معالم القداس الإلهي

عبد يسوع المسيح

يارب أعطنى حكمة
مشرف سابق
إنضم
13 أغسطس 2009
المشاركات
2,920
مستوى التفاعل
808
النقاط
113
الإقامة
مصر

معالم قداس المؤمنين



القديس كيرلس الأورشليمي


(القرن الرابع)



بمحبة الله للبشر تعلّمتم في العظات السابقة كل ما يجب معرفته عن العماد والمسحة والمشاركة في جسد المسيح ودمه. وعلينا الآن أن ننتقل إلى ما يلي، وأن نتوّج اليوم المبنى الذي أقمناه لمنفعتكم الروحية.

لقد رأيتم الشماس يقدّم الماء للأسقف والكهنة المحيطين بمذبح الله. إنه لم يعطِ الماء لقذارة الجسد. ليس هذا. لأننا في البداية عندما دخلنا الكنيسة لم تكن اجسادنا قذرة. ولكن غسل اليدين يشير إلى ضرورة تطهيرنا من كل خطايانا وآثامنا. فكما أن الأيدي هي رمز الحركة، فبغسلها نظهر طهارة أعمالنا وصلاحها. ألم تسمع الطوباوي داود يفسّر هذا السر ويقول: "أغسل يديّ في وسط الأطهار، واطوف بمذبحك يارب" (مز 25). فغسل الأيدي معناه إذن محو الخطايا.

ثم يعلن الشماس: "صافحوا بعضكم بعضاً، ولنتبادل قبلة السلام، لا تتصور أن هذه القبلة هي كتلك التي يتبادلها الأصدقاء العاديون في الساحات. كلاّ ! إنها ليست من هذا النوع ! هذه القبلة توحّد النفوس بعضها مع بعض وتفترض نسيان جميع الإهانات. هذه القبلة تعني أنَّ الأنفس تتَّحد وتُقصي كل حقد. لذلك يقول المسيح: "إذا كنت تقرّب قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئاً، فدع قربانك عند المذبح هناك، واذهب قبل ذلك فصالح أخاك، ثم عد فقرّب قربانك" (مت 5). فهذه القبلة هي إذن مصالحة، ولهذا السبب هي مقدّسة كما أعلن ذلك الطوباوي بولس في موضع: "سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة" (1 كو 16)، وبطرس: "ليُسَلِّم بعضكم على بعض بقبلة المحبة" (1 بط 5: 14).

وبعد ذلك يقول الكاهن بصوت عالٍ: "إرفعوا قلوبكم إلى العلاء".


لأنه حقاً يجب علينا في هذه الساعة الرهيبة أن نرفع قلبنا إلى الله وألا نتركه على الأرض منهمكاً بالهموم الدنيوية. فالكاهن يأمرنا في تلك الساعة بأن نطرح عنا الهموم، لا سيما الهموم المنزلية، وأن نرفع قلبنا إلى السماء نحو الله محب البشر.


حينئذ تجيبون: "هي عند الرب".


وانتم بهذا الاعتراف تعلنون أنكم أطعتم الأمر. فلا يقل أحد من الحاضرين بفمه: "هي عند الرب"، بينما فكره مشغول بهموم هذه الحياة. من واجبنا ولا شك أن نذكر الله في كل حين. فإذا استحال علينا ذلك بالنظر لضعفنا البشري، فعلينا أن نذكره على الأقل في هذه الساعة.

ثم يقول الكاهن: "فلنشكر الرب".


أجل يجب علينا أن نشكر الرب، لأنه على الرغم من عدم استحقاقنا، دعانا إلى مثل هذه النعمة العظيمة، وصالحنا معه بعد أن كنا أعداءه، لأنه وجدنا جديرين لروح التبني (رو 8).

فتجيبون: "ذلك حق وعدل"،


لأننا عندما نشكر الله نقوم بعمل حق وعادل. بينما هو لا يفعل العدل فقط، بل يتجاوزه إلى حدّ غريب، عندما يغمرنا بالخيرات ويجعلنا جديرين بمثل هذه الهبات العظيمة.

ونذكر بعد هذا السماء والأرض والبحر، والشمس والقمر والنجوم، وكل الخليقة العاقلة وغير العاقلة، المنظورة وغير المنظورة. وكذلك الملائكة ورؤساء الملائكة، القوات والسيادات، الرئاسات والسلاطين، والعروش والشاروبيم ذوي الوجوه الكثيرة (حز 10). ونقول بحماس مع داود: "عظموا الرب معي" (مز 33).


ونذكر كذلك السيرافيم الذين رآهم إشعيا بالروح القدس، قائمين حول عرش الله، فبجناحين يسترون وجههم وبجناحين يسترون أرجلهم وبجناحين يطيرون قائلين: "قدوس قدوس قدوس رب الجنود" (إش 6). ونحن نرنّم هذا النشيد الذي وصل إلينا من السيرافيم، حتى بإشتراكنا بهذا النشيد، نتحِّد بالجيوش السماوية.

ثم بعد أن نكون تقدّسنا بهذه الأناشيد الروحية، نتوسل إلى الله المحب البشر أن يرسل روحه القدوس على القرابين الموضوعة لكي يجعل الخبز جسد المسيح، والخمر دمَ المسيح. لأن كل ما يمسّه الروح القدس يتقدّس ويتحوّل.

ثم، بعد إتمام الذبيحة الروحية والعبادة غير الدموية على هذه الضحية الاستعطافية. نتوسّل إلى الله من أجل السلام المشترك في الكنائس، من أجل التوازن في العالم، من أجل الملوك والجيوش والحلفاء، من أجل المرضى والمحزونين، وبوجه عام، من أجل جميع الذين هم في حاجة إلى معونة، نصلي جميعنا ونقدّم هذه الذبيحة.

وبعد ذلك، نذكر أيضاً جميع الذين رقدوا: أولاً الأجداد والأنبياء، والرسل والشهداء، لكيما يتقبل الله طلباتنا بصلواتهم وشفاعتهم. ثم نصلي من أجل الآباء القديسين والأساقفة الذين رقدوا، وعموماً لأجل جميع الذين رقدوا قبلنا، ونحن مقتنعون بأن هنالك فائدة عظيمة للأنفس التي لأجلها نرفع هذه التوسّلات، بينما تقام الذبيحة المقدسة الرهيبة.

وأنا أود أن أُقنعكم في هذا الصدد بمَثَل، لأني أعلم أن هناك كثيرين مَن يقولون: ما الفائدة لنفس خرجت من هذا العالم، خاطئة كانت أو غير خاطئة، أن نذكرها وقت التقدمة الافخارستية؟ لنفرض مثلاً أن ملكاً نفى اشخاصاً أهانوه، وبعد ذلك أتى أهل المنفيين ليقدموا للملك تاجاً صاغوه خصيصاً له ليعفو عن المحكومين، ألا يستجيب الملك طلبهم بترك القصاص؟ كذلك نحن، عندما نتوسل إلى الله من أجل الراقدين، حتى ولو كانوا خطأة، لا نصيغ له تاجاً، بل نقدّم المسيح المقرَّب لأجل خطايانا، وهكذا نسترضي الله المحب البشر لأجلهم ولأجلنا.

وبعد ذلك، نقول هذه الصلاة التي سلّمها المخلص لأخصائه التلاميذ، وبضمير نقيّ تُعطي الله اسم الآب وتقول: "ابانا الذي في السماوات .." (مت 6).

يا لعظمة محبة الله للبشر ! فإلى الذين ابتعدوا عنه وسقطوا في هاوية الرذائل منحهم غفران الخطايا ونصيباً وافراً من نعمه، بحيث انهم يدعونه: أبا .. "ابانا الذي في السماوات"، السماوات هي أيضاً هؤلاء الذين يحملون صورة العالم السماوي، والذي يسكن الله فيهم ويقيم.

"ليتقدس إسمك". إن اسم الله مقدّس بطبيعته، إن قلنا ذلك أو لم نقل. ولكن بما أن اسم الله يمتهنه أحياناً الخطأة، كما هو مكتوب: "إن اسمي يُجدّف عليه بسببكم بين الأمم" (رو 2)، فنحن نطلب أن يتقدّس اسم الله فينا، لا بمعنى أن يصبح مقدساً - كأنه لم يكن مقدساً من قبل - بل أن يصبح مقدساً فينا نحن الذين يسعون إلى تقديس نفوسهم وإلى القيام بأعمال تليق بقداستهم.

"ليأت ملكوتك". يليق بالنفس الطاهرة أن تقول بكل ثقة: "ليأت ملكوتك". لأن الذي يسمع بولس يقول: " إذاً لا تملكنَّ الخطيَّة في جسدكم المائت" (رو 6)، ويعمل على تطهير نفسه بالفعل والفكر والقول، يستطيع أن يقول: "ليأت ملكوتك".

"لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". ملائكة الله الطوباويون الإلهيون يصنعون مشيئة الله، كما يرنم ذلك داود: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، العاملين بكلمته" (مز 102)، عندما تصلي بقوة تريد أن تقول هذا: كما أن مشيئتك تتمّ في ملائكتك، فلتتمّ كذلك فينا على الأرض، يا سيد.

"خبزنا كفافنا أعطنا اليوم". الخبز العادي ليس بجوهري، الخبز الجوهري هو هذا الخبز المقدس الذي يوزع لغذاء النفس. هذا الخبز لا ينزل إلى الجوف ولا يُدفع إلى المخرج (مت 15)، لكنه يتوزع في كل بُنيتك لفائدة النفس والجسد. أما كلمة "اليوم" فتعني في الواقع كل يوم، كما يقول لك بولس أيضاً: "ما دام الوقت يُدعى اليوم" (عب 3).

"وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً". الحق أن لدينا خطايا كثيرة، لأننا نسقط بالقول والفكر ونرتكب أعمالاً كثيرة نستحق عليها العقاب. "إذا زعمنا أننا بلا خطيئة، خدعنا أنفسنا ولم نكن على الحق"، كما يقول يوحنا (1 يو 1). ولذلك نحن نساوم الله ونطلب إليه أن يغفر خطايانا، كما نحن من جهتنا نترك لقريبنا ما لنا عليه. فلنفكر بما نتلقى مقابل ما نعطي، ولا ننتظر ولا نتمهّل في أن نغفر بعضنا لبعض. إن الاساءات إلينا صغيرة طفيفة، ومن السهل علينا أن نمحوها. أما إساءاتنا إلى الله فكبيرة، ولا سبيل لنا غير محبته للبشر. فاحذر إذن من أن تمنع الله، بسبب ما لحق بك من إساءات صغيرة طفيفة، أن يغفر لك ما ارتكبته نحوه من ذنوب كبيرة.

"ولا تدخلنا في تجربة" يارب. هل يُعلمنا الرب أن نطلب ألاّ نُجرَّب أبداً؟ كيف إذن يقول في موضع آخر: "الذي لم يُمتحن يعلم قليلاً" (سي 34: 10). وأيضاً: "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1). ولكن ربما هذه الكلمات "لا تدخلنا في تجربة" تعني : لا تدع التجربة تغمرنا وتجرفنا، باعتبار التجربة سيلاً عارماً يصعب اجتيازه. فالذي لا تغمرهم التجربة يجتازون السيل كالسباحين الماهرين الذين لا يتركون التيار يجرفهم. أما الباقون الذين لا يُجيدون السباحة فيغرقون. يهوذا مثلاً، حالما نزل في تيار البخل، لم يتمكن من السباحة، فغرق جسدياً وروحياً واختنق. ودخل بطرس في تجربة نكران سيده، ولكنه لم يغرق، بل سبح بشجاعة وتخلّص من التجربة. واسمع في موضع آخر جوقة القديسين الذين لم يُقهروا، وهم يؤدون الشكر لكونهم أُنقذوا من التجربة: "لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة. أدخلتنا إلى الشبكة. جعلت ضغطاً على متوننا. ركَّبت أناساً على رؤوسنا. دخلنا في النار والماء، ثم اخرجتنا إلى الخصب" (مز 65). أُنظر كيف أنهم يبتهجون لاجتيازهم التجربة سالمين ! "لقد أخرجتنا إلى مكان راحة"، معناه أنهم نجوا من التجربة.

"ولكن نجنا من الشرير". لو كانت عبارة "لا تدخلنا في تجربة" تعني ألاّ نتجرّب أبداً، لما أضاف الرب: "ولكن نجّنا من الشرير". الشرير هو عدونا إبليس، ونحن نطلب النجاة منه.


ثم عند نهاية الصلاة تقول: "آمين" أي "فليكن كذلك"، مما يعني أنك تصدّق على الطلبات في هذه الصلاة التي علمنا إياها الله.

وبعد ذلك يقول الكاهن: "القدسات للقديسين".

القرابين المقدّمة على الهيكل مقدّسة، لأنها تلقّت حلول الروح القدس عليها، وأنتم كذلك قديسون، بما أنكم وُجدتم جديرين لاقتبال الروح القدس. فالأقداس للقديسين، هذا يتفق تماماً.

ثم تقولون: "قدوس واحد، رب واحد، يسوع المسيح". وفعلاً ليس هناك إلاّ قدوس واحد، قدوس من طبيعته، أما بالنسبة إلينا، فنحن قديسون كذلك، لا بالطبيعة ولكن بالمشاركة وبممارسة الفضائل والصلاة.

ثم تسمعون صوت المرنم يدعوكم، بنغم إلهي، إلى تناول الأسرار المقدسة: "ذوقوا وأنظروا ما أطيب الرب" (مز 33). لا تسلموا الحكم إلى حلقكم الجسدي، ولكن إلى الإيمان الذي لا يشكّ. لأنكم عندما تتذوقون خبزاً وخمراً، بل جسد المسيح ودمه اللذين يمثلانه.

وعندما تقترب، لا تتقدم باسط اليدين والأصابع منفردة، ولكن إجعل من يدك اليسرى عرشاً ليدك اليمنى، لأن هذه ستتقبّل الملك، وفي راحة يدك تقبّل جسد المسيح قائلاً: "آمين". وبعد أن تلمس عينيك بهذا الجسد المقدس لتقديسهما، تناول، وأحرص على ألاّ يسقط جزء منه (على الأرض) لأنك إذا اسقطت جزءاً منه فكأنما يُبتَر منك أحد أعضائك. قل لي: إن أعطاك أحد بعض شذور من ذهب، ألا تحافظ عليها بكل عناية خوفاً من أن تفقد منها جزءاً فيصيبك ضرر؟ فكم بالحري يجب عليك أن تعني بعدم فقد فُتات من هذا الخبز الذي هو أثمن من الذهب والأحجار الكريمة.

وبعد تناول جسد المسيح، إقترب من كأس دمه. لا تمدّ يديك، بل احنِ رأسك دلالة على العبادة والاجلال، قائلاً: "آمين". وتقدّس بتناولك دم المسيح. وبينما شفتاك رطبة إلمسها بأصابعك وقدّس عينيك وجبينك وسائر حواسك. وفيما تنتظر نهاية الصلاة، أشكر الله الذي أهّلك لهذه الأسرار العظيمة.

حافظوا بكل أمانه على هذا التقليد، واحفظوا أنفسكم من كل خطيئة. ولا تبتعدوا عن التناول، ولا تحرموا أنفسكم، بدنس الخطيئة، من هذه الأسرار المقدسة الروحية.


"وإله السلام نفسه يُقدِّسكم بالتمام، ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح" (1 تس 5: 23)، الذي له المجد والإكرام والقدرة، مع الآب والروح القدس، الآن وإلى أبد الدهور آمين.


المرجع: كيرلس الأورشليمي، العظات، تعريب الأب جورج نصور، سلسلة النصوص الليتورجية، الكسليك

 
أعلى