ب ـ وعندما حاصر سنحاريب ملك الآشوريين أورشليم أيام الملك حزقيا ، بعض الوقت ، سمع أن ترهاقة ، فرعون مصر ، الذي يدعوه الكتاب " ملك كوش " قادم لمحاربته ، فتقابل معه سنة 701 ق.م. ، وإستطاع صده ، ثم تقدم فيما بعد أسر حدون إبن سنحاريب إلي مصر وإستولي علي مدينة منفيس وأسر بن ترهاقة . ترهاقة هذا هو " تهرقا " في اللغة المصرية و " تراكوس " المذكور في تاريخ مانيثو ، و " تياركون " المذكور في سترابو و " ترهاك " المذكور في آثار ونقوش مصر ، وقد خلف شباكا الثاني . ومن الآثار المصرية يظهر أنه كان ملكاًعلي مصر والحبشة . لكن مقر إقامته كانت في أثيوبيا ، التي تعرف في لغة الكتاب بكوش .
(13) نخو ، ويوشيا ملك يهوذا :
ونقرأ في ( 2 مل 23 : 29 ـ 35 ) أن فرعون مصر " نخو " قتل يوشيا ملك يهوذا في مجدو ، وأسر إبنه يهوآحاز وأقام الياقيم ملكاًبإسم يهوياقيم . وقد ورد إسم " نخو " في تاريخ مانيثو ، وهو الذي ذكره هيرودتوس بإسم " نبكو " وجاء في الآثار المصرية " نكو " وهو إبن بسماتيك الأول ( بسماتيكوس ، اليونانية ) وقد ذكر هيرودتوس أن الملك نخو هذا قد صعد لمعونة آشور ضد بابل ، وفي الطريق إعترض ملك يهوذا يوشيا ، فتغلب عليه مجدو ( التي هي الآن تل المتسلم ، علي مسافة عشرين ميلاًجنوبي شرقي حيفا) وقتله ، وتابع سيره . وعند عودته خلع إبنه يهوآحاز ، الذي بايعه الشعب بالملك وأخذه معه أسيراًإلي مصر حيث مات هناك ، وعين بدلاًمنه الياقيم الذي غير إسمه إلي يهوياقيم .
(14) أرميا .. ومصر :
يقول الأثري برنارد رام " لقد أعطانا علم الآثار القديمة ، برهاناًعلي صحة نسخ العهد القديم التي وصلتنا ، إذ كشفت الحفريات عما عرف بـ " ختم أرميا " وهو عبارة عن ختم يختمون به علي البيتومين الذي كانوا يغلقون به أواني الخمور . وهذا الختم المكتشف يعود تاريخه إلي القرن الأول ، أو القرن الثاني ، ومنقوش عليه عبارة أرميا النبي ، الواردة في (48 : 11 ) كعلامة علي عدم المساس بالمحتويات أو تفريغها من إناء لآخر . كما عثر علي نماذج قديمة من الأختام . وآثار الختام في فلسطين يرجع تاريخها إلي المدة ما بين ق8 ، ق5 قبل الميلاد . وأيضاًتذكر الآثار المصرية أحداثاًتعكس صدق ما سجله أرميا النبي ، ففي حوالي سنة 1890 م ، إكتشفت أطلال دفنة اليونانية ، علي بعد عشرة أمتار غرب القنطرة الآن ، التي كانت تقع علي فرع النيل البلوزي شرق الدلتا وكان هيرودتوس يعتبرها أحد الحصون الثلاثة العظيمة التي شادها بسماتيك الأول . وتدعي في الآثار المصرية تحفيس أو تحفنحيس . وقد تمكن الآثري بتري فلندرز من إكتشاف أطلال مبني ، عرف بإسم " قصر بنت اليهودي " وذلك تذكاراًلسكن بنات الملك اليهودي ، صدقيا ، عندما هربن مع أفراد العائلة المالكة التي كانت مشايعة لمصر آنذاك ، من تقدم نبوخذ نصر ملك بابل ، وأخذوا معهم أرميا النبي عنوة . وهذه الأطلال ليست بعد سنة 600 ق.م. ، أبداً. ومما هو جدير بالملاحظة أولاًتسمية هذا الحصن بـ " قصر " وليس قلعة كما يقول فلندرز ، إذ يكشف عن تقليد قديم أنه هنا سكنت شريفات يهوديات . وإحتفظت الذاكرة الشعبية بهذا الإسم عبر العصور المختلفة رغم تباين الأجناس والحكام والأديان . وقد عثر في الحفريات علي ما يبرهن علي أن القصر كان موجوداًأيام الفرعون خفرع ( يوفريس في مانيثو ، ابريس المذكور في هيرودتوس ) الذي حسب التواريخ المصرية كان معاصراًلنبوخذنصر . هذا الفرعون الذي تنبأ عليه أرميا أنه سيقع في يد أعدائه . ويتضح من الآثار المصرية المكتشفة ، أن كلمات أرميا النبي ، قد تمت فجأة ، إذ كشفت الحفريات في هذا الحصن عن وجود أواني للطهي كانت مستعملة في لحظة وقوع القضاء ، وعظام السمك ظاهرة فيها . ليس هذا فحسب ، بل أن قول الرب لأرميا " خذ حجارة وأطمرها في الملاط " ( 43 : 8 ـ 11 ) تمت أيضاًحرفيا ً، إذ يقول السيد بتري فلندرز مكتشف هذا الطلل ، أنه عثر علي ساحة مبلطة بالقرميد ، أمام هذا القصر وأن هذه الساحة ، كانت بلاشك مخصصة لتفريغ وتحميل الأمتعة وتستيف البضائع مثل الأفنية التي توجد أمام البيوت في القري المصرية . وقد وجد فعلاً، كما يقول ، حجارة غير مهندمة تحت هذا البلاط القرميد . صحيح ليس هناك بالطبع ما يدل علي أنها الحجارة التي وضعها أرميا ، ولكن في نفس الوقت ليس هناك أيضاًما ينفيها . وعلي أية حال فإن حصن تحفيس ، قائم الآن ، متاحاًللنظر ، بعد قرون من الإنطمار تحت الرمال والوحل ، ويمكن مشاهدة البلاط أمام بيت فرعون . وأما أسلوب خراب هذا الحصن ، فتحدثنا عنه الإسطوانات الكلدانية . حيث إنتصر نبوخذنصر علي خفرع الفرعون إنتصاراًساحقاً. وترك آثاراًفي مصر تشهد بحملته هذ . وإذا علمنا أنه لم يكن هناك طريق للجيوش الكلدانية من سوريا إلي مصر ، سوي هذا الطريق ، فإننا ندرك حتمية مروره بحصن دفنة هذا.
الكتاب المقدس والأثار - شهادة الأركيولوجيا- 2
(15) الحجر الموآبي ، والعهد القديم :
في سنة 1868 م ، إكتشفت قطعة من حجر البازلت الأسود ، في مدينة ذبيان ( ديبون القديمة ـ عدد 31 : 30 ) التي خرائبها الآن علي بعد ثلاثة أميال شمالي أرتون ، علي الجانب الشرقي من الأردن . وقد عرفت قطعة الحجر هذه بإسم حجر موآب ، حيث تقع هذه الخرائب ، داخل أرض موآب القديمة ، ويبلغ طوله حوالي ثلاثة أقدام ونصف وعرضه حوالي قدمين . مكتوب عليه بالحفر كتابة واضحة ، محفوظة وسالمة للغاية ، تحوي 34 سطراًمن الكتابة الموآبية وهي قريبة جداًمن الكتابة العبرية القديمة والفينيقية . وهذا الحجر محفوظ الآن بمتحف اللوفر بباريس . وقد قام الملك ميشع إبن كموش ، ملك موآب الذي كان معاصراًلآخاب ويهوشافاط وياهو ( يهورام ) بكتابة هذا الحجر سنة 800 ق.م. ويذكر فيه الأحداث التي قام بها في سبيل تحرير بلاده من نير بني إسرائيل . وبواسطة هذا الحجر أمكننا مقارنة أحداث حوالي ألفين سنة ، كما كتبها صانعيها أنفسهم . والعجيب أنه ما من سطر في هذا الحجر إلا ويفيدنا من جهة جغرافية التوراة أو تاريخها ، وتوضيح وتفسير الكثير مما أبهم علينا فهمه من التوراة . لقد كتب ميشع ملك موآب هذا الحجر ليكون تذكاراًلنجاحه الباهر في طرح نير بيت عمري عن رقبة موآب للإفتخار علي يهوه وشعبه ، ولكي يعظم نفسه وآلهته الوثنية . ولكن هذا الحجر نفسه ، الذي إنطمر ثلاثين قرناًتقريباً، وظهر ، صار شهادة غير متوقعة وغير متعمدة للحق الإلهي ، والوحي المقدس ، وللرد علي إعتراضات الكافرين ، وأعداء الكتاب المقدس .. ألم يقل يوسف الصديق "أنتم قصدتم لي شراً، والله قصد به خيراً" ( تك 50 : 20 ) فهذا الذي أراد به الوثنيون إلحاق الخزي والعار بشعب الله ، يستخدمه الله كشهادة إثبات جليلة ، برهاناًعلي صحة ودقة الكتاب المقدس ، ضد " عقلانية " ذوي الإرادة الرافضة . فمثلاً:
أ ـ المزمور 119 ينقسم إلي فصول ، كل منها معنون بحرف من حروف الأبجدية العبرانية . ويبتدأ به كل بيت شعر من هذا الفصل . وعدد هذه الفصول 22 كعدد الأبجدية العبرانية . هنا قام أحد أعداء الكتاب المقدس وطعن في صحة هذا التقسيم ، وقال إن عدد هذه الحروف المستعملة في هذا المزمور ، وكيفية التقسيم هذه ، لم تكن مستعملة في زمن كتابة الوحي الإلهي ، مما يعني أن هذا الجزء كتب في زمن متأخر . أي أن يقول بأسلوب خبيث أن الكتاب المقدس ، كتاب كاذب موضع من قبل البشر وليس من الله ؟ ولأن هذا اللبيب وضع نفسه ناقداًلكلام الله المكتوب وجعل " عقله " أسمي من الوحي الإلهي وعصمة الكتبة الأطهار ، فقد إستحق أن يرد عليه لا البشر ، ولكن الحجر الجماد . فيقدم هذا الحجر المكتوب قبل ميلاد هذا اللبيب بقرون مديدة ، دليلاًعلي وجود الإثنين وعشرون حرفاًللأبجدية العبراينة في عصر سابق لزمن كتابة هذا المزمور .
ب ـ وفي الكتاب المقدس يرد الخبر التالي " وكان ميشع ملك موآب صاحب مواشي ، فأدي لملك إسرائيل مئة ألف خروف ومئة ألف كبش بصوفها . وعند موت آخاب عصي ملك موآب علي ملك إسرائيل " ( 2 مل 3 : 4 ، 5 ) . وفعلاًتبدأ الكتابة المنقوشة بالحفر علي هذا الحجر ، بالقول " أنا ميشع إبن كموش جاد ، ملك موآب . إن أبي قد ملك علي موآب ثلاثين سنة وخلفته بعد وفاته . وأقمت هذا النصب إكراماًلكموش في " قرحوه " تذكار خلاص .. لأنه أنقذني من جميع الباغين عليّ وأنالني بغيتي من أعدائي ، حتي من عمري ملك إسرائيل .. وقد ضايقوا موآب أياماًكثيرة ثم خلفه إبنه وقال سوف أضايق موآب . وعلي عهدي قال كموش ، قم بنا فسأري شهوتي به وببيته وأسحق إسرائيل سحقاًأبدياً". فبمقابلة الخبرين الوارد في الكتاب المقدس والوارد في الحجر المنقوش ، يتضح لنا علي الفور ان الجزية الثقيلة التي فرضها عمري علي موآب ، وزادها آخاب ، كانت علة التمرد ، الذي بدأ يطل برأسه أيام أخاب ، ثم إنفجر أيام إبنه يورام ـ يهورام . ذلك أن بلاد موآب كانت صغيرة لا تزيد عن مقاطعة الشوف في لبنان مثلاً، ومن ثم كانت كمية المواشي الموردة لإسرائيل كجزية ، ثقيلة علي أرض صغيرة مثل هذه ، مما يدفع شعبها إلي السخط والتذمر فالتمرد . وهذا ما يتضح أيضاًمن ( 2 مل 1 : 1 ) " وعصي ملك موآب علي إسرائيل ، بعد موت آخاب " . فمن الكتاب المقدس نعرف علة التمرد ، وفي الحجر الموآبي يرد سجل نتائج وتاريخ هذا التمرد . وهكذا علي نحو عجيب يشهد الحجر الصامت للكتاب المقدس .
جـ ـ وفي هذه الحجر ، يتردد ذكر كموش ، إله موآب ، مرات كثيرة . وإذا عدنا إلي زمن موسي ، نري تمسك موآب بعبادة هذه الآلة ( عد 21 : 29 ) وإذ نزلنا إلي أزمنة متأخرة ، نري أن سليمان في كهولته بني " مرتفعه لكموش رجس الموآبيين .. " ( 1 مل 11 : 7 ) وفي ( 2 مل 23 : 13 ) نري مدي كراهية يهوه لهذه العبادة . وفي نفس الوقت نجد ميشع يمدح كوش كثيراً، في الحجر المنقوش وينسب إليه الفضل في الإنتصار ، أو عدم رضائه في حال الهزيمة . فما أعجب هذا التقابل بين الخبر في الحجر وبين رواية الكتاب المقدس .
د ـ وفي سياق الكتابة الموآبية ، ترد عبارة تقول " فإستولي عمري علي أرض ميديا ، فإحتلها " العدو ( في أيامه ) وفي أيام إبنه أربعين سنة " فإذا رجعنا إلي سفر الملوك نجد أن دولة عمري إستمرت 48 سنة وإنتهت بيورام ( 22 سنة حكم عمري + 2 سنة أخزيا بن آخاب + 12 سنة يورام ) فيكون المجموع 36 سنة ؟ فأين الفرق . هنا يبدو للوهلة الأولي تعارضاًبين التاريخ الكتابي وسجلات التاريخ الموآبي .. ولكن ما أعجب الإتفاق بين الخبرين الذي يكشف عن دقة الكتاب المقدس . ذلك أنه بعد زمري قامت حرب أهلية ، مدة أربع سنين ، قبلما تمكن عمري من الملك . فإذا أضفنا هذا إلي المجموع السابق ، يكون المجموع أربعين سنة ، المذكورة علي الحجر ، قبلما يبدأ ميشع ويورام حربهما . لاحظ أن يورام أو يهورام هو آخر أسرة عمري . وملك 18 سنة فهل هذا الإتفاق جاء عمداًبين كاتب الأسفار الإلهية والوثنيين ؟؟
هـ ـ كذلك ترد إشارة عجيبة في الحجر الموآبي تقول " أن بني جاد كانوا يقطنون أرض ( عطاروث ) منذ القدم ، فحصن ملك إسرائيل عطاروث لنفسه " فما معني هذه العبارة ؟ إذا رجعنا إلي سفر العدد ( 32 : 2 ـ 5 ) نجد أن بني جاد وبنو رأوبين قد أتوا إلي موسي النبي ، وألعازر الكاهن ورؤساء الجماعة ، وطلبوا الإستقرار في عطاروث ، وديبون ويعزيز ونمره وحشبون وغيرها من هذه المدن لأنهم أصحاب مواشي والأرض جيدة للرعي . وإستجاب موسي للبهم كما نعلم من نفس الإصحاح مقابل شروط معينة . فياللعجب ، لا نري فقط عطاروث ، المكان المذكور في الحجر الموآبي بل أيضاًديبون وأربع أو خمس مدن أخري من المدن التي ذكرت علي الحجر وهي المدن المذكورة في هبة موسي النبي منذ ثلاثة ألاف سنة مضت . وهكذا بينما أراد ميشع أن يفتخر بأمجاده . رتب الله أن يشهد إفتخاره هذا لحق الإنجيل ، والوحي الإلهي بالكتاب المقدس ، ويرد علي إفتراءات الطاعنين علي الحق الإلهي ، بشهادة صامتة أعلي صوتاًمن أي صوت يحاول التطاول علي كتابنا الأقدس .
(16) شلمناصر ، وعصر آخاب :
في سفر الملوك الأول ( 1 مل 19 : 15 ، 17 ) يرد ذكر حروب وإعتلاء ياهو بن نمشي عرش إسرائيل ، وحزائيل عرش آرام . ومن سفر الملوك الثاني نعلم أن ياهو قتل يورام بن آخاب من إيزابيل ، حوالي سنة 842 ق.م. ، وأباد كل أبناء بيت آخاب وأفراد الأسرة المالكة ، وتبوأ عرش المملكة الشمالية ( إسرائيل ) وحكم 28 سنة ( حوالي 842 ـ 814 ق.م. ) وكذلك نجد من ( 2 مل 8 : 15 ) أن حزائيل قتل بنهدد ملك آرام وخلفه في الحكم . وهكذا يحدثنا الكتاب عن ثلاثة ملوك في زمن واحد ، ياهو بن نمشي في إسرائيل ، وبنود وحزائيل في آرام ( سوريا ) . ومن الآثار الأشورية نجد أصداء هذا العصر . ففي حوالي سنة 1847 م إكتشف السير لايارد أطلال نينوي القديمة ( تل كوينجك الآن ) قبالة الموصل في العراق . وعثر في خرائب الحصن علي عمود رخام أسود إرتفاعه حوالي سبعة أقدام ، وقاعدته علي شكل مربع ضلعه قدمان . ويضيق العمود من أسفل إلي أعلي . ونصفه العلوي مزخرف في طبقات خمس ، بنقوش تصور إنعامات شلمناصر الثالث علي الولاة العديدين الذين أخضعهم لمملكته . ونصفه السفلي مغطي كله بالكتابات الكيونيفورمية الأشورية ، وهي كتابات علي شكل أسهم أو أسفين ، لذلك تعرف أيضاًبالسهمية أو الأسفينية . وتروي أخبار حكم شلمناصر الثالث ، أول ملك أشوري يصطدم ببني إسرائيل ، حيث كان محارباًعظيماً، ولقبه المؤرخون بنابليون عصره ، وحكم حوالي 860 ـ 825 ق.م. وقد ورد في الآثار الأشورية ذكر حوالي عشرين أو ثلاثين من حملاته ، ثلاث منها علي بنهدد ملك آرام ، ورابعة علي حزائيل والإسمان يلقيان بملكي سوريا في هذا العمود . وهذا العمود موجود الآن بالمتحف البريطاني . وعندما نقارن التاريخ الكتابي لعصر آخاب ، بما جاء في هذا العمود يتضح لنا مايلي :
أ ـ ورد أسماء بنهدد وحزائيل كشخصيات تاريخية معاصرة وتلقيبهما بملوك دمشق أو آرام . والإسمان واردان في الكتاب المقدس .
ب ـ وفضلاًعن ذلك يظهر ياهو بن نمشي ، ملك إسرائيل في إحدي الصور المنقوشة علي العمود منحنياًعلي الأرض ، متذللاًأمام شلمناصر ، بينما تقدم حاشيته التقدمات المختلفة ، علامة الخضوع للملك الأشوري . وإسم ياهو يرد بوضوح في هذا العمود ، فضلاًعن الهيئة والزي العبراني الواضح في الرسم .
جـ ـ وترد عبارة ذات قيمة عظيمة ، عرضاًفي هذا العمود . وهي ذكر السامرة ( التي كانت عاصمة مملكة إسرائيل ) بلقب ( بيت عمري ) ومن ( 1 مل 16 : 23 ، 24 ) نعلم أن عمري قد إشتري هذه المدينة وجعلها عاصمة لمملكته ودعاها " شامر " بإسم صاحب المكان الذي إشتراه منه .
د ـ كما تلقب الأطلال الأشورية ، أخاب بلقب يزرعيل ، فتدعوه " أخاب يزرعيل " وقد نعجب لهذا الوصف ، لكن من سفر الملوك الأول ، نعلم أيضاًأن آخاب في آخر أيامه ، أقام منزلاًملكياًفي الحقل الذي إغتصبه من يزرعيل وهكذا علي نحو عجيب تلمح الأخبار الآشورية إلي أحداث الكتاب المقدس .
هـ ـ ومن سفر الملوك نعلم أن آخاب إنشغل بحروب متتالية مع بنهدد ملك دمشق ( 1 مل 20 : 1 ) ومع ذلك يظهره أحد الأطلال الآشورية ، كحليف لبنهدد ضد آشور . فكيف هذا ؟ لو قرأنا الكتاب المقدس بتمعن . نري هذا التقرير العجيب " وأقاموا ثلاث سنين بدون حرب بين آرام وإسرائيل " ( 1 مل 22 : 1 ) . أي بين بنهدد وآخاب . وهنا يتضح الأمر تلقائياًفأمام الخطر الأكبر المشترك ، تحالف خصمان سياسيان معاًللتصدي له . ويتضح هذا بجلاء عندما نتأمل
(1 مل 20 : 29 ـ 34 ) حيث يعقد آخاب مع بنهدد معاهدة صلح بشروط ميسرة جداً؟ وبالطبع هذا لأغراض سياسية . وهكذا كلما " نفتش الكتب " المقدسة ظهر لنا مدي الدقة والعظمة فيها .
(17) آحاز وتغلث فلاسر :
لنأخذ مثلاًآخر من تاريخ بني إسرائيل . فبعد أن أخضع شلمناصر مملكة إسرائيل ، وصار ياهو عبداًله ، أكمل حملاته علي مملكة سوريا المجاورة كما يظهر من البيان المذكور علي طلله . وبدأت شوكة آشور تتزايد في المنطقة . وجاء الملك الآشوري تغلث فلاسر ، الذي تصفه الآثار الآشورية بأنه كان أكثر حروباًمن الملوك الآشوريين الذين أتوا بعده . وأرتقي العرش حوالي سنة 745 ق.م. ، وإمتدت حملاته وإنتصاراته من تلال سوريا حتي حدود مصر ، ووصلت إلي شطوط الهند . ويقال أن إسمه الأصلي هو فول ، كما ورد أيضاًفي الكتاب المقدس ، ولكن عندما إرتقي إلي العرش إختار إسم سلف شهير له ، كان قبله بأربعة قرون . وقد وصلتنا تواريخ حياته ، علي عدة ألواح حجرية من قصره الملكي الذي إكتشف في حلح ، التي كانت بلداًفي نينوي ، ومنها نجد مايلي :
أ ـ ألزم " عزرياهو " أي ( عزريا أو عزيا ) ملك يهوذا أن يؤدي له الجزية لأنه إتحد مع مملكة حماة . وبعد سنتين من بداية تاريخه ، نجده قابضاًعلي زمرة من الأمراء الذين صاروا خاضعين له وملزمين بدفع الجزية يأتي بينهم إسم منحيم ملك إسرائيل ( أنظر 2 مل 15 : 19 ، 20 ) .
ب ـ وتحدثنا أسفار الملوك وأخبار الأيام ، عن غزوات هذا الملك في الجليل الشرقي والغربي . وتواريخه التي وصلتنا تزودنا بالبيانات الوافية عن هذه الغزوات ، وتوضح مدي دقة العهد القديم . فتتحدث الألواح الآشورية عن إخضاعه للسامرة ، ودفع ملك إسرائيل له عشر وزنات من الذهب وألف وزنة من الفضة . وعن إستيلائه علي جلعاد وآبل ( بيت معكه ) وأقال شرق أرض بيت عمري ( أي السامرة كما رأينا سابقاً) . ثم تحدثنا الألواح الآشورية عن تدمير تغلث فلاسر للقوات المتحالفة مع فقح ملك إسرائيل ورصين ملك ودمشق وأسره لهم ، وإستيلائه علي السامرة . ويفتخر في ألواحه بأنه هو الذي ذبح " فقح " وعين هوشع بدلاًمنه وهنا نلاحظ أن الخبر الكتابي ينسب قتل فقح إلي هوشع ( 2 مل 15 : 30 ) ولكن الخبر الوارد في الألواح الآشورية يسهل فهمنا للعبارتين . فهوشع كان بلاشك صنيعة لتغلث فلاسر ، وتابعاًله ، أي كما يقولون في عالم السياسة اليوم " من رجاله " وبالتالي يعتبر فلاسر ، مصدر العمل والفاعل الأصلي للقتل ، وحق له أن ينسب القتل إلي نفسه ، مثلما تنسب بناء المدينة إلي الملك الذي أمر بذلك ، بينما يقوم العمال والأجراء بالبناء الفعلي .
جـ ـ كما تحدثنا الألواح الآشورية عن سقوط دمشق حوالي سنة 732 ق.م. ، وقطع رأس رصين وأسر الآلاف .
د ـ ثم نجد آحاز ملك يهوذا ، ضمن الخاضعين لآشور في غزوة لاحقة . وهذا ما سجلته الألواح الآشورية الحجرية المكتشفة ، والتي يرجع تاريخها إلي حوالي سبعة قرون ونصف قبل الميلاد . وهذا يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس من أحداث ، وردت في عبارات موجزة . ففي ( 2 مل 16 : 10 ) نجد العبارة المختصرة " سار الملك آحاز للقاء تغلث فلاسر ملك آشور إلي دمشق " وفي الأطلال الآشورية ، نجد آحاز واحداًمن الأمراء الخاضعين لجزية آشور ، ويرد إسمه بين هؤلاء الذين زينوا نادي الملك المنتصر في دمشق . وتلتقي مصادر التاريخ الآشوري ، مع العبارة الكتابية الموجزة ، دون قصد سابق أو مشترك بينهما ، ومع إستقلال كل من المصدرين إستقلالاًتاماً، لتوضح دقة الأخبار الكتابية . لقد رفض آحاز ملك يهوذا أن يصغي إلي وعد " يهوه " الرب له ، علي لسان أشعياء النبي ( 7 : 11 ، 14 ) بأن لا يخاف من رصين أرام ، وإبن رمليا ( أش 7 : 4 ـ 8 ) وطلب العون من آشور ضد دمشق والسامرة . وضرب بكلام الرب علي لسان أشعياء عرض الحائط . لبس هذا فحسب ، بل أعجبه شكل مذبح وثني في دمشق ، فأمر أحد الكهنة الممتثلين له ، بعمل مذبح مثله ، ورفع المذبح النحاسي من بيت الرب ووضع هذا المذبح عوضاًعنه ، وأقام عليه الذبائح لآلهة دمشق ، لأنها تساعده ( 2 أي 28 : 23 ) ؟؟ أنظر ( 2 مل 16 : 10 ـ 12 ) . ويضيف الكتاب المقدس قائلاً
" وفي ضيقه ( أي حتي في وقت الخطر القادم عليه ، عوضاًعن أن يلجأ إلي الله ) ، زاد خيانة بالرب " ( 2 أي 28 : 22 ) . لذلك إستحق هذا الملك أن يسقط كاتب حياته في سفر الملوك إسم " يهوه " من إسم ( يهو آحاز ) ويكتب إسم آحاز فقط ، حتي لا يتدنس إسم الله العظيم بشر هذا الملك ، الذي حاد عن طريق الرب وإلتصق بالوثنية ، وإعتمد علي آلهة دمشق لتساعده ؟؟ ولهذا سجل الكتاب المقدس بوضوح أن سبب سقوط هذا الملك وسقوط إسرائيل معه كان "خيانته للرب" ( 2 أي 28 : 23 ) . ويرد إسمه في الآثار الآشورية بالكامل ( يهو آحاز ) . وهكذا تردد أطلال آشور الحجرية أصداء الحق الإلهي في الأسفار الكتابية ، التي يحاول أعداء المسيح تشكيك المؤمنين فيها .
(13) نخو ، ويوشيا ملك يهوذا :
ونقرأ في ( 2 مل 23 : 29 ـ 35 ) أن فرعون مصر " نخو " قتل يوشيا ملك يهوذا في مجدو ، وأسر إبنه يهوآحاز وأقام الياقيم ملكاًبإسم يهوياقيم . وقد ورد إسم " نخو " في تاريخ مانيثو ، وهو الذي ذكره هيرودتوس بإسم " نبكو " وجاء في الآثار المصرية " نكو " وهو إبن بسماتيك الأول ( بسماتيكوس ، اليونانية ) وقد ذكر هيرودتوس أن الملك نخو هذا قد صعد لمعونة آشور ضد بابل ، وفي الطريق إعترض ملك يهوذا يوشيا ، فتغلب عليه مجدو ( التي هي الآن تل المتسلم ، علي مسافة عشرين ميلاًجنوبي شرقي حيفا) وقتله ، وتابع سيره . وعند عودته خلع إبنه يهوآحاز ، الذي بايعه الشعب بالملك وأخذه معه أسيراًإلي مصر حيث مات هناك ، وعين بدلاًمنه الياقيم الذي غير إسمه إلي يهوياقيم .
(14) أرميا .. ومصر :
يقول الأثري برنارد رام " لقد أعطانا علم الآثار القديمة ، برهاناًعلي صحة نسخ العهد القديم التي وصلتنا ، إذ كشفت الحفريات عما عرف بـ " ختم أرميا " وهو عبارة عن ختم يختمون به علي البيتومين الذي كانوا يغلقون به أواني الخمور . وهذا الختم المكتشف يعود تاريخه إلي القرن الأول ، أو القرن الثاني ، ومنقوش عليه عبارة أرميا النبي ، الواردة في (48 : 11 ) كعلامة علي عدم المساس بالمحتويات أو تفريغها من إناء لآخر . كما عثر علي نماذج قديمة من الأختام . وآثار الختام في فلسطين يرجع تاريخها إلي المدة ما بين ق8 ، ق5 قبل الميلاد . وأيضاًتذكر الآثار المصرية أحداثاًتعكس صدق ما سجله أرميا النبي ، ففي حوالي سنة 1890 م ، إكتشفت أطلال دفنة اليونانية ، علي بعد عشرة أمتار غرب القنطرة الآن ، التي كانت تقع علي فرع النيل البلوزي شرق الدلتا وكان هيرودتوس يعتبرها أحد الحصون الثلاثة العظيمة التي شادها بسماتيك الأول . وتدعي في الآثار المصرية تحفيس أو تحفنحيس . وقد تمكن الآثري بتري فلندرز من إكتشاف أطلال مبني ، عرف بإسم " قصر بنت اليهودي " وذلك تذكاراًلسكن بنات الملك اليهودي ، صدقيا ، عندما هربن مع أفراد العائلة المالكة التي كانت مشايعة لمصر آنذاك ، من تقدم نبوخذ نصر ملك بابل ، وأخذوا معهم أرميا النبي عنوة . وهذه الأطلال ليست بعد سنة 600 ق.م. ، أبداً. ومما هو جدير بالملاحظة أولاًتسمية هذا الحصن بـ " قصر " وليس قلعة كما يقول فلندرز ، إذ يكشف عن تقليد قديم أنه هنا سكنت شريفات يهوديات . وإحتفظت الذاكرة الشعبية بهذا الإسم عبر العصور المختلفة رغم تباين الأجناس والحكام والأديان . وقد عثر في الحفريات علي ما يبرهن علي أن القصر كان موجوداًأيام الفرعون خفرع ( يوفريس في مانيثو ، ابريس المذكور في هيرودتوس ) الذي حسب التواريخ المصرية كان معاصراًلنبوخذنصر . هذا الفرعون الذي تنبأ عليه أرميا أنه سيقع في يد أعدائه . ويتضح من الآثار المصرية المكتشفة ، أن كلمات أرميا النبي ، قد تمت فجأة ، إذ كشفت الحفريات في هذا الحصن عن وجود أواني للطهي كانت مستعملة في لحظة وقوع القضاء ، وعظام السمك ظاهرة فيها . ليس هذا فحسب ، بل أن قول الرب لأرميا " خذ حجارة وأطمرها في الملاط " ( 43 : 8 ـ 11 ) تمت أيضاًحرفيا ً، إذ يقول السيد بتري فلندرز مكتشف هذا الطلل ، أنه عثر علي ساحة مبلطة بالقرميد ، أمام هذا القصر وأن هذه الساحة ، كانت بلاشك مخصصة لتفريغ وتحميل الأمتعة وتستيف البضائع مثل الأفنية التي توجد أمام البيوت في القري المصرية . وقد وجد فعلاً، كما يقول ، حجارة غير مهندمة تحت هذا البلاط القرميد . صحيح ليس هناك بالطبع ما يدل علي أنها الحجارة التي وضعها أرميا ، ولكن في نفس الوقت ليس هناك أيضاًما ينفيها . وعلي أية حال فإن حصن تحفيس ، قائم الآن ، متاحاًللنظر ، بعد قرون من الإنطمار تحت الرمال والوحل ، ويمكن مشاهدة البلاط أمام بيت فرعون . وأما أسلوب خراب هذا الحصن ، فتحدثنا عنه الإسطوانات الكلدانية . حيث إنتصر نبوخذنصر علي خفرع الفرعون إنتصاراًساحقاً. وترك آثاراًفي مصر تشهد بحملته هذ . وإذا علمنا أنه لم يكن هناك طريق للجيوش الكلدانية من سوريا إلي مصر ، سوي هذا الطريق ، فإننا ندرك حتمية مروره بحصن دفنة هذا.
الكتاب المقدس والأثار - شهادة الأركيولوجيا- 2
(15) الحجر الموآبي ، والعهد القديم :
في سنة 1868 م ، إكتشفت قطعة من حجر البازلت الأسود ، في مدينة ذبيان ( ديبون القديمة ـ عدد 31 : 30 ) التي خرائبها الآن علي بعد ثلاثة أميال شمالي أرتون ، علي الجانب الشرقي من الأردن . وقد عرفت قطعة الحجر هذه بإسم حجر موآب ، حيث تقع هذه الخرائب ، داخل أرض موآب القديمة ، ويبلغ طوله حوالي ثلاثة أقدام ونصف وعرضه حوالي قدمين . مكتوب عليه بالحفر كتابة واضحة ، محفوظة وسالمة للغاية ، تحوي 34 سطراًمن الكتابة الموآبية وهي قريبة جداًمن الكتابة العبرية القديمة والفينيقية . وهذا الحجر محفوظ الآن بمتحف اللوفر بباريس . وقد قام الملك ميشع إبن كموش ، ملك موآب الذي كان معاصراًلآخاب ويهوشافاط وياهو ( يهورام ) بكتابة هذا الحجر سنة 800 ق.م. ويذكر فيه الأحداث التي قام بها في سبيل تحرير بلاده من نير بني إسرائيل . وبواسطة هذا الحجر أمكننا مقارنة أحداث حوالي ألفين سنة ، كما كتبها صانعيها أنفسهم . والعجيب أنه ما من سطر في هذا الحجر إلا ويفيدنا من جهة جغرافية التوراة أو تاريخها ، وتوضيح وتفسير الكثير مما أبهم علينا فهمه من التوراة . لقد كتب ميشع ملك موآب هذا الحجر ليكون تذكاراًلنجاحه الباهر في طرح نير بيت عمري عن رقبة موآب للإفتخار علي يهوه وشعبه ، ولكي يعظم نفسه وآلهته الوثنية . ولكن هذا الحجر نفسه ، الذي إنطمر ثلاثين قرناًتقريباً، وظهر ، صار شهادة غير متوقعة وغير متعمدة للحق الإلهي ، والوحي المقدس ، وللرد علي إعتراضات الكافرين ، وأعداء الكتاب المقدس .. ألم يقل يوسف الصديق "أنتم قصدتم لي شراً، والله قصد به خيراً" ( تك 50 : 20 ) فهذا الذي أراد به الوثنيون إلحاق الخزي والعار بشعب الله ، يستخدمه الله كشهادة إثبات جليلة ، برهاناًعلي صحة ودقة الكتاب المقدس ، ضد " عقلانية " ذوي الإرادة الرافضة . فمثلاً:
أ ـ المزمور 119 ينقسم إلي فصول ، كل منها معنون بحرف من حروف الأبجدية العبرانية . ويبتدأ به كل بيت شعر من هذا الفصل . وعدد هذه الفصول 22 كعدد الأبجدية العبرانية . هنا قام أحد أعداء الكتاب المقدس وطعن في صحة هذا التقسيم ، وقال إن عدد هذه الحروف المستعملة في هذا المزمور ، وكيفية التقسيم هذه ، لم تكن مستعملة في زمن كتابة الوحي الإلهي ، مما يعني أن هذا الجزء كتب في زمن متأخر . أي أن يقول بأسلوب خبيث أن الكتاب المقدس ، كتاب كاذب موضع من قبل البشر وليس من الله ؟ ولأن هذا اللبيب وضع نفسه ناقداًلكلام الله المكتوب وجعل " عقله " أسمي من الوحي الإلهي وعصمة الكتبة الأطهار ، فقد إستحق أن يرد عليه لا البشر ، ولكن الحجر الجماد . فيقدم هذا الحجر المكتوب قبل ميلاد هذا اللبيب بقرون مديدة ، دليلاًعلي وجود الإثنين وعشرون حرفاًللأبجدية العبراينة في عصر سابق لزمن كتابة هذا المزمور .
ب ـ وفي الكتاب المقدس يرد الخبر التالي " وكان ميشع ملك موآب صاحب مواشي ، فأدي لملك إسرائيل مئة ألف خروف ومئة ألف كبش بصوفها . وعند موت آخاب عصي ملك موآب علي ملك إسرائيل " ( 2 مل 3 : 4 ، 5 ) . وفعلاًتبدأ الكتابة المنقوشة بالحفر علي هذا الحجر ، بالقول " أنا ميشع إبن كموش جاد ، ملك موآب . إن أبي قد ملك علي موآب ثلاثين سنة وخلفته بعد وفاته . وأقمت هذا النصب إكراماًلكموش في " قرحوه " تذكار خلاص .. لأنه أنقذني من جميع الباغين عليّ وأنالني بغيتي من أعدائي ، حتي من عمري ملك إسرائيل .. وقد ضايقوا موآب أياماًكثيرة ثم خلفه إبنه وقال سوف أضايق موآب . وعلي عهدي قال كموش ، قم بنا فسأري شهوتي به وببيته وأسحق إسرائيل سحقاًأبدياً". فبمقابلة الخبرين الوارد في الكتاب المقدس والوارد في الحجر المنقوش ، يتضح لنا علي الفور ان الجزية الثقيلة التي فرضها عمري علي موآب ، وزادها آخاب ، كانت علة التمرد ، الذي بدأ يطل برأسه أيام أخاب ، ثم إنفجر أيام إبنه يورام ـ يهورام . ذلك أن بلاد موآب كانت صغيرة لا تزيد عن مقاطعة الشوف في لبنان مثلاً، ومن ثم كانت كمية المواشي الموردة لإسرائيل كجزية ، ثقيلة علي أرض صغيرة مثل هذه ، مما يدفع شعبها إلي السخط والتذمر فالتمرد . وهذا ما يتضح أيضاًمن ( 2 مل 1 : 1 ) " وعصي ملك موآب علي إسرائيل ، بعد موت آخاب " . فمن الكتاب المقدس نعرف علة التمرد ، وفي الحجر الموآبي يرد سجل نتائج وتاريخ هذا التمرد . وهكذا علي نحو عجيب يشهد الحجر الصامت للكتاب المقدس .
جـ ـ وفي هذه الحجر ، يتردد ذكر كموش ، إله موآب ، مرات كثيرة . وإذا عدنا إلي زمن موسي ، نري تمسك موآب بعبادة هذه الآلة ( عد 21 : 29 ) وإذ نزلنا إلي أزمنة متأخرة ، نري أن سليمان في كهولته بني " مرتفعه لكموش رجس الموآبيين .. " ( 1 مل 11 : 7 ) وفي ( 2 مل 23 : 13 ) نري مدي كراهية يهوه لهذه العبادة . وفي نفس الوقت نجد ميشع يمدح كوش كثيراً، في الحجر المنقوش وينسب إليه الفضل في الإنتصار ، أو عدم رضائه في حال الهزيمة . فما أعجب هذا التقابل بين الخبر في الحجر وبين رواية الكتاب المقدس .
د ـ وفي سياق الكتابة الموآبية ، ترد عبارة تقول " فإستولي عمري علي أرض ميديا ، فإحتلها " العدو ( في أيامه ) وفي أيام إبنه أربعين سنة " فإذا رجعنا إلي سفر الملوك نجد أن دولة عمري إستمرت 48 سنة وإنتهت بيورام ( 22 سنة حكم عمري + 2 سنة أخزيا بن آخاب + 12 سنة يورام ) فيكون المجموع 36 سنة ؟ فأين الفرق . هنا يبدو للوهلة الأولي تعارضاًبين التاريخ الكتابي وسجلات التاريخ الموآبي .. ولكن ما أعجب الإتفاق بين الخبرين الذي يكشف عن دقة الكتاب المقدس . ذلك أنه بعد زمري قامت حرب أهلية ، مدة أربع سنين ، قبلما تمكن عمري من الملك . فإذا أضفنا هذا إلي المجموع السابق ، يكون المجموع أربعين سنة ، المذكورة علي الحجر ، قبلما يبدأ ميشع ويورام حربهما . لاحظ أن يورام أو يهورام هو آخر أسرة عمري . وملك 18 سنة فهل هذا الإتفاق جاء عمداًبين كاتب الأسفار الإلهية والوثنيين ؟؟
هـ ـ كذلك ترد إشارة عجيبة في الحجر الموآبي تقول " أن بني جاد كانوا يقطنون أرض ( عطاروث ) منذ القدم ، فحصن ملك إسرائيل عطاروث لنفسه " فما معني هذه العبارة ؟ إذا رجعنا إلي سفر العدد ( 32 : 2 ـ 5 ) نجد أن بني جاد وبنو رأوبين قد أتوا إلي موسي النبي ، وألعازر الكاهن ورؤساء الجماعة ، وطلبوا الإستقرار في عطاروث ، وديبون ويعزيز ونمره وحشبون وغيرها من هذه المدن لأنهم أصحاب مواشي والأرض جيدة للرعي . وإستجاب موسي للبهم كما نعلم من نفس الإصحاح مقابل شروط معينة . فياللعجب ، لا نري فقط عطاروث ، المكان المذكور في الحجر الموآبي بل أيضاًديبون وأربع أو خمس مدن أخري من المدن التي ذكرت علي الحجر وهي المدن المذكورة في هبة موسي النبي منذ ثلاثة ألاف سنة مضت . وهكذا بينما أراد ميشع أن يفتخر بأمجاده . رتب الله أن يشهد إفتخاره هذا لحق الإنجيل ، والوحي الإلهي بالكتاب المقدس ، ويرد علي إفتراءات الطاعنين علي الحق الإلهي ، بشهادة صامتة أعلي صوتاًمن أي صوت يحاول التطاول علي كتابنا الأقدس .
(16) شلمناصر ، وعصر آخاب :
في سفر الملوك الأول ( 1 مل 19 : 15 ، 17 ) يرد ذكر حروب وإعتلاء ياهو بن نمشي عرش إسرائيل ، وحزائيل عرش آرام . ومن سفر الملوك الثاني نعلم أن ياهو قتل يورام بن آخاب من إيزابيل ، حوالي سنة 842 ق.م. ، وأباد كل أبناء بيت آخاب وأفراد الأسرة المالكة ، وتبوأ عرش المملكة الشمالية ( إسرائيل ) وحكم 28 سنة ( حوالي 842 ـ 814 ق.م. ) وكذلك نجد من ( 2 مل 8 : 15 ) أن حزائيل قتل بنهدد ملك آرام وخلفه في الحكم . وهكذا يحدثنا الكتاب عن ثلاثة ملوك في زمن واحد ، ياهو بن نمشي في إسرائيل ، وبنود وحزائيل في آرام ( سوريا ) . ومن الآثار الأشورية نجد أصداء هذا العصر . ففي حوالي سنة 1847 م إكتشف السير لايارد أطلال نينوي القديمة ( تل كوينجك الآن ) قبالة الموصل في العراق . وعثر في خرائب الحصن علي عمود رخام أسود إرتفاعه حوالي سبعة أقدام ، وقاعدته علي شكل مربع ضلعه قدمان . ويضيق العمود من أسفل إلي أعلي . ونصفه العلوي مزخرف في طبقات خمس ، بنقوش تصور إنعامات شلمناصر الثالث علي الولاة العديدين الذين أخضعهم لمملكته . ونصفه السفلي مغطي كله بالكتابات الكيونيفورمية الأشورية ، وهي كتابات علي شكل أسهم أو أسفين ، لذلك تعرف أيضاًبالسهمية أو الأسفينية . وتروي أخبار حكم شلمناصر الثالث ، أول ملك أشوري يصطدم ببني إسرائيل ، حيث كان محارباًعظيماً، ولقبه المؤرخون بنابليون عصره ، وحكم حوالي 860 ـ 825 ق.م. وقد ورد في الآثار الأشورية ذكر حوالي عشرين أو ثلاثين من حملاته ، ثلاث منها علي بنهدد ملك آرام ، ورابعة علي حزائيل والإسمان يلقيان بملكي سوريا في هذا العمود . وهذا العمود موجود الآن بالمتحف البريطاني . وعندما نقارن التاريخ الكتابي لعصر آخاب ، بما جاء في هذا العمود يتضح لنا مايلي :
أ ـ ورد أسماء بنهدد وحزائيل كشخصيات تاريخية معاصرة وتلقيبهما بملوك دمشق أو آرام . والإسمان واردان في الكتاب المقدس .
ب ـ وفضلاًعن ذلك يظهر ياهو بن نمشي ، ملك إسرائيل في إحدي الصور المنقوشة علي العمود منحنياًعلي الأرض ، متذللاًأمام شلمناصر ، بينما تقدم حاشيته التقدمات المختلفة ، علامة الخضوع للملك الأشوري . وإسم ياهو يرد بوضوح في هذا العمود ، فضلاًعن الهيئة والزي العبراني الواضح في الرسم .
جـ ـ وترد عبارة ذات قيمة عظيمة ، عرضاًفي هذا العمود . وهي ذكر السامرة ( التي كانت عاصمة مملكة إسرائيل ) بلقب ( بيت عمري ) ومن ( 1 مل 16 : 23 ، 24 ) نعلم أن عمري قد إشتري هذه المدينة وجعلها عاصمة لمملكته ودعاها " شامر " بإسم صاحب المكان الذي إشتراه منه .
د ـ كما تلقب الأطلال الأشورية ، أخاب بلقب يزرعيل ، فتدعوه " أخاب يزرعيل " وقد نعجب لهذا الوصف ، لكن من سفر الملوك الأول ، نعلم أيضاًأن آخاب في آخر أيامه ، أقام منزلاًملكياًفي الحقل الذي إغتصبه من يزرعيل وهكذا علي نحو عجيب تلمح الأخبار الآشورية إلي أحداث الكتاب المقدس .
هـ ـ ومن سفر الملوك نعلم أن آخاب إنشغل بحروب متتالية مع بنهدد ملك دمشق ( 1 مل 20 : 1 ) ومع ذلك يظهره أحد الأطلال الآشورية ، كحليف لبنهدد ضد آشور . فكيف هذا ؟ لو قرأنا الكتاب المقدس بتمعن . نري هذا التقرير العجيب " وأقاموا ثلاث سنين بدون حرب بين آرام وإسرائيل " ( 1 مل 22 : 1 ) . أي بين بنهدد وآخاب . وهنا يتضح الأمر تلقائياًفأمام الخطر الأكبر المشترك ، تحالف خصمان سياسيان معاًللتصدي له . ويتضح هذا بجلاء عندما نتأمل
(1 مل 20 : 29 ـ 34 ) حيث يعقد آخاب مع بنهدد معاهدة صلح بشروط ميسرة جداً؟ وبالطبع هذا لأغراض سياسية . وهكذا كلما " نفتش الكتب " المقدسة ظهر لنا مدي الدقة والعظمة فيها .
(17) آحاز وتغلث فلاسر :
لنأخذ مثلاًآخر من تاريخ بني إسرائيل . فبعد أن أخضع شلمناصر مملكة إسرائيل ، وصار ياهو عبداًله ، أكمل حملاته علي مملكة سوريا المجاورة كما يظهر من البيان المذكور علي طلله . وبدأت شوكة آشور تتزايد في المنطقة . وجاء الملك الآشوري تغلث فلاسر ، الذي تصفه الآثار الآشورية بأنه كان أكثر حروباًمن الملوك الآشوريين الذين أتوا بعده . وأرتقي العرش حوالي سنة 745 ق.م. ، وإمتدت حملاته وإنتصاراته من تلال سوريا حتي حدود مصر ، ووصلت إلي شطوط الهند . ويقال أن إسمه الأصلي هو فول ، كما ورد أيضاًفي الكتاب المقدس ، ولكن عندما إرتقي إلي العرش إختار إسم سلف شهير له ، كان قبله بأربعة قرون . وقد وصلتنا تواريخ حياته ، علي عدة ألواح حجرية من قصره الملكي الذي إكتشف في حلح ، التي كانت بلداًفي نينوي ، ومنها نجد مايلي :
أ ـ ألزم " عزرياهو " أي ( عزريا أو عزيا ) ملك يهوذا أن يؤدي له الجزية لأنه إتحد مع مملكة حماة . وبعد سنتين من بداية تاريخه ، نجده قابضاًعلي زمرة من الأمراء الذين صاروا خاضعين له وملزمين بدفع الجزية يأتي بينهم إسم منحيم ملك إسرائيل ( أنظر 2 مل 15 : 19 ، 20 ) .
ب ـ وتحدثنا أسفار الملوك وأخبار الأيام ، عن غزوات هذا الملك في الجليل الشرقي والغربي . وتواريخه التي وصلتنا تزودنا بالبيانات الوافية عن هذه الغزوات ، وتوضح مدي دقة العهد القديم . فتتحدث الألواح الآشورية عن إخضاعه للسامرة ، ودفع ملك إسرائيل له عشر وزنات من الذهب وألف وزنة من الفضة . وعن إستيلائه علي جلعاد وآبل ( بيت معكه ) وأقال شرق أرض بيت عمري ( أي السامرة كما رأينا سابقاً) . ثم تحدثنا الألواح الآشورية عن تدمير تغلث فلاسر للقوات المتحالفة مع فقح ملك إسرائيل ورصين ملك ودمشق وأسره لهم ، وإستيلائه علي السامرة . ويفتخر في ألواحه بأنه هو الذي ذبح " فقح " وعين هوشع بدلاًمنه وهنا نلاحظ أن الخبر الكتابي ينسب قتل فقح إلي هوشع ( 2 مل 15 : 30 ) ولكن الخبر الوارد في الألواح الآشورية يسهل فهمنا للعبارتين . فهوشع كان بلاشك صنيعة لتغلث فلاسر ، وتابعاًله ، أي كما يقولون في عالم السياسة اليوم " من رجاله " وبالتالي يعتبر فلاسر ، مصدر العمل والفاعل الأصلي للقتل ، وحق له أن ينسب القتل إلي نفسه ، مثلما تنسب بناء المدينة إلي الملك الذي أمر بذلك ، بينما يقوم العمال والأجراء بالبناء الفعلي .
جـ ـ كما تحدثنا الألواح الآشورية عن سقوط دمشق حوالي سنة 732 ق.م. ، وقطع رأس رصين وأسر الآلاف .
د ـ ثم نجد آحاز ملك يهوذا ، ضمن الخاضعين لآشور في غزوة لاحقة . وهذا ما سجلته الألواح الآشورية الحجرية المكتشفة ، والتي يرجع تاريخها إلي حوالي سبعة قرون ونصف قبل الميلاد . وهذا يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس من أحداث ، وردت في عبارات موجزة . ففي ( 2 مل 16 : 10 ) نجد العبارة المختصرة " سار الملك آحاز للقاء تغلث فلاسر ملك آشور إلي دمشق " وفي الأطلال الآشورية ، نجد آحاز واحداًمن الأمراء الخاضعين لجزية آشور ، ويرد إسمه بين هؤلاء الذين زينوا نادي الملك المنتصر في دمشق . وتلتقي مصادر التاريخ الآشوري ، مع العبارة الكتابية الموجزة ، دون قصد سابق أو مشترك بينهما ، ومع إستقلال كل من المصدرين إستقلالاًتاماً، لتوضح دقة الأخبار الكتابية . لقد رفض آحاز ملك يهوذا أن يصغي إلي وعد " يهوه " الرب له ، علي لسان أشعياء النبي ( 7 : 11 ، 14 ) بأن لا يخاف من رصين أرام ، وإبن رمليا ( أش 7 : 4 ـ 8 ) وطلب العون من آشور ضد دمشق والسامرة . وضرب بكلام الرب علي لسان أشعياء عرض الحائط . لبس هذا فحسب ، بل أعجبه شكل مذبح وثني في دمشق ، فأمر أحد الكهنة الممتثلين له ، بعمل مذبح مثله ، ورفع المذبح النحاسي من بيت الرب ووضع هذا المذبح عوضاًعنه ، وأقام عليه الذبائح لآلهة دمشق ، لأنها تساعده ( 2 أي 28 : 23 ) ؟؟ أنظر ( 2 مل 16 : 10 ـ 12 ) . ويضيف الكتاب المقدس قائلاً
" وفي ضيقه ( أي حتي في وقت الخطر القادم عليه ، عوضاًعن أن يلجأ إلي الله ) ، زاد خيانة بالرب " ( 2 أي 28 : 22 ) . لذلك إستحق هذا الملك أن يسقط كاتب حياته في سفر الملوك إسم " يهوه " من إسم ( يهو آحاز ) ويكتب إسم آحاز فقط ، حتي لا يتدنس إسم الله العظيم بشر هذا الملك ، الذي حاد عن طريق الرب وإلتصق بالوثنية ، وإعتمد علي آلهة دمشق لتساعده ؟؟ ولهذا سجل الكتاب المقدس بوضوح أن سبب سقوط هذا الملك وسقوط إسرائيل معه كان "خيانته للرب" ( 2 أي 28 : 23 ) . ويرد إسمه في الآثار الآشورية بالكامل ( يهو آحاز ) . وهكذا تردد أطلال آشور الحجرية أصداء الحق الإلهي في الأسفار الكتابية ، التي يحاول أعداء المسيح تشكيك المؤمنين فيها .