سلام المسيح وأسعد الله مساء الأحباء جميعا:
(معذرة للتأخير. أيضا جاءت الرسالة أطول كثيرا مما تتوقعت فمعذرة للإطالة).
أقـول:
غير أن المسلم بالذات لا عذر له، لأن القرآن يقول صراحة إن
المسيح كلمة الله، فهل كلمة الله مخلوقة أم أزليّة؟ هل القرآن نفسه مخلوق أم أزليّ؟ هل هذه "
الصفات الإلهية" عموما هي عين الذات، كما قال بعضهم، أم هي غير الذات، كما قال البعض الآخر؟
إن السؤال الذي أجابه اللاهوت المسيحي هو في الحقيقة نفس السؤال الذي غرق فيه اللاهوت الإسلامي بعد ذلك: إذا كانت الأقانيم ـ مبدئيا ـ هي "صفات الله الذاتية" فما هي العلاقة بين
ذات الله وصفاته لدى أدعياء "
التوحيد المطلق"؟ هل الصفات هي
عين الذات، أم
غير الذات؟ هل "علم الله" مثلا ـ أو قدرته، أو كلامه ـ هو ذات الله، أم غيرها؟
لا أريد النقد أو حتى مجرد الاقتراب من الإسلام فهذا بالتأكيد ليس حديثنا، ولكن نحتاج أن نتأمل مثالا سريعا، كل غايتي من ورائه ـ
يشهد الله ـ هي فقط أن يتبين لنا جميعا أهمية هذه القضية التي نحن بصددها:
إن المسيح "
كلمة" الله، والكلام "
صفة" الله، فإذا اتفقنا على هذا فالسؤال هو:
هل كلام الله أزليّ أم مخلوق؟
إذا قلت "أزليّ": فلماذا تنكر إذاً مذهب "النصارى" في أزلية المسيح، وهو كلمة الله؟ علاوة على هذا: أصبحت بقولك هذا من "المشبّهة"، لأنك جعلت الله يتكلم كما يتكلم خلقه! أهم من كل ذلك: إذا كان "الكلام" الإلهي أزليّ كما تقول، و"المتكلم" الإلهي أزليّ قطعا، أصبح لديك "
أزليّان" اثنان!
فهل هذا هو "التوحيد المطلق"؟!
وإذا قلت "مخلوق": أصبحتَ بالعكس من "المعطّلة" الذين ينفون أو "يعطلون" الصفات الإلهية! قولك هذا معناه أن الله كان ولم يكن متكلما ـ أي حتى خُلق الكلام! بالمثل: كان الله ولم يكن سميعا، أو بصيرا! كان الله ولم يكن قديرا! وهكذا!
فهل هذا هو "التوحيد المطلق"؟!
قصارى القول: إن دعوى "التوحيد المطلق" ـ هكذا دون تفصيل وتحقيق ـ مجرد وهم كبير! محض أكذوبة يصدقها العامة ويرددها الجهّال دون علم حتى بقضايا اللاهوت الإسلامي نفسه أو بأزماته الكبرى وصراعاته المريرة، ولو كان لديهم أي علم ما تشدقوا بها! هل يعرف هؤلاء أن هذه "الصفات" جعلتهم يصلون أحيانا حد الأعاجيب والألغاز في مذاهبهم، كما نرى مثلا في قول الماتريدية حين أدلوا بدلوهم: «
صفات الله لا هي ولا هو ولا غيره»!! فما هو الأصعب حقا على الفهم، يرحمك الله: الثالوث المسيحي، أم هذه "الأحجية" الماتريدية؟!
(من هنا كنت أقول: بل نحن الذين أعيانا الإسلام في فهمه يا أستاذ ياسر)!
بكل حال أربأ بك يا صاحبي ـ صدقا ـ أن تكون من هؤلاء!
***
نقول: كان سؤال الصفات الإلهية هو السؤال المسيحي أيضا، مع الفارق أن الكنيسة كانت آنذاك في مواجهة بالأحرى مع
حضارة حقيقية: مع عمالقة الفكر والحكمة وأساطين الفلسفات اليونانية واليهودية، وما أدراك ما الفلسفات اليونانية واليهودية! آنذاك كان السؤال عن "
اللوجوس" تحديدا: هذا "العقل الإلهي الخالق" الذي قال به هيراقليطس، ثم أفلاطون، ثم زينون والرواقيون عموما، ثم العشرات غيرهم ـ كل ذلك
قبل ميلاد المسيح نفسه بـ 500 عام كاملة! اللوجوس الذي انتشر خلال هذه القرون الخمسة شرقا وغربا حتى وصل إلى اليهود أنفسهم، وهكذا وجدناهم يذكرونه صراحة حتى في "
الترجمة السبعينية" الشهيرة لأسفارهم المقدسة! اللوجوس الذي وصل أخيرا إلى فيلو السكندري، الفيلسوف اليهودي الكبير، فراح يغزل حوله مذهبا وفلسفة كاملة! اللوجوس الذي صار آنذاك ـ بعبارة واحدة ـ محور الفكر وحديث الثقافة وسؤال الناس كلها، المتعلمين منهم على الأقل وطلاب الحكمة والمعرفة!
وتوالت الأسئلة: هل هذا "العقل الإلهي الخالق" الذي يتحدث عنه الشيوخ الحكماء والفلاسفة المعلمون وأصحاب الأسرار والرؤى كلهم: هل هو الله؟ هل إله مع الله؟ هل إله أم "وسيط" دون الإله وفوق البشر؟ هل أزليّ أم مخلوق؟ هل مخلوق أم جاء فيضا إلهيا؟ هل وهل وهل...
فهكذا كان "السياق التاريخي" يا صديقي، باختصار، وهكذا كان "المشهد الثقافي" كله في ذلك العصر. وهكذا أيضا نرى كيف ارتقى "وعي" الإنسان وكيف نما وتطور وأثمر حتى بلغ ذروة هي لا شك أعلى ذراه في التاريخ كله. ذلك ما يعنيه "
ملء الزمان": الموعد المخبوء في رحم الأيام منذ الأزل، تباشير الفجر التي سبقت ميلاد الشمس أخيرا!
وفقط في هذا السياق نستطيع أخيرا فهم الثالوث بشكل أفضل: إن إصرار المسيحية على الثالوث كان في الحقيقة دفاعا عن التوحيد وإثباتا له! إصرار الآباء على "
المساواة" الكاملة مثلا بين
الواحد (الآب)
والخالق (اللوجوس)، أو على أن الابن "
مولود أزليا" من الآب: كان هذا نفسه دفاعا عن وحدانية الله في وجه دعاوى كانت تنتشر أنذاك كالنار في الهشيم زاعمة ـ مثلا ـ أن "الخالق"
أدني منزلة من "الواحد"، كائن "
وسيط" دون الله وفوق البشر! أو أن اللوجوس جاء عبر "
إشراق" أو "
فيض" أول ـ من بين فيوضات إلهية عديدة متتابعة ـ فاض بها الواحد في علاه!
الأدهى من ذلك أن بعض هذه الدعاوى كانت تزعم "المسيحية" وكانت تستند ـ سواء بسواء مع الكنيسة ـ إلى سلطة الكتب وأقوال المسيح وشهادات الرسل!
فالموضوع كما ذكرنا طويل يحتاج منك دراسة حقيقية مخلصة (ما دمت تريد فهما عقليا)، ولكن تلك على أي حال كانت بعض أسئلة اللحظة، في سياقها التاريخي، وقد رأينا كيف بدأ الرسل الأطهار ثم الآباء القديسون بالرد والإجابة على كل هذه الأسئلة، حسب الإلهام الإلهي، حسب وحي الكتاب بعهديه، وحسب ما أعلن أولا السيد المسيح ذاته عن ذاته!
***
أما وقد أثبتنا وأكدنا أن الله واحد لا شريك له، نختم الآن بخطوة أخرى نحو الأعماق قليلا:
ما هو معنى أن الله قدم لنا "
إعلانا جديدا" عن ذاته؟ معناه ببساطة أن "معرفتنا" عن الله اتسعت، أو زادت، لكنها مع ذلك لم
تتغير أو
تتبدل أو
تتناقض مع معرفتنا الأولى عنه سبحانه ـ مادام هو هو نفس الإله الواحد الذي يعلن عن ذاته.
وعليه: الله الواحد كان ولا زال
واحدا. أما إذا أعلن هذا الواحد عن ذاته في لحظة ما وأخبر أنه "
الابن": فقط عندئذ عرفنا أن هناك "
آب"! الآب نفسه ظهر ـ إلى وعينا ـ بدلالة الابن، لأنه "ابن". ولكن بما أن الله واحد، حسب إعلانه الأول، وبما أن إعلانات الله لا تتناقض،
عرفنا قطعيا أن الآب والابن ـ رغم تمايزهما ـ إله واحد!
مشكلتنا بالتالي مع الثالوث ـ
كل مشكلتنا ـ هي فقط أن "
نعقل" كيف يكون واحدا رغم أنه "يتمايز" كأب وابن (وروح)!
بعبارة أخرى: إيماننا أن "الآب والابن والروح القدس إله واحد" لا
يتوقف على قدرتنا نحن على فهم ذلك بعقولنا! بل أكثر من هذا: إيماننا لا
يستلزم أن نفهم ذلك أولا بعقولنا! فهم الثالوث ليس "
شرطا" لإيماننا وإنما العكس بالأحرى هو الصحيح: إيماننا بالثالوث هو ما يساعد على فهمه فهما حقيقيا ـ كلٌ بالطبع حسب صفاء ذهنه وإخلاص طلبه ونعمة الله معه. (ذلك بافتراض أن "فهم" الثالوث أو فهم الله مستطاع أصلا، بالمعنى التقليدي لكلمة "فهم")!
وعليه: ما دامت مشكلتنا حقا هي فقط "
فهمنا" نحن أو "
عقلـنـتــنا" نحن للأمر، أصبح ردّ الأمر كله أو إنكاره بالجملة ضربا من
الحمق! أصبحنا كمن يرفض مثلا دعوة مجانية لقضاء أحلى الليالي في باريس، عاصمة النور والجمال، فقط لأنه لا "
يفهم" الفرنسية! أو حتى كالتائه يكاد يموت في الصحراء جوعا وعطشا، ثم حين يجد فجأة سلة طعام طازج شهي يرفض أن يأكل قبل أن "
يفهم" أولا كيف جاءت هذه السلة هنا!
أكتفي على أي حال بهذا القدر، على أن أعود إليك بعد قليل برسالة قصيرة ربما تكون الأخيرة لبعض الوقت، لكنها في تقديري
أهـم ما كتبت حتى هذه اللحظة!