سلام المسيح: أشكر أمنا الغالية
حياة على رفع هذا الموضوع.
مجرد تعليق بسيط على بعض السطور التي قرأتها هنا:
وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ
معرفة الخير والشر تعني انهما موجودان أصلا ولكن آدم لا يعرفهما وسيعرفهما حينما يأكل من الشجرة إذن فمن أوجدهما؟
لا، ليس صحيحا! "
معرفة" الخير والشر لا تعني "
وجود" الخير والشر مسبقا. بل المقصود هنا تحديدا هو العكس تماما: "
معرفة" الخير والشر هي نفسها "
وجود" الخير والشر. "المعرفة" و"الوجود" هنا ليسا حدثين اثنين منفصلين بل حدث واحد. معرفة الخير والشر هي نفسها
ما أوجد الخير والشر. أو بتعبير آخر: وُجد الخير والشر "
لأننا" عرفنا الخير والشر! مثال "الحلم" قد يساعد على التوضيح قليلا:
تخيل أنك ترى في حلمك قطيعا من الأفيال: هل هناك أفيال حقا؟ هل هذه الأفيال "موجودة" مسبقا في مكان ما ثم ذهبتَ إلى هناك أثناء حلمك فرأيتها؟ الإجابة بالطبع لا. بل رؤية الأفيال هي نفسها وجود الأفيال، وهذا هو معنى أنك "تحلم". الأفيال توجد فقط في هذه اللحظة التي تراها فيها، بل لا توجد إلا لأنك تراها. "رؤية" الأفيال بالتالي هي نفسها "وجود" الأفيال، فإذا انتهى الحلم: انتهت الرؤية والوجود كلاهما معا. هذان بالتالي ـ الرؤية من جانبك والوجود من جانب الأفيال ـ ليسا حدثين اثنين منفصلين بل حدث واحد، خبرة واحدة، وهي ما نسمّيه "حلما". وفي هذه الخبرة كما رأينا: لا تنفصل الرؤية عن هذا الوجود الذي تراه. بل الرؤية والوجود ـ لأنهما حدث واحد ـ يظهران معا ويختفيان معا!
كذلك بالضبط هنا:
معرفة الخير والشر هي نفسها ما
أوجد الخير والشر! بل لذلك تحديدا كانت الوصية. كأن الله كان يقول: يا آدم لا تأكل من الشجرة لأنك إذا أكلت من الشجرة و"
عرفت" الخير والشر فإن الخير والشر
سيظهران في عالمك! إذا أكلت من الشجرة فسوف
ينشطر الوجود في وعيك إلى خير وشر. لماذا؟ ليس لأن الله خلق الخير والشر مسبقا، ولكن لأن الإنسان سيفقد "
الوحدة" التي كانت تجمعه مع الله وينفصل بذلك وعيه عن
الوعي الإلهي الفائق، وعندئذ سوف ينشطر العقل الإنساني كما نرى بين ثنائيات لا تنتهي: الخير والشر ـ الحياة والموت ـ الوجود والعدم ـ الحرية والجبر ـ النور والظلمة ـ إلخ.
(هذا بالمناسبة يفسر لغز "الموت" نفسه وكيف ظهر هكذا في العالم بسبب المعصية)!
لكن هذه "القطبية" لم تكن في البدء، ليس هكذا خلق الله العالم، وليس هكذا يراه سبحانه. بل ظهرت هذه القطبية وبدأت كل هذه الثنائيات فقط في وعينا البشري بعد الأكل من الشجرة، أي بعد
انقسام العقل وانشطاره! كل هذه الثنائيات والتناقضات وحتى الصراعات التي نراها ـ بعبارة أخرى ـ
ليست في العالم نفسه كما خلقه الله ولكنها بالأحرى في
عقولنا وأفكارنا وفي رؤيتنا نحن لهذا العالم! أصبحنا كأننا نرتدي "نظارة" تصبغ الوجود كله بلون معين، بينما لا يوجد هذه اللون أصلا في الحقيقة! ولكن كان هذا ثمن "المعرفة الإنسانية" كلها، ثمن "انفتاح الأعين"، وهكذا بدأ "حلم العالم" كما نعرفه حاليا!
دليل ذلك نجده في الكتاب نفسه وحتى في السياق نفسه:
« من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة...؟»
لقد كان آدم طوال الوقت
عاريا تماما، كذلك حواء، فلماذا تركه الله هكذا؟ لماذا لم يطلب منه أبدا أن "يستر" جسده؟ لماذا لم يطلب منه أن يستر على الأقل "عورته" وعورة امرأته؟ إن الكتاب في الحقيقة "يفاجئنا" تماما بهذا العري ـ وهنا تحديدا، فقط بعد الأكل من الشجرة ـ فلماذا؟!
السبب هو أن الله لا يرى الأمر هكذا ابتداء كما نراه! مفهوم "
العري" نفسه ـ مقابل مفهوم "
الستر" ـ لم يكن حتى موجودا! العري والخجل والخزي والحياء والعار والعورة والعيب إلخ: هذه كلها
مفاهيم إنسانية، وهذه كلها لا يعرفها الوعي الإلهي الفائق الذي جمع آدم مع ربه قبل الأكل من الشجرة! كل هذه المفاهيم والأفكار والأحكام ظهرت فقط في العقل الإنساني، وفقط بعد السقوط
(أكلت ـ أعطت رجلها فأكل ـ فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان). بل كان هذا نفسه هو أول معاني السقوط وأهمها: ألا وهو السقوط من تلك "
الوحدة" الوجودية الأولى مع الله، السقوط بالتالي من ذلك الوعي الإلهي الفائق، المتوحد دون تناقض أو انقسام أو انشطار، والذي يتجاوز بطبيعته ثنائيات العقل البشري وتناقضاته جميعا!
أيضا يقول الكتاب:
«ملعونة الأرض بسببك... وشوكا وحسكا تنبت لك»!
فمَن يخلق الشوك والحسك؟ بالتأكيد ليست الأرض نفسها. خالق كل شيء ـ بما في ذلك الشوك والحسك ـ هو الله. من ناحية أخرى: عندما خلق الله كل شيء كان الكل بالعكس "
حسنا جدا":
«ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا»! فكيف نفسر إذاً هذا التناقض؟
ليس ثم تناقض! الشوك والحسك
بهذه الصفة ـ أي بمعنى الجرح والإيلام ـ ليس نفس الشوك والحسك كما خلقه الله. بل الجرح والإيلام هو ما
تضيفه عقولنا نحن على الشوك والحسك! الألم لا يأتي من الشوك والحسك وإنما من وعينا ومن عقولنا نفسها. في عبارة واحدة :
الألم كله داخلنا، ليس أبدا خارجنا، ليس أبدا في هذا العالم أو في أي شيء خلقه الله سبحانه!
وهذا نفسه في الحقيقة هو معنى اللعنة ونتيجتها! فما هي اللعنة؟ اللعنة هي هذه
الرؤية نفسها! هي هذا
الوعي ذاته! هي أن ننظر إلى خلق الله فلا نراه "حسنا جدا" ـ كما يراه سبحانه ـ بل نرى بالعكس الشر والظلمة، المرارة والمعاناة، الشوك والحسك!
اللعنة إذاً ـ بل الشر نفسه والظلمة والألم والشوك والحسك إلخ ـ ليست في خلق الله ذاته، وإنما في رؤيتنا وفي وعينا نحن بهذا الخلق!
الحقيقة هي أننا نعيش حرفيا في
بحر من الجمال والمحبة والنور والقداسة، في وجود
تفوق روعته كل وصف أو تعبير! لكن "
المرض" في عقولنا، في رؤيتنا وفي وعينا، نفس المرض الذي انعكس بالتالي على الخليقة فأصبحت
«الخليقة كلها تئن» حسب وصف الرسول! هكذا احتجب كل هذا الحسن والجمال ولم نعد نرى شيئا من هذه الروعة الفائقة! صرنا بالعكس لا نرى سوى الشر والمظالم، الفقر والشدائد، المرارة والجراح، الشوك والحسك!
(وهذا أيضا يشرح كيف يعيش أهل الله القديسين هكذا لا يفارقهم السلام أبدا مهما كانت شدائدهم أو آلامهم! لقد "شُفيت" عقولهم نفسها ببساطة وشفيت قلوبهم وأرواحهم، من ثم ما عاد شيء في كل هذا العالم يهزهم حقا أو يحزنهم أو حتى يزعجهم! حزنهم الوحيد فقط لأجل الناس وشقاء الناس من حولهم)!
***
وعليه فعندما يقول الله مثلا:
«مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر. أنا الرب صانع كل هذه»!
هذا هو خطاب الله إلى العالم
بعــد السقوط، أي بعد انقسام هذا العالم بالفعل إلى خير وشر! الله في ذاته هو القدوس الذي لا يعرف أي شر البتة. ولكن لأن
العقل الإنساني نفسه ـ
والعالم بالتبعية من حوله ـ قد
انشطر هكذا على هذا النحو إلى خير وشر: أصبح الله من ثم يخاطب الإنسان حسب عقله وأحكامه، ليس حسب وعيه هو نفسه الإلهي الفائق سبحانه. إن مقصود الله هنا ببساطة هو أن ينسب فعل الخلق جميعا إلى ذاته، فلا خالق في الوجود سواه. أما تصنيف "
الشر" مقابل "
الخير" فهذا ما
تخلعه عقولنا وأحكامنا نحن بعد ذلك على هذه الخليقة! الله من ثم هو خالق الشر، نعم، ولكنه "شر" حسب تصنيفنا وأحكامنا نحن وليس حسب مقصود الله. الشر كله ليس أكثر من "مفهوم" عقلي ومن "حكم" بشري تخلعه عقولنا نحن على ما يخلق سبحانه!
***
عذرا للإطالة. كنت أود التعليق سريعا على مسألة المسيح أيضا، وهي بسيطة: المسيح جاز الموت إليه ـ وإن كان بلا خطية ـ لأنه ببساطة حمل خطايا العالم كلها! أليس هذا هو هدف التجسد أصلا؟ (المسيح بالمناسبة
ما زال يحمل خطايانا: هذا حدث
مستمر خارج الزمن: هو يُصلب كل يوم، يقوم كل يوم، ونحن كل يوم
نُصلب أيضا ونقوم معه وفيه
إنسانا جديدا! كل يوم! بل كل لحظة دون استثناء!)
***