صناعة القبــح .. للمبدعة فاطمة ناعوت

soul & life

روح وحياة
مشرف سابق
إنضم
28 نوفمبر 2011
المشاركات
10,525
مستوى التفاعل
2,999
النقاط
113
الإقامة
باريس الشرق
صناعة القبــح ..

يسألُ سائلُ : كيف وصلنا إلى هذا؟
هاكُم الحكاية من أولها.

قبل خمسين عامًا، يُحكى أن رجلا ألقى ورقةً في الشارع النظيف. شاهده رجلٌ آخر، فاندهش جدًّا وغضب جدًّا، وقال في سرّه: “رجلٌ مجنون يلقي قمامة في الشارع!”. لكنه صمت وقال: “وأنا مالي!”.

في اليوم التالي جاء الرجلُ الأولُ ورمى علبةً فارغة في الطريق. شاهده الرجلُ الثاني واندهش قليلا وغضب قليلا (أقل من اليوم الأول ).

في اليوم الثالث ألقى الرجلُ الأول كيسًا مملوءًا بالقمامة. لم يندهش الرجلُ الذي كان مندهشًا في اليوم الأول، ولم يغضب؛ لأن المشهد الغريبَ صار مألوفًا وعاديًّا ويوميًّا.

في اليوم الرابع شارك الرجلُ الثاني الرجلَ الأول إلقاء بعض القمامة في الطريق، وابتسم كلٌّ منهما للآخر.

كثُر الرجالُ وتوالتِ الأيامُ وتكوّن بعد أسبوعين تلٌّ صغير من القمامة، تحوّل إلى تلٍّ كبير، ثم هضبةٍ، ثم جبل شاهق، ثم جبال كثيرة اختفت معها معالمُ المدينة.
بعد عام، كان هناك رجلٌ نظيف يحمل زجاجة مياه فارغة يود التخلص منها.

راح يبحث بعينيه يُمنةً ويسرةً عن صندوق قمامة فلم يجد. سأل أحدَ المارة أين بوسعه أن يلقي مخلفاته، فابتسم الأخيرُ وقال: “أنت مجنون؟! الأرضُ صندوق قمامتنا!”

هكذا تتكون الثقافات وتتغير التركيبة المزاجية والدماغية والروحية للبشر.

الذي اندهش من مرأى القبح أول يوم، اعتاده في اليوم التالي، وصنعه في اليوم الثالث، ثم دعا إليه في اليوم الرابع.

السلوك المتكرر يصبح عادة. والعادة تصبح ثقافة. والثقافة تصير نهجًا وأسلوب حياة.

تكرار السلوك الشاذ، ينزع عنه شذوذه، فيصبح مع الوقت اعتياديًّا وطبيعيًّا، فإن حاولت مقاومته أصبحت أنت الشاذَّ، ونظر إليك الناسُ بشفقة، وربما شتموك وضربوك. التواطؤ على الخطأ، وثقافة “المعلش”، حوّلت مدينة جميلة مثل “القاهرة”، كانت حتى ستيتيات القرن الماضي من أجمل وأنظف مدن العالم، إلى هذا الكيان المشوه الغارق في الفوضى والقبح والقمامة.

يعود الفضل في هذا إلى رجلين غير كريمين نختصمهما أمام الله. رجلٌ مهملٌ كسول ألقى الورقة الأولى.

ورجلٌ جبانٌ رعديدٌ أناماليٌّ صمت عن خطأ الرجل الأول وتواطأ معه.

لو كان نهره على فعلته في اليوم الأول، لتبدّلت أمورٌ كثيرة.

لهذا، في بلاد الغرب النظيفة، يُحاسبُ القانونُ الرجلين معًا.

المخطئ والمتواطئ مع المخطئ. مَن ألقى القمامة أو دخّن سيجارة في مكان مغلق، وكذلك مَن شاهد تلك الأفعالَ غير الحضارية ولم يُبلغ السلطات. كم عملية undo نحتاج إليها لتعود مصرُ جميلةً وأنيقةً ونظيفة وأم الدنيا، كما كانت؟!

تبدأ الأحاجي عادةً بأقاصيصَ سخيفة،
ليستْ كحكايا الأطفالِ في شيء
ينقصُها شيءٌ من البراءِة،
شيءٌ من الخيال.
أحاجي مشبعةٌ بالمنطق
ما يؤكد زيفَهَا
وأنا في هذه اللحظةِ،
لستُ أحتاجُ أيَّ منطق،
أحتاجُ أن أقرأَ عن الجِنيّات،
والأميرة النائمة،
والخاتمِ المسحور،
وحينَ ينطفئُ وهجُ الفرحِ،
أكرهُ أن أكونَ أحد أبطالِ القصة.
 
أعلى