه يقصدأنه يزرع مثل القمح وبقية النباتات!! فهل ما يزعمونه صحيح؟!
وقبل أن نشرح المعنى الحقيقي للنص الكتابي يجبأن نعرف كيف يستخرج الملح من التربة والماء. حيث يستخرج الملح عادة بطرق وأنواعمختلفة حسب كل بلد من البلاد وطريقة استخراجها له، ففي النمسا مثلاً كانوا يحفرونالأرض إلى مسافات عميقة حتى يصلوا إلى الملح الذي يكون على هيئة طبقة سميكة جداًويحفرون فيها ما يشبه الغرف التي يملئونها بالماء فيذوب فيه كم كبير من الملح، ثميخرجون هذا الماء ويضعونه في أواني كبيرة (مراجل) ويضعونه على النار فيتبخر الماءويبقى الملح على هيئة حبوب بلورية.
أما في فرنسا فكانوا يستخرجونه بطريقة أسهل إذيحفرون آبار في باطن الأرض التي تحتوي على الملح حتى يصلوا إلى الطبقات الملحية ثميملئون هذه الآباربالماءلكي يذوب الملح فيها ثم يضعونه في مراجل (قزانات) ويتركونه يغلي حتى تتبخر الماءويبقى الملح.
وفي البلاد الباردة التي لا يسمح الجو فيهابتبخر الماء إلىالدرجةالمعتادة وليس لدى أهلها من الوسائل ما يمكنهم من غلي ماء الملحلتبخيرهبالحرارة يلجئون إلى تثليج ماء الملح ويساعدهم على ذلك كثرةالثلج عندهم وشدة البرد في بلادهم فيبقى الماء النقيمثلجاً فينزل الملح إلى قاع الأحواضثم يجمعونه ويستعملونه.
وفي البلاد العربية يستخرج الملح بطرق أسهل منذلك حيث يعملون أحواض بجوار البحر واسعة وقليلة العمق ويملئونها بالماء تسمىبالملاحات، خاصة في الصيف وتترك قليلاً حتى يترسب ما قد يكون فيها منأقذار ثم تنقلونهاإلى أحواض مجاورةلهاوتترك فيها مدةكافيةيتبخر فيها الماء من تلك الأحواض بتأثير حرارة الجو العادية ويبقى الملح مترسباًفيقاعها،ثم يجعلونه أكواما بجانبها ليتصفى مما قد يكون عالقا فيه من الماء ثم ينقل إلىمحال البيع لبيعه واستخدامه.
بعد هذاالتوضيح نوضح ما قصده الكتاب في سفر القضاة بقوله " وهدم المدينة وزرعها ملحاً ". ونسأل أولاً عنمعنى كلمة " زرع "، فقد وردت الكلمة في العبرية " זרע - zâra‛- زرع " من جزر زرع وتستخدم مجازيا بمعني نشر,زرع, أثمر, حمل، جلس, زرع, انتاج.
وجاءت كلمة " زرع " في قاموس لسانالعرب: " زَرَعَ الحَبَّ يَزْرَعُه زَرْعاً وزِراعةً: بَذَره، والاسم الزَّرْعُوقد غلب على البُرّ والشَّعِير، وجمعه زُرُوع، وقيل: الزرع نبات كل شيء يحرث،وقيل: الزرْع طرح البَذْر000 وتقول للصبي: زَرَعه الله أَي جَبَره الله وأَنبته. وفيالحديث: كنتُ لكِ كأَبي زَرْع لأُمّ زرع ".
إذا ففي كلتا اللغتين العبرية والعربية تستخدم الكلمةبعدة معاني، حرفية أو مجازية. وقد وردت في الكتاب المقدس بعدة معاني مثلما جاء فيالآيات التالية:
"ونذرت نذرا وقالت يا رب الجنود أن نظرت نظرا إلى مذلة أمتك وذكرتني ولم تنس أمتكبل أعطيت أمتك زرع بشر فاني أعطيه للرب كل أيام حياته " (1صم1:11).
"يا خائفي الرب سبحوه. مجدوه يا معشر ذرية يعقوب. واخشوه يا زرع إسرائيلجميعا " (مز22 :23).
"نور قد زرع للصديق وفرح للمستقيمي القلب " (مز97 :11).
"أنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة. زرع ليس له غلّةلا يصنع دقيقا " (هو8 :7).
"كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع في قلبه" (مت13 :19).
"مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحيةالباقية إلى الأبد " (1بط1 :23).
الشرير" يخترع الشر في كل حين. يزرع خصومات " (أم6 :14).
"ولكن قد أوصى عنك الرب لا يزرع من اسمك في ما بعد. إني اقطع من بيت إلهكالتماثيل المنحوتة والمسبوكة. اجعله قبرك لأنك صرت حقيرا " (نا1 :14).
" هكذا أيضا قيامة الأموات. يزرع في فسادويقام في عدم فساد. يزرع في هوان ويقام في مجد. يزرع في ضعفويقام في قوة.يزرع جسماحيوانيا ويقام جسما روحانيا. يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني " (1كو15:42-44).
"هذا وان من يزرع بالشح فبالشح أيضا يحصد. ومن يزرع بالبركاتفبالبركات أيضا يحصد " (2كو9 :6).
"لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادا. ومن يزرع للروحفمن الروح يحصد حياة أبدية " (غل6 :8).
" وثمر البر يزرع في السلام من الذين يفعلونالسلام " (يع3 :18).
"الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج " (مز126 :5).
وفي كل هذه الآيات تستخدم الكلمة بمعنى مجازيوليس بمعنى زرع الأرض. وعندما نعود للآية التي يحاولون تشكيك المؤمنين من خلالهاوموضوعها نجد أن أنها تستخدم بمعنى مجازي مثل هذه الآيات تماماً. فيقول الكتاب:" وحارب ابيمالك المدينة (شكيم) كل ذلك اليوم واخذالمدينة وقتل الشعب الذي بها وهدم المدينة وزرعها ملحا " (قض9 :45).وعبارة " زرعها ملحاً " هنا، كما جاء في جميع تفاسير الكتاب المقدس تعنيبذرها بالملح حتى تفسد ولا تصلح للزراعة. فقد كان كل هدف ابيمالك أن يجعل المدينةخراباً لمدة وطويلة ولم يكن أمامه سوى أن ينثر في الأرض كمية كبيرة من الملح لتصيرالتربة غير صالحة للزراعة لسنوات طويلة، ونظرا لأن الزراعة في فلسطين كانت تعتمدعلى المطر لذا فعند سقوط الأمطار على الأرض المنثور عليها الملح يجعلها تتشبعبالملح ولا تعد صالحة للزراعة لسنوات طويلة.
جاء في تفسير Believer's Bible Commentary في تفسيره: " يزرعها بالملح 00 أي يجعل الأرض عقيمة. وهنافعل رمزي من ابيمالك يعبر عن تصميمه في أن يكون المكان عقيم وملحي قفر "[1].
ويقولفي كتابJudges, Ruth. The People's Bible : " نثر ابيمالك الملح على الخرائب. ويمنع الملح المحاصيل منالزرع "، وهنا يشير إلى ما جاء في تثنية قوله: " كبريت وملح كل أرضاً حريق لا تزرع ولا تنبت ولايطلع فيها عشب ما كانقلاب سدوم وعمورة وادمة وصبوييم التي قلبها الرب بغضبه وسخطه" (تث29 :23)، وكان هدف ابيمالك أن يمنع إثمارها في القريب[2].
وجاء في تفسير AfricaBible commentary: "زرع منطقة بالملح يجعل الأرض غير خصبة 000 وكان نثر ابيمالك للملح على المدينة طقسرمزي لمعاقبة المدينة لكسرها عهدها معه ولعنها بعدم الخصوبة، ثم أعاد يربعام الأولبناء المدينة فيما بعد (1مل12 :25)[3]. مشيراً إلى قوله: " وبنى يربعامشكيم في جبل افرايم وسكن بها ".
وجاء في تفسيرAriel'sBible commentary : "وضرب (ابيمالك) المدينة وزرعها بالملح. وكان ملح الأرض رمزاً للأرض العقيمةالصحراوية (تث29 :23؛ أي39 :6؛ مز107 :34؛ ار17 :6)، وهذا كان عملا رمزياً على أنالمدينة تنقلب عقيمة وصحراء ملحية إلى الأبد[4].
وجاء في كتاب Beavailable. An Old testament study:" ولكي لا تثور المدينة ضده ثانية دمر ابيمالك المدينة ونثر عليها الملح،وهذا كان عملاً رمزياً يقصد به لعن الأرض وأن تصير خراب لكي لا يستطيع أحد أن يعيشفيها "[5].
وجاء فيThe Bibleknowledge commentary: " حاصرابيمالك المدينة ليلاً ودمرها وقتل سكانها ونثر الملح عليها. وكان هذا العملرمزياً يشير لعقمها وأنها ستكون عقيمة إلى الأبد 000 وقد برهنت المكتشفات الأثريةعلى أن هذا الدمار حدث لشكيم في القرن الثاني عشر والتي ظلت خراباً حتى أعاديربعام بنائها كعاصمته (1مل12 :25) "[6].
وهكذاأجمعت بقية التفاسير على المقصود بزرع المدينة ملح هو نثر الملح فيها حتى تصبحعقيمة وجدباء وغير صالحة للزراعة.
ويشير الكتاب المقدس كثيراً للأرض الخربةبالأرض الملحية مثل قوله: " ويكون مثل العرعر فيالبادية ولا يرى إذا جاء الخير بل يسكن الحرّة في البرية أرضا سبخة وغير مسكونة" (ار17 :6). وعبارة " أرضاً " سبخة تعني أرض ملحية وهي فيالعبرية (מלחה - melêchâh- ملحه) وتعني ملحية، أي مهجورة بسببأنها ملحية. وقد وردت في الترجمات الإنجليزية (salt land)، كماترجمت في الترجمة الكاثوليكية حرفياً: " الأرضالمالحة التي لا ساكن فيها ".
كما سميت الأرض الخربة بالأرضالملحية كما جاء في المزامير: " يجعل الأنهارقفارا ومجاري المياه معطشة. والأرض المثمرة سبخة(مالحة) من شر الساكنين فيها " (مز107:33و34)، لذا ترجمت في اليسوعية " وأرض الثمار إلى أرض مالحةبسبب شر سكانها ".
[1]MacDonald,W., & Farstad, A. (1997, c1995). Believer's Bible Commentary : Old and NewTestaments (Jdg 9:45). Nashville: Thomas Nelson.
[2]Lawrenz,J. C. (1997). Judges, Ruth. The People's Bible (116). Milwaukee, Wis.:Northwestern Pub. House.
[3]Adeyemo,T. (2006). Africa Bible commentary (306). Nairobi, Kenya; Grand Rapids, MI.:WordAlive Publishers; Zondervan.
[4]Fruchtenbaum,A. G. (2006). Ariel's Bible commentary : The books of Judges and Ruth (1st ed.)(126). San Antonio, Tex.: Ariel Ministries.
[5]Wiersbe,W. W. (1996, c1994). Be available. An Old testament study. (86). Wheaton, IL:Victor Books.
7 Walvoord, J. F., Zuck, R. B., & Dallas Theological Seminary.(1983-c1985). The Bible knowledge commentary : An exposition of the ......ures(1:398). Wheaton, IL: Victor Books.