نعم، هذا هو إله الأساطير «الأنثروبومورفي»، أي الذي يأخذ صفات الإنسان، وهذه من أقوى حجج الإلحاد وأقدمها أيضا. كان الفيلسوف الإغريقي زينوفانيس، حوالي
500 قبل الميلاد، هو على الأرجح أول من التفت لهذه الظاهرة فقال عبارته الشهيرة: «لو كان للأسود أن تتخيل إلهـا فإنه سيكون في هيئة أسد، ولو كانت الخيول فسوف يبدو لها كحصان، ولو كانت الثيران فإنها ستراه ثورا».
الاعتراض إذاً مبرّر ومقبول والشبهة صحيحة مبدئيا، ذلك أن معظم الملحدين ـ كمعظم المؤمنين ـ يكتفون عادة بـ«اللاهوت الشعبي» ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث والدراسة. وطبعا غني عن البيان أن ذلك يتجلى بوجه خاص في عصور الجهل والانحطاط، كعصرنا هذا، حيث تظهر «الحرفيـّة» في فهم النص المقدس وتبرز المغالاة وينتشر التعصب ويسود التطرف عموما، وهكذا قد ينتهي أمرنا بالفعل بين مؤمن يتصور على سبيل المثال إلهـا خرافيا لا وجود له حقا إلا بخياله (الراجل الكبير اللي في السما)، وبين ملحد ينكر أول ما ينكر هذا الإله تحديدا ويأبى عقله تماما أن يقبله.
وعليه فالرد ـ باختصار شديد ـ هو أن المسيحية بالعكس هي أكثر عقائد الأرض تنزيها لله وتجريدا لصفاته عز وجلّ وعلا، حتى أنها وصلت في ذلك حد «التجريد الفلسفي» أعلى درجات التجريد. الله على سبيل المثال ـ حسب علم اللاهوت المنضبط ـ لا «
اســم» له، فهو يتنزه حتى عن الاسم، كما تنزه أولا عن الهيئة والشكل والذكورة والأنوثة والعدّ والحدّ والحيز والجهة ألخ. الله أيضا على سبيل المثال لا
يتحـرك، لأنه لا يوجد مكان يتحرك فيه أو إليه، هو سبحانه الموجود بكل الوجود لا يُحد ولا يحيطه شيء مالئ الكل فائق على الكل. من ثم فجميع ما ورد بالكتاب المقدس عن يد الله مثلا أو عينه أو وجهه أو غير ذلك من أعضاء ـ
جميعه دون استثناء ـ هو فقط من باب «
الاستعــارة» بالطبع. يـد الله مثلا وردت في الكتاب بخمسة معان مختلفة،
كلها على سبيل الاستعارة، وبيان ذلك وغيره نجده مفصّلا في كتب اللاهوت (على سبيل المثال موسوعة علم اللاهوت للحبر العلامة الأب ميخائيل مينا). أما
المشاعر والعواطف موطن السؤال فليس أبلغ مما كتب بالفعل شيخنا الحبيب بالجزء الأول من هذه الموسوعة ـ في ثلاثينيات القرن الماضي ـ إذ يقول:
«أما ما يُنسب إليه تعالى من صفات البشر كالفرح والحزن والمحبة والبغضة والرضا والغضب فلا يمكن أن تكون حقيقية لأنها نقائص غير لائقة في حق الجلال الإلهي، وإنما هي أمور مجازية عبر بها الكتاب باصطلاحات بشرية لـيُـستدل بواسطتها على ما وصلت إليه حال الإنسان...»
أي كأن «حال» الله
مرآة تكشف بالأحرى حال الإنسان، لا الله، لأنه سبحانه لا يتغير ومن ثم ليس له أي أحوال. فرح الله مثلا يدل على البر من جهة الإنسان، فالبر نفسه هو ما ينعكس في مرآة الله سرورا وفرحا، أو بالعكس: غضب الله يدل على الخطية من جهة الإنسان، فالخطية ذاتها هي ما ينعكس في مرآة الله غضبا أو كأنه غضب إلهي.
الله بالتالي ـ وهو المحبة المطلقة ـ يتنزه حتى عن أن «
يحـب» بالمعنى البشري الحرفيّ لهذه الكلمة (وهو عكس الفهم أو اللاهوت الشعبي تماما)، ذلك أن الذي «يحب» أيضا «يبغض» بالضرورة، وكلاهما يتنزه الله عنه كليا، حسب علم اللاهوت المسيحي، وبالجملة يتنزه سبحانه عن سائر التغيرات الوجدانية ناهيك عن الآلام النفسية.
بناء على ما سبق فالقاعدة العامة في تفسير الكتاب تقول: «
كل صفة تستحيل حقيقتها على الله تفسر بلازمها». أو كما يشرح شيخنا:
«فالغضب مثلا تستحيل حقيقته على الله لأنه عبارة عن غليان في الدم والله منزه عن ذلك. فإذن المراد به لازمه، وهو الانتقام والقصاص... وكذلك المحبة أيضا فإنها تفسر بلازمها، وهو إكرام المحبوب وإرضاؤه...».
أكتفي بهذا القدر وأظن فيه الكفاية، أشكرك ختاما على هذا السؤال الهام متمنيا أن تكون الصورة قد اتضحت قليلا.
* * *