التجسّد والتطرف

إنضم
17 يوليو 2011
المشاركات
2,822
مستوى التفاعل
576
النقاط
113
الإقامة
الروح والأناة
وددت ان اشارككم بهذه المقالة للمطران يوسف الدومنيكي، وهي مقالة تجيب عن كثير من التساؤلات التي يطرحها المؤمن وغير المؤمن...لتعم الفائدة للجميع، واذا كان هناك اسئلة، فبأمكاننا الاجابة عليها:


التجسّد والتطرف

المطران د. يوسف توما الدومنيكي


الميلاد عيد النور :

يقال إن بدعة الغنوصيين كانوا أول من ربط في القرن الثاني الميلادي بين عيد الشمس وميلاد يسوع، والحال يختلف, فإن كانت الشمس معبودة في اديان عديدة كالمصريين والآشوريين والبلاد الاسكندنافية وإيران (عيد نوروز)، التي احتفلت بالشمس الجديدة، لكن الغنوصيين حولوه إلى ميلاد المسيح، كعيد للنور فنسيت الشمس.

هذا يقودنا الى دراسة منظور النور، إذ لدينا قطبين للمسيحية أثّرا فيها:

القطب الاوّل جاءها من اليهودية، على يد القديس بولس الذي أضطهد المسيحية في البداية، بسبب تطرّفه، لاعتقاده أن الشريعة مساوية للرب الإله، وهذا التطرف سينقلب تمامًا، ويمكن قراءة الفصل 8 من الرسالة الى أهل روما، كي نفهم معنى هذا الانقلاب الذي حدث لديه، بحيث جعله يقول: "كنا عبيدًا لشريعة الخطيئة والموت، لأن الجسد أضعفها، لكن ما عجزت عنه (الشريعة) حققه الله حين أرسل ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ" (رو 8/ 3)، وهذا ما سيقوله القديس يوحنا الرسول أيضًا: "لأن الله بموسى أعطانا الشريعة، وأما بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق" (1/17). اي إن اهتداء بولس اعتمد على، ما حاول يسوع زرعه في تلاميذه: بأن الاصلاح لا يأتي من الخارج، ولا حتى من الله (إذا اعتبرنا الله خارجًا عنا) وإنما يأتي من الله فقط إذا كان الله فينا، أي داخلاً في أعماقنا، حينئذ يشرق الله كالشمس في عقولنا وقلوبنا وأعمالنا.

أما القطب الثاني فهو نابع من فهم للقطب الأول، وأعطى المسيحية دفعة توازي الدفعة التي كان القديس بولس قد أعطاها، فهو من القديس أوغسطينوس، وهو أيضًا كان متطرفا في شبابه يشبه تطرّف بولس قبل اهتدائه. فأوغسطينوس كان مانويًا من عمر 19 – 28 سنة، وكان يحب الفلسفة، انتمى الى الديانة المانوية التي كانت تعتمد مبدأين: مبدأ الخير ومبدأ الشر (النور والظلمة)، وتعتقد بوجود عالمين متضادّين وثلاثة أزمنة: - الاصل، في البداية الزمن الأول، ففي البداية، كان الخير والشر مفصولين (كل في مكانه)، - وفي الزمن الثاني، حدث حادث سيء جعل الخير والشر يختلطان، أي دخل الشر إلى العالم، فاختلطا في كل شيء من حولنا وفي داخلنا. إختلط النور بالظلام، - وسيأتي زمن ثالث، حيث سيعود كل إلى مكانه، بع أن يأتي مخلصٌ ليفصل الشر عن الخير.
لكن المؤمن العارف (الغنوصي) من الآن يمكنه أن يفصل بين الخير والشر، ومن يستطيع ذلك فهو قديس. هذه الفكرة موجودة في كل مكان، ولعل في مثل اختلاط الحنطة والزؤان (متى 13) إشارة إلى وجود هذه الفكرة حتى في الانجيل. كذلك نجدها في الهند في فكرة (سانخيا Sankia) التي تعني التحرر من الألم، كما نجدها في نص سرياني قديم يُعَدّ من أقدم النصوص، قمت بنشره في كتابي "الغنوصية"، ويمكن أيضًا قراءة نصوص مشابهة لدى كل الديانات الشرقية: الهندية والايرانية. وهناك اكتشاف حدث في بداية القرن العشرين، في غرب الصين في مدينة (طورفان) نصوص مهمة ورسوم مانوية شديدة الأهمية. ويمكن أيضًا قراءة النص الذي يبدأ بهذه الجملة "تبارك من يحررني".

إن ما جذب أوغسطينوس الى ديانة ماني ( )، الذي كان من مدينة بابل، أنها ديانة تنوير، وديانة عقلانية، تعطيك ما يخصّك من حقيقة وما تحتاج إليه أنت بالذات وتعتمد على خبرتك أنت. وكان أوغسطينوس مثل الكثير من زملائه، يضحك على المسيحية ديانة أمّه (القديسة مونيكا)، ويعدّها ديانة شعبية بمعتقدات وتقوى فقط، ولا يرى فيها ما ينعش الشخص، وقد كان للمانوية جاذبية خاصة، فكانت أكثر من بدعة، بل ديانة منظمة، فهي تقسّم الناس الى خمسة طبقات من البشر:
الاول والثاني هما السامع والمنتخَب (أي المؤمن العادي والمختار).
اما الطبقات الثلاث الباقية، فهما درجات المسؤولين، ولها رموز قريبة من المسيحية:
- طبقة الكهنة
- طبقة الاساقفة (وعددهم 72).
- وطبقة الرسل (وعددهم 12).

ويعتقد ان ماني الذي تربى بين جماعة يهود-مسيحيين، كان قد تأثر بالأناجيل المنحولة خصوصًا بإنجيل توما الذي يتكلم عن "القرين"، أي التوأم، وهذا التوأم، هو الذي يشبه من ناحية ما الملاك الحارس لدى المسيحيين، فهو يؤدي دورًا كبيرًا في ديانة المانويين. وقد صدر قبل سنوات في فرنسا كتاب لفرانسوا فافر (Favre) عنوانه (ماني، مسيح الغرب وبوذا الشرق). فالمسيحيون كانوا يرون في المانوية ديانة قريبة منهم، بل كان ماني يسمّي نفسه "ماني رسول يسوع المسيح"، بالضبط كما كان بولس يسمي نفسه. إلا أنه سرعان ما اكتشف آباء الكنيسة أن لدى ماني شيء خطير جدًا، ويُعتقد أنهم عندما صاغوا "قانون الايمان" في عام 325 في مجمع نيقية، كانوا في الأغلب يفكّرون بدحض المانوية، خصوصًا في الجملة الاولى (نؤمن بإله واحد خالق السماء والارض). أما المانويين فكانوا يقولون (خالق السماء فقط) وليس الارض! أي لم يكن الله هو خالق المادة، إذ بالنسبة إليهم المادة شريرة وسيئة ويجب التخلص منها؛ فروح الإنسان هي النور، لكنها سجينة في مادة الجسد.
إن ما يثير الاهتمام والانتباه هو هذا الصراع القديم والجديد (على الدوام) بين الشرق والغرب، فنرى عند بولس بقايا من هذا الصراع، لكنه اتخذ قرارًا جذريًا فأختار بولس الحرية مع المسيح. أما ماني فاختار العكس، وحاول أن يوفق بين الشرق والغرب فجمع بين البوذية واليهودية، ورفض تعاليم بولس (كالمسلمين).

من المثير للاهتمام أيضا أن نرى كيف كان المانويون ينظرون إلى يسوع، فهم يصلون إلى يسوع وليس إلى ماني، فالمسيح هو النور ويعتقدون أن المسيح انتصر على الشر والمأساة إلا أنهم لم يعرفوا الروح القدس، شأنهم شأن ما جاء في سفر أعمال الرسل بأن كثيرين كانوا يتقبّلون المسيح، لكن لم يكونوا قد نالوا الروح القدس (أع 19/2).
من المفارق أن يكون ماني في النهاية قد تشبّه بالمسيح، فتعرّض هو أيضا إلى عذابات كثيرة، فقد انقلب عليه ملوك الفرس، فغضب عليه الملك شابور الأول بن اردشير (226 – 279م) ثم سجنه ولما تسمّم شابور على يد المجوس، أتهم ماني وأتباعه المانويين، فبدأت حملة اضطهادات مروّعة، ومات ماني في ظروف أسطورية: سجن، تألم، وكانوا يحتفلون بعيد البيما في شهر آذار، وقيل إنه تألم أكثر من المسيح، وشيئًا فشيئًا كأن ماني هو الذي أصبح المسيح بالنسبة إلى أتباعه. وفي سفر أعمال يوحنا المنحول، قيل "يسوع وجد ولم يوجد"، لكن ماني موجود.

وكانوا يأتون الى بيت لافاط (كونديشابور) قرب الأهواز، ليقيموا احتفالات بآلام ماني، وهو ما يشبه عاشوراء في أيامنا، وكان جسد ماني يمثَّل مقسومًا الى قسمين، صورة لقصّة موته، التي أصبحت هي تجسدًا للثنائية التي آمن بها ماني. وأنه كان ينقل تعليمه عن طريق الطقس والرقص، مما يشبه الأساليب التي كانت تستعملها الغنوصية الفالنتينية الشرقية.
مفيد أيضًا عندما نقرأ في سفر "أعمال يوحنا المنحول" بأن جسد المسيح لم يكن جسدًا ماديًا، وإنما جسد روحي مخلّص (شُبّه به). مفيد أيضًا ان نقرأ في هذا السفر المنحول (الفصول من 94 – 102)، وهي الأكثر قربًا من الفكر الغنوصي، (من المحتمل أن يعود تأليف هذا الكتاب الى القرن الثاني للميلاد)، كتب بين 150 – 175م، على يد تلاميذ ليوحنا الإنجيلي إنشقوا عن المسيحية منشقين وكانوا قريبين من الغنوصية.

الخاتمة:

من المثير للاهتمام ان اشكال التطرف التي تميّز بها كل من بولس واوغسطينوس، وكلاهما جاء من تركيبة مشابهة: بولس من تركيبة الشريعة وأوغسطينوس من تركيبة المانوية، وصارا كلاهما مؤسّسين للمسيحية الشاملة المعتمِدة ليس على النظام (كالشريعة اليهودية) ولا على مجموعة أساطير (كالمانوية)، إنما على حرية حققها يسوع المسيح التي فهمها كل منهما (بولس واوغسطينوس). ولهذا، بالنسبة إلينا سر التجسد ليس دخولَ نظام أو شريعة إلى عالمنا، إنما دخول خلاص وحرية، وهذان يصعبان على الناس ويتعرض كل من يمارسهما إلى الاضطهاد في كل زمان ومكان، إن الخطر يكمن في تحول كل ديانة إلى أيديولوجية وتقوى، التي سرعان ما تفسد وتتحول إلى تطرّف او إلى عدم مبالاة أو اهتمام بأي شيء آخر، مما يفقد تلك الديانة روحها وحيويتها، لأن ما يجعل المسيح حيًا بيننا، ليس سوى هذا الروح القدس الساكن والعامل فينا وهو الذي يهبّ حيث يشاء.

إن دور روح القدس في ميلاد يسوع واضح، إذ يقول الملاك لمريم العذراء: "الروح القدس يحل عليكِ وقدرة العلي تضلكِ" (لو 1/ 35)، وفي هذا إشارة واضحة الى تكريس هيكل سليمان، فأصبحت مريم منذ تلك اللحظة فصاعدًا هي الهيكل وهي قدس الاقداس.

نحن أيضًا مثلها يصبح جسدنا هيكلا للروح القدس، لذا لا نهتدي إلى المسيحية (كنظام) و(كأيديولوجية) بل إلى سر المسيح (رازا دهيمانوثا) (كجسد حرّ) الذي بدوره يتجسّد في الخبز المقتسم طعاما وفي خمرة الفرح والعيد شرابا، أي في مأدبة عرس تبدأ من الآن ولا تنتظر نهاية العالم، فالرب عجول، يفاجئنا ويأتي في ساعة لا ننتظرها فيغيّر ماء هذه الحياة الرتيبة والتافهة (بلا طعم ولا رائحة) يحولها كما في عرس قانا إلى خمرة لذيذة مدهشة، وهذا هو سبب عدم احتفال بعض المسيحيين (كالأرمن) بعيد الميلاد إنما بعيد الظهور (الدنح) فالمسيح لا يولد مرة واحدة فقط وحضور مريم يشير إلى تعدد ولاداته، مرة في بيت الخبز (بيت لحما)ومرة تجده في الهيكل ثم في قانا، وأخيرا تحت الصليب وفي النهاية في العنصرة مع حلول الروح القدس.

محاضرة للقاء كهنة كركوك والسليمانية في مطرانية كركوك – 17/12/2014



 
أعلى