سلام ونعمة وأسعد الله مساء الأحباء جميعا.
لا أعتقد أن هذا هو الطريق الأمثل للرد على هذه الشبهة ـ أي عبر إثبات إن فكرة المجيء الثاني وردت بالعهد القديم وبالتالي لم "يخترع" المسيحيون حقا هذه العقيدة!
(يا ليت أمنا الغالية أمة تعيد الفيديو حتى لا تحرمنا من فرصة الرد وحتى يفهم الناس فيم نتحدث. هذه الشبهات لا تهدد الإيمان أبدا أيها الأحباء بل بالعكس تثري حياتنا الفكرية المسيحية، علاوة على أن الرب في الحقيقة هو الذي يدافع عنا وعن هذا الإيمان وليس نحن الذين ندافع عن الرب)!.
على أي حال تقول هذه الشبهة باختصار إن السيد المسيح ـ في مجيئه الأول ـ قد "أخفق" في تحقيق نبوءات المسيا وأحلام "اليوتوبيا" الجميلة التي وعد الكتاب بها، كانتصار الخير وزوال الشر وانتشار السلام والمحبة والسعادة. هكذا اضطر المسيحيون الأوائل ـ أمام هذا الإخفاق والإحباط واليأس ـ إلى "اختراع" عقيدة المجيء الثاني، وكأنهم يعطون بذلك فرصة أخرى للمسيح كي يحقق في مجيئه الثاني ما عجز عن تحقيقه في المرة الأولى. وبالطبع فإن كل مسيح قام بعد ذلك فشل أيضا كما فشل الناصري، ذلك أن اليوتوبيا مجرد حلم أسطوري جميل، لكنه مستحيل من حيث المبدأ، غير قابل للتحقق اساسا!
.
الرد بالتالي لا يبدأ بالبحث عن "
مشروعية" للمجيء الثاني بالعهد القديم، لأن ذلك يعني ضمنا تسليمنا بـ"
الفرضية" التي قامت الشبهة كلها عليها، وهي إخفاق المسيح في مجيئه الأول. الرد بالأحرى يبدأ بفحص هذه الفرضية نفسها أولا ومراجعتها للتأكد من صحتها.
من ناحية أخرى: إن فكرة اليوتوبيا هي حقا فكرة خيالية أسطورية لا يمكن أخذها ـ
منطقيا وعلميا ـ على محمل الجد. القول مثلا بسيادة الخير والسلام وانتهاء الحروب والصراعات قول لا يقل في
استحالته أو حتى
هرائه عن القول بأن الذرة مثلا ستتكون يوما ما من "البروتونات" الموجبة فقط ولن تحتوي على أية "إلكترونات" سالبة بعد ذلك! أو القول بأن القطب الجنوبي للأرض سيتلاشى تماما ذات يوم فلا يبقَ سوى القطب الشمالي فقط! أو القول بأن الشمس لن تغرب أبدا وسنحيا دائما في النور لا نرى بعد أي ليل أو ظلمة! أو القول بأن الأسد سيصير حقا كالبقرة وديعا يأكل التبن!
عثر الكثيرون إذاً بسبب هذا النوع من النبوءات: عثر اليهود أولا حين أخذوها
حرفيا على ظاهرها وقد ربطوها بظهور المسيا وبالعصر المسياني السعيد، وعثر حتى بعض المسيحيين أيضا كالأستاذ آدم المصري صاحب هذه الشبهة.
***
والحق ـ فيما نرى ـ هو أن هذا النوع من الآيات يحتاج بالأحرى
تفسيرا روحيا. لا حرفيا، ولا حتى رمزيا، بل روحيا. إن التفسير "
المادي" الحرفي للنبوءات هو
تحديدا ما جعلها أسطورية خيالية، مجرد يوتوبيا حالمة لم تتحقق من قبل ولا يمكن أبدا أن تتحقق. أصبح من ثم حتميا ـ على اليهود أنفسهم قبل غيرهم إن كانت ما تزال لديهم ذرة عقل ـ أن يلتمسوا التفسير "
الروحي" لهذه النبوءات، وهو بالضبط ما جاء به السيد المسيح وما أعلنه صراحة!
وعليه: نحن لا نقول فقط إن جميع النبوءات تحققت بالفعل في شخص السيد المسيح، بل أكثر من هذا: نحن نقول إن النبوءات لم يكن من الأساس ممكنا أن تتحقق إلا على هذا النحو الروحي الذي تحققت به في شخصه المبارك ـ فقط وحصريا على هذا النحو دون سواه!
***
أخيرا لنضرب لذلك مثالا بسيطا حتى يتأكد فهم المقصود:
في إشعيا 4:2 نقرأ إشارة إلى هذه العلامات المسيانية حيث تنتهي الحروب أخيرا بين الشعوب والأمم:
فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد.
.
وفي مشنا توراه للحاخام الأشهر ابن ميمون نقرأ تعليقا على هذه الآية:
في ذلك العصر (المسياني) لن يكون هناك جوع أو حرب، أو حسد أو نزاع، إذ يفيض الخير وتكون سائر المشتهيات متاحة كالتراب.
.
هذا إذاً مثال على نبوءات المسيا ووعوده المستحيلة إذا تناولنا الأمر حرفيا وفسرناه ماديا. أما التفسير الروحي لكل هذا فهو ببساطة قول الرسول في غلاطية:
ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع.
.
وفي كولوسي:
ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيثي، عبد حر، بل المسيح الكل وفي الكل.
.
بعبارة أخرى:
لقد انتهت الحرب بالفعل وتحققت النبوءة المستحيلة بكل قياسات العقل، إذ
لم يعد هناك أصلا يهود أو يونان أو بربر أو سكيثيون (مجرد أمثلة لشعوب العالم القديم)، بل صار كل هؤلاء
واحدا، ذابت هويّاتهم المختلفة في واحدية المسيح ذاته، وهكذا
لم تتوقف الحرب فحسب بل لم تعد الحرب أصلا ممكنة!
إن حروب الأمم المختلفة لم تنتهِ حقا،
ولا يمكن أن تنتهي، وإنما الذى انتهى هو بالأحرى "
الأمم" المختلفة نفسها! إن زوال "
الأممية" نفسها وكل أشكال "
الذاتية" عموما ـ والتي تقوم بسببها كل الحروب والنزاعات والخصومات ـ هو ما حققه السيد المسيح
بالفعل، من ثم زالت
تلقائيا كل الحروب والنزاعات والخصومات، وبذلك تحققت بالفعل النبوءة!
وكما نرى: هذا ليس تفسيرا مسيحيا للنبوءة، بل هذا بالأحرى هو التفسير الوحيد لها، كما إنه
التحقق الوحيد الممكن لهذا الوعد سواء حسب قياسات العقل أو حسب شروط الواقع، وهو تفسير
روحي بالضرورة كما رأينا.
وعليه فالمسيحي، نعم، يعيش بالفعل في هذه اليوتوبيا! المسيحي لم "يخترع" المجيء الثاني ولا ينتظره لأجل أي وعد أو نبوءة، بل يعيش المسيحي الآن بالفعل في هذه اليوتوبيا، يشعر بالفعل بكل هذا السلام والفرح، يحيا بالفعل في هذا "العصر المسياني" السعيد، الذي بالفعل بدأ!
لم يخفق المسيح من ثم أبدا عندما جاء في المرة الأولى. الذي أخفق حقا هو آدم المصري نفسه وقبله آدم اليهودي وأمثالهما، ذلك أنهم تناولوا النبوءة ماديا وحرفيا ومن ثم عجزوا تماما عن فهم المسيح وبشارته وعن إدراك الأعماق الروحية اللا متناهية التي ينطوي هذا الإيمان عليها. وكما قلنا سابقا وكررنا: المسيحية ليست نظاما فلسفيا أو نسقا فكريا أو حتى مذهبا دينيا عقائديا، المسيحية بالأحرى مجرد مقدمة أو أساس نظري لخبرة روحية! أساس نظري بسيط جدا، لخبرة روحية عميقة جدا، باهرة بكل ما تعني الكلمة، سامية فائقة لا يحيط بها أبدا أي وصف أو تعبير أو لغة!