تفسير إنجيل القديس يوحنا للأب متى المسكين

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الجزء الثاني: إنجيل قوه الكلمة (46:4 – 47:5)

«إنجيل قوة الكلمة» يشمل معجزتين أجراهما المسيح بمجرد النطق بالكلمة ثم عقب على المعجزة الثاية بتوضيح قوة الكلمة.
+ المعجزة الاولى: شفاء ابن خادم الملك, وتمت في الجليل (46:4-54) «فآمن الرجل بالكلمة».
+ والمعجزة الثانية: شفاء مريض بركة بيت حسدا وقد تمت في أورشليم. وبها يبدأ الأصحاح الخامس، وقد تمت أيضاً بمجرد كلمة من المسيح: «قم احمل سريرك وامشي».
‏وقد عقب عليها الرب في بقية الأصحاح الخامس بتوضيح قوة الكلمة المحيية: «من يسمع كلامي... قد انتقل من الموت إلى الحياة» ... «يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون». ثم كشف سبب عدم إيمان اليهود، لأن «ليست لكم كلمته ثابتة فيكم».

43:4- وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ.
44:4- لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: «لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ»

«فيا رب الجنود القاضي العدل فاحص الكلى والقلب, دعني أرى انتقامك منهم لأني لك كشفت دعواي. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا!! لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيق ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع.» (إر20:11-22)
‏لقد حفر المسيح الزارع السماوي في أرض السامرة وألقى بذار الكلمة، ولما اطمأن إلى حفظ الوديعة بعد يومين غادر أرض السامرة وانطلق إلى الجليل. وكما يقول القديس كيرلس الكبير:[عبر في منتصف الطريق إلى الناصرة فأعطاها ظهره. وانطلق إلى الجليل الأعلى, لأنها لم تقبله في السابق, وقال عليها مثله المشهور: «ليس لنبي كرامة في وطنه»؛ ليس لأنه يسعى إلى كرامة الكرازة ولكن لأن عمل الخدمة لا يثمر في أرض يمتنع عليها شرب الماء، والآية يصعب إتيانها في قلب بلا أمانة].
‏وهنا يلمح المسيح إلى العلاقة بين تكريم الله ورضاه: «أكرم الذين يكرموني والذين يحتقروني يصغرون» (أم30:2‏). ولم يصنع آيات في كفرناحوم لأنهم لم يكونوا يؤمنون به.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
45:4- فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْجَلِيلِ قَبِلَهُ الْجَلِيلِيُّونَ إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي الْعِيدِ لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى الْعِيدِ.

‏حتى هذا القبول من الجليليين يضعه القديس يوحنا موضع الهزال والتفاهة، إنما بلغته المملوءة سراً، عندما أضاف إلى ترحابهم السبب فيه: ليس من أجل شخص المسيح ولكن لأنهم عاينوا آياته. فرق شاسع بين تقرير القديس يوحنا عن إيمان السامريين الذي ترسخ في قلوبهم دون آية واحدة: «نعن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم», وبين إيمان الجليليين الذي هو بلا إيمان، القائم على رؤية الآيات وحسب. وصح في السامريين قول إشعياء النبي: «أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وٌجدت من الذين لم يطلبوني. قلت هأنذا هأنذا لأمة لم تٌسم باسمي» ‏(إش1:65). أما عن اليهود فيقول: «بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد» (إش2:65, رو21:10). و يلزم أن ينتبه القارىء، فمستقبلاً سوف يرفض الجليليون المسيح أيضاً في الأصحاح السادس والعدد 66‏.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
46:4- فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ.

‏كلمة «أيضاً» تعني ثانية، فالمسيح يسعى ثانياً إلى من يقبله أولاً~ لقد تأثر به أهل قانا وأحبوه عندما صنع عندهم معجزته الاولى في تحويل الماء خمراً جيدا، فأحبهم هو أيضأ وها هوذا يعود إليهم وعلى استعداد لعمل المزيد.
«خادم للملك ابنه مريض»: أما الملك فبحسب تحقيق العلماء هو هيرودس أنتيباس رئيس ربع على الجليل، وكان معروفاً في الشعب باسم «الملك». وكثير من العلماء يقولون إن هذا الخادم هو « خوزي» (المذكور في إنجيل لوقا 3:8‏) أو ربما «مناين» (المذكور في سفر الأعمال 1:13). وخوزي هو زوج يونا المرأة التي كانت تتبع المسيح مع النساء اللاتي كن تخدمنه من أموالهن الخاصة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
47:4- هَذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى الْمَوْتِ.

‏«وسأله أن "ينزل"»: يلاحظ أن كفرناحوم واقعة على شاطىء البحيرة (بحر الجليل). أما «قانا» فهى على هضبة أعلى كثيراً عن مستوى البحر. والذي يهمنا هنا هو دقة الوصف الذي يعطيه القديس يوحنا لطبيعة المكان وطبيعة الحركة، مما يوضح بلا مواربة أنه مواطن عاش في هذه المناطق ودرسها وانطبعت في ذاكرته, كما أنه يسجل كلمات هذا الضابط الملكي حرفياً كما فاه بها, وكأنها مسجلة عنده. على أن المسافة بين كفرناحوم وقانا الجليل تبلغ بحسب تحقيق يوسيفوس المؤرخ اليهودي حوالي 16 ميلاً، قطعها هذا الضابط الملكي راكباً على الأرجح.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
48:4- فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»

المسيح هنا يستحث الإيمان بدون آية، الإيمان بالكلمة. فالإيمان بالكلمة يستقر في القلب حيث تنمو الكلمة ويثمر، أما إيمان الآية فيستقر في العقل حيث القياس والمقابلة والشك والنسيان.
‏والعجيب حقاً أن في نفس هذه القصة بل وفي صميم هذه الآية آمن الضابط الملكي «بالكلمة», فكانت «الحياة» هي الجائزة الممنوحة له في الحال. لذلك نلاحظ أنه في توبيخ المسيح، دائماُ دائماً يكمن الباب المستور والعطية المخفية والحل المفرح والعزاء المقيم لو التفت الإنسان وقبل التوبيخ طالباً النور: «أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني.» (مر24:9)
«آيات وعجائب»: العجيبة هي الآية على المستوى المذهل للعقل، الذي يثير إما التعجب الشديد أو الإعجاب الأشد. ويلاحظ أن مجيء هذين اللفظين معاً يقتصر على موضعهما هنا في إنجيل يوحنا. أما بالنسبة لأسفار العهد الجديد وأسفار العهد القديم فورودهما معاً موجود وبصورة مكثفة. والمقصود هنا هو الإعتماد على الرؤية العينية أو المظهر الباهر الشكلي للآية والمعجزة. ولكن يوجد إيمان صحيح قائم على الآية ولكن ليس القائم عل الرؤية العينية، بل على المعنى والإحساس الباطني بالوعي والفطنة المسيحية، كآية تحويل الماء خمراً في عرس قانا الجليل التي على أثرها آمن به تلاميذه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
49:4- قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ: «يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي».

لقد فرغ صبر الأب، والجزع على ابنه جعله ينسى آداب الحديث مع من جاء يطلب منه الحياة!! فلم يكن قد أدرك بعد, مثل مرثا, أن سلطانه يتجاوز القبر والموت، وأن كلمته من على بعد تحيي وتقيم من الموت.
القديس يوحنا يلقينا مرة واحدة في قلب القصة الملتهب! أب ملهوف على ابنه المريض وقد بلغ حافة الموت. والابن عزيز أعز من النفس لدى الأب الحنون. وها الأمل قد انقطع من جهة كل علاج ممكن، وقد أطل الموت بظله الكئيب والمفزع مصممأ على قطع شريان الحياة لمن تحبه نفس الأب.
‏لاحظ أن القديس يوحنا لم يهتم بمن هو هذا الخادم، أممي هو أو يهودي، لم يعط جواباً، كما لم يهتم باسم الابن وعمره، يكفي أن ليس في الوجود أثمن الابن. ولكن الذي يثير انتباه القديس يوحنا، ويود أيضاً أن يثير انتباهنا إليه هو الزمن وسلطانه بأيامه وساعاته ودقائقه على قلب ضعيف الايمان: إنه الفزع .
‏والقديس يوحنا يترجم لنا أثر تباطؤ المسيح في الاستجابة كما يودها الضابط الملكي الذي لم يتعود قط إلا أن يأمر فيطاع، وكيف أنشأ هذا التباطؤ في نفس هذا الضابط قلقاً مريعا إزاء تصوره الموت وهو يزحف نحو فريسته.
‏ثم يترجم لنا القلق الذي انتاب هذا الضابط إلى إلحاح، فهو يتجنب الدخول في بحث كيفية الإيمان دون أن تحدث المعجزة، وهو جاء يطلب المعجزة وليس الإيمان!! ولم يكن المسيح في تصوره إلا صانع معجزات، هذه مهنته!! وهذه نظرة أهل زماننا إلى القديسين أيضاً، فهم أصحاب كرامات وحسب, يُطلب منهم عمل المعجزات وإلا فكيف يُدعون قديسين؟ لا «ينظرون إلى سيرتهم» كما قال الكتاب (عب7:13)، ولكن ينتظرون معوناتهم وحسب!
‏شيء واحد يلح على ذهن الضابط الملكي كيف يقنع صانع المعجزات هذا بالنزول فورا لانقاذ حياة ابنه!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
50:4- قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ». فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ وَذَهَبَ.

‏أمام الرب كانت ثلاثة عوامل تحثه أن يقول كلمته:
الأول: ثقة الرجل وتعبه في السفر 25 كيلومتراً حتى التقى به، فهو لم يرد أن يخيب ظنه.
الثاني: الابن المريض، وها قضية الفصل بين الموت والحياة ألقيت بين يديه, فكيف لا يفصل لحساب الحياة وهو ربها!!
ثالثاً: الإلحاح الذي يطوبه الرب جداً: صلوا صلوا ولا تملوا، الذي ضرب عليه مثل الأرملة المظلومة أمام قاضي الظلم وكيف أن إلحاحها غلب ظلم القاضي. فكيف لا يُغلب وهو قاضي العدل!!
«اذهب ابنك حي »: قولة لا يقولها إلا الله. ولقد عظمها الضابط الملكي ايما تعظيم، وكأنه تلقاها من قائده الأعلى, وكأني به يضرب الكعبين ويرفع يده بالتحية وكأنه أمام ملك. لقد أخذ الكلمة كما هي وكأنها تأشيرة واجبة التنفيذ في الحال. انحنى الضابط أمام الرب كجندي ملتزم بالطاعة وانسحب من أمامه ومعه الكنز الذي استؤمن على استيعابه وما بقي أمامه إلا التحقيق. كانت الخطورة مُحدقة به على طول الطريق، لأنه كان قد «آمن بالكلمة» دون صاحبها. إلى ذلك الحين لم يكن المسيح عنده موجوداً بشخصه, بل اكتفى بالكلمة منه، يحققها دون أن يتحقق بعد من شخصه، شأنه شأن من يكرم الإنجيل وينحني أمامه ويقبله ويضعه على رأسه ويستودعه خزانة من ذهب, ثم ويقبل كل يد تخدمه، أما صاحب الإنجيل والكلمة فغائب عنه، لا يعلم عنه سوى اسمه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
51:4- وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ».
52:4- فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى».

كان هذا السؤال هو الاختبار الفاعل في قلب هذا الضابط الملكي الذي أضمر كيف سيقيم المسيح به، فإذ كان الولد قد شُفي في الساعة التي فيها نطق المسيح كلمته، يكن هو المخلص حقاً، وبه يؤمن حتماً، والا فلا إيمان البتة! ولكن بيني وبينك أيها القارىء العزيز أبهذا يُقيم الخالد الأبدي؟ انعادل القدير بمنافعنا الخاصة؟ أنساوي رب الحياة بشفاء جسد؟ ولكن لا مانع لدى المسيح: «فالذي يقبل إلي لا أخرجه خارجاً» (يو37:6)، «فتيلة مدخة لا يطفىء» (مت20:12)! أليس هو الراعي الصالح الذي يسعى وراء الخروف الضال، والذي له خراف أخر ينبغي أن يأتي بها من خلق السياجات؟ ألم يأت بالسامرية حالاً، وقد ضم شعباً في يوم واحد؟!
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
53:4- فَفَهِمَ الأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ.

«فآمن هو وبيته كله»: لقد أفرخت «الكلمة» الحية التي خبأها في قلبه وهو مسرع نحو بيته. لقد انفتح الكنز وخرجت منه الحياة ومعها الإيمان المؤدي إلى الحياة الأفضل! هنا، ولأول مرة، نسمع مبكراً عن إيمان عائلي برمته. وأهل البيت بالنسبة للضابط الملكي يضم أفراداً وحاشية وخدماً كثيرين، صورة طبق الأصل من السامرية التي قادت مدينة إلى الإيمان بالمسيح. لذلك فإن وضح قصة شفاء ابن الضابط الملكي بعد قصة السامرية يدخل في مخطط إنجيل القديس يوحنا تحت عنوان: «السامرة في مقابل اليهودية»، و«الأمم في مقابل الجليل». والتفسير للاثنين هو القبول إزاء الرفض.
‏هنا تلح علينا المقارنة المبدعة التي يشير إليها القديس يوحنا دون أن يعلن عنها. فالانطباع مبدع حقاً: وهي قصة إيليا النبي مع أرملة صرفة صيدا الاممية التي ألمح إليها الرب في إنجيل لوقا (25:4). كيف أقام ابنها من الموت حياً: «فسمع الرب صوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش. فأخذ إيليا الولد ونزل من العلية إلى البيت ودفعه لأمه وقال إيليا: انظري ابنك حي فقالت المرأة لإيليا: "هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حق".» (1مل 22:17-24)
وليلاحظ القارىء أن الكلمات التي قالها إيليا والتي قالتها المرأة تتجاوب حرفياً مع ما تم بين المسيح والضابط الملكي . ولكن تمتاز قصة الضابط الملكي بأن المسيح أقام الولد حيا بكلمة وعلى بعد 16 ميلاً. وحينما يدقق القارىء في قصة خادم الملك القصيرة هذه، يندهش كيف تزاحمت فيها التعابير اللاهوتية والكلمات ذات الوزن العالى عند إنجيل يوحنا: «الأب» _ «الابن» _ « الموت» _ «الحياة» _ «الكلمة» _ «الإيمان» . وكيف اقترنت «الحياة بالموت» فصرع الموت، و«الإيمان بالكلمة» فانتهى إلى «الإيمان بالمسيح». ثم انظر كيف يبرز القديس يوحنا التكرار في كلام المسيح «ابنك حي, فآمن», «ابنك حي», «ابنك حي, فآمن», لينتهي بنا إلى هذا المعيار المسيحي الأعظم: الإيمان سر الحياة.
‏كذلك يهمنا أن نوضح كيف يتخذ القديس يوحنا من هذه الآية القائمة على هذا المعيار، وهو أن الإيمان عنصر الحياة الذي يقيم من الموت، يتخذها أساسأ لتعليمه. فبعد أن قدم الفعل العملي الصامت بالآية، يبتدىء في الأصحاح القادم مباشرة يبني عليه تعليمه, وذلك في الحوار العنيف الذي دار مع اليهود حول قدرة المسيح وسلطانه على إعطاء الحياة بالمساواة مع الله: كما أن الأب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يُحي من يشاء» (يو21:5‏). كذلك يتخذ المسيح من إيمان الضابط الملكي «بالكلمة» الذي أوصله بالفعل إلى الحياة بالنسبة لابنه أساساً لتعليمه: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية.» (يو24:5)
‏نفهم من هذا أن معجزات الشفاء في إنجيل يوحنا, إنما يعرضها بحساب معين يقوم على أساس التعليم المبني عليها. فهدف المعجزة عند إنجيل يوحنا هو استعلان المسيح وليس فقط عمل رحمة.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
54:4- هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ

هي محاولة من القديس يوحنا لتنبيه أذهاننا إلى الترابط الشديد بين الآيتين اللتين صنعهما الرب في قانا الجليل. ففي بداية القصة يشير إل الآية الاولى: «فجاء يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً». وهنا يكرر الإشارة: «هذء آية ثانية». والهدف المشترك بين الآيتين هو« إظهار مجده» كما في الاولى أمام تلاميذه؛ هكذا في الثانية أمام حشد من بيت الضابط الذي يعتقد أنه أممي «فآمن هو وبيته كله». هنا الاستعلان يأخذ صورة متقدمة في الثانية عن الاولى . وهكذا يسير إنجيل يوحنا في هذا النمط من الاستعلان المتدرج.
‏والملاحظ أيضاً أن الآيتين تشتركان في سمات أساسية بالنسبة لإنجيل يوحنا وهي لحظات الحرج البالغ. في الآية الاولى فروغ الخمر في وسط حفل العرس. في الآية الثانية: ابنه «كان مشرفاً على الموت»، «قبل أن يموت ابني». ثم رد الفعل السخي جداً : ستة أجران ملآنة خمراً (134جالون = 600 لتر تقريبا ) في الآية الاولى، وفي الثانية: « اذهب ابنك حي».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
الإصحاح الخامس

‏وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ. لأَنَّ ملاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ. وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً. هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟». أَجَابَهُ الْمَرِيضُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ. فَقَالَ الْيَهُودُ لالَّذِي شُفِيَ: «إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ». أَجَابَهُمْ: «إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». فَسَأَلُوهُ: «مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟». أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ لأَنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ إِذْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ جَمْعٌ. بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلَّا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ». فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ. وَلِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ. فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ. فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابن أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآب يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابن كَذَلِكَ. لأَنَّ الآب يُحِبُّ الابن وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآب يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الابن أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآب لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ. لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابن كَمَا يُكْرِمُونَ الآب. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابن لاَ يُكْرِمُ الآب الَّذِي أَرْسَلَهُ. «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآب لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَالله كَذَلِكَ أَعْطَى الابن أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَالله. وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ. فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ. أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآب الَّذِي أَرْسَلَنِي. «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً. الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ. أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآب لِأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآب قَدْ أَرْسَلَنِي. والآب نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ. وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ. فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. ولاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ. وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟. «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآب. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟»
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
وقفة قصيرة

‏المرحلة التي تميزت بالصدام السافر مع الفريسيين من الأصحاح الخامس حتى الثاني عشر.
‏على مدى الأصحاحات السالفة أكمل المسيح تقديم نفسه لكل فئات اليهود:
في أورشليم: للفريسيين والرؤساء.
‏في اليهودية: للشعب المتعصب.
‏في السامرة: للشعب المنبوذ.
‏وفي الجليل: للشعب الساذج فلاحين وصيادين.
‏وبذلك يكون قد استوفى عناصر الإيمان المناسب لهذه الفئات المتباينة كل على مستوى ثقافته وإدراكه.
‏ومن الأن يبدأ الصدام الذي بدأت بذاره مبكرة في اليهودية أو أورشليم, ويستمر إلى أن ينتهي بالآلام. وسوف نواجه في الأحاديث والمناقشات التي سنعبر عليها نماذج من الإيمان, ونماذج من الرفض، على التوازي؛ حيث بالكلمات الموجهة والأعمال ذات الأهداف، استعلن المسيح أفكار اليهود المناهضة والتي جاءت بلا تعقل ولا فهم. أما أشدها عنفاً على المستوى المأساوي غير المعقول, فكان في أورشليم. وكانت المناسبات المختارة هي الأعياد الرسمية للأمة. وقد تبلورت هذه الصدامات على ثلا ثة محاور لثلاث آيات خارقة صنعها المسيح.
‏الاولى: شفاء المريض المقعد منذ ثماني وثلا ثين سنة في بيت حسدا: الأصحاح الخامس .
الثانية: شفاء الأعمى المولود هكذا من بطن أمه: الأصحاح التاسع.
‏الثالثة: إقامة لعازر من الموت: الأصحاح الحادي عشر.
‏ولكن يتخلل هذه المجموعة المترابطة الأصحاح السادس الذي تتم حوادثه في الجليل، وهو يبدو لكثيرين من الشراح وكأنه في غير موضعه، وكان ينبغي, في نظرهم, أن يكون موضع الأصحاح الخامس. ولكن تبويب القديس يوحنا في الحقيقة يعتمد لا على التسلسل الجغرافي ولا التاريخي، ولكن على طبيعة التعاليم والحوادث من جهة استعلان الرب لذاته, واستعلان أفكار قلوب اليهود. لهذا فإن الأصحاح السادس نجده يتبع فعلاً مجموعة الصدامات واستعلان المسيح لشخصه كابن الله. كما يكشف الشعب بل والتلاميذ الذين كانوا على غير المستوى، سواء للتلمذة أو للأمانة، إذ تركوا المسيح ولم يعودوا يسيرون وراءه. لذلك استحسن القديس يوحنا أن يضمه إلى أعمال الرب التي أكملها في أورشليم بالرغم من أن حوادثه جرت في الجليل.
‏وهذه المجموعة من الصدامات التي تقع من الأصحاح الخامس حتى الأصحاح الثاني عشر تنقسم من جهة عنف الصدام إلى قسمين:
‏الأول: مجرد بادئة لربح الصدامات، وتستغرق الأصحاحين الخامس والسادس.
الثاني: الصدام في أوج عنفه، ويستغرق من الأصحاح السابع حتى نهاية الثاني عشر.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
شفاء مريض بيت حسدا والمصادمة الأولى مع اليهود
مكان البشارة فى أورشليم

‏الأصحاح الخامس يعتبر تكميلاً لإنجيل «قوة الكلمة» الذي ابتدأ في الأصحاح الرابع بمعجزة شفاء ابن خادم الملك (يو46:4-54)‏.
‏والأصحاح الخامس ينقسم إلى أربعة أقسام واضحة:
‏القسم الأول: سرد لتفاصيل الآية التي صنعها المسيح، أعداد من 1-18، وتتهي بمحاولة قتل المسيح.
‏القسم الثاني: شرح تفصيلي لمركز الابن من الله الآب وماهية الابن في ذاته، أعداد من 19-30
‏القسم الثالث: الشهادة للابن، أولاً من المعمدان، ثانياً من الآب، ثالثأ من الأعمال، رابعأ من الأسفار. 31-41‏.
‏القسم الرابع. أسباب عدم إيمان اليهود. 31-41
‏على أن ما ورد في القسمين الثاني والثالث, أي شرح ماهية الابن وعلاقته بالآب, ثم الشهادة للابن على كل المستويات كما وردت في هذا الأصحاح, فهو يعتبر الأساس الذي يبني عليه إنجيل يوحنا كل تعاليم المسيح.
‏والمسيح يخاطب في هذا الأصحاح أعلى مستوى لفئات الأمة، والإشارة ستجيء عنهم واضحة هكذا: «ها هو يتكلم جهاراً ولا يقولون له شيئاً. ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً». (يو26:7)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
1- وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.

«بعد هذا»: وتعني في اليونانية «بعد نفس هذه الأمور كحوادث»، وبها يقصد القديس يوحنا الإنتقال من مجموعة حوادث إلى مجموعة أخرى من الحوادث, وهذا الاصطلاح غير ( ) التي تفيد مجرد التسلسل الزمني, أي «بعد هذا الزمن».
«كان عيد لليهود»: تأتي «عيد» ‏بدون «الـ» أداة التعريف، أي ليس هو عيد الفصح، بل أحد الأعياد الأخرى، ويعتقد كل من القديس كيرلس والقديس ذهبي الفم أنه عيد الخمسين. فإذا أخذنا بهذا التقرير يكون المسيح قد زار السامرة في بكور الصيف (مايو) بعد الفصح الذي أمضاه في أورشليم، كما يفيد أنه مكث في الجليل فترة قصيرة. ويقول العالم شاكبرج أن الأخذ بهذا الرأي صائب، إذ يجعل التسلسل التاريخي في إنجيل يوحنا صحيحاً؛ حيث يأتي عيد المظال بعده في الأصحاح السابع، وعيد التجديد في الأصحاح العاشر، والفصح الأخير في الأصحاحين 11 و 12. وهذا يعكس ما يقوله كثير من الشراح الآخرين أن هذا العيد كان عيد المظال وذلك بسبب أن كلمة «عيد لليهود» جاءت بدون تعريف، وهذا ينطق فقط على عيد المظال بحسب تحقيقات العهد القديم. وصعود المسيح لاورشليم في عيد الخمسين ولو أنه أحد الواجبات اليهودية الملزمة للزيارة، لأن الأعياد الملزمة للحضور إلى أورشليم ثلاثة: الفصح والخمسين والمظال؛ إلا أن المسيح كان يتخذ من الأعياد عمومأ فرصاً لمحاجاة الرؤساء والفريسيين، وللاتصال بجماهير الحجاج الآتين من كل أركان البلاد.
‏وعيد الخمسين من الأعياد الهامة التي يحتفل بها اليهود لتذكار استلام موسى للناموس على جبل سيناء. ومن هنا يجيء في هذا الأصحاح تلميح المسيح بعد ذلك, في نقاش مع الفريسيين, بخصوص كتب موسى أي الناموس: «يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم، لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني، فإذ كتم لستم تصدقون كتب ذاك (أي التوراة وهي محور تذكار هذا العيد) فكيف تصدقون كلامي» (يو45:5-47‏). هنا يجعل المسيح كلامه على مستوى التوراة.
‏على أن كثيراً من الشراح ومن الأباء أيضأ يصر على أنه كان عيد الفصح الثاني الذي حضره المسيح والذي بالحساب الدقيق يقع سنة 28 ميلادية. ودليلهم على ذلك ما ذكر في الأصحاح السادس أن عيد الفصح كان قريباً (يو6:4‏). على أن عيد الفصح الأول الذي حضره المسيح ذُكر في الأصحاح الثاني عدد 13 وقد وقع سنة 27 ‏ميلادية. أما الفصح الأخير الذي صُلب فيه الرب (يو 11و12 ) فوقع في سنة 29 ‏ميلادية. وبذلك يكون الرب قد حضر ثلاثة أعياد فصحية أثناء خدمته، صُلب في ثالثها، وبذلك تكون مدة خدمته حسب توقيعات إنجيل يوحنا وحسب التقليد القبطي ثلاث سنوات ونيف.
«فصعد يسوع إلى أورشليم»: هنا يلمح القديس يوحنا أن المسيح لم يشأ أن يأخذ تلاميذه بل صعد وحده، وكلمة «صعد», كما جاءت في الأصل اليوناني, تفيد الذهاب الرسمي للعيد كالمعتاد حسب الناموس. ويبدو أن الرب شاء أن يصعد وحده حتى لا يظهر أيضاً بصورة مثيرة، بل دخل المدينة متخفياً منعاً للاثارة التي بدأت تأخذ وضعها العنيف. ويظهر هذا من التسجيل الواضح للقديس يوحنا: «أما الذي شُفي فلم يكن يعلم من هو، لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع.» (يو13:5‏)
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
2- وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ.

«باب الضأن»: ‏هذا الباب هو في سور مدينة أورشليم من ناحية الشرق وكان قريباً من الهيكل (أنظر نح 1:3). وفي سفر نحميا يذكر ان بناء هذا الباب كان من نصيب الكهنة. ويبدو أنه كان ذا صلة خاصة بالذبائح التي تدخل منه للهيكل.
«بركة بيت حسدا»: أبحاث كثيرة أجراها العلماء حول هذا الاسم: من «بيت زاتا» (بيت الزيتون)، إلى «بيت صيدا» محورة، إلى «أيت إزدا» (بيت الفيضان). كما وُجد اسها منقوشاً في درج من النحاس في حفريات وادي قمران مكتوباً هكذا (Bet Esdatayan)، ويعني «بيت إزد المجوز» (أي ذو العينين). بعنى أذن البركة لها حوضان يفيض فيهما الماء. ولكن أصح القراءات جميعاً ما جاء في النسخة الإسكندرانية اسم «بيت حسدا» وتعني «بيت الرحمة» بسبب الأشفية التى كانت تجرى فيها.
‏والعجيب أن النقاد سلطوا نقدهم على إنجيل يوحنا بخصوص هذه البركة بهذا الاسم معتقدين أن القديس يوحنا اخترع هذا الاسم لهذه البركة, إذ كانت قد اندثرت معالمها, ولكن في هذا القرن تم اكتشاف هذه البركة بجوار كنيسة القديسة حنة بواسطة رهبان الآباء البيض. ولما أكملوا حفرياتهم ظهرت البركة ولها بالفعل خمسة أروقة. والبركة مساحتها كبيرة، فهي بعرض 165-220 قدماً وطولها 315 قدماً، مقسومة من نصفها بحاجز جعلها بركتين: واحدة شمالية والأخرى جنوبية، ولها على جوانبها الأربعة صفوف أعمدة، وكذلك على الحاجز الذي يقسمها. وبذلك ظهرت الخمسة الأروقة، ولها منزل مدرج كسلالم.
‏وقول القديس يوحنا أن هذه البركة يقال لها «بالعبرانية» بيت حسدا، يقصد اللغة الآرامية الدارجة بين الشعب (العائد من السبي). كما يلاحظ أن هذا الاسم يفيد مبنى أكثر منه نبع ماء، لأن الخمسة أروقة جعلت منه مصحة يؤمها المئات. وقد قام ببنائها بعض الخيرين ويقال أن هيرودس الكبير هو الذي أقامها. وقد ظلت هذه المصحة قائمة حتى إلى ما قبل خراب أورشليم سنة 70 م.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
3- فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ.

«العثم»: وهم مرضى بأنواع الشلل. وقد ذكر نوع مرضهم في آخر قائمة المرض لأن مريض هذه القصة واحد منهم. وهو المرض الذي أعيا الطب والدواء على حد سواء حتى اليوم.
‏«تحريك الماء»: ‏عودة مرة أخرى إلى «الماء» الذي يرافقنا منذ عرس قانا الجليل عبر نيقوديموس والسامرية، وهنا أيضاً. و«تحريك الماء» هي جملة فيها محاولة لمحاكاة الماء الجاري أو الماء الحي الذي تمناه المريض ولم يبلغه قط. وفي هذا تعبير مستيكي (سري) يشير إلى المسيح «الماء الحي» الذي وافاه هذا المريض السعيد فشفاه.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
4- لأَنَّ ملاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ.

‏هذه الآية لم توجد في معظم المخطوطات الهامة ولكنها موجودة في بعض منها، وقد ذكرها بعض الآباء ومنهم ذهبي الفم معتبراً أن [البركة والماء هنا هما سبق تصوير للمعمودية، لكي يعطي اليهود صورة مسبقة لما ستأتي به المعمودية في المسيح. وتحريك الماء بواسطة الملاك هو تمهيد تصويري لما سيعمله الروح القدس رب الملائكة.] وشرح ذهبي الفم هنا يتبع إلى حد ما الخط السري المستيكي الذي ينهجه القديس يوحنا.
«بركة»: وهي نفس الكلمة الطقسية المستخدمة للتعبير عن جرن المعمودية. ولو أنها مشتقة من أصل ( ) أي يسبح أو يعوم. وقول القديس يوحنا أن «ملاكأ كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء»، يعطي تقريراً إنجيلياً عن تدخل سمائي إعجازي في العهد القديم لشفاء الأمراض الميئوس منها بوازع من الرحمة الإلهية، وذلك بحسب ترجمة اسمها «بيت حسدا». وهذا ليس غريباً لا على القديس يوحنا ولا على العهد القديم برمته. فالقديس يوحنا رأى في رؤياه هذا الملاك عينه واسمه «ملاك الماء»: «وسمعت ملاك المياه يقول عادل أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون لأنك حكمت هكذا.» (رؤ5:16‏)
‏أما قوة الحياة والشفاء التي جعلها الله في الماء فهي تراث إلهي يملأ العهد القديم، ونحن لا ننس الصخرة التي تفجرت ماء تحت عصا موسى في سفر الخروج، وكان الماء للحياة والشفاء، لأن «الصخرة كانت المسيح» (اكو4:10‏)، وإذا لم يذكر سفر الخروج حالات شفاء للماء إلا أن الماء كان له هذه الطبيعة والقوة، فلم نسمع بأن أحداً كان يمرض قط بطول الأربعين سنة: «ثيابك لم تبل عليك, ورجليك لم تتورم هذه الأربعين سنة.» (تث4:8‏).
‏كذلك لا نجهل الشفاء الذي أجراه أليشع النبي لنعمان السرياني بالإغتسال في مياه الاردن، الأمر الذي طهره من داء البرص الوبيل. والمسيح أيضاً ألمح إلى سر الله في ماء بركة سلوام بالذات, حينما أمر الأعمى الذي صنع له من ريقه مقلة من طين، أن يغتسل في بركة سلوام فأتى بصيراً. والشفاء والصحة في بركة سلوام وغيرها هو إرهاصة من إرهاصات عمل الروح القدس في سر المعمودية الذي استعلنه المسيح في مُقعد بيت حسدا. بل ولا تزال بعض سراديب روما تشير إلى المعمودية برسم هذا المُقعد ذي الثماني والثلاثين سنة الذابل الساق، وهو يسير بقوة حاملاً سريره على ظهره، تعبيرأ فنياً مبدعا عن «سر المعمودية»، باعتبار أن المعمودية تعيد مشلول الخطية صحيح الروح معافى حاملاً شهادة حياته المائتة السابقة على ظهره، على أساس أن المسيح هو الماء الحي الذى يعطي الحياة ويقيم من الموت عوض ماء بركة بيت حسدا الذي عز على مريضها, فامتنع عليه أن يُشفى. وهذه إشارة ضمنية رائعة إلى عجز العهد القديم بمائه, وعلى كل صورة, أن يُطهر أو يشفي أو يروي.
‏ومعروف أن ثلاث قراءات من الإنجيل كانت تُقرأ على المعمدين الجدد في الكنيسة الاولى: الحديث مع نيقوديموس، وقصة المقعد، وتفتيح عيني الأعمى.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
5- وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً.
6- هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».

‏ثماني وثلاثين سنة في المرض. هنا استحالة أن يكون هو الشلل المعروف، سواء النصفي أو الكلي، لأن المعروف في الطب أن مريضه يكون محدود الحياة بمدة قليلة. فهو ربما كان نوعا من المرض الذي يُقعد المريض عن الحركة. ولكن لا يفوتنا أسلوب القديس يوحنا في اختيار الآيات ذات اللون الصارخ ليقدمها كنموذج لتفوق المسيح الإلهي، فالأعمى «منذ ولادته»، والميت له «أربعة أيام في القبر»، وهذا المريض له «ثماني وثلاثين سنة في مرضه، فالآية هنا مختارة من وسط مئات وربما ألوف كنموذج للقوة الفائقة.
«أتريد أن تبرأ؟»: اختار الرب هذا المُقعد ليجري فيه آية الشفاء المجاني دون أن يطلب, هنا أسلوب القديس يوحنا ‏السري، فهو يرمي إلى أبعد من المقعد ومن الآية في حد ذاتها. لأننا نعلم من أسفار العهد القديم أن شفاء الأعمى والأعرج, وهما آيتا الأصحاحين الخامس والتاسع, سيكون علامة مجيء المسيا وافتتاح عهد النعمة والخلاص. فإشعياء النبي يسبق ويصف المنظر بعينه: «هو يأتي ويخلصكم، حينئذ تتفتح عيون العمي وأذان الصم تتفتح, حينئذ يقفز الأعرج (المشلول) كالأيل (كالغزال) ويترنم لسان الأخرس, لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر.» (إش4:35-6)
«ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر, وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي، ويزداد البائسون فرحاً بالرب، ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل.» (إش18:29-19)
‏أما إرميا النبي فيصف المنظر باتفاق: «اسمعوا وقولوا: خلص يا رب شعبك بقية إسرائيل... بينهم الأعمى والأعرج... جمع عظيم يرجع إلى هنا.» (إر7:31-8‏)
‏وداود النبي يشترك في الرؤيا: «الرب يطلق الأسرى، الرب يفتح أعين العُمي، الرب يقوّم المنحنين ..» (مز7:146-8‏)
‏وهكذا يقف الأنبياء من وراء الأزمنة والدهور يتطلعون إلى يوم مريض بركة بيت حسدا، والأعمى المولود هكذا من بطن أمه، مع كل الآيات الأخرى التي صنعها يسوع، فيرد عليهم القديس يوحنا بلغته السرية: «هوذا اليوم قد أتى ومن له أذنان للسمع فليسمع!»
«أتريد أن تبرأ»؟ .... «ها أنت قد برئت فلا تُخطىء أيضاً لئلا يكون لك أشر.» (يو14:5)
‏كشف القديس بولس الرسول عن أخطر مشكلة أدبية وأخلاقية بل وروحية تواجه الإنسان في الحياة عندما يتعرض لعمل الإرادة في صراعها مع الخطية قائلآ: «لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده, بل ما أبغضه فإياه أفعل... فالأن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ... لأن الارادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده, بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.» (رو14:7-25)
‏فهنا يستعرض لنا بولس الرسول الإنسان الطبيعي في عراكه الداخلي مع الخير والشر، بعد أن تعرف على ناموس الله من جهة الحق والباطل. فبولس اكتشف في داخله ناموسين: ناموس الخطية المسيطر على الجسد بأعضائه، وناموس الخير والصلاح المسيطر على ذهنه (عقله الروحي)؛ ووجد في الصراع القائم بينهما الإرادة مغلوبة, والخطية غالبة، وبالتالي فالذهن الروحي مكسور ومهان، والأعضاء متمردة تستمرى، الإثم رغمأ عن الإرادة الرافضة!! ولكن بولس الرسول اكتشف أيضاً في المسيح يسوع ناموساً ثالثا أعلى وأكثر قوة وسيطرة هو «ناموس روح الحياة»، أي قوة وفعل الروح القدس الموهوب للانسان مجاناً بالإيمان الذي يأخذه الإنسان حالما يؤمن بالمسيح ويصدق مواعيده، ويخضع لوصاياه, معترفاً بخطاياه واثقا من غفرانها المجاني بالدم بدون نقاش أو شرح أو تحفظ: «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت». وفي الحال تيقن أن «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.» (راجع رو 7 و8)
‏ولكن الخطر الأكبر قائم بالنسبة للانسان الذي فقد «إرادة الخير والصلاح» فهو يفعل الخطية راضياً دون احتجاج من الضمير أو رفض من الإرادة، وبالتالي يكون الذهن الروحي قد انطمست فيه معالم ناموس الله من جهة الخير والشر، فلم يعد عقله منشغلاً بما يرضي الله أو بما يهينه.
‏هنا يأتي المعنى العميق وراء سؤال الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة: «أتريد أن تبرأ», بمعنى: هل لا زالت لك إرادة الشفاء والحياة الأفضل؟ لقد علم الرب أن هذه الفترة الزمنية الطويلة في ذلة المرض والكساح قد حطمت نفس هذا الإنسان، والخطورة هنا تكمن في فقدان الإرادة نحو استعادة الحياة، حتى وإن كان قد بذل جهداً جسدياً عنيفاً ومستمراً ربما كل يوم مرة أو مرتين للنزول في البركة، والتي باءت كلها بالفشل. والرب هنا لا يسأل عن إرادة الغريزة نحو صحة الحياة التي يستوي فيها الإنسان والحيوان حتى وإلى آخر لحظة من عمره, وإنما يسأل عن إرادة استعادة الحياة التي بلا خطية, لأن برء الجسد متوقف على البرء من الخطية. وهذا القصد الإلهي في كلام الرب واضح من انتهار الرب له لما لاقاه بعد ذلك: «ها أنت قد برئت فلا تخطىء أيضاً (أي ثانية) لئلا يكون لك أشر.» (يو14:5)
‏بهذا المعنى يكون الرب قد وضع النقاط على الحروف لتظهر كل قصة هذا الإنسان قبل مرضه وفي مرضه، حتى تبقى إلى الأبد عبرة لكل إنسان!... فقد عاش هذا الإنسان في اقتراف الخطية مما كان سبباً في ضياع صحته حتى آلت إلى ما آلت إليه من الضمور والشلل! لقد انصاع وراء شهوة الخطية فاستعبدته وحطمته. والرب لما راه تحنن عليه من تلقاء ذاته إذ لمح فيه بقايا إرادة، فبادره بسؤاله: «أتريد أن تبرأ؟» ليستنفر فيه الرجاء الذي استبدت به محاولات الثماني والثلاثين سنة البائسة، ولكي يستنهض فيه الإرادة نحو الحياة الأفضل. ويلاحظ القارىء أن الرب لم يسأله عن إيمانه، فالإيمان يُبحث عنه بعد أن نستوثق من وجود الارادة. لأن الإيمان فعل إرادة. فالرب يستنفر الإرادة في الإنسان, إرادة الإيمان بالحياة, ليرسي فوقها قوة الحياة الأفضل.
‏فانظر أيها القارىء كيف أن الرب لا ييأس من خلاص الخطاة، هو يطلبهم ويستنهض إرادتهم. فكيف ييأس الخاطىء من رحمة رب الحياة؟ والقديس يوحنا يقدم مريض الثماني والثلاثين سنة نموذجاً لإرادة الحياة بالنسبة لخاطىء لم تنطفىء منه جذوة الحياة. ويقدم المسيح في منظر من قيل عنه: «قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفىء.» (مت20:12)
‏هذا مما جعل الأباء القدامى وكثيراً من العلماء المحدثين يرون في قصة هذا المريض إشارة إلى شعب إسرائيل الذي أقام في التيه «ثماني وثلاثين سنة»، ثم عاش تحت «الخمسة» أسفار التي للتوراة يترجى حياة وشفاء، فلم يجد: «... الأن قوموا واعبروا وادي زارد، فعبرنا وادي زارد. والأيام التي سرنا فيها من قادش برينع حتى عبرنا وادي زارد كانت ثماني وثلاثين سنة حتى فني كل الجيل... ويد الرب أيضاً كانت عليهم لإبادتهم من وسط المحلة حتى فنوا.» (تث13:2-15)
‏ولكن ليعذرني القارىء إذا قلت إن هذا إسراف في التأويل يُخرج الرواية عن أصالتها التلقائية كما رواها القديس يوحنا ويُضعف من معناها الروحي.
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
7- أَجَابَهُ الْمَرِيضُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».

‏كان رداً من واقع الحال، وكأنى به يريد أن يقول: «أما الإرادة فهي حاضرة عندي يا سيد ولكن أن أجد قوة على التنفيذ فلست أجد!!» وهو رد صائب غاية الصواب استدرج حنان الرب، ولكن خيبة أمل المريض لم تكن في إرادته التي استخدمها مئات المرات، ولكن في بني الإنسان الذين لم يؤتوا الرحمة، فهلا ترحم أنت؟ «الأخ لن يفدي الإنسان فداء.» (مز7:49‏)
‏ولكن بالرغم من صحة الرد وصحة التعليل، إلا أن القضية تحولت في نظر المقعد من قضية حياة في الخطيئة ضد نفسه والله، إلى خطأ الناس وخطية الآخرين. وهذه طبيعة الخطية تخفي نفسها عن مصدرها الحقيقي لتظهر وكأن صاحبها منها براء!! وهكذا تبلغ النفس البشرية تزييفها للحق، الأمر الذي يطوح بها بعيداً عن الله وعن رحمته.
‏لقد وقع «أيوب» البار في هذا التزييف لما أتته بلواه، فنسبها إلى الله، وأخذ يعاتبه «يُكثر جروحي بلا سبب» (أي17:9)!! و«كغافل من الرحمة» و«قد نسي حسنات أيوب الكثيرة في غابر الأزمان» (أي 31)! وماذا كان رد القدير، الذي عيناه تخترقان استار الظلام وأمس مكشوف أمامه كاليوم؛ قال له قولته المشهورة: «تستذبني لكي تتبرر أنت؟» (أي8:40). ولكن وبالنهاية قبل الرب ذنب أيوب على نفسه وبرره وأبرأه!! أليس هو الفادي الذي حمل عارنا؟ وهل تغير الرب أبداً؟
«يا سيد ليس لى إنسان يلقيني في البركة»: لقد استدر عطف السيد. أليس هو القائل على فم إشعياء النبي: «فرأى أنه ليس إنسان, وتحير من أنه ليس شفيع» (إش16:59‏)، فحنت أحشاؤه، «فخلصت ذراعه لنفسه، وبره هو عضده، فلبس البر كدرع وخوذة الخلاص على رأسه» (إش17:59). ونظر إلى المُقعد وكأنه ينظر إلى الشعب بأكمله أو الإنسان ككل!! وقال قولته وكأن ظهره مسنود على الصليب: «قم احمل سريرك وامشي».
 

ميشيل فريد

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 ديسمبر 2008
المشاركات
1,472
مستوى التفاعل
93
النقاط
48
8- قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ».
9- فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ.

‏ألم يقل القديس يوحنا في بدء روايته: «فصعد يسوع إلى أورشليم»؟ إذن، فقد أتى الفادي إلى صهيون. هكذا رآه إشعياء من وراء الدهور: «ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب..، قومي أستنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك» (إش 20:59 و 1:60). فليست بركة بيت حسدا (بيت الرحمة) ذات الخمس أروقة لتترجى بعد، ولا المياه التي تحركها الملائكة، بل ينبوع الرحمة الدائمة والفائضة مجاناً بلا وسيط وبلا شروط! هي كلمة صدرت منه فأحيت العاجز، وشددت أوصال جسده المنحل، وحركت عضلاته الضامرة، دبت فيها قوة الله فأحيتها بأقوى مما كانت. وظهره الذي انحنى تحت عبء السنين الطوال قام واستقام، وحمل ثقل سريره كظهر شاب يستعرض قواه! لقد صار ماضيه الحزين كقصة وشهادة. وهذا حال كل من صدق وآمن بكلمة المسيح. لم يقل القديس يوحنا أن المُقعد آمن بالكلمة، ولا حتى عرف من هو الذي يكلمه!! لكنها «الكلمة» التي خرجت من فم المسيح «الكلمة».
‏فلينتبه القارىء إلى قوة «الكلمة» في حد ذاتها، إنها تنتهر الخطية فتلاشيها، وتنتهر المرض فتلغي سطوته. لقد قال المسيح: إن «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6‏). فإن كانت كلمة المسيح هكذا بهذه القوة فكيف لا نُسكنها قلوبنا؟ وما الذي يقف دون أن تعمل عملها فينا؟ لقد أصابت المُقعد وهو منطرح على سريره، فلماذا لا تصيبنا ونحن منطرحون تحت صليبه؟ و«كلمة» المسيح تعمل عملها ولا تحتاج إلا لمن «يسمعها» ويكون محتاجاً إليها.
‏لقد استخدم المسيح هذا الإجراء الفريد من نوعه في شفاء المُقعد، الذي لم يكن يعي من هو الذي يكلمه، في إثبات صحة وصدق استعلانه لنفسه: «تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو 25:5). فالمُقعد نموذج «لموتى الخطية» الذين يعيشون موتهم وهم يريدون الحياة، الذي حالما سمع صوت المسيح قام وحمل سريره ومشى.
‏فانظر أيها القارىء كيف يقدم القديس يوحنا عناصر قصة شفاء ‏المُقعد بكل دقة وترتيب وحكمة مذهلة لتكون هي نفسها عناصر الحوار اللاهوتي العميق الذي أجراه المسيح مع اليهود بعد ذلك كونه «يعطي الحياة لمن يشاء» (قارن يو21:5)، وأن كل من يسمع مجرد صوته يحيا ولو كان من سكان القبور(قارن يو28:5).
‏وبالنهاية هي ليست مجرد قصة شفاء أو معجزة باهرة من معجزات المسيح، بل هي قصة عمل الفداء مصورة بعمقها.
‏ولو يلاحظ القارىء، يجد أن القديس يوحنا على غير العادة لا يذكر أنها آية, كذلك نجد الرب فى هذه القصة صاحب مبادرة إذ أعطى الشفاء كأمر: «قم», «احمل», «امشي». فخضع له المريض كمن يخضع لفعل دخل كيانه وجدد حاله دون أن يكون له أية استجابة واعية مُسبقة, وأنه شفي في الحال دون إجراءات ثانوية كالغسل في البركة أو خلافه. كذلك فلم يشترط عليه الرب أي شرط، وهذه هي طبيعة الفداء بكل جلاء، مجانية مطلقة، من طرف واحد وهو الله في شخص يسوع المسيح.
‏نحن كلنا هذا المُقعد، إذا أردنا أن نفهم الفداء ونعيه, وإذا تكرمنا أن نقبله طواعية! فنحن تقبلنا هذا الفداء ونحن بعد خطاة مطروحي الجسد تحت ذُلة جبروت الخطية ولا حراك لنا؛ وفعل الفداء سرى فينا ولم يعد لنا, إن كنا نفهم, إلا أن نحمل سريرنا ونذهب نبشر بالذي صنع معنا هذا الفضل الفائق. ولا نعود نخطى، بل نحدث بفضل الذي دعانا إلى الحياة في نوره العجيب.
 
أعلى