لغز سويسري: لغة لا يتحدثها إلا قليلون

كلدانية

مشرف
مشرف
إنضم
1 نوفمبر 2010
المشاركات
64,067
مستوى التفاعل
5,425
النقاط
113
_106639274_abb86e2d-ea2e-4d2e-8af2-e223a7ee7064.jpg

يلتف نهر السارين في سويسرا حول أطراف منطقة باس فيل - التي يعني اسمها البلدة السفلى - ليُقسّم كانتون فريبورغ وعاصمته التي تحمل الاسم نفسه، إلى قطاعين أحدهما ناطق بالألمانية والأخر يتحدث بالفرنسية.

وهكذا تتسم المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو أربعين ألف نسمة، بكونها ثنائية اللغة، إذ ترى لافتات الشوارع وقد كُتبت باللغتين، ويُخيّر قاطنوها بين أن يدرس أطفالهم في المدارس الابتدائية، بالألمانية أو الفرنسية، كما توفر الجامعة الموجودة هناك مناهج باللغتين.
غير أن توجهك إلى منطقة باس فيل - التي تعود للعصور الوسطى والعالقة بين هذين القطاعين متباينيّ اللغة من فريبورغ - سيجعلك تشعر بأنك في منطقة لا تنتمي للغة من اللغتين، بل تمتزجان فيها لتشكلا لغة تحمل اسم "بولز" أو "بولتسه".

على أي حال، فإن حديثك مع أي سويسري سيكشف لك على الأرجح، كم هو مهووس ومفتون بمسألة التواصل. ويعود ذلك ربما إلى التنوع الهائل في اللغات الذي تشهده أراضي هذا البلد محدود المساحة، والذي يمكن تقسيمه جغرافيا إلى ثلاث مجموعات لغوية كبرى. ففي الجنوب حيث منطقة البحيرات الشهيرة التي تتقاسمها سويسرا وإيطاليا، ستجد الناطقين باللغة الإيطالية. أما إلى الغرب، بالقرب من مدينة جنيف، فتقع منطقة ناطقة بالفرنسية. ويتركز الناطقون بالألمانية في وسط البلاد والمناطق الشرقية منها مثل مدينتي زيورخ وسان موريتز. ولا يتوقف التنوع اللغوي عند هذا الحد، ففي كانتون غراوبندن جنوب شرقي البلاد، يوجد ناطقون باللغة الرومانية.
ويزيد الأمر ارتباكا وتشوشا إذا أضفت اللهجات المختلفة التي تُنطق بها تلك اللغات إلى المشهد، فهناك لكنة فرنسية لا يجري الحديث بها سوى في اثنين فقط من الكانتونات السويسرية. كما أنك ستجد الألمانية السويسرية التي يتعلمها المرء في المنزل ولا يستخدمها سوى للمحادثة، وهي تختلف عن الألمانية "الفصحى" التي تُكتب وتُنطق وتُعلم في المدارس.
وفي خضم كل هذا التعقيد اللغوي، تواجه مدينة فريبور/فريبورغ كما تُعرف بالفرنسية والألمانية على الترتيب، تحديا إضافيا يتمثل في كونها تقبع على الحدود اللغوية بين الكانتونات الناطقة بالفرنسية وتلك التي تتحدث الألمانية، وهو ما جعلها على ما يبدو معقلا لأُناس قرروا أن يطوروا لغة خاصة بهم.
_106639277_85f35361-c869-4880-ac15-2f1dc7b8fb44.jpg

وبينما كنت أسير على طول الشارع الرئيسي في فريبورغ؛ مر إلى جواري أول مؤشر على اقترابي من باس فيل؛ ألا وهو "التليفريك" الذي يربط تلك المنطقة بوسط المدينة. ويعمل التليفريك العتيق التاريخي ذو اللون الأخضر منذ عام 1899، وتدور محركاته بفضل ضخ ثلاثة آلاف لتر من المياه فيها، وهو الوحيد من نوعه في أوروبا الذي يعمل بمياه الصرف.
وتمثل رحلة التليفريك ، التي لا تتجاوز مدتها دقيقتين نموذجا على الطابع الصناعي لفريبورغ من جهة، وتشكل بوابة لمنطقة باس فيل التي نشأت فيها لغة "بولز" من جهة أخرى.
وبالرغم من أن الأصل الدقيق لهذه اللغة لا يزال غير معروف، فإن الكثيرين يعتقدون أنها ظهرت خلال فترة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وذلك عندما بدأ الناس يغادرون الريف للعيش في المدن، التي توافرت فيها فرص العمل بفعل الطفرة الصناعية.
وبوصفها مدينة تقع على تخوم القرى الناطقة بالألمانية السويسرية من ناحية والفرنسية من ناحية أخرى، نمت فريبورغ واتسع نطاقها لتصبح بمثابة مركز ثقافي وصناعي ثنائي اللغة للفقراء الذين ينشدون الحصول على فرصة عمل.
ويقول ميشيل سولجيه، وهو مرشد سياحي وخبير في لغة "بولز"، إن الكثير من المزارعين القادمين من منطقة سينس المتاخمة لفريبورغ، أتوا إليها للعثور على عمل، ووجدوا ظروف معيشة رخيصة في منطقة باس فيل، واعتقدوا أن الحياة ستكون أيسر عليهم في هذه البلدة.
وكان هؤلاء العمال بحاجة إلى إيجاد طريقة يفهمون بها بعضهم بعضا ويعملون من خلالها معا، وهو ما حدا بهم لمزج لغتيهما الأصليتين بهدف التوصل إلى لغة جديدة.
وفي كل الأحوال، تمثل "بولز" لغة حديث مزجت بين الفرنسية والألمانية السويسرية، عبر استخدام مفردات اللغتين، لاستحداث لغة ثالثة مختلفة بكل معنى الكلمة. وقد تم توارث تلك اللغة الجديدة شفهيا من جيل لآخر، ولن تجدها سوى في منطقة باس فيل في مدينة فريبورغ.
ولا تشعر بالعجب إذا ما وجدت ذاك العدد القليل الذي لا يزال يتحدث بهذه اللغة من أجل الحفاظ على هذا الإرث الثقافي باقيا على ضفاف نهر السارين.
ومما يثير الاهتمام على نحو خاص بشأن هذه اللغة، أنه يتعين عليك أن تُجيد اللغتين المؤلفتين لها بشكل كامل، قبل أن تشرع في دمج مفرداتهما لتتحدث بلغة "بولز". رغم ذلك، فإنه لن يتسنى للناطقين بكلتا اللغتين متابعة حديث يدور بلغة "بولز"، ما لم يكن قد تعلم تلك الأخيرة، التي تختص بتوازن وتناغم لغوي فريدين، وكأنها تسي على حبل مشدود بين الفرنسية والألمانية السويسرية.
ويوضح سولجيه ذلك قائلا: "هذا جزء من تاريخ فريبورغ، فثقافة بولز بُنيت على يد أشخاص يستخدمون لغتين بامتياز، وهو أمر نادر في فريبورغ، التي نتحدث فيها عادة لغة واحدة أو نجيد واحدة أكثر من الأخرى. فمن يتحدثون بلغة بولز يستطيعون التحدث باللغتين بحق وبمقدورهم المزج بينهما".
ويضيف: "من شأن ذلك جعل الناطقين بلغة بولز أصحاب طابع خاص، لأن هذه اللغة لا تُستخدم سوى من جانب عدد محدود للغاية من الأشخاص".
ورغم أن هذه اللغة لا تزال أمراً يكتنفه الغموض بالنسبة للغرباء، ولا يتحدث بها سوى عدد محدود من سكان باس فيل، فإنها تبقى ذات مغزى للقاطنين في هذه المنطقة، فهي أكثر من مجرد لغة بالنسبة لهم، وإنما مزيج من لغة وسياسة وثقافة تجسدت جميعا عبر تاريخ تشاطره السكان على نحو فريد خلال فترة الثورة الصناعية.
وحتى هذه اللحظة لا تزال المظاهر المتعلقة بثقافة "بولز" واضحة في هذه المنطقة السويسرية، عبر فعاليات واحتفالات تُنظم هناك، بعضها من جانب أوبير أودريا، وهو فنان يُعرف بأنه رمز لكل من باس فيل ولغة بولز على حد سواء.
وتكمن المفارقة في أن كانتون فريبورغ يضم حاليا بين جنباته أبناء 160 جنسية على الأقل، وذلك بفضل تدفق المهاجرين إليه. كما أن عدد من يتحدثون لغات مثل الصربية والكرواتية والبرتغالية والألبانية في سويسرا، يفوق نظراءهم الناطقين بلغة بولز.
وبينما قد يتحدث أبناء الأجيال الأكبر سنا بتلك اللغة في منازلهم، ويتبادلون الحديث بها بينهم وبين بعض في الطريق العام، لا يستطيع المنتمون لأجيال أصغر تعلمها سوى في المنازل، مثلها مثل الألمانية السويسرية التي لا يتعلمها المرء إلا بين أفراد عائلته. ومن بين الأساليب الأخرى لتعلم لغة بولز الاستماع إلى من يجيدونها بطلاقة أو تعلمها منهم، فهي لا تُعلّم في المدارس، كما لا توجد أي دورات تعليمية رسمية خاصة بها.
وبالرغم من ذلك، ظلت لغة بولز قائمة لوقت بدا أطول مما كان متوقعا لها، كمؤشر على الابتكار والإبداع الذي استلزمته الضرورات التي نشأت خلال الثورة الصناعية. كما واصلت هذه اللغة حياتها وقد صارت بمثابة تاريخ حي للناطقين بها. وبالرغم من أن طبيعة النسيج السكاني والثقافي الذي تشكلت منه فريبورغ، ربما يكون قد تغير عما كان عليه في القرن التاسع عشر، فإن العلاقة الوطيدة والحميمة بين الثقافات التي شُيدت عليها المدينة لا تزال قائمة حتى اليوم.
وبينما كنت أهبط عائدا إلى باس فيل في التليفريك، كان السكان يمضون يومهم، غادين ورائحين بين الأبراج والأسوار الحجرية التي تعود للعصور الوسطى والتي تواجه المروج والأديرة على طول نهر السارين. وقتذاك، أنصتُ بعناية لمفردات لغة بولز، بالرغم من أنه من العسير على أذن أجنبي، أن تتعقب الأصوات الخاصة بهذه اللغة الفريدة، عَالِما أن تاريخا من الثقافات واللغات انصهر هنا ليتشكل شيئ جديد، يُضفي أجواء من الفتنة على هذه البقعة من سويسرا.
بي بي سي​
 
أعلى