سلام ونعمة. أهلا بالأخ الحبيب صلاتنا لأجلك وقلوبنا معك. توقف ضعفي عن كتابة الرسائل الطويلة هنا بكل أسف ولكن سأقوم اليوم باستثناء لأجلك. أولا تذكر يا صديقي أن غاية التجارب الكبيرة عادة هي أن نضع ثقتنا كاملة في الله وأن نتعلم كيف نسلّم لمشيئته تسليما مطلقا. لنبدأ إذًا بإعلان التسليم لله وحده مطلقا ودون تردد:
لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك، ثم بعدها ثق تماما أن أمورك كلها ستتغير وتتحسن بمشيئة الرب، ليس بالضرورة حسبما يرى عقلك ويريد ولكن حسبما تقضي حكمة الرب وبرّه ومحبته. هناك بعد ذلك نصائح أو بالأحرى مصابيح كثيرة يمكنك اتباعها ولكن دعنا نختار منها هذه النصائح الثلاث فقط والتي تعتبر في رأيي أهمها:
أولا: عليك ـ قبل كل شيء ـ أن تتصالح أولا مع نفسك وأن *
تحب* نفسك. الحقيقة هي أن الإنسان لا يستطيع أن يحب حقا غيره أو يحب الله إذا كان لا يحب ابتداء نفسه! وهذا طبعا لا يتعارض مع الوصايا أو الكتاب لأن السيد المسيح يقول:
«تحب قريبك كنفسك»، وهي من أعظم الوصايا، وفي غلاطية نقرأ:
«كل الناموس في كلمة واحدة يكمل: تحب قريبك كنفسك». أي أن محبة النفس قائمة ضمنا لا اعتراض عليها، بل هي المرجع الذي يُردّ إليه ويُقاس عليه. لكن محبة النفس ـ من ناحية أخرى ـ لا تعني الوقوع بالنرجسية مثلا، أو بالأنانية، وإنما تعني ببساطة
الإشفاق الداخلي والرحمة وتقدير الذات واحترامها مع الثقة فيها. محبة النفس هنا هي بالأحرى إصلاح لـ«
صورة الذات»، ويكفي أن نعرف أن 80% من أطفال العالم لديهم بالفعل صورة ذات شائهة، وأن معظمهم بالتالي يكبرون وهم يفتقدون الثقة بالذات، أو يحملون شعورا دفينا بالنقص، أو بالعار، أو بعدم الكفاءة، أو بعدم الاستحقاق، إلى غير ذلك مما يسبب دون وعي فشل معظم الناس بحياتهم، ليس المهنية فقط بل ربما العائلية أيضا أو العاطفية أو حتى الروحية!
فلتبدأ إذًا يا أخي بمراجعة مشاعرك ولتتأكد أنك تحب ذاتك وتهتم بها وتقدّرها وتكرمها. أنت مثلا تقول: «
طردت من العمل من أكثر من مكان بدون سبب». طبعا هذا مستحيل. هناك بالتأكيد سبب، وأنت تعرفه، أو على الأقل تستطيع أن تعرفه إذا جلست مع نفسك لبعض الوقت في حالة
محبة ومصالحة وسلام. يعني أعطِ ذاتك الأمان أولا وتأكد أنك تحبها وتقدّرها بغض النظر عن هذا السبب الذي يرفضه الناس فيك. بل لو رفضك العالم كله تأكد يا أخي أنك
جميل دائما بل باهر الجمال في عين الرب خالقك أبي الأنوار وتأكد أنك ـ أيّا ما كان رأي العالم ـ مستحق بالطبع لمحبته، والتي تتحقق وتعبر عن نفسها من خلال محبتك أنت ذاتك لنفسك!
ثانيــا: انتبه دائما لـ«
حديث النفس»، أي لهذه
الأفكار التي تعبث بك وتلهو برأسك وتتحكم بحياتك كلها. أنا أراك تضع صورة بطل كمال أجسام ولا أعرف هل هذه صورتك أم صورة طموحك أم ماذا؟ على أي حال هل تعرف مَن هو أقوى أعدائك على الإطلاق وبالتالي ما هي حقا البطولة والانتصار الحقيقي؟ إن أكبر أعدائك وأقواهم وأخطرهم يختبئ بالأحرى
داخلك، ومن هنا تأتي خطورته، لأنك تتصور أن أفكاره هي أفكارك أنت وأن إرادته هي ما ترغب فيه أنت شخصيا! إنه ببساطة *
عقـلك* ذاته، الذي يقول لك اليوم على سبيل المثال: «
لا فائدة»! لقد كررت هذه العبارة 3 مرات في رسالة هي كلها أصلا فقرة واحدة قصيرة، فكيف تتوقع حقا بعد كل هذا أن تكون هناك أية فائدة؟ هل أنت أصلا ما زلت هنا تقرأ هذا الذي نكتب لأجلك، أم أنك رحلت دون عودة لأنه ببساطة «لا فائدة»؟
البطولة الحقيقية إذًا يا أخي الحبيب،
وأصعب وأعظم ما يمكن أن يحققه أي إنسان على الإطلاق في كل هذا العالم، هي أن تقهر عقلك هذا وتروّضه، أن تتحكم أنت فيه وتجعل منه خادمك المطيع بدلا من أن يتحكم هو فيك وتكون أنت خادمه، يقودك كالأعمى حسب أفكاره وأهوائه ونزواته. لأجل هذا كان
مار إسحق السرياني يقول:
«إن المسيحي الحقيقي ملك صاحب سلطان يقول لهذا الفكر اذهب فيذهب ولذاك أن يأتي فيأتي». بل أكثر من هذا أقول إنك حين تروّض العقل وتحكمه يمكنك أن تأمره حتى بالصمت، أي أن يتوقف عن الأفكار كليا،
وعندما يصمت العقل وتتوقف الأفكار يظهر القلب أخيرا كما يظهر البدر من خلف الغمام، وهكذا مع القلب تبدأ حياة الحكمة والمحبة والسلام والبركات وبالقلب تفيض النعمة أنهارا وبحارا...
ثالثــا: نصيحتي الأخيرة على عكس سابقتها نصيحة بسيطة سهلة جدا، وهي أن تصنع
على الأقل شيئا واحدا حسنا كل يوم لأجل شخص ما ويا حبذا لو كان غريبا عنك لا تعرفه. اجعل هذه
عادتك اليومية: ألا تغرب عليك الشمس أبدا، أو تشرق إذا كنت من أهل الليل،
إلا وقد ساعدت شخصا ما، أعطيت شيئا ما، خدمت على نحو ما. هذه النصيحة أو العادة وحدها ـ دون مزيد من الشرح ـ
كافية بحد ذاتها أن تغير حالتك هذه وربما واقعك كله، كافية أن تدفعك على الأقل خطوة للأمام فتخرج بالتالي من هذا المضيق الذي تبدو حبيسا فيه.
إذًا لا تطلب المساعدة بل ابدأ أنت شخصيا بمساعدة غيرك! دع مساعدتك أنت لله، فالله يعرف حتى قبل أن تنطق كل ما تريد وكل ما تحتاج. دع حاجتك وسائر همومك وبدلا من ذلك ابحث بالأحرى عن غيرك وعما يحتاجه غيرك. وطبعا لا تصدق عقلك حين يكذب عليك زاعما أنه «
ليس بإمكانك مساعدة أحد فأنت لا تملك شيئا». هــراء! يمكنك دائما أن تساعد،
دائمـــا، ولو حتى في الطريق وأنت سائر حين تساعد غيرك على ما يحمل مثلا، ولو حتى وأنت جالس حين تقوم لغيرك حتى يستريح، ولو حتى بكلمات بسيطة تشجع طفلا أو تعطي ثقة أو تمنح أملا! هناك دائما فرصة ومجال للمساعدة، دائما،
فقط تذكر أن تخرج من زنزانة مشاكلك وهمومك وحاجاتك وأن تفكر بغيرك وما يحتاج إليه غيرك حقا!
* * *