عند منتصف الليل

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
[عند منتصف الليل]
عند منتصف الليل، وفي تمام الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والثلاثون، دّق الناقوس دقات حزينة، على إثرها قام الأب باڤلوس من نومة، يتحسس طريقه في الظلام حتى إهدتى إلى باب قلايته، ففتحه وهرع إلى الخارج فإذا بظلام دامس يغشي المكان، ومع ذلك فقد استطاع أن يرى الآباء يخرجون من قلاليهم متجهين نحو المنارة فانضم إليهم ومشى معهم صامتاً.
وفي الطريق قابلهم الأب تادرس رئيس الدير، الذي أبلغهم قبل أن يسألوه، أن الأب باڤلوس قد تنيح!
وتأثر الآباء، وعلقوا تعليقات متقاربة مفادها أمنية بالنياح للأب الذي رحل عنهم.
ويعجب باڤلوس كيف يقولون عنه تنيح، ولكنه لم يأبه لذلك وانما مشى معهم حتى وصلوا إلى قلايته، ودخل الجميع إلى الداخل، حيث وجدوه ممداً على مرقده مغطى بغطاء بني اللون، والي جوار الفراش جلس رهبان مطرقين نحو الأرض، وأحدهما يبكي بصوت مسموع.
وراح الآباء يمرون واحداً فواحداً يقبلون الأب الممدد على الفراش، وكان باڤلوس آخر الصّف، ومال وقبّل الأب المتنيّح ثم لم يقدر ان يتمالك نفسه، فانفجر ضاحكاً! وقال وهو لا ينظر إليهم: أنا لم أمت، لقد خُدعتم!
ولكن أحداً لم يسمعه وأحداً لم يجبه، ولم يتضايق باڤلوس بل خرج في إثرهم عندما انصرفوا إلى الكنيسة مخلّفين وراءهم اثنين منهم ليكفناه.
وعلى رصيف طويل يحتضن الكنيسة، جلس الآباء يعلقون على خبر موته، وسمعهم يمتدحونه ويوسمونه بصفات مما للقديسين، ويتبادلون مآثره ويطوبونه لأنه (وصل).
ووجد نفسه يشترك معهم في الثناء عليه! ولكن من طرف واحد، ثم أحس بنسمه باردة تداعب وجهه، ودسّ يده في جيبه فإذا به قد نسى (منديله)، فقام متجهاً إلى قلايته ليحضره فوجد الباب موصداً، وفتش عن المفتاح في جيبه فلم يجده، وفيما هو حائر هكذا عاد الناقوس "يبكي الأب الذي أنتقل!"، فنسى أمر المنديل وعاد إلى رصيف الكنيسة ليجد اخوته يدخلون واحد في إثر الآخر إلى الداخل، ثم لمح الصندوق فوق أكتاف جماعة منهم، فجرى نحوهم واتخذ مكاناً لنفسه بينهم، وأحنى كتفه قليلاً وأحس بالحمل، وأحس كذلك بالراحة تسري في بدنه.
وفي الداخل وضعوه على منضدة أمام الهيكل، وبكى بعض الآباء فبكى معهم، وبدأت الصلاة، وقال لنفسه: أشكر الله الذي أعطاني فرصة لكي أتوب، كان من الممكن أن أكون في هذا الصندوق الآن، ولكن الله رأف بحالي ووهبني فرصة أخرى، يحق لي أن أعتبر هذا اليوم: مولداً لي. أشكرك ربي...
وفيما هو على تلك الحال، انتبه على تقدم الآباء نحو الصندوق يحملونه من جديد ثم يدخلون به الهيكل ويطوفون به ثلاث مرات، وهم يرتلون بالناقوس، ومنعه الزحام من أن يشترك معهم في حمله! ومن ثم فكر في أن يسبقهم إلى الطافوس وينتظر هناك ريثما يحضرون. وهناك وجد بعض من العمّال قد انتهوا من حفر حفرة كبيرة أمام الباب، وجلسوا ينتظرون في صحبتهم الأب لوكاس، فجلس معهم وصمت قليلاً ثم قال له؟
-أكان مريضاً؟ أم فاجأه الموت؟
وسمعه يقول:
-لفحته الحمّى صباحاً، ولم تمهله، ودعاه الله فلبّى فَرِحاً كاملاً مستقيماً.. (يابخته!)
قم لمح الدمع تسيل من مآقي العمّال، فنهرهم بلطف: أن افرحوا لأنه ذهب إلى النعيم الدائم.
وإذا بالموكب يقترب، والناقوس يدقّ "متأثراً!".. ووصل الركب وانطلق نشيد "الجولجوثا" يشيع الرهبة في النفوس وفي المكان، وبتلقائية أنشد معهم "جاء الصديقان يوسف ونيقوديموس وأخذا جسد المسيح وكفناه ووضعا عليه طيباً ووضعاه في قبر وهما يسبحان..."
وانتهى النشيد، وانتهت عملية الدفن، وأعاد الآباء –الذين واروه التراب- الصندوق الخشبي، وصلي الأب الرئيس الصلاة الختامية، وألقى كلمة قصيرة عن الفرج بالإنطلاق والاستعداد لذلك اليوم الرهيب، ثم أطرى الأب المنتقل.
وقبّل الآباء بعضهم بعضاً وانصرفوا، وكانت الساعة قد بلغت الرابعة صباحاً، وعاد الأب باڤلوس إلى قلايته، واندس تحت الغطاء، ورشم ذاته بعلامة الصليب، ورشم الصليب في كل الاتجاهات ثم نام. وفي الصباح وجد كل شيء على حالة!!.
واتجه إلى قلاية الراهب السكان إلى جواره، وقبل أن يهم بطرق بابه وجده يخرج منها، فبادر التحية "السلام لقدسك يا أبي" ثم سأله في تردّد: إن كان قد سمع شيئاً صادراً من قلايته خلال الليل، فأجاب ذاك بالنفي، لا سيما وأنه كان مستيقظاً حتى الرابعة صباحاً..
-لم؟
-لا شيء.
-هل حدث شيء ما.. هل سمعت أنت شيء.
-كلا.. لعله أمر بسيط، متى تحققت منه فلسوف أخبرك.
وحاول أ، يتذكر متى حدث ذلك؟ وكيف؟ ترى هل كان يحلم أم أنه رأى رؤيا؟ أم ماذا؟ ربنا حدث ذلك ما بين اليقظة والنوم، وهكذا ظل شارداً ساهماً سحابة ذلك اليوم يجترّ فيما حدث. ثم تأكد له أن أحداً من الآباء لم يتنيّح، ومضى من توّه إلى الطافوس فوجد كل شيء على حاله، حتى باقة الورد الضخمة والمتيّبسة والتي وضعها بعض من أفراد أسرة آخر راهب تنيّح، موجودة كما هي وعليها البطاقة التي كتبوا فيها "أنت الآن في السماء مسكن القديسين. اذكرنا يا أبانا أمام عرش النعمة".
وجلس الأب باڤلوس مقابل الطافوس واضعاً رأسه بين كلتا يديه وهو مطرق لأسفل وراح يفكر ويتأمل:
-هب انني قد تنيحت بالفعل هذه الليلة، إلى أين كنت سأذهب؟ إن لي الآن سنين هذا عددها وأنا أحاول التخلص من خطية الإدانة وخطية..
ماذا كانوا سيصنعون بقلايتي وكيف يقسّمون ما فيها من مقتنيات، من سيسكن بها.. لعله الأب "..." فلقد أبدي اعجابه بموقعها غير مرة، لا شك انه كان سيبادر بطلبها من رئيس الدير حال اعلان خبر موتي، وقبل أن يطلبها آخرون، وكيف كانت أمي وشقيقي الصغير سوق يستقبلان هذا الخبر. وهل كان موتي سُيحدث أثراً كبيراً في الدير.. هل كانت له فعالية وحضور.. والي من كانوا يسندون عملي.. لعله الأب "..." فهو يجيد هذا النوع من العمل. وان مضت إلى الفردوس هل كنت سأتقابل مع....، .....، الذي انتقلوا قبلي؟!
ثم عاد يتطلّع إلى الطافوس وهو يتمم: لعلي كنت الآن راقداً على بطانية قديمة مثل الذين سبقوني معقود اليدين على شكل صليب وفوق صدري بطاقة مغلّقه مدوّن عليها بياناتي الشخصية، ولسوف يظهر لمن يطلع عليها فيما بعد انني مت ولم أتمّ بد الرابعة والثلاثين، وانني كذلك لم أتم سبع سنوات في الدير..
ثم قام متثاقلاً ليعود إلى قلايته يمسح بناظريه كل ركن فيها...
ومنذ ذلك اليوم ولمدة ستة عشر عاماً، والأب باڤلوس يُرى كل صباح عند الطافوس يقف أمامه وجبهته ملاصقة للحائط يصلي طويلاً، وهو يمسك بورقة مدون عليها قائمة بأسماء الآباء الذين تنيحوا من المعروفين في الجيل السابق والحلي، وهي الورقة ذاتها التي يضعها قدامه على المذبح عندما يصلي القداس ليذكرهم عند الترحيم.
وكان ميالاً خلال تلك المدة إلى الصمت إن كان بشوشاً لطيفاً، وكثيراً ما كان يحضر بعض الخوص يجدله بطريقة جميلة ثم يغرس فيها بعض مما يستطيع الحصول عليه من الورود ليضع الكل قدام الطافوس. وفي المرات الثلاث التي فُتِح فيها الطافوس لدفن أحد الآباء الذي تنيحوا، دخل ليشترك في عملية الدفن، منتهزاً الفرصة ليملأ ناظريه من المكان الذي سيؤول إليه جسده، مسجلاً صورته على صفحة عقله.
...
وفي العام الماضي مضنياً إلى الدير المذكور لزيارة أحد الآباء الذي يمت لنا بصلة قرابة، فوجدنا الآباء في حالة خشوع وصمت بينما الناقوس يدق دقاته الحزبية، فلما استفسرنا عن الأمر علمنا أن الأب باڤلوس قد تنيح الليلة الفائتة.
ـــــــــــــــــ
نقلتها نصاً من كتاب سلسلة قصص روحية قصيرة وهادفة - المجموعة الثانية - عين ماء
(وهو الجزء الثاني من سلسلة أجراء وأبناء)

 

النهيسى

مشرف سابق
مشرف سابق
إنضم
27 يوليو 2008
المشاركات
92,327
مستوى التفاعل
3,200
النقاط
113
الإقامة
I love you Jesus
شكرا جداا
رااائــــعه
ربنا يفرح قلبك​
 

christina 45

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
3 يونيو 2012
المشاركات
288
مستوى التفاعل
28
النقاط
0
الإقامة
anonymous
شكررررررا جمييييييييييييلة منك
 
أعلى