الحالة الدينية لليهود قبل عصر الإسكندر الأكبر

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
الحالة الدينية لليهود قبل عصر الإسكندر الأكبر
9422238976.jpg


خبز الـ"حالا" والذي يؤكل يوم السبت المقدس

قيام المجمع اليهودي:

كان اليوم الأول من الشهر السابع العبري شهر تشري (سبتمبر – أكتوبر) من سنة 445 ق.م. يوماً مشهوداً في تاريخ الشعب اليهودي. فقد اكتمل ترميم سور أورشليم المُهدَّم، ورُفعت الأبواب المحروقة، واستُبدلت بمصاريح جديدة، وأٌقيمت لها سقفائف وأقفال وعوارض أخرى؛ وأتمَّ نحميا الرئيس ترتيب الكهنة والبوابين والمرتِّلين واللاويين:
"ولما استهلَّ الشهر السابع... اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى (أي التوراة)... أمام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهم...، وقرأ فيها... من الصباح إلى نصف النهار... وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة. ووقف عزرا الكاتب على منبر الخشب الذي عملوه لهذا الأمر. وفتح عزرا السفر أمام كل الشعب... وعندما فتحه وقف كل الشعب، وبارك الرب الإله العظيم(1)، وأجاب جميع الشعب: آمين، آمين؛ رافعين أيديهم، واخرُّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض... واللاويون أفهموا الشعب الشريعة في أماكنهم. وقرأوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسَّروا المعنى وأفهموهم القراءة". (نحميا 73:7 – 8:8)
في هذه اللحظات الخالدة حيث اجتمعت البقية المقدسة من الشعب أمام الله، لم يتمالكوا أحساسيسهم فانفجروا بالبكاء وهم يسمعون كلام الشريعة. ولكن نحميا الوالي وعزرا الكاهن والكاتب واللاوُّيون قالوا للشعب: "هذا اليوم مقدَّس للرب إلهكم. لا تنوحوا ولا تبكوا... اذهبوا كُلُلوا السمين واشربوا الحلو، وابعثوا بأنصبة لمَنْ لم يُعَدَّ له. لأن اليوم إنما هو مقدَّس لسيدنا، ولا تحزنوا، لأن قرح الرب هو قوَّتكم... فذهب كل الشعب ليأكلوا ويشربوا... ويعملوا فرحاً عظيماً لأنهم فهموا الكلام الذي علَّموهم إياه" (نحميا 9:8-12). فعودة الإنسان إلى الله يُعبَّر عنها بالفرح والتهليل والتسبيح(2).
ولو تصورنا هذا المشهد بعينه، ولكن بدلاً من الساحة المكشوفة أمام بيت الماء في أورشليم، هناك مبنى مُغطَّى بسقف ومحاط بجدران وقد اجتمع فيه أفراد من الشعب اليهودي، فهذا هو "المجمع"؛ أو بحسب الاصطلاح اليهودي "بيتْ هَسِّفِرْ" أي "بيت الكتاب". فالمجمع ليس أكثر من اجتماع اليهود حول شريعة الله، أي أسفار موسى الخمسة: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية؛ ومن هذا التعريف المختصر نرى أن أصوله عريقة في القِدَم. وليس من المبالغة القول أنها تستمد جذورها من أيام موسى النبي الذي تسلَّمها من الله على جبل سيناء.
والنتيجة الحتمية لالتئام الجماعة سنة 445 ق.م في أورشليم هو أن تتعهد بالمحافظة على التوراة باعتبارها قانوناً مُلزِماً لسكنى أرض الموعد. وبذلك تقنّنت أسفار العهد القديم على يد عزرا الكاهن والكاتب، وتجمعت الكتابات النبوية وصارت موضوعاً للدراسة والتأمل. وتبع ذلك الاجتهاد في المحفظة عليها ومحاولة تفسير ما يظهر كأنه متناقضات فيها، وإرجاعها إلى أصولها في الشريعة والتوراة، وإيجاد الطرق الملائمة لانسجامها مع التوراة. وهكذا تدرَّب اللاويون على تفسير الشريعة بما يتواءم مع احتياجات الزمن ووقائع الحياة المعاصرة وشرح هذه القواعد للشعب والعامة. كما نشأ مع تثبيت النص المكتوب تقليد شفاهي متواتر صار أحد خصائص التديُّن اليهودي في القرون التالية، حتى طغى في عصر السيد المسيح على المباديء الأصلية، وكان سبباً لمؤاخذة الرب يسوع للفريسيين والكتبة كما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى.

التديُّن اليهودي عقب السبي:
كل شعب من شعوب الأرض تربطه وتحكمه عوامل جغرافية أو تاريخية أو سياسية. أما الشعب اليهودي فالذي يجمعه ليس وحدة اللغة ولا الأرض ولا الوطن، بل كتاب العهد الذي عاهدوا به الله على يد عظيم الأنبياء موسى. لذلك فكل تحركاتهم وما ينالهم من خير أو سعادة، وما يصيبهم من محن وكوارث لا بد أن يكون له تفسير من أقوال الأنبياء والأسفار المقدَّسة. فأمور معيشتهم اليومية وأحداث الحياة التافهة في نظرنا لها صدى من الوصية وكلمة الله قبل أي شيء آخر.
فالذين عادوا من السبي إلى أورشليم كان همُّهم الأول هو اكتساب رضى الله بالالتصاق الشديد بقواعد الناموس، والتدقيق الزائد في تنفيذ الإلتزام الذي وضعوه على أنفسهم. وهذا قادهم إلى تقديس الوصية والفرائض الناموسية مثل أيام السبوت والأعياد والمواسم والاعتزال عن الشعوب المجاورة والغرباء وعدم مصاهرتهم إلى حد مفرط أدى بهم إلى شعور الكراهية ورفض التعاون معهم.
فالسامريون مثلاً، الذي كانوا من أسباط إسرائيل العشرة، لما عرضوا على اليهود مشاركتهم في بناء الهيكل وأسوار أورشليم في عهد نحميا قائلين لهم: "نبني معكم لأننا نظيركم نطلب إلهكم..." (عزرا 2:4)، رُفضوا على اعتبار أنهم أجانب عن رعوية إسرائيل وغرباء عن الإيمان الذي ورثوه عن سبطي يهوذا وبنيامين. فشعب إسرائيل مقدَّس، ولكنها قداسة محصورة في المعنى الجسدي كما يظهر من ورد عزرا الكاهن: "اختلط الزرع σπέρμα المقدَّس بشعوب الأراضي" (عزرا 2:9). ويكتب نحميا عن اليهود الذي صاهروا نساء أشدوديات وعمّونيات وموآبيات هكذا: "فخاصمتُهم ولعنتُهم وضربتُ منهم أُناساً ونتفتُ شعورهم واستحلفتُهم بالله قائلاً: لا تعطوا بناتكم لبنيهم. ولا تأخذوا من بناتهم لبنيكم ولا لأنفسكم" (نحميا 23:13-25). وكأنما القداسة قد صارت شيئاً كالمواهب الطبيعية أو الخصائص المميزة، يمكن توارثها وانتقالها خلال الاتصال الجسدي والولادة الطبيعية(3). ولم يكن هذا الموقف المتشدد الذي يظهر بوضوح في أسفار حزقيال وعزرا ونحميا، إلا وسيلة للمحافظة على عقيدة هذا الشعب من التلوث بمعتقدات الوثنيين. ولكن النتيجة الطبيعة لهذا الموقف المتشدد هو ما اصطلح عليه علماء الاجتماع باسم "الخوف من الغريب Xenophobia"(4).

الخلفية اللاهوتية ليهود الشتات:
رغم اللهفة الشديدة التي تظهر في أقوال الأنبياء عن العودة إلى أرض الموعد والاستقرار في فلسطين والالتفاف حول هيكل أورشليم، إلا أن اليهود لم يتمكنوا مطلقاً من التواجد فيها بأعداد كبيرة لسببين أولهما تاريخي وثانيهما لاهوتي:
أولاً: توالي الضرباء السياسية على فلسطين منذ القرن الثامن قبل الميلاد. فسقوط مملكة إسرائيل سنة 721 ق.م التي كانت تضم عشرة أسباط قد أنهى عليها، فضاعت واختلطت مع الشعوب المجاورة وتكوَّن منهم شعب السامرة الذي لم يعترف به العائدون في عصر نحميا.
أما مملكة يهوذا، التي سقطت بعد ذلك سنة 597 ق.م وسُبيت إلى بابل، فلم تحوِ سوى سِبطَين فقط هما يهوذا وبنيامين. والبقية التي عادت فعلاً إلى فلسطين حملها يوحانّان بن قاريح –بعد اغتيال جدليا- إلى مصر رغماً عنها حيث استقرت في تحفنحيس (دافني أو تانيس على بحيرة المنزلة)، ونوف (أي منف)، وفتروس (الصعيد)، كما يذكر ذلك إرميا النبي في الاصحاح الرابع والأربعين.
لذلك بلغت أعداد يهود الشتات أرقاماً تفوق عدد العائدين فعلاً إلى فلسطين الذي استقروا فيها.
ثانياً: تشجيع أنبياء السبي، مثل إرميا النبي، على استقرارهم في البلاد التي أُسروا إليها: "هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي (الأسرى) الذي سبيته من أورشليم إلى بابل. ابنوا بيوتاً واسكنوا واغرسوا جنَّات وكلوا ثمرها. خذوا نساء وَلِدوا بنين وبنات... واكثروا هناك ولا تقلُّوا. واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها وصلوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام" (إرميا 4:29-7؛ 4:24-10؛ 11:6)
وسلوك اليهود الذين تغرَّبوا في الشتات كان على النقيض من إخوتهم العائدين إلى فلسطين. فقد حملوا معهم إيمانهم بالوحدانية المطلقة لله؛ فإيمانهم به لم يكن باعتباره إلهاً قومياً لإسرائيل يماثل "بعل" عند البابليين و"عشتاروت" لدى الأشوريين، بل هو الله الذي ليس بجانبه أي إله آخر: "أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي" (إشعياء 5:45). وألوهيته تمتد على كل البشر باختلاف قومياتهم وجنسياتهم وأعراقهم، هو خالق كل البشرية، وكل نسمة في الوجود تستمد منه كيانها وحياتها. والنتيجة الطبيعة لهذا المفهوم اللاهوتي هو الشعور "بالأُخوَّة البشرية" لكل إنسان، وارتقاء الديانة اليهودية إلى مفهوم "مسكوني عالمي" بلغة عصرنا. ويظهر ذلك بأكثر وضوح في الجزء الثاني من إشعياء النبي من الأصحاح 40-66، حيث الدعوة صريحة لعبادة الله إله كل البشر: "لي تجثو كل ركبة يحلف كل لسان" (إشعياء 23:45). بل هناك مواضع عديدة يبرز فيها الرجاء اليقيني أن الأمم الوثنية لابد أن تكتشف ضلالها وتعترف بخطئها فتعود ساجدة لله الذي سبق وأعلن أسراره وتدابيره لإسرائيل خاصته: "سيأتي شعوب بعد، وسكان مدن كثيرة... قائلين: لنذهب ذهاباً لنرتضَّي وجه رب الجنود... فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم وليترضَّوا وجه الرب" (زكريا 20:8-22)، "لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم بين الأمم" (ملا 11:1)(5).
وإن كنا قد رأينا في الزواج المختلط بين يهود إسرائيل العائدين من بابل إلى فلسطين خطراً مُسْتَطيَراً، أنذر عنه قادتهم عزرا الكاهن ونحميا اللذان اعتبراه خيانة لإسرائيل، إلا أنه في المقابل وُجدت أمثلة رائعة عن زواج شخص يهودي بالموآبية "راعوث"، والسفر المسمَّى باسمها "سفر راعوث" يُعبِّر عن احتجاج صامت على الذين يمنعون الغرباء من رعوية شعب الله حتى الجيل العاشر كما جاء في التوارة (تث 3:23) أو إلى الأبد (كما جاء في نحميا 1:13). وقول راعوث لكنّتها: "شعبُك شعبي، وإلهُكِ إلهي" (راعوث 16:1) هو اجتياز للحدود القومية الضيقة اليهودية وكَسْر ادِّعاء احتكار رعوية الله لإسرائيل فقط.
وهناك أيضاً دعوة يونان النبي من قِبَل الله لتبشير أمة لا تعرف يمينها من يسارها، وكيف حاول النبي أن يتهرب من المهمة الشاقة. فكان جواب الله: "أفلا أُشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة رِبْوة(6) من الناس؟" (يونان 11:4)
هذا الاشتياق الشديد الذي يشيع في تلك المقاطع النبوية كان مُلهِماً لكثير من يهود الشتات أن يستقروا في أماكن غربتهم التي تطوَّحوا إليها وينفتحون على شعوبها(7) واثقين في التدبير الإلهي الذي أتى بهم إلى هذه البقاع المختلفة ليكونوا رسلاً لإله إسرائيل يعكسون بهاء مجده في تلك المواضع المظلمة. ويلخِّص الرابِّي "لعازر" هذه العقيدة بقوله الذي جاء في التلمود البابلي: "الله شتت اليهود ليسهِّل اهتداء الدخلاء".

تشتت اليهود في العالم اليوناني القديم:
أكبر الجاليات اليهودية التي استقرت خارج فلسطين كانت في العراق، بابل القديمة، حيث اعتبر شيوخ اليهود في بابل أنهم خلفاء "التنّائيم"، أي واضعي التقليد الشفاهي للتوراة، والذي اصطلح على تسميته "المشنا" اليهودية. ومن بابل أيضاً خرج "التلمود"(8) البابلي، وهو دراسة على المشنا اليهودية التي قام بها الجيل الثاني من شيوخ بابل المعروفين باسم "أموريم"(9) أي الرواة، ناقلي الحديث، والذين يناظرهم في الإسلام أهل السنة أو الرواة.
وتأتي مصر في المرتبة التالية بعد يهود بابل بالنسبة لأكبر الجاليات اليهودية. والعثور على برديات محررة باللغة الأرامية، ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد في جزيرة فِيَله جنوبي مدينة أسوان، يؤكِّد وجود أعداد كبيرة منهم منذ عصور مبكرة. ولكن لا شك أن قيام إمبراطورية إسكندر الأكبر في حوض البحر الأبيض ساعد على توافد أعداد كبيرة منهم إلى مصر وبالأخص إلى مدينة الإسكندرية التي تأسست سنة 332 ق.م.

ومع ذلك لا يزال العلماء في حيرة بسبب الانتشار اليهودي الكبير في أقطار البحر الأبيض حتى بلغوا أرقاماً تفوق اليهود المقيمين فعلاً في فلسطين، إذ وصل تعدادهم إلى عُشْر سكان دول البحر الأبيض؛ ولا شك أن هذا يرجع إلى النشاط التبشيري الذي قام به اليهود في الشتات فاستطاعوا أن يكسبوا دخلاء كثيرين. ففي سنة 139 ق.م أجبرت السلطات الرومانية اليهودية المقيمين في روما على مغادرتها بتهمة تدنيس الآداب والأخلاق الرومانية!! وهي إشارة واضحة إلى نجاحهم التبشيري في الأوسط اليونانية النبيلة في قلب روما.

ولكن أول انضمام واسع للديانة اليهودية حدث بين سنتي 130 و103 ق.م بواسطة يوحنا هركانوس وأرستوبولس، من الأسرة الحاكمة الحشمونية من نسل المكابيين، نتيجة ميل الملكة هيللينا – ملكة شعب أديابين(10)، إلى اليهودية. ويمدنا يوسيفوس المؤرخ اليهودي(11) في القرن الأول الميلادي بتفصيل هذا النجاح التبشيري وسط شعب بأكمله، أن الملك إيزاتُس كان يعاني من صعوبة بالغة في قبول الديانة اليهودية بسبب طقس الختان. فالمستشارون اليهود أعطوه نصيحتين متناقضتين؛ إحداهما من حنانيا أحد شيوخ يهود الشتات أنه يمكن للإنسان التعبُّد لله دون الإلتزام بالختان، باعتبار أن عبادة الله أسمى من الختان. أمَّا أليعاز الجليلي، وكان فريسياً متزمِّتاً، فقد أصرَّ على حتمية الختان حتى يمكن احتسابه من أهل العهد. وخضع ملك أديابين لهذا الشرط القاسي واختنن. وقد بقى شعب أديابين وفيُّا لليهود حتى إن ملوكهم ناصروا الثورة اليهودية على الرومان والتي انتهت بخراب هيكل أورشليم سنة 70م.

نظام الدخلاء:
كان يهود الشتات اليونانيين، كما رأينا قبلاً، واعين لامتياز عقيدتهم الدينية بالمقارنة مع آلهة الأمم الوثنية، ومتيقّنين من نجاح رسالتهم وكرازتهم وسط الشعوب المتكلمة باللغة اليونانية، حيث انتشرت مجامعهم في كل البلدان التي استوطنتها جاليات اليهودية. وفي حماسهم الديني خلقوا نوعاً متكاملاً من الأدب اليوناني مستعينين في ذلك بمواد من العهد القديم نشروها تحت أسماء مستعارة لشخصيات وثنية، أشهرها كتاب "نبوات سبلة الحكيمة" الذي في صورته الحالية قد أُعيدت صياغته في قالب مسيحي. إلا أن بعض أجزائه ما زالت تحتفظ بالطابع اليهودي الخالص. وفي عصر أغسطس قيصر –القرن الأول قبل الميلاد- كتب سترابو الروماني عن الشعب اليهودي أنه قد انتشر في كل البلدان ولا يخلو منه مكان في العالم. ونجاح يهود ا لإسكندرية في ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية، كما سنعرف فيما بعد، جعل أبواب المجامع اليهودية المفتوحة منذ القرن الثالث قبل الميلاد أمام المتعاطفين مع اليهود حتى يمكنهم أن يفهموا القراءات والعظات التي تُلقى فيها باليونانية.

وفي الحقيقة، فإن احتكاك الديانة اليهودية بالثقافة اليونانية كشف عن حقائق مذهلة تجلَّت في الإنهيار المتوالي والمتزايد للعبادات الوثنية من ناحية؛ ومن ناحية أخرى في التقارب بين الإيمان بوحدانية الله مع الإتجاهات التَقَويَّة في العالم اليوناني، ونقط الالتقاء العديدة بين الأخلاقيات والمباديء اليهودية مع الآداب اليونانية الرفيعة التي كان ينادي بها الفلاسفة الرواقيُّون الشعبيُّون. هذه العوامل قد ساعدت بلا شك على اعتقاد اليهود أن الوقت قد حان لكي يعكسوا بهاء ديانتهم أمام الوثنيين، واثقين أن الله سيمنحهم فرص النجاح.

وهكذا انجذبت الذهنية اليونانية المدرَّبة على الفحص والتفتيش والنقد، بدفع من حب الاستطلاع الغريزي، إلى المجامع والمجتمعات اليهودية. فقد لفت نظرهم تقديس اليهود ليوم السبت والأعياد والمحافل الدينية، والتحفُّظ من أطعمة وأكلات معينة، ثم التزامتهم بدفع نصف شاقل ضريبة سنوية لهيكل أورشليم فرضوها على أنفسهم طوعاً؛ وقيامهم برحلات الحج السنوية إلى أورشليم. أضف إلى هذا ما تميزا به من طقوس وعوايد وغسلات وتطهيرات تمسَّكوا بها في البلاد التي تشتتوا إليها، مع ما امتازوا به من أخلاقيات العهد القديم والعلاقات المتعاطفة مع الفقراء والأيتام من بني جنسهم.

فكم من الشخصيات الوثنية استطاعت أن تجد السلام الداخلي والشبع النفسي في العقيدة اليهودية التي تسمو بالله خالق الكل والمتعالي فوق كل تشبيه أو شكل أو رمز، والذي تمتد رعايته لتشمل الخليقة العاقلة وغير العاقلة، والذي يكافيء عبيده الصالحين ويعاقب الأشرار في الحياة الأخرى الخالدة؛ إذا ما قارنوا ذلك بأساطير الآلهة اليونانية والرومانية وأخلاقياتها المنحطة.

لذلك استطاع اللاهوت والخُلُق اليهودي أن يغزو ويكسب أنصاراً ودخلاء كثيرين حتى صارت سمة يهودية مميزة شهد لها السيد المسيح قائلاً: "تطوفون البر والبحر لتكسبوا دخيلاً واحداً" (متى 15:23). وربما يكون هذا النشاط التبشيري سبباً لقول الشاعر الروماني الهجائي جوفينال في القرن الأول/الثاني بعد الميلاد: الأب يحفظ السبت ولا يأكل لحم الخنزير، والابن يختتن ويصير متعصباً.

وتؤكد الاكتشافات الأثرية صدق هذه الشهادات وهذا النجاح. ففي أكثر من 150 موضعاً في العالم القديم ظهرت آثار لقيام مجامع يهودية؛ في الجليل، وفي سوريا، وبلاد ما بين النهرين، وبابل، ومصر، وآسيا الصغرى، واليوناني، وإيطاليا، وبلاد الغال (فرنسا)، واسبانيا، وشمال أفريقيا. وحيثما يوجد اليهود فلابد من بناء المجمع، حيث توصي المشنا اليهودية بقيام المجمع إذا وُجد عشرة يهود على الأقل في المكان المقترح.

الأتقياء، "خائفو الله":
إن كان تعريف "الدخيل" هو الشخص الذي ترك الأهل والوطن والأصدقاء والأقارب وعادات آبائه وأسلافه مرتضياً أن يدخل "تحت كنف التوراة" فاختتن في لحم غرلته، إلا أن التأكيد الحقيقي لم يكن على الختان بقدر ما كان على قطع الشهوات والملذات من النفس والإيمان القلبي بوحدانية الله خالق كل شيء.

لذلك التفَّ حول المجمع اليهودي مجموعات أكبر عدداً من "الدخلاء"، هم الذين ارتضوا بالديانة اليهودية مع كل التزاماتها الطقسية وتعاليمها اللاهوتية والأخلاقية، وانتظموا في حضور المجامع الأسبوعية أيام السبوت والأعياد، وحافظوا على قواعد الأكل والامتناع عن أطعمة معينة؛ لكنهم توقَّفوا عن إجراء الطقس الجراحي وهو الختان، الذي بدونه لا يعتبر الإنسان "ابن الموعد" أو بحسب المصطلح اليهودي "بِنْ بِريت".

ورغم وجود مدرسة تقدمية في الفقه اليهودي تبيح عدم الختان للمنضمين إلى اليهودية كانت مبادئها شائعة أكثر بين يهود الشتات عن يهود فلسطين المحافظين، إلا أن الكثير من المهتدين توقفوا عن اتخاذ هذه الخطوة. وكل ما كان مطلوباً من هذه الجماعة المتسعة هو المحافظة على بنود ووصايا عهد نوح السبعة. وتسمَّت هذه الجماعة بين يهود الشتات باسم "خائفي الله φοβούμενοι τόν Θεόν" أو "متقي الله σεβόμενοι τόν Θεόν"، وجاءت مختصرة أحياناً "الأتقياء". وأصل هذا المصطلح مأخوذ من العبرية "يِرْئي أدوناي" التي تردد كثيراً في المزامير (11:115 و13؛ 4:118؛ 20:135). هذه الجماعات المنتشرة تصادفنا كثيراً في سفر الأعمال، حيث نقرأ عن القديس بولس في كورنثوس أنه مضى إلى بيت يسطس الذي كان "متعبداً لله" (أع 7:18)، وهذا يعني أنه كان أممياً غير مختون؛ وكورنيليوس قائد الكتيبة الإيطالية في يافا كان أجنبياً أيضاً وغير مختون (أع 2:10) ومع ذلك كان تقيًّا يخاف الله. وغيرهم كثيرون في أنطاكية بيسيدية (أع 48:13)، وتسالونيكي (أع 4:17)، وبيريه (أع 12:17)، وأثنيا (أع 17:17)، وكورنثوس (أع 4:18). هؤلاء آمنوا بالله إله إسرائيل وواظبوا على التردد يوم السبت على المجامع لسماع التوراة وكلمة الوعظ والعزاء، وإشعال المصابيح عشية البست (عملاً بما جاء في خروج 3:35) وعمل الرحمة للأرامل والأيتام والفقراء.

والحقيقة أنه في وسط هؤلاء "الأتقياء" نجح التبشير المسيحي أكثر من يهود الشتات، حيث كان كل مختتن مُلزم أن يعمل بما جاء التوراة (راجع غل 3:5). بينما السمة المميزة للمسيحية هي التحول القلبي من الأوثان إلى عبادة الله، والحياة حسب الروح وليس حسب الجسد.

_________________
(1) ليذكر القارئ، أن قراءة الإنجيل في القداس الإلهي من على المنبر الذي ما زال موجوداً في كنائس مصر القديمة، ووقوف الشعب كله استجابة لنداء الشماس: "قفوا بخوف الله..."، ومقدمِّة قراءة الإنجيل: "مبارك الآتي باسم الرب..."، كل هذا الطقس ترجع أصوله إلى المشهد الذي ورد في سفر نحميا.
(2) لعل القارئ يذكر هنا مَثَل السيد المسيح عن الابن الضال، عندما قال أبوه فرحاً بعودته: "قدِّموا العجل المسمِّن فنأكل ونفرح... فابتدوأوا يفرحون". وكان جواب الأب على احتجاج الابن الأكبر: "ينبغي أن نفرح ونُسرَّ لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش.." (لوقا 23:15-32)، فالمشابهات اللفظية بين ما جاء في الإنجيل وما جاء في سفر نحميا توحي بمدى تأثر القديس لوقا الإنجيلي بالعهد القديم.
(3) يجدر بنا أن نقارن بين "الزرع المقدس" كما فهمه رجال العهد القديم، وبين المفهوم الجديد لهذا الزرع بعد أن استُعلن لرسل الرب يسوع القصد الإلهي لكل تدابير العهد القديم. فالولادة الجديدة من المعمودية يسميها القديس بطرس الرسول: "مولودين ثانية لا من زرع يفنى، بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد" (1بط 23:1)، والقديس يوحنا الإنجيلي: "اللذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل لكل من الله وُلدوا" (يو 13:1). ويعود أيضاً القديس يوحنا ويستعمل نفس كلمة عزرا الكاهن "الزرع σπέρμα المقدَّس" في مفهوم العهد الجديد: "كل مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه σπέρμα (أي زرع الله) يثبت فيه... لأنه مولود من الله" (ا يو 9:3). أي أن موهبة "المعمودية" بالنسبة إلينا هي "زرع الله فينا".
(4) يتكون هذا المصطلح من كلمتين يونانيتين: ξένος = غريب، أجنبي؛ φοβία = خوف. فيكون معنى "كسينوفوبيا" هو "الخوف من الغرباء".
(5) يزخر العهد القديم بآيات كثيرة تدور حول هذا المعنى، أقرأ (1ملوك 42:8-43)، (إشعياء 2:2-4) التي جاءت أيضاً في (ملاخي 1:4-4)؛ (إشعياء 18:19-25؛ 6:49؛ 3:56-8)؛ (إرميا 17:7-24)، (صفنيا 9:3)؛ (زكريا 19:16).
(6) الربوة = عشرة آلاف نسمة.
(7) المودة نحو الغرباء يسميها العلماء Xenophilia من الكلمتين اليونانيتين: ξενός = غريب، φιλία = مودة، محبة.
(8) "تلمود" من الفعل العبري "لامَدْ" ومعناه: درس، تتلمذ.
(9) "أموريم" من الفعل العربي "آمار" بمعنى: قال، روى، تحدث.
(10) أديابين اسم ولاية تقع شرقي نهر دجلة عند نهر الزاب ضمن تخوم أشور القديمة، وكانت عاصمتها أربيلا.
(11) JOSEPH., Antiq. XIII, 9:1,2.


من كتاب [ العهد القديم كما عرفته كنيسة الإسكندرية ] - ترجمة وإعداد رهبان دير أنبا مقار
 
أعلى