محتاج افهم هل ما قلته ينطبق علي التحريم في العهد القديم والجديد
أهلا أستاذنا الحبيب .. ما قلته مبدأ عام ينطبق على جميع الصفات البشرية والمفاهيم العقلية الإنسانية التي نخلعها على الله وعلى وحيه الشريف (كالعنف مثلا، أو القسوة، وهو موضوع السؤال هنا). أما "التحريم" فهو فرع من هذه القضية ويحتاج تفصيلا خاصا، لكي نفهم أولا ما هي علة التحريم أصلا؟ لماذا الخطيئة خطيئة؟ لماذا يقول الله: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق.. إلخ؟ لماذا لا يتركنا الله ببساطة نفعل ما نريد، ما لم يضر أحدا؟ مثلا في الزنى: «إذا كنت أنا راضي وهي راضية» كما يقول التعبير المعروف، فلماذا يتدخل الله شخصيا ويمنعنا من ذلك ويفسد بالتالي متعتنا؟
هذا يخرج قليلا عن نطاق سؤالك هنا ولكن باختصار: الخطيئة خطئية لأنها ببساطة تؤدي إلى "خـلل" في التكوين الروحي للإنسان ومن ثم في حياته كلها بل في العالم بأسره! الخطيئة باختصار تكسر "قوانين التوازن" التي خلق الله كل شيء وفقا لها! بل هذا نفسه هو أيضا سبب العقوبة التي تترتب على الخطيئة، لأن العقوبة لا تهدف إلى الانتقام مثلا أو التشفّي، وإنما العقوبة بالأحرى "عاقبة" كما نقول دائما، أي نتيجة! إنها الجزء "المُكمّـل" للخطيئة! إنها نفس قوانين التوازن حين تختل فتضرب بالتالي في الاتجاه المعاكس كي يعود التوازن المفقود!
لنضرب مثالا هنا: تأمل "البندول". إنه يتأرجح يمينا ويسارا في توازن دقيق ما لم ندفعه في أحد الاتجاهين خارج مجاله. ولكن ماذا لو أمسكنا البندول وتطرفنا به تماما نحو اليمين مثلا ثم تركناه فجأة؟ النتيجة الحتمية هي أن يهوي البندول بكل قوته في الاتجاه المعاكس وأن يتطرف أيضا بحركته نحو اليسار! هكذا تختل الحركة كلها يمينا ويسارا، من هذا الطرف إلى ذاك (من الخطيئة إلى العقوبة) حتى يستعيد البندول تدريجيا توازنه مرة أخرى!
فهذا تشبيه مبسط جدا لحركة الحياة كلها والعالم ولمعنى التوازن الذي يشمل كل شيء في كون الله دون استثناء، من الذرة حتى المجرة!
وهذه ببساطة هي علة التحريم: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ... أي لا تخترق قوانين وجودك فيختل توازنك وتوازن عالمك بأسره دون أن تشعر! هذا هو معنى الخطئية (التعدّي، الخلل، الخروج من مجال التوازن الدقيق) وهذه أيضا هي علة العقوبة (العاقبة، النتيجة الحتمية، الضربة في الاتجاه المقابل نتيجة الخلل)!
لذلك انظر في التكوين مثلا ـ قبل أي ناموس أو شريعة ـ وتأمل كيف يعبّر الوحي عما حدث عندما قُتل هابيل: «صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض»! إنه صراخ ينطلق من الأرض! هل هناك أروع وأدلّ من هذا التشبيه؟ هكذا يصور الله في صورة بليغة هذا "الخلل" الذي سببته الجريمة، كأنه صراخ يشق مسامع السماء! ثم ما النتيجة؟ النتيجة الحتمية هي أن يهوِي بندول الحياة ليضرب في الاتجاه المعاكس: «فالآن ملعون أنت من الأرض»! وليست فقط لعنة الأرض التي «فتحت فاها» لهذا الدم واحترقت بصراخه، بل خرج أيضا قايين بعدها ليسكن «في أرض نود شرقي عدن»! تأمل فضلا هذا الرمز البديع: كلمة "نود" تعني الخلل والاضطراب والتيه! هكذا في هذا "النود" كانت سُكنى قايين!
وعليه: ليس هناك حقا "ملك" بالسماء يغضب ويهيج وليس هناك "إبادة" و"دموية" و"عنف" و"قسوة" وكل هذا الذي تضيفه "عقولنا" نحن بالمعنى البشري المبتذل، حاشا ثم حاشا! هذا بالأحرى "تجديف" كما يقول بعض الآباء. هناك بالأحرى كسر على المستوى الروحي غير المنظور، خلل يحطم الإنسان نفسه أولا وتصرخ بسببه الأرض وتهتز أركان العالم، تعقبه من ثم ضربات حتمية في الاتجاه المعاكس لأجل أن يعود التوازن المفقود، وهذا هو ما نسميه ـ بعد الترجمة إلى لغتنا البشرية ـ "ضربة الرب".. أو "غضب الله"!
فهذه، باختصار شديد، هي الخلفية الروحية وراء مسألة التحريم وكيف أن التحريم ـ حتى وإن تحدد شكليا كالشريعة بحدود البشر وثقافتهم، بقساوتهم وجهالتهم ـ إلا أنه يعبر ما زال عن حقائق وقوانين أكبر وأعمق كثيرا مما يبدو ظاهرا لعقولنا وحواسنا المحدودة.
أشكرك ختاما على السؤال أستاذنا الحبيب مع تحياتي ومحبتي.