- إنضم
- 1 نوفمبر 2005
- المشاركات
- 541
- مستوى التفاعل
- 12
- النقاط
- 0
أسلمة الأقباط .. و مسئولية الكنيسة
أسلمة الأقباط .. و مسئولية الكنيسة
نبيل عبد الملك *
مقدمة تاريخية
قد يظن البعض أن موضوع أسلمة الأقباط هو موضوع جديد بدأ، فى السنوات القليلة الماضية، مع إنتشار الجماعات الإسلامية التى تتحرش بالأقباط، مستخدمة فى ذلك طُرق عدة، سواء منها الإغراء أو الضغط، أو الخطف. ولكن الواقع أن حركة الأسلمة Islamization كانت قد بدأت بعد غزو العرب لمصر، فى القرن السابع،(1) وأخذت تزداد عبر السنين، إلى أن أدت إلى تحول الأقباط (المصريين) من أغلبية قومية مسيحية مطلقة إلى أقلية دينية محاصرة ومهددة، فى القرن الثانى عشر(2).
وتاريخ أسلمة الأقباط تاريخ مأسوى ومتواصل، شاركتهم فيه شعوب مسيحية أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، وكثيرا ما صاحبه العنف الجماعى على يد بعض الحكام وجموع المسلمين من الغوغاء. وتعتبر فترتا القرن التاسع والقرن الثانى عشر، بالنسبة للأقباط، من أحلك الفترات إذ خسرت فيها الكنيسة، آلاف من أبناءها، وقرى بأكملها، بل وخسرت مصر ذاتها جزء من روحها وشخصيتها.
وكانت الأسلمة الجماعية فى القرن التاسع نتيجة شن الحرب على ثوار الأقباط فى مناطق شمال الدلتا المعروفة بالبشمور، أيام الدولة العباسية، وذلك بعد أن نكل الحكام المسلمين بالثوار وكل سكان تلك المناطق. أما فى القرن الثانى عشر، فقد حدثت الأسلمة الجماعية أيام حكم المماليك المضطرب، فكان الضغط بإزدياد جباية الجزية لدرجة أدت إلى ترك المزارعين أراضيهم، مع إنتشار المذابح ضدهم وهدم الكنائس ونهب الممتلكات.
على أن الأسلمة لم تكن مرتبطة فقط بفترات الإضطراب السياسي/الإجتماعي، إنما كانت - كما قلت - موجودة منذ إستقر الغزاة العرب مصر، إذ قامت على مبدأ ونظام دينى إسلامى فقهى/ قانونى، يعرف بنظام "الذمـة" zemma. ولقد وردت هذه الكلمة فى كل من القرآن والحديث بمعنى العهد أو الأمان، كما كانت معروفة قبل الإسلام، وكانت تشير آنذاك إلى الحماية التى تسبغها القبيلة على الشخص الذى لم يكن يرتبط بها برابطة الدم. والجدير بالذكر أنه عندما حاول المسلمون الأوائل فرض الجزية على الغساسنة، وهم مسيحيون عرب، فى مقابل "الذمة" أى الحماية، إحتج الغساسنة ورفضوا باعتبارهم عربا، ووافق المسلمون على إعفاءهم من الجزية. ولكن لم يدم هذا الوضع، إذ تغير فيما بعد، عندما قويت شوكة المسلمين.
وهكذا، فبتحول الجماعة المسلمة من مجرد جماعة دينية عربية إلى إمبراطورية مترامية الإطراف، إستلزم الأمر من الفقهاء (أي رجال القانون الإسلامي بلغة عصرنا) صياغة قوانين وإقامة مؤسسات، ومنها نظام "الذمـة". وتتخلص بنود هذا النظام فى منع غير المسلمين (الخاضعين للغزو والإستيطان العربي الإسلامى) من حمل السلاح او الإشتراك فى المعارك التى خاضتها الجيوش الإسلامية، وذلك فى مقابل دفع الجزية (ضريبة الرأس) والخضوع لشروط تمييزية أخرى (إجتماعية وإقتصادية) مثل حرمانهم من الوظائف العامة والهامة، والتضييق عليهم فى ممارسة شعائرهم، ومنعهم من التبشير بالمسيحية. هذا بالإضافة إلى زواج المسلمين من مسيحيات، ومنع المسيحيين من الزواج من مسلمات، مع إستخدام كل الوسائل لتحقير وإزدراء المسيحية. ولم تقصر تلك المعاملة على المسيحيين فقط أنما شملت أتباع الأديان الكتابية الأخرى.
والجدير بالذكر أن نظام الذمة، فى بدايته، لم يكن يسعى إلى أسلمة أهل البلاد، وخصوصا أنهم كانوا مصدر مالى أساسي لخزانة الدولة، ولدعم الجيوش الإسلامية التى أمتدت عملياتها الحربية عبر الشرق الأوسط كله، ولكن شره الحكام وإزدياد تعصب الفقهاء، فيما بعد، وتفكك الإمبراطورية وإنتشار الإضطرابات الإجتماعية، شدد من تنفيذ هذه السياسة، وخصوصا بعد أن كُمل تنظّيرها من منطلق دينى، فأصبح من أول أهدافها المعلنة أسلمة أتباع الأديان الأخرى، وهذا ما سجله الفقهاء بوضوح. يقول الفقيه إبن قيم الجوزية (1292 – 1350 م):
"بفرض الجزية على أهل الكتاب (النصارى واليهود) تتحقق مصلحة مزدوجة. فمن جانب، يجنى المسلمون المال وهو مهم لدعم الإسلام وإخضاع وإهانة الكفار. أما الجانب الآخر، فهو فائدة للمشركين، تتحقق بتحولهم إلى الإسلام. وهذا أمر مُفضل لدى الله أكثر من قتلهم."(3)
الواقع الحالـى
وقد يقول قائل: هذا تاريخ وانتهى!! على أن الواقع المعاش اليوم يبين - للأسف الشديد - انه لايختلف من جهة الفكر عن ذلك الماضى المزري إلا فى إختلاف حدة حركة الأسلمة تاريخيا. كما أن فتح كتب التاريخ ودراسته، هو أمر هام، إذ يلقى الضوء على جذور المشكلة حتى نستطيع التعامل معها اليوم. فعوامل أسلمة الأقباط اليوم تكاد تكون نفس العوامل التى كانت موجودة فى نظام "الذمة". فالخط الهمايونى، الشهير والسئ السمعة – فى آن - وقيوده وملحقاته المعروفة بشروط العزبى باشا، أحد وكلاء وزارة الداخلية المصرية فى منتصف الثلاثينات من القرن الماضى، تبدو بمثابة صيغة حديثة من الوثيقة المسماة بالعهد العمري (لنسبة لعمر بن الخطاب) ولكنها أكثر ظلماً. والمعروف أن هذه الشروط المجحفة لا تزال السلطات المصرية - بدءا من أكبر رأس فى الدولة إلى الخفير .. ثم الجار المتربص - تقوم بتنفيذها عنوة كلما حاول الأقباط ترميم سور كنيسة أو إصلاح دورة مياة!!
وإذا كان نظام الذمة بكل مظالمه قد طُبق على الأقباط فى الماضي، تحت دعاوى دينية فى ظل نظام سياسى دينى إمبريالى، لا يختلف عن أى نظام عنصرى حديث، فمحاولات إعادة تطبيقة على أقباط اليوم أمر لايمكن قبوله بأى شكل، لأنه يتعارض تماما مع القوانين الإنسانية، ويمثل إنتهاكها صارخاً لمفهوم الحرية والكرامة الإنسانية.
وتوصي عدة مواثيق صادرة عن الأمم المتحدة بحماية الأقليات، فتنص المادة 1 من الإعلان بشأن الأفراد المنتمين إلى أقليات على أن تقوم الدول "كل فى إقليمها بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية، واللغوية، وتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية." أما المادة 2 من نفس الإعلان فتنص على أن "يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية الحق فى التمتع بثقافتهم الخاصة وإعلان دينهم الخاص، وإستخدام لغتهم الخاصة، سرا وعلانية، وذلك بحرية دون تدخل أو أى شكل من أشكال التمييز."
أضف إلى ذلك فمحاولات أسلمة بعض الأقباط، من خلال الضغوط المادية كتوفير فرص العمل، أو التغرير بالقُصّر، لها أبعاد لا أخلاقية، تنبئ عن تآكل فى منظومة التقاليد المجتمعية المصرية، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى تهديد السلام الإجتماعي، وهذا ماحدث أكثر من مرة فى مصر عبر العقود الثلاثة الأخيرة، ونتجت عنه خسائر فى الأرواح والممتلكات، وكما رأيناه فى أحداث الأسابيع الأولى من شهر ديسمبر. وهذا يؤكد أن مسألة إنتهاك حرية العقيدة وعرقلة ممارستها، هى الشاحن والمفجر، للغضب الشعبى، فى المجتمعات التى حرمت فيها الشعوب من مزاولة حقوقها السياسية .. أهم حقوق المواطن قاطبة، فبغير الحقوق السياسية تنتهك بقية الحقوق، ويصعب حمايتها. وهذا ما هو حادث للأقباط على مدى عقود!!
كما يجب لفت النظر إلى أن مسألة تغيير الدين فى معظم الحالات التى تمس الأقباط لها أبعاد أخرى جنائية تُجرم قانونا، إذ أن عنصر الإكراه، وتواطؤ رجال الإدارة المحلية، مستخدم فيها، بينما هناك حالات أخرى تم تغيير الدين فيها بإستخدام وسائط أوممارسات تمييزية ضد أفراد من الأقلية القبطية، وهو أمر يؤدى إلى إضعافها. وكل هذه الممارسات تجرمها القوانين الدولية.
وهذا ما تنص عليه إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فى المادة 2 حيث "... تعيّن الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلى أو الجزئى لجماعة قومية أو إثنية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أفراد الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدى أو روحي خطير بأعضاء الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادة كليا أو جزئيا، (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، (هـ) نقل أطفال من الجماعة عنوة، إلى جماعة أخرى.
مسئولية الكنيسة
فيما يتعلق بمسألة الأسلمة، أرى أن أمام الكنيسة مسئولية روحية إجتماعية، وقائية أكثر منها علاجية، وأن الأوضاع الحالية أصبحت تتطلب رؤية جديدة ثاقبة، وموقف عملى، للحد من هذه الظاهرة، إن لم يكن أيقافها! نعم لا جدال – كما هو معروف – أن هناك ضغوطا تمارسها الدولة – من خلال قوانين وممارسات – وبعض المتطرفين من المسئولين والمنتمين إلى الجماعات الإسلامية المتشددة، فالأحداث مسجلة وملفاتها تتزايد، والشكوى مستمرة، ولا حياة لمن تنادى!
هذه حقيقة يعلنها الفاعلون قبل غيرهم، فهم يعتقدون أنها تكليف دينى. وربما تستمر تلك الضغوط لفترة، قد تطول أو تقصر، طالما أن مثل هذا الفكر موجود، وهذه السياسة قائمة! فماذا ينبغى على الكنيسة أن تعمل لحماية الرعية؟
أتكلم الآن كمسيحى، شاهداً لإيمانى العامل للتعايش وإحترام الآخر، ساعيا للسلام القائم على الحرية. ومن هذا المنطلق، طارحاً بعض التساؤلات، معبراً عن محبتى للجماعة، وخوفى على مصير وطنى فى آن معاً.
فى عام 1936 رفع الأب الموقر القمص مرقس سرجيوس تقريرا لقداسة البابا وللمجلس الملى العام آنذاك، ذاكراً بعض أسباب تحول الأقباط إلى الإسلام(4)، مؤكدا على خطورة الظاهرة، ومحذراً من عواقب إستمرارها. وكان من بين أهم تلك الأسباب "الإضطهاد الصريح الذى يتعرض له السكان الأقباط بالقرى، وهو ما يجعل القبطى يشعر بأن حياته وممتلكاته وكرامته مهددة. وفى ظل إنتهاك حقوقه الإنسانية، وعدم إستقراره، وضعف إيمانه المسيحى، لا يجد مفرا أمامه إلا بالإنضمام إلى الأغلبية للمحافظة على حياته وممتلكاته وكرامته".
أسلمة الأقباط .. و مسئولية الكنيسة
نبيل عبد الملك *
مقدمة تاريخية
قد يظن البعض أن موضوع أسلمة الأقباط هو موضوع جديد بدأ، فى السنوات القليلة الماضية، مع إنتشار الجماعات الإسلامية التى تتحرش بالأقباط، مستخدمة فى ذلك طُرق عدة، سواء منها الإغراء أو الضغط، أو الخطف. ولكن الواقع أن حركة الأسلمة Islamization كانت قد بدأت بعد غزو العرب لمصر، فى القرن السابع،(1) وأخذت تزداد عبر السنين، إلى أن أدت إلى تحول الأقباط (المصريين) من أغلبية قومية مسيحية مطلقة إلى أقلية دينية محاصرة ومهددة، فى القرن الثانى عشر(2).
وتاريخ أسلمة الأقباط تاريخ مأسوى ومتواصل، شاركتهم فيه شعوب مسيحية أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، وكثيرا ما صاحبه العنف الجماعى على يد بعض الحكام وجموع المسلمين من الغوغاء. وتعتبر فترتا القرن التاسع والقرن الثانى عشر، بالنسبة للأقباط، من أحلك الفترات إذ خسرت فيها الكنيسة، آلاف من أبناءها، وقرى بأكملها، بل وخسرت مصر ذاتها جزء من روحها وشخصيتها.
وكانت الأسلمة الجماعية فى القرن التاسع نتيجة شن الحرب على ثوار الأقباط فى مناطق شمال الدلتا المعروفة بالبشمور، أيام الدولة العباسية، وذلك بعد أن نكل الحكام المسلمين بالثوار وكل سكان تلك المناطق. أما فى القرن الثانى عشر، فقد حدثت الأسلمة الجماعية أيام حكم المماليك المضطرب، فكان الضغط بإزدياد جباية الجزية لدرجة أدت إلى ترك المزارعين أراضيهم، مع إنتشار المذابح ضدهم وهدم الكنائس ونهب الممتلكات.
على أن الأسلمة لم تكن مرتبطة فقط بفترات الإضطراب السياسي/الإجتماعي، إنما كانت - كما قلت - موجودة منذ إستقر الغزاة العرب مصر، إذ قامت على مبدأ ونظام دينى إسلامى فقهى/ قانونى، يعرف بنظام "الذمـة" zemma. ولقد وردت هذه الكلمة فى كل من القرآن والحديث بمعنى العهد أو الأمان، كما كانت معروفة قبل الإسلام، وكانت تشير آنذاك إلى الحماية التى تسبغها القبيلة على الشخص الذى لم يكن يرتبط بها برابطة الدم. والجدير بالذكر أنه عندما حاول المسلمون الأوائل فرض الجزية على الغساسنة، وهم مسيحيون عرب، فى مقابل "الذمة" أى الحماية، إحتج الغساسنة ورفضوا باعتبارهم عربا، ووافق المسلمون على إعفاءهم من الجزية. ولكن لم يدم هذا الوضع، إذ تغير فيما بعد، عندما قويت شوكة المسلمين.
وهكذا، فبتحول الجماعة المسلمة من مجرد جماعة دينية عربية إلى إمبراطورية مترامية الإطراف، إستلزم الأمر من الفقهاء (أي رجال القانون الإسلامي بلغة عصرنا) صياغة قوانين وإقامة مؤسسات، ومنها نظام "الذمـة". وتتخلص بنود هذا النظام فى منع غير المسلمين (الخاضعين للغزو والإستيطان العربي الإسلامى) من حمل السلاح او الإشتراك فى المعارك التى خاضتها الجيوش الإسلامية، وذلك فى مقابل دفع الجزية (ضريبة الرأس) والخضوع لشروط تمييزية أخرى (إجتماعية وإقتصادية) مثل حرمانهم من الوظائف العامة والهامة، والتضييق عليهم فى ممارسة شعائرهم، ومنعهم من التبشير بالمسيحية. هذا بالإضافة إلى زواج المسلمين من مسيحيات، ومنع المسيحيين من الزواج من مسلمات، مع إستخدام كل الوسائل لتحقير وإزدراء المسيحية. ولم تقصر تلك المعاملة على المسيحيين فقط أنما شملت أتباع الأديان الكتابية الأخرى.
والجدير بالذكر أن نظام الذمة، فى بدايته، لم يكن يسعى إلى أسلمة أهل البلاد، وخصوصا أنهم كانوا مصدر مالى أساسي لخزانة الدولة، ولدعم الجيوش الإسلامية التى أمتدت عملياتها الحربية عبر الشرق الأوسط كله، ولكن شره الحكام وإزدياد تعصب الفقهاء، فيما بعد، وتفكك الإمبراطورية وإنتشار الإضطرابات الإجتماعية، شدد من تنفيذ هذه السياسة، وخصوصا بعد أن كُمل تنظّيرها من منطلق دينى، فأصبح من أول أهدافها المعلنة أسلمة أتباع الأديان الأخرى، وهذا ما سجله الفقهاء بوضوح. يقول الفقيه إبن قيم الجوزية (1292 – 1350 م):
"بفرض الجزية على أهل الكتاب (النصارى واليهود) تتحقق مصلحة مزدوجة. فمن جانب، يجنى المسلمون المال وهو مهم لدعم الإسلام وإخضاع وإهانة الكفار. أما الجانب الآخر، فهو فائدة للمشركين، تتحقق بتحولهم إلى الإسلام. وهذا أمر مُفضل لدى الله أكثر من قتلهم."(3)
الواقع الحالـى
وقد يقول قائل: هذا تاريخ وانتهى!! على أن الواقع المعاش اليوم يبين - للأسف الشديد - انه لايختلف من جهة الفكر عن ذلك الماضى المزري إلا فى إختلاف حدة حركة الأسلمة تاريخيا. كما أن فتح كتب التاريخ ودراسته، هو أمر هام، إذ يلقى الضوء على جذور المشكلة حتى نستطيع التعامل معها اليوم. فعوامل أسلمة الأقباط اليوم تكاد تكون نفس العوامل التى كانت موجودة فى نظام "الذمة". فالخط الهمايونى، الشهير والسئ السمعة – فى آن - وقيوده وملحقاته المعروفة بشروط العزبى باشا، أحد وكلاء وزارة الداخلية المصرية فى منتصف الثلاثينات من القرن الماضى، تبدو بمثابة صيغة حديثة من الوثيقة المسماة بالعهد العمري (لنسبة لعمر بن الخطاب) ولكنها أكثر ظلماً. والمعروف أن هذه الشروط المجحفة لا تزال السلطات المصرية - بدءا من أكبر رأس فى الدولة إلى الخفير .. ثم الجار المتربص - تقوم بتنفيذها عنوة كلما حاول الأقباط ترميم سور كنيسة أو إصلاح دورة مياة!!
وإذا كان نظام الذمة بكل مظالمه قد طُبق على الأقباط فى الماضي، تحت دعاوى دينية فى ظل نظام سياسى دينى إمبريالى، لا يختلف عن أى نظام عنصرى حديث، فمحاولات إعادة تطبيقة على أقباط اليوم أمر لايمكن قبوله بأى شكل، لأنه يتعارض تماما مع القوانين الإنسانية، ويمثل إنتهاكها صارخاً لمفهوم الحرية والكرامة الإنسانية.
وتوصي عدة مواثيق صادرة عن الأمم المتحدة بحماية الأقليات، فتنص المادة 1 من الإعلان بشأن الأفراد المنتمين إلى أقليات على أن تقوم الدول "كل فى إقليمها بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية، واللغوية، وتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية." أما المادة 2 من نفس الإعلان فتنص على أن "يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية الحق فى التمتع بثقافتهم الخاصة وإعلان دينهم الخاص، وإستخدام لغتهم الخاصة، سرا وعلانية، وذلك بحرية دون تدخل أو أى شكل من أشكال التمييز."
أضف إلى ذلك فمحاولات أسلمة بعض الأقباط، من خلال الضغوط المادية كتوفير فرص العمل، أو التغرير بالقُصّر، لها أبعاد لا أخلاقية، تنبئ عن تآكل فى منظومة التقاليد المجتمعية المصرية، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى تهديد السلام الإجتماعي، وهذا ماحدث أكثر من مرة فى مصر عبر العقود الثلاثة الأخيرة، ونتجت عنه خسائر فى الأرواح والممتلكات، وكما رأيناه فى أحداث الأسابيع الأولى من شهر ديسمبر. وهذا يؤكد أن مسألة إنتهاك حرية العقيدة وعرقلة ممارستها، هى الشاحن والمفجر، للغضب الشعبى، فى المجتمعات التى حرمت فيها الشعوب من مزاولة حقوقها السياسية .. أهم حقوق المواطن قاطبة، فبغير الحقوق السياسية تنتهك بقية الحقوق، ويصعب حمايتها. وهذا ما هو حادث للأقباط على مدى عقود!!
كما يجب لفت النظر إلى أن مسألة تغيير الدين فى معظم الحالات التى تمس الأقباط لها أبعاد أخرى جنائية تُجرم قانونا، إذ أن عنصر الإكراه، وتواطؤ رجال الإدارة المحلية، مستخدم فيها، بينما هناك حالات أخرى تم تغيير الدين فيها بإستخدام وسائط أوممارسات تمييزية ضد أفراد من الأقلية القبطية، وهو أمر يؤدى إلى إضعافها. وكل هذه الممارسات تجرمها القوانين الدولية.
وهذا ما تنص عليه إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فى المادة 2 حيث "... تعيّن الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلى أو الجزئى لجماعة قومية أو إثنية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أفراد الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدى أو روحي خطير بأعضاء الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادة كليا أو جزئيا، (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، (هـ) نقل أطفال من الجماعة عنوة، إلى جماعة أخرى.
مسئولية الكنيسة
فيما يتعلق بمسألة الأسلمة، أرى أن أمام الكنيسة مسئولية روحية إجتماعية، وقائية أكثر منها علاجية، وأن الأوضاع الحالية أصبحت تتطلب رؤية جديدة ثاقبة، وموقف عملى، للحد من هذه الظاهرة، إن لم يكن أيقافها! نعم لا جدال – كما هو معروف – أن هناك ضغوطا تمارسها الدولة – من خلال قوانين وممارسات – وبعض المتطرفين من المسئولين والمنتمين إلى الجماعات الإسلامية المتشددة، فالأحداث مسجلة وملفاتها تتزايد، والشكوى مستمرة، ولا حياة لمن تنادى!
هذه حقيقة يعلنها الفاعلون قبل غيرهم، فهم يعتقدون أنها تكليف دينى. وربما تستمر تلك الضغوط لفترة، قد تطول أو تقصر، طالما أن مثل هذا الفكر موجود، وهذه السياسة قائمة! فماذا ينبغى على الكنيسة أن تعمل لحماية الرعية؟
أتكلم الآن كمسيحى، شاهداً لإيمانى العامل للتعايش وإحترام الآخر، ساعيا للسلام القائم على الحرية. ومن هذا المنطلق، طارحاً بعض التساؤلات، معبراً عن محبتى للجماعة، وخوفى على مصير وطنى فى آن معاً.
فى عام 1936 رفع الأب الموقر القمص مرقس سرجيوس تقريرا لقداسة البابا وللمجلس الملى العام آنذاك، ذاكراً بعض أسباب تحول الأقباط إلى الإسلام(4)، مؤكدا على خطورة الظاهرة، ومحذراً من عواقب إستمرارها. وكان من بين أهم تلك الأسباب "الإضطهاد الصريح الذى يتعرض له السكان الأقباط بالقرى، وهو ما يجعل القبطى يشعر بأن حياته وممتلكاته وكرامته مهددة. وفى ظل إنتهاك حقوقه الإنسانية، وعدم إستقراره، وضعف إيمانه المسيحى، لا يجد مفرا أمامه إلا بالإنضمام إلى الأغلبية للمحافظة على حياته وممتلكاته وكرامته".