الله والعنف

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,068
مستوى التفاعل
1,038
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل
محتاج افهم هل ما قلته ينطبق علي التحريم في العهد القديم والجديد


أهلا أستاذنا الحبيب :).. ما قلته مبدأ عام ينطبق على جميع الصفات البشرية والمفاهيم العقلية الإنسانية التي نخلعها على الله وعلى وحيه الشريف (كالعنف مثلا، أو القسوة، وهو موضوع السؤال هنا). أما "التحريم" فهو فرع من هذه القضية ويحتاج تفصيلا خاصا، لكي نفهم أولا ما هي علة التحريم أصلا؟ لماذا الخطيئة خطيئة؟ لماذا يقول الله: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق.. إلخ؟ لماذا لا يتركنا الله ببساطة نفعل ما نريد، ما لم يضر أحدا؟ مثلا في الزنى: «إذا كنت أنا راضي وهي راضية» كما يقول التعبير المعروف، فلماذا يتدخل الله شخصيا ويمنعنا من ذلك ويفسد بالتالي متعتنا؟

هذا يخرج قليلا عن نطاق سؤالك هنا ولكن باختصار: الخطيئة خطئية لأنها ببساطة تؤدي إلى "خـلل" في التكوين الروحي للإنسان ومن ثم في حياته كلها بل في العالم بأسره! الخطيئة باختصار تكسر "قوانين التوازن" التي خلق الله كل شيء وفقا لها! بل هذا نفسه هو أيضا سبب العقوبة التي تترتب على الخطيئة، لأن العقوبة لا تهدف إلى الانتقام مثلا أو التشفّي، وإنما العقوبة بالأحرى "عاقبة" كما نقول دائما، أي نتيجة! إنها الجزء "المُكمّـل" للخطيئة! إنها نفس قوانين التوازن حين تختل فتضرب بالتالي في الاتجاه المعاكس كي يعود التوازن المفقود!


لنضرب مثالا هنا: تأمل "البندول". إنه يتأرجح يمينا ويسارا في توازن دقيق ما لم ندفعه في أحد الاتجاهين خارج مجاله. ولكن ماذا لو أمسكنا البندول وتطرفنا به تماما نحو اليمين مثلا ثم تركناه فجأة؟ النتيجة الحتمية هي أن يهوي البندول بكل قوته في الاتجاه المعاكس وأن يتطرف أيضا بحركته نحو اليسار! هكذا تختل الحركة كلها يمينا ويسارا، من هذا الطرف إلى ذاك (من الخطيئة إلى العقوبة) حتى يستعيد البندول تدريجيا توازنه مرة أخرى!

فهذا تشبيه مبسط جدا لحركة الحياة كلها والعالم ولمعنى التوازن الذي يشمل كل شيء في كون الله دون استثناء، من الذرة حتى المجرة!

وهذه ببساطة هي علة التحريم: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ... أي لا تخترق قوانين وجودك فيختل توازنك وتوازن عالمك بأسره دون أن تشعر! هذا هو معنى الخطئية (التعدّي، الخلل، الخروج من مجال التوازن الدقيق) وهذه أيضا هي علة العقوبة (العاقبة، النتيجة الحتمية، الضربة في الاتجاه المقابل نتيجة الخلل)!


لذلك انظر في التكوين مثلا ـ قبل أي ناموس أو شريعة ـ وتأمل كيف يعبّر الوحي عما حدث عندما قُتل هابيل: «صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض»! إنه صراخ ينطلق من الأرض! هل هناك أروع وأدلّ من هذا التشبيه؟ هكذا يصور الله في صورة بليغة هذا "الخلل" الذي سببته الجريمة، كأنه صراخ يشق مسامع السماء! ثم ما النتيجة؟ النتيجة الحتمية هي أن يهوِي بندول الحياة ليضرب في الاتجاه المعاكس: «فالآن ملعون أنت من الأرض»! وليست فقط لعنة الأرض التي «فتحت فاها» لهذا الدم واحترقت بصراخه، بل خرج أيضا قايين بعدها ليسكن «في أرض نود شرقي عدن»! تأمل فضلا هذا الرمز البديع: كلمة "نود" تعني الخلل والاضطراب والتيه! هكذا في هذا "النود" كانت سُكنى قايين!

وعليه: ليس هناك حقا "ملك" بالسماء يغضب ويهيج وليس هناك "إبادة" و"دموية" و"عنف" و"قسوة" وكل هذا الذي تضيفه "عقولنا" نحن بالمعنى البشري المبتذل، حاشا ثم حاشا! هذا بالأحرى "تجديف" كما يقول بعض الآباء. هناك بالأحرى كسر على المستوى الروحي غير المنظور، خلل يحطم الإنسان نفسه أولا وتصرخ بسببه الأرض وتهتز أركان العالم، تعقبه من ثم ضربات حتمية في الاتجاه المعاكس لأجل أن يعود التوازن المفقود، وهذا هو ما نسميه ـ بعد الترجمة إلى لغتنا البشرية ـ "ضربة الرب".. أو "غضب الله"!


فهذه، باختصار شديد، هي الخلفية الروحية وراء مسألة التحريم وكيف أن التحريم ـ حتى وإن تحدد شكليا كالشريعة بحدود البشر وثقافتهم، بقساوتهم وجهالتهم ـ إلا أنه يعبر ما زال عن حقائق وقوانين أكبر وأعمق كثيرا مما يبدو ظاهرا لعقولنا وحواسنا المحدودة.

أشكرك ختاما على السؤال أستاذنا الحبيب مع تحياتي ومحبتي. :)



 

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,068
مستوى التفاعل
1,038
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل
تمام ولكن لو كان التحريم غير دائم
مثل أكل الخنازير او زواج من محارم


أستاذنا الحبيب: ليس هناك تحريم دائم وتحريم مؤقت. هذا معناه أن الشريعة تتغير وهذا شرحناه بالفعل (في تشبيه القمر على سبيل المثال). الذي يتغير، مرة أخرى، هو الإنسان نفسه، وهو ما يُستعلن بالتالي لهذا الإنسان ـ حسب وعيه في كل مرحلة ـ من كمالات الشريعة، وهو ما تحقق بتمامه آخيرا مع السيد المسيح!

مسألة الخنزير والحيوانات النجسة عموما على سبيل المثال: هل تسمح المسيحية ـ بناء على هذا التفكير ـ بأكل الحيونات النجسة، أو التي كانت في القديم نجسة؟ حاشا! بل بالأحرى تعيد المسيحية تعريف النجاسة ذاته وترفع في المقابل مفهوم الطهارة إلى أعظم معانيه وأسماها. السيد المسيح لم يلتفت إلى الحيونات أيّها نأكل وأيّها لا نأكل وإنما اشتبك مباشرة مع الإنسان نفسه ومع عقله وقلبه وروحه! هذا في الحقيقة هو هدف المسيح دائما بل غاية تجسده: الإنسـان! لذلك في وصية أخرى يبدو أنه خالفها أيضا ـ وصية السبت ـ قال بوضوح كلمته الخالدة: السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت!

المسيح إذاً ـ وهو صاحب الشريعة ـ يكشف هنا أخيرا عن أعمق المبادئ وأروعها على الإطلاق: وهو ببساطة أن الإنسان أهم من الشريعة، بل الإنسان ـ منذ البدء ـ هدف الشريعة!

ولأن الأمر أكبر حقا من مسألة السبت، وتأكيدا لحقيقة أن الإنسان هو الغاية والشريعة هي الوسيلة ـ لا العكس كما يقول الفريسيون في كل زمان ومكان ـ راح له المجد يُذكّرهم بما فعله داود ولم يكن يحل له حسب الشريعة: فقال لهم: «أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؟ كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة، وأعطى الذين كانوا معه أيضا». (مر 25:2)


بهذا الفهم إذاً ـ وبهذه المركزية للإنسان لا للشريعة ـ نقول إن المسيح لم يلتفت إلى أيّ الحيونات نأكل وأيّها لا نأكل وإنما اشتبك مباشرة مع الإنسان نفسه ومع عقله وقلبه وروحه. وهكذا راح له المجد يعلمهم ويعلمنا جميعا ما الطهارة حقا وما النجاسة:
اتركوهم. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة. فأجاب بطرس وقال له: فسر لنا هذا المثل. فقال يسوع: هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟ وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان... لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان. (مت 15، مر 7)
المسيحية إذاً لا تبيح ما كان محرّما أو تجيز ما كان نجسا، المسيحية بالأحرى تعيد بناء العقل الإنساني نفسه وتعيد تشكيل مفاهيمه كلها وأفكاره ووجدانه بما يتناسب مع "الإنسان الجديد" ويرفعنا حقا إلى السماء وإلى أمجاد "بنـوة" القدوس ذاته!

وعليه فالنجس دائما محرّم أستاذنا الحبيب ـ دائما لا مؤقتا. الفرق هو فقط قدرتنا نحن في كل مرحلة على فهم ماهية النجاسة وماهية الطهارة في المقابل، كذلك قدرتنا اليوم ـ في المسيح ـ على استيعاب أن القديم كله بالأحرى رمـز ظهر أخيرا في الجديد مرموزه، كله ظـل أشرقت في الجديد حقائقه!


 
أعلى