تكفيك نقرة صغيرة على غوغل أو على أي محرك بحث آخر، لترى كم انتشرت نظريات الأصول الوثنية الأسطورية للمسيحية بين الناس، وهي نظريات تقوم في مبدأها على نفي أصالة المسيحية باعتبارها إعادة صياغة للأفكار الدينية الوثنية الخرافية التي سبقتها، فمنهم من يقول بأن المسيح ليس إلا اسم آخر لفيشنو الإله الهندوسي المتجسد، ومنهم من يقول بأن المسيح هو صورة أُخرى لأتيس الوثن الروماني، أو لحورس الإله المصري، أو أن المسيحية هي إعادة تشكيل للميثراوية، وغيرها من الادعاءات الفاشلة والتافهة للغاية، والتي في نيتنا أن نفرد لكل منها مقال مفصل للرد عليها تماماً وكشف عريها المخزي عن الصحة، إلا أننا سوف نقدم في هذا المقال دليلاً عاماً شاملاً لما يجب أن نضعه في الحسبان أمام كل ادعاء يقول بأن المسيحية ليست إلا ديانة وثنية ما بنكهة جديدة.
إن أردنا أن نسرد القضايا المنطقية البحثية، والتي تضعف كل ادعاء بكون المسيحية ديانة خرافية أسطورية في أسسها وإيمانياتها الجوهرية، فهي ووفقاً للدكتور رونالد ناش (Ronald Nash) كالتالي:
1- إن كل الادعاءات التي تُقدَم في سبيل إثبات سرقة المسيحية من الأديان الأخرى لهي مغالطة منطقية واضحة، تُقترف كلّما استنتج أحدهم أنه بمجرد حدوث أمرين جنباً إلى جنب فلا بدّ أن أحدهما سبّب الآخر، بينما بشكل عام لا تُحتّم الصدفة المحضة في حدوث أمرين معاً وجود علاقة سببية بينهما، ولا يحتّم وجود التشابه بين الأمرين اعتماد أحدهما على الآخر؛
2- العديد من ادعاءات التشابه بين المسيحية والأديان والأساطير الأخرى تم طرحها بشكل مبالغ فيه وصل إلى حد التلفيق في بعض الأحيان، ذلك أن الباحثين شرحوا الشعائر الوثنية باستعمال لغة المسيحية نفسها وتعابيرها، فأتت تلك الشروحات غير متقنة ولا دقيقة، وبسببها ابتعدنا عن الدقة إلى درجة معها نستطيع أن نتكلم عن عشاءٍ أخير في الميثراوية الفارسية، أو عن المعمودية في دين إزيس الإله الوثن المصري. إنه لَتَصرف تافه وغير مقبول أن نستعير مثلاً لفظة “مخلّص” من كتاب العهد الجديد، بكل ما تحمله من مفاهيم ودلالات مسيحية، ونسقطها على آلهة وثنية من قبيل أوزيريس أو أتّيس، ليبدو الأمر وكأنهم آلهة مخلِّصين بنفس المعاني والدلالات والمفاهيم الّتي كان بها يسوع المسيح مخلصاً للبشرية؛
3- مثل هذه الادعاءات تنطوي على مغالطة تاريخية وخطأ تسلسلي زمني، ذلك أن الغالبية العظمى من مصادر معلوماتنا عن الأديان الوثنية، والتي يُدّعى بأنها أثرت على المسيحية الأولى، تؤرخ إلى وقت متأخر جداً. فعادةً ما نرى الكتّاب يحاولون إقناعنا بأن بولس الرسول تأثر بالشعائر الوثنية اعتماداً على مصادر تعقب الرسول بولس بثلاثة قرون. وأما إن اعتقدنا أن حالة شعائر الأديان الوثنية التي نجدها في القرن الثالث أو الرابع الميلادي هي نفسها ما كانت عليه في القرن الأول الميلادي، فنحن أمام افتراض غير مقبول؛
4- من المستبعد جداً أن يقوم بولس الرسول عمداً بالاستعارة من الأديان الوثنية، فكل ما لدينا من معلومات عنه تجعلنا نستبعد وبشكل كبير تأُثره بالمصادر الوثنية بأي حال من الأحوال. فنحن نتكلم عن شخص يهودي فريسي متشدد للغاية كما نقرأ في رسالته إلى أهل فيليبي إصحاح 3 وعدد 5 :
” مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ “
وهو الذي حذر أهل كولوسي من تأثرهم بالشعائر الوثنية غير المسيحية، منبهاً إياهم من الانسياق وراء تقليد الناس:
” اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ ” (كولوسي 2 : 8)؛
5- لقد كانت الديانة المسيحية الأولى ديانة حصريّة تتطلب منك التقدّس والتفرغ بالكامل للإيمان المسيحي، كما يوضح الباحث J.Machen، وليست كالعبادات الوثنية. حيث يوضح الباحث:
من الممكن أن يتلقّن شخص ما مبادىء عبادة إيزيس أو ميثرا، دون أي حاجة للتخلي عن إيمانياته الأسبق، ولكنه في حال أراد أن يصير مسيحياً، فلكي يُقبل في الكنيسة، عليه ووفقاً لتعليم الرسول بولس أن ينبذ كل إيمانياته الأخرى وآلهته الوثنيين ويؤمن بالرب يسوع المسيح فقط مخلصاً. بين كل ما كان سائداً في العالم اليوناني-الروماني حينئذ، فإن دين الرسول بولس المسيحي، إلى جانب الدين اليهودي الإسرائيلي، دين فريد لا مثيل له
ومن هذا المنطلق، منطلق كون المسيحية ديانة لا تقبل أي ديانة ولا معتقد آخر معها، علينا أن نفهم العلاقة بين المسيحية والأديان الوثنية، التي كانت أصلاً علاقة تنافسية، لدرجة أن أي إشارة للاستعارة من عبادات المجتمع الوثني في العهد الجديد كانت ستثير الجدل في الحال.
6- بخلاف الأديان الوثنية، فإن الدين المسيحي الذي نادى به بولس الرسول كان مبنياً على أحداث تاريخية حصلت حقاً، وليست مجرد أساطير خيالية، فتلك الأديان الوثنية كانت في صميمها غير تاريخية، بأساطيرها الخرافية الدرامية التي كانت تعكس صورة ما يمر به الملقِّن أو المعلم الوثني، وليست أحداث تاريخية واقعية كموت المسيح على الصليب وقيامته مما علّم به بولس. بالتالي، كان المؤمن المسيحي يؤكد أن موت وقيامة المسيح واقعتان حدثتا لشخص حقيقي عاش على هذه الأرض في وقت ومكان معينين، بما لا نجد له أي نظير في أي عبادة أو دين وثني؛
7- بعد كل هذا، فإن ما يبقى من التشابهات بين المسيحية والوثنيات قد يكون انعكاساً لما أثرت به المسيحية على الأديان الوثنية، وليس العكس. حيث يقول Bruce Metzger:
إنه لمن الخطير أن نفترض تأثّر المسيحية دوماً بالأديان الوثنية، ذلك أنه من المحتمل بل من المرجّح في حالات معيّنة كون تلك الأديان الوثنية هي التي تأثرت بالمسيحية وتعاليمها
في الحقيقة، ليس من المفاجىء أن يقوم قادة العبادات الوثنية التي هددتها وتحدتها المسيحية بنجاح بالرد على هذا التحدي المسيحي الصاعد، ولعل أفضل طريقة للرد كانت بتوفير بديل وثني للمسيحية، هذا وأننا نرى أن أسلوب مقاومة تأثير المسيحية المتصاعد من قبل الوثنيين عن طريق تقليدها بشكل زائف اتُبع حقاً في الإجراءات التي أسسها جوليان المرتدّ، والذي كان الامبراطور الروماني بين عامي 361 – 363.
( يُتبــــــــع ...)
(المصدر الأساسي)
التعديل الأخير: