نحوك اعيننا

حبيب يسوع

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
15 مايو 2007
المشاركات
15,458
مستوى التفاعل
1,956
النقاط
0
تأملات في أحاديث المخلص ليله آلامه
" المحبة طريق الإتحاد مع الله "



نستطيع، بنظرة مدققة ومتأنية، إلى حديث الرب يسوع مع تلاميذه ليلة آلامه. أن ندرك مقدار الاهتمام العظيم، والتركيز الشديد الذي أعطاه مخلصنا لموضوع الوحدة حيث إستطرد مرارًا وتكرارًا في التعبير والحديث عن هذا الأمر، والإعلان عنه في كلماته معهم، حتى إنه جعل من مثال وحدته (كابن) مع الآب السماوي نموذجًا حيًا ورجاءًا موضوعًا أمامنا لما يريده لنا من وحده، بعضنا مع بعض ـ بنفس المثال ـ ووحدة وثباتًا لنا فيه كمثال الأغصان في الكرمة: ” أيها الأب القدوس احفظهم في إسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن” (يو11:17)، ” كما أحبني الآب. كذلك أحببتكم أنا. أثبتوا في محبتي” (يو9:15).

ولم يكتفِ المخلص فقط بمجرد إعلان هذا الإشتياق وهذه المشيئة الإلهية بأن نكون واحدًا معه على مثال وحدانية الإبن مع الآب، كما يظهر لنا بوضوح في الإصحاحات من الثالث عشر وحتى السابع عشر من إنجيل يوحنا، بل إنه رسم لنا بكل وضوح في حديثه الرائع والمؤثر مع تلاميذه، كل معالم الطريق لتحقيق هذه الوحدة الكاملة والثبات فيه، وذلك من خلال وصية المسيح العظمى، ألا وهي المحبة بكل أبعادها، وبكل صورها: داخليًا وخارجيًا، وبكل الوسائط، سواء من خلال الوصية أو السر أو الصلاة، واضعين القياس الكامل لهذه المحبة التي هي مثال محبة المسيح (محبة إلى المنتهى)، فالمحبة المعتبرة انها تكميل الناموس، هي نفسها جوهر الله نفسه، واضع وواهب الناموس.


وقد أدرك القديس يوحنا الإنجيلي قيمة وأهمية هذه الوصية ـ وصية المحبة ـ في حياتنا، بشكل منقطع النظير، وتيقن انها المفتاح الوحيد للشركة مع الآب والإبن، بل وأكثر من ذلك، فقد أعلن لنا بجلاء ان من ليست له المحبة ليست له شركة أو إتحاد مع الله: ” وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع إبنه يسوع المسيح” (1يو3:1). ” مَنْ لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة” (1يو8:4)، ” ولنا هذه الوصية منه ان من يحب الله يحب أخاه أيضًا” (1يو21:4).

والحقيقة أن الرب يسوع قد وضع لنا منهجًا يضيء أمامنا الطريق نحو تحقيق الهدف المنشود بالإتحاد مع الله، أو الشركة مع الآب والإبن، حسب تعبير الرب نفسه، وتلميذه يوحنا، وهذا الهدف هو ذاته اشتياق السيد المسيح والذي كرره في صلاته الشفاعية الأخيرة إلى الآب في (يو17): ” ليكون الجميع واحدًا كما انك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني” (يو21:17)، ” وعرَّفتهم إسمك وسأعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو26:17).

ويمكننا إجمال أهم معالم طريق المحبة الذي قدمه المسيح لنا لتحقيق منتهى إشتياق الرب من أجلنا، وهو الشركة مع الآب وإبنه يسوع، ومعاينة مجده[1] فيما يلي:

أولاً: من خلال الوصية:

أـ خصوصية وصية المحبة: ” كما أحببتكم أنا تحبون بعضكم بعضًا” (يو34:13) “… إذا كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى” (يو1:13). ويمكن القول أن عظمة وصية المحبة هذه، يكمن في ان الرب يسوع أعطى لها خصوصية رائعة حتى تضيء لنا طريق الحياة والشركة مع الله، فالمحبة التي يقصدها السيدالمسيح هنا والتي يطلبها الرب منا هي محبة (خاصة)، أي على مثال محبة المسيح نفسه؛ فهي محبة باذلة، محبة إلى المنتهى: “الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غل20:2). وإلا فستكون دائمًا محبة ناقصة وعلى مستوى محبات العالم الأخرى الطبيعية، فهنا الوصية تدخل في حيز عمل المسيح نفسه ومحبته التي نحن مطالبون أن نقدمها للعالم، ولبعضنا بعض حتى النفس الأخير لنؤهل للشركة والاتحاد بالمسيح.

ب ـ وصية جديدة:

“… وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا” (يو34:13)، وهذه الوصية التي أعطاها السيد المسيح لنا هي وصية عهد جديد تكرَّس بالقيامة من الأموات، فصار لنا طبيعة أبناء النور والحياة، وبدونها لا نكون قد قمنا مع المسيح بل نكون في الظلمة: ” نحن نعلم أننا قد إنتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة” (1يو14:3). فوصية المحبة الجديدة هي ثمرة الشركة في موت المسيح وقيامته وشاهد على مسيرتنا كأبناء القيامة والنور، هذا إضافة إلى كون أن تنفيذ هذه الوصية الجديدة إنما هو شهادة وإعلان تلمذتنا للمسيح: ” بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض” (يو35:13). إذن فوصية المحبة التي أعطاها المسيح لنا، إلى جانب كونها جديدة في مضمونها؛ إذ هي مختصة بكونها على مثال محبة المسيح نفسه (محبة خاصة)، فهي جديدة أيضًا بكونها شهادة عملية لكرازتنا باسم المسيح، كوننا بها نستعلن بها العالم أننا تلاميذ المسيح (يو35:13)، لذلك كان إلحاح الرب وإصرارة على تكرار هذه الوصية التي تعد مفتاح الشركة مع الله وتكن فيها جُلّ أسرار الطريق الموصل إلى وحدانية الروح التي نبعتها.

ثانيًا: من خلال الممارسة العملية: ” غسل الأرجل”

” يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق” (1يو18:3).

إن الأمر الذي صنعه يسوع ليلة آلامه مع تلاميذه، بغسل أرجلهم، لم يكن مجرد ممارسة طقس شكلي، وما نفعله الآن لا يجب أن يكون مجرد طقس لقانات أو ضرب ميطانيات، بلا عمق أو إدراك للهدف الأسمى، فالرب يسوع عندما غسل أرجل تلاميذه، فهو قد سكب أمامهم نفسه، وقَبِل أن يكون عبدًا وخادمًا، مع أنه الرب والسيد والمعلم، ليُكرِّس أمامهم صورة حية للمحبة المتضعة المنسكبة، حتى ينغرس فيهم هذا الحب بعضهم لبعض، فقد سعى بذاته ليضع لهم المثال القادر أن يجمع أبناء الله المتفرقين، ويكون لهم ولنا هذا الإحساس الدائم والحقيقي بأننا خدام الذين من أجلهم مات المسيح، فالدعوة هنا إلى أستعداد دائم ومستمر، بلا إنقطاع ولا دمدمة، أن نغسل بعضنا أرجل بعض، ونخدم ونفتدي بحياتنا كل إنسان مات المسيح من أجله: ” فإني كنت أرد لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل أنسبائي حسب الجسد” (رو3:9).

وبذلك نكرس وصية عهد المحبة الجديدة التي مارسها السيد المسيح معنا، لنتأهل للأتحاد به. ونؤكد على دعوة الرب لنا (لاسيما الخدام)، بأن نصنع مثلما صنع هو معنا، حتى نتمم مشيئته واشتياقه في وحدتنا، بوضع أنفسنا تحت أقدام إخوتنا لنغسلها بدموعنا ونئن معهم حتى يتصور المسيح فيهم، ونمسح بشعر رأسنا أنين نفوسهم وقلوبهم، محتملين ضعفهم حتى نربح الجميع، ونثِّبت المحبة في قلوبهم لنتحد بهم في المسيح يسوع، وهكذا نكمل مشيئة الآب في التصاقنا ووحدتنا بالثالوث.

ثالثًا: من خلال الصلاة (يو17):

أظهرت كلمات الصلاة الشفاعية التي نطقها الابن الكلمة إلى الآب ليلة آلامه، مدى أصرار الرب يسوع على تحقيق كامل مشيئته في تكميل وتمجيد خليقته التي جاء لفدائها، بإتحادها به بالمحبة الكاملة، بصورة ما على مثال إتحاد الآب والابن، حتى أنه كرر هذه الطلبة أربعة مرات في (يو17): ” أيها الآب القدوس إحفظهم في إسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (يو11:17).

” ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (يو21:17)، ” ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد” (يو22:17)، ” أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد” (يو23:17).

فالصلاة الدائمة للآب من أجل تحقيق الوحدة معه ومع الابن بالحب، صارت هي موضوع الاهتمام الرئيسي للإنسان الجديد القائم من الموت مع المسيح، وهي منتهى رجاؤنا أن نتمجد معه ونوجد معه ونعاين هذا المجد عينه، بحسب طلب المسيح نفسه من الآب: ” أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون انا لينظروا مجدي الذي أعطيتني…” (يو24:17). وصارت الصلاة من أجل هذه الوحدة هي إهتمامنا الأول بعد قيامة المسيح: ” فإني كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” (كو1:3).

رابعًا: من خلال السر:

لقد توَّج الرب يسوع اشتياقه لاتمام وحدته بخليقته المحبوبة باعطائها حياته ذاتها مرتين: أولهما بسكب حياته (جسده ودمه) سرًا لتلاميذه، ثم للبشرية كلها، حينما قدم لنا سر موته وقيامته في سر الافخارستيا، واستطاع بهذا الجسد والدم المسفوكين سرًا أن يجمع كل من يؤمن به في وحدانية غير موصوفة وبسر لا ينطق به، عبر الأزمنه، حتى نشترك معه في عرس عشاء الخروف في الدهر الآتي. والمرة الثانية قدمها من خلال ذبيحته على الصليب، كما سيرد فيما بعد. ولكن هنا وهب السيد للبشرية نعمة الثبات والإتحاد به بواسطة سر جسده ودمه الأقدسين حين قال: ” من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” (يو56:6)، مشبهًا ذلك بثبات الأغصان في الكرمة: ” أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو5:15)، ومن ثم ننال الحياة منه، حيث قال: ” إني حيّ فأنتم ستحيون” (يو19:14)، وبقوة عمل هذه الشركة الكائنة في سر الافخارستيا، فقد وهبنا من قبل إيماننا بهذا السر والشركة فيه الحياة الأبدية والإتحاد الدائم به ” من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الآخير” (يو54:6).

إذن فقد نلنا بالحق، في ليلة آلام مخلصنا، سر الحياة والخلود والوحدة الدائمة مع الله، وصرنا شركاء في الجسد الواحد، الذي رأسه المسيح نفسه، وصار هذا السر وهذه الشركة الممتدة عبر التناول من جسد الرب ودمه، عربونًا قدمه الرب يسوع لكل المفديين عبر كل الدهور بقوله الحي: ” إصنعوا هذا لذكري” (لو19:22).

خامسًا: من خلال ذبيحة الصليب:

كما ذكرنا سابقًا، فقد وهب الرب لنا حياته لنحيا بها مرتين، بالسر من خلال سر الجسد والدم، وفعليًا بتقديم ذاته كحمل بلا عيب ليموت على الصليب لأجلنا ويقام لأجل تبريرنا. وبذلك تم القصد الالهي واستعلن السر المكتوم من قبل الدهور لفداء الإنسان ورده، ثم جمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد، ليحقق ما اعلنه الوحي بلسان يوحنا الرسول بتعليقه على نبوة قيافا رئيس الكهنة عن موت المسيح: ” إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كانا رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة. وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد” (يو50:11ـ51).

فالصليب ثم القيامة كانا هما المظهر والاعلان النهائي لتحقيق مشيئة الآب بأن ينجمع الكل في المسيح يسوع، ففي سر الجسد والدم نلنا سرًا شركة الاتحاد بالمسيح، وفي الصليب وشركة آلامه التي نؤمن ونعترف بها، بل ونكملها في أجسادنا كل يوم، لنتأهل لشركة مجده أيضًا، فشركتنا في سر موت المسيح وقيامته تهبنا قوة الحياة والوحدة الكاملة، بعضنا مع بعض، من خلال شركة الجسد الواحد، وتكمل اتحادنا بالله مصدر حياتنا على مثال وحدة الآب والابن. لذلك صار من المهم لنا أن نطلب كل حين دائمًا، وبإلحاح، هذه الشركة ونصلي من أجلها لاسيما بعد أن نلنا عربون الحياة الأبدية بقيامة المسيح من الأموات.
منقول

 
أعلى