عند باب الكنيسة

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
[عند باب الكنيسة]
دق جرس الباب وأسرعت الأم لتفتح، فإذا به نادر صديق رامي ابنها، وأيقنت على الفور أنه انما جاء ليصحبه إلى الكنسية. كانت الساعة قد بلغت الثامنة صباحاً، وكان المفروض أن يستيقظ رامي قبل ذلك، غير أنه اعتاد ألا يبذل جهداً في الاستيقاظ، وانما ترك لأمه بذل هذا الجهد كل صباح، فإذا لم تفلح كان التقصير منها في عدم استيقاظه!.
أومأت الام إلى شقيقته الصغرى والتي نادت عليه بدورها من مكانها مراراً لتنبئه بأن "نادر" قد وصل، فلما لم تتلق رداً كالعادة مضت إليه في حجرته، بينما انتظر الصديق في الأنتريه، واتجهت الصغرى إلى فراشه وراحت تلح عليه في الاستيقاظ، مرة بصوتها وأخرى بيدها، وهو يدفعها عنه برفق وهو نائم، وتحاول من جديد بينما هو يُحكم الغطاء حول رأسه، فقالت وهي تجذب عنه الغطاء: نادر في انتظارك في الأنتريه.
وحالما سمع الاسم تنبه.. وبعد لحظات أدرك الموقف، ففرك عينيه وتماطأ في حركات سريعة، ثم دفع عنه الغطاء بقدمه وجلس في السرير، وخرجت الصغيرة تعلن افلاحها في المهمة، بينما أشارت الأم على الصديق بالدخول إلى صديقة في حجرته، ففعل وبدا من لقائهما أنهما كانا معاً حتى وقت متأخر من الليل، ثم وكأنهما يكملان حديثاً بدأ منذ قليل، تبادلا بعض "المناشيتات" السريعة وكلمات عابرة لا معنى لها.
قام رامي على مضض يغسل وجهه ثم ليعود ثانية إلى الحجرة يرتدي ثيابه، وإلى جواره صديق طفولته وعمره، فقد تربيا معاً وتزاملا في جميع مراحل التعليم حتى الجامعة، ومع أنه كان بإمكان رامي الالتحاق بكلية التربية، إلا أنه آثر الالتحاق بكلية التجارة حتى يكون بصحبة صديقه طوال الوقت. واكمل ملابسه وخرج وهو في كامل هيئته متجهين إلى الكنيسة لحضور القداس والتناول، وورده الصديقان الأم والتي ردّت بدعوة تقليدية مقتضبة وهي تتبعها بنظرة امتنان ورضى.
اقترب الاثنان من الكنيسة بينما كادت الساعة تقترب هي الأخرى من التاسعة، وعند باب الكنيسة التقيا ببقية المجموعة: تامر وهو أقواهم بنية، وعماد كثير المرح، جان وهو أهدأهم وأصغرهم سناً أيضاً، كريم والذي يبالغ دوماً في أحاديثه، ثم شادي وريمون وممدوح وممدوح آخر كانوا يلقبونه بالفيلسوف تمييزاً عن الآخر ولكنونه يتخذ دور الناصح دائماً. ووصل عددهم إلى التسعة ولولا تغيب البعض الآخر لارتفع العدد عن ذلك كثيراً، وكانت علامات الثراء والارستقراطية بادية على جميعهم.
كان اثنان منهم يجلسان على مقدمة سيارة تقف أمام الباب، بينما تجمع أربعة من حولهما، في حين انتحى أحدهم جانباً يهمس في تليفونه المحمول.. وتبادل رامي ونادر السلام والتحية مع الآخرين من خلال صفقات الأيدي السريعة مع كلمات تحية عصرية!! وتعليقات سريعة على مظهر كل منهم.
كان القداس قد وصل إلى القراءات (البولس والكاثوليكون..) مما يعني بالنسبة لهم أنه مازال هناك متسع من الوقت قبل أن يدخلوا الكنيسة فارضين على أنفسهم هناك حالة من الصمت والوقار حتى ينتهي القداس، وبالتالي فلا مانع ليدهم من الاستمتاع بهذه الصحبة لبعض الوقت، وسريعاً مادبّ بينهم المرح فتعالت أصواتهم وحركتهم، وبين آن وأخر يجذبون صديقاً لهم تلافياً لسيارة مارة بسرعة إلى جوارهم..
وأخرج أحدهم سيجارة ليدخّنها، فانتهره البعض بينما وبخ الآخرون أولئك الذين انتهروه!! وأما هو فقد بدا وهو يدخن –في مشهد ساخر- وكأنه يحمل هموم الشرق والغرب! وهو الذي لم يتجاوز السابعة عشرة بعد.
وجاءت احدى الأسر ومرت بجوارهم متجهة إلى البوابة، فخفضوا من رؤوسهم وأصواتهم حتى غابت الأسرة داخل الكنيسة، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه، وتكونت في الاتجاه الآخر من البوابة مجموعة أخرى من الشبان تماثلهم ولكن بأكثر حيوية.
وتبادل رامي وأصحابه الاعجاب ببعض قطع الملابس التي يرتدونها ثم أسعارها ومحّالْ بيعها، وانتقل الحديث إلى "الموبايل" وعامله والموديلات الحديثة منه والاكسسوارات المتعلقة به، والنظم الحديثة لتخفيض أسعار المكالمات، وتبارى الجميع في اظهار درايته الواسعة في هذا الاطار مدعّمين آراءهم بأمثلة لأجهزة مع بعض الأصدقاء وامكانياتها وشركات تصنيعها وغيرها من أحاديث الجامعة والنادي.. ثم السيارات، وهم في هذا الاطار يميزون أصدقاءهم أحدهم عن الآخر من خلال نوع السيارة التي معه (رامي اللي معاه 28.. باسم اللي راكب فيورا) ولهم في الوصف تعبيرات مبالغة جداً مثل: رهيبة.. بشعة.. خطيرو.. شنيعة.. (وهو ما يسمى تأكيد لفظي لا معنوي..).
وجاء صوت الشمامسة من الداخل يرتلون لحن "آجيوس" الذي يسبق الانجيل، وهمس أحدهم في تقوى "هيا ندخل فالإنجيل سيقرأ الآن" وأظهر البعض تعاطفاً مع دعوته، بالتحرك بينما بدا على الآخرين عدم الاكتراث، كان أحدهم منهمكاً في موقف يصفه بينما البعض مُصغى إليه بشغف، سريعاً ما ستقطب الباقين للمتابعة فتبخرت "الدعوة التقية" واجتذبوا ذلك التقي لحديثهم فراح يتابع الرواية.
ثم تنوعت الأحاديث وتداخلت وكان اكثر من واحد يتكلم في وقت واحد، وفي فسحة من الوقت تبلغ الثانية أو الاثنتين، حمل إليهم مكبر الصوت "الإنجيل يُقرأ" ووقفوا لبرهة، وهتف رامي كمن بادر باكتشاف خطير: انه صوت مايكل.. وتمم آخرون مؤمّنين على اكتشافه –مايكل وصفي.. شقيق (..) ثم تبادلوا الآراء في صوته الشجي.. وشخصيته الطيبة.. وأظهروا بعض الأسى متذكرين ذلك الحادث الذي ألمّ به مما اضطره إلى تركيب "شريحة" في ذراعه الأيسر. كل ذلك في عبارات تلغرافية إيقاعية، ثم راحوا يقارنون صوته بأصوات أخرى تجمع ما بين الجمال والقبح، وفي شيء من السخرية والتهكّم.. وتعالت صيحاتهم عندما راح أحدهم يقلد البعض في طريقة قراءتهم للإنجيل..
وخرج إليهم أحد الرجال الوقورين وهو من أعضاء لجنة الكنيسة، وعاتبهم برفق وبكلمات وعظيه، فتأسفوا مبتسمين مما عكس طيبة قلوبهم وحسن خلقهم وحميد خصالهم.. بالرغم من هذا الهرج والمرج الذي يحدثونه، وانصرف الرجل بهدوء بينما تبادلوا هم الابتسامات وهم يتابعونه بنظراتهم إلى أن اختفى داخل مكتبه الملحق داخل الكنيسة.
وتحول الحديث عقب ذلك إلى همس متذكرين معاً تلك المشادة الحامية التي وقعت منذ شهر بين مجموعة مثلهم وأحد الأعضاء في الفسحة التي أمام البوابة من الداخل، وكيف كاد الأمر أن يتحول إلى شبه الأزمة لولا تدخل بعض من صانعي السلام، وتذكروا كيف أن أولئك الشبان قد خرجوا عقب هذه المشادة إلى الشارع ليقفوا على رأسه محدثين صخباً شديداً مما جعل سلوكهم مجلبة للعثرة والعار على الكنيسة، ويشجع آخرين على الاقتداء بهم.
الآن وصل القداس إلى "التقديس" وجاءهم الصوت عبر المكّبر: إنه صوت الأب تادرس، وأبدى "كريم" اعجابه بالأب تادرس وبأنه يحتفظ له بشرائط كاسيت عليها القداسات، وهو يسمعها أثناء الاستذكار واعترضه أحدهم بعدم جواز ذلك بينما أيّده آخرون.. وقال أحدهم أنه يعترف عليه وهو يجد راحة في ذلك، بينما اعترض آخر لأن قائمة الممنوعات لديه أكثر من الممنوحات ثم تندّر ببعض المواقف التي جرت معه.
وبرز صوت آخر من داخلهم يلّح بضرورة الدخول إذ أن الوقت يمر بسرعة، ولكن آخر احتج عليه مهوناً بأن الأب تادرس متفهّم ومتفاهم!! ولن يمنعنا من التناول، واستشهد في ذلك بموقف حدث مع صديق له دخل إلى الكنيسة قبل النهاية بخمس دقائق، فلما عرف الأب ذلك ناوله. ثم طلب إليه أن ينتظره بعد القداس حيث سأله عن سبب تأخره؟
-كنت بالخارج مع أصحابي.
-منذ متى؟.
-منذ الثامنة والربع.
-فلماذا لم تدخل حالما وصلت؟
-نادوني فبقيت معهم وسرقني الوقت.
-وأين هم؟
-مازلوا بالخارج..
-الكتاب يقول أن الذين يبكرون إلىّ يجدونني، كما أن الوقت الذي تقضيه مع الله يقدّسك وبه يتبارك بقية الوقت، ثم أنك بذلك تضيع على نفسك بذلك الاشتراك في رحلة توبة يقدمها القداس، ومن غير اللائق أن يعدّ الملك الوليمة ثم يدخل المدعوون في النهاية ليأكلوا فقط.. ولا تنسى أن كثيرين من الناس يعثرون في الواقفين أمام الكنيسة بطريقة لا تليق، وقد يجد الآخرون بذلك ما يشتكون به علينا.. ثم لاطفه وصرفه.
عند ذلك صمت الكل هنهة قبل أن يعودوا إلى سابق مرحهم
وبدا أن اثنين منهم قد تأثرا، فتحركا بالفعل إلى الداخل.. ولمحا سيدة تشبه "والدة رامي" ولم تكن هي بل كانت أم رامي ما تزال في مسكنها تستقبل صديقتها في شركة التأمين التي تعمل بها، وسألتها الضيفة:
-أين الأولاد؟
أجابت الأم بنغمة لا تخلو من الفخر والرضا:
-رامي في الكنيسة منذ الصباح الباكر.
-ألا يشفق على نفسه قليلاً حتى في يوم الإجازة، أما يكفي قداس واحد في الأسبوع؟، إن الجسد له حقوق علينا أيضاً!.
-ماذا أفعل، ومهما تكلمت معه يصرّ ولا يسمع مني؟ أتدرين؟ لقد طلبت إليه الجمعة الماضية أن يبقى ليصحبني إلى الطبيب فرفض، فلمّا بكّتّه على ذلك اتهمني بأنني أقف عشرة في طريق خلاص نفسه، مما جعلني أصمت!!. وكثيراً ما يظل بالكنيسة طوال اليوم!، يمرون أحدهم على الآخر ليلتقوا في الكنيسة، ولكن والحق يقال أن أكثر ما يطمئني عليه أن جميع "شلته" هم من الكنيسة!!!.
في تلك اللحظة كان أحد "تلك الشلة" يحتّج على الباقين فتحركوا معاً ليلحقوا بما تبقى من القداس، ودخلوا إلى الكنيسة واختاروا أقرب مقعد إلى الباب، ولم يكفهم هم السبعة، فاندسّ الباقون في المقعد الأمامي.. وبدا الجميع غير مستقرين في وقفتهم، ثم أن هي إلا دقائق معدودة حتى بدأوا ينظرون في ساعاتهم في تململ، وهمَّ أحد أجهزة الموبايل بأن يطلق رنينه فعالجه صاحبه بضغطة أخرسته، ثم بدأوا يتهاوون في مقاعدهم الواحد تلو الآخر، فلم تمر دقائق أخرى قليلة حتى علا صوت أحدهم يُعلن استسلامه لنوبة نوم عميق!! ولكن آخراً لكزه في كتفه، فانتبه ونظر حوله في استغراب أشبه بالذعر، فلما أدرك الموقف هدأ، وهزّ رأسه بسرعة ينفض عنها النوم.
وجاء صوت "المعلم" يرجّْ أرجاء الكنيسة مرتلاً "التوزيع" والحقيقة أن صوته وإن لم يكن جميلاً ولكنه قوي لدرجة لا تحتاج معها إلى الميكروفون، ومع ذلك فقد كان يحب الميكروفون حباً جماً!، فعندما وقف الكاهن بعد لحظات على باب الهيكل ليقي بعض التنبيهات على المتقدمين للتناول من الشعب، أشار إلى أحد الشمامسة ليحضر له الميكروفون من المعلم، وعندما أخذوه منه كانوا وكأنّهم يجتذبونه من داخل فمه اجتذاباً.. وأمسك الأب بالميكروفون قائلاً:
-على من يتقدم للتناول أن يكون أرثوذكسياً ومعمداً وله أب إعتراف، وألاَ يكون قد دخل الكنيسة بعد قراءة الإنجيل.
عند ذلك نظر رامي وأصحابه بعضهم إلى البعض الآخر في حيرة وغرابة، وبينما أنسلَّ اثنان منهم إلى داخل صفوف المتقدمين للتناول، غير عابئين بما قيل، خجل الباقون فأومأ رامي إليهم فخرجوا من الكنيسة واحداً اثر الآخر ليتخذوا مكانهم الذي كانوا يحتلونه قبل أن يدخلوا، وقد دبَّت فيهم الحيوية والنشاط وكأنهم لم ينعسوا في الداخل، فشتّان بين ما كانوا عليه في مقاعدهم في الداخل منذ دقائق، وما هم عليه الآن.
عند ذلك قرروا الخروج في نزهة.. وهمّوا بالتحرك من مكانهم وهم يزمّون شفاههم عجباً ويرمون الكاهن بالتزمت وعدم المرونة وعدم الحرص على الخلاص نفوس الناس!!!
ورن جرس تليفون رامي (المحمول) فتلقّفه فإذا بها أمه على الجانب الآخر تطمئن عليه، فطمأنها بدوره، القداس قد انتهى وليستأذنها في الخروج مع أصحابه لبعض الوقت، فقبلت شريطة ألاّ يتأخر كثيراً ثم تبادلا تحية سريعة.
وهنا نظرت الأم إلى صديقتها الجالسة مقابلها في الصالون ثم قالت في فخر وامتنان بينما تشير باصبعها:
-"رامي ابني.. ربنا يحميه.. مفيش قداس يفوته!!.

دير البرموس
نوفمبر 2001م

ــــــــــ
نقلتها نصاً من كتاب سلسلة قصص روحية قصيرة وهادفة - المجموعة الثانية - عين ماء
(وهو الجزء الثاني من سلسلة أجراء وأبناء)
 
أعلى