النبي لا يعلم شيئا، وفي الغالب حتى لا يكتب شيئا بنفسه. النبي كان فقط "
ينطق" بما لديه، والناس هي التي "تحفظ" تباعا أقواله. رغم وجود "كتابة" منذ عهد مبكر، تدل حتى بعض الآيات عليها هنا وهناك، فإن الثقافة في معظمها كانت
ثقافة شفاهية لا كتابية، تعتمد على الحفظ والذاكرة (بقدرة لا تُقارن بالطبع مع قدراتنا حاليا!)، وعلى النقل المباشر "
فما لأذن" عبر الأجيال ـ من الشيوخ إلى الصغار، من الآباء إلى الأبناء، من المعلمين إلى التلاميذ، وهكذا. (لذلك فحتى تلك الصيغة التي ما زلنا نسمعها إلى اليوم: "عن فلان عن فلان حدثنا فلان قال فلان..." ـ فيما يُعرف بـ"علم السّند" وما يتبعه من "علم الرجال" وغيره ـ هذه الصيغة وتلك العلوم كلها في الحقيقة
علوم وتقاليد يهودية عريقة).
من هنا لا نجد لـ"
إيليا" مثلا ـ على عظمته ـ كتاب أو سفر خاص! السفر الأقدم لدينا ـ أي الذي "كُتب" كله
في حينه كـ"كتاب" فعلا ـ كان سفر
عاموس، أي في زمن متأخر نسبيا، حوالي 750 قبل الميلاد. ولكن حتى في هذه المرحلة الكتابية لم يكن النبي هو الذي يدون كتابه بيده حقا إلا فيما ندر. بل كان يكتبه الناس من حوله، سواء تلقائيا من أنفسهم لوضوح النبوة وحرارة الوحي الإلهي في كلماته (كما في حالة عاموس مثلا)، أو بطلب مباشر من النبي لتلاميذه إذا كان له تلاميذ (كما في حالة
إشعيا). وهنا نلاحظ أن هذه الكتابة أو التسجيل الفوري كان يشمل
أفعال النبي أحيانا ليس فقط
اأقواله. هكذا في إشعيا مثلا نقرأ عن هذا النبي العظيم ـ وهو "الأرستقراطي" أصلا ـ وكيف تخلى عن كرامته وراح يجوب شوارع أورشليم عاريا حافيا! فهذا "
سلوك" بالأحرى، لا "
كلام". وهذا من ثم لا يكتبه النبي بنفسه، بل كان النبي يأتي فقط بالسلوك، يقدم فقط "الصورة"، بينما كان غيره هو الذي يراقب ويدون.
أما في العهد الجديد فلم يتغير الحال كثيرا. نقرا في نهاية رومية مثلا:
«أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة، أسلم عليكم في الرب». أي أن صاحب الرسالة، كالعادة، كان "يستكتب" غيره، لا يدون بنفسه. لكن هذا بالطبع ليس شرطا: هناك على الأقل جزء في رسالة علاطية كتبه لسان العطر بيده. عرفنا ذلك حين وجدناه فجأة يقول:
«انظروا، ما أكبر الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي» (11:6)! تعددت التفسيرات في الحقيقة حول علة ذلك، أو حتى معناه. قال بعضهم: كانت عينه آنذاك متعبة وقد ضعف بصره، فكان يكتب بأحرف كبيرة. قال آخرون: بل ربما المقصود بـ"الأحرف الكبيرة" أنه كان يكتب بالخط "الإسفيني"، أحد الخطّين اللذين كانت تُكتب اليونانية بهما (مقابل الخط "الجرّار" الأكثر شيوعا، وكانت أحرفه أصغر فكان يُعرف أيضا بالخط "الصغير" أو "الأحرف الصغيرة").
***
في النهاية: دراسة التاريخ تتيح لنا أن نقترب حقا من هؤلاء الرجال الأفذاذ وأن نعيش معهم أو حتى وسطهم. فإذا قرأنا التاريخ سنرى ـ أحيانا بكل وضوح ـ أن سائر هؤلاء الذين اقتربوا من الوحي ـ
ناطقوه وكاتبوه وجامعوه وناسخوه وحتى مترجموه ـ كلهم كانوا تحت تأثير قوة غامضة تسوقهم حقا وتوجه سائر ما يفعلون! ليس أدل على ذلك في تقديري من
الترجمة السبعينية الشهيرة، عندما أدخل اليهود فيها كلمة "اللوجوس" على سبيل المثال لأول مرة! عندما كانوا يأخذون من كل البدائل اليونانية المتاحة أمامهم أفضل الكلمات وأسمى التعبيرات وأرقاها فتأتي النتيجة ختاما ـ قبل الميلاد بثلاثة قرون ـ شاهدة حقا للسيد المسيح، تكاد تنطق صراحة باسمه! كان لدى أولئك الشيوخ الذين ترجموا السبعينية مثلا:
الجارية والفتاة والصبية والصغيرة إلخ، لكنهم تركوا جميع هذه البدائل واختاروا ـ دون وعي ـ البديل الأعجب:
العذراء!! هكذا ظهرت في السبعينية:
ها "العذراء" تحبل وتلد ابنا....!
لذلك
فوجئ اليهود أنفسهم فيما بعد، بل أعتقد أنهم كانوا في حالة صدمة!
لقد أدهشتهم هذه الترجمة! أذهلهم ما فعلوا بأيديهم! كان
حتميا بالتالي أن يرفضوها، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك.
والمقصود: لا يهم حقا مَن كتب أو من دوّن أو من جمع الأسفار أو رتبها هكذا. ليطمئن الجميع من هذه الناحية. لأنه أيـّـا ما كان، أيـّـا ما قالوا أو كتبوا أو اكتشفوا، المسيحية في النهاية
ليست "
ثقافة كتاب" أصلا كغيرها، وليس المسيحيون أبدا "أمة كتاب". بل الكتاب كله يشير ـ
فقط يشير ـ إلى "
البــاب"! مجرد
إشارة إلى الباب، ليس هو نفسه الباب أبدا! مجرد إصبع يشير إلى القمر: هل نتأمل الإصبع، أم بالأحرى ننظر إلى القمر؟