وأصبحنا نحن بذلك مولودين من فوق، مولودين بالروح، لأن فيه هو أولاً حصلت الطبيعة الإنسانية على هذا الميلاد الروحاني، وبولس المتوشح بالله، قال بحكمة الروح ونطق الحق بصواب عظيم: "كما لبسنا صورة الترابي سوف نلبس صورة السماوي"، وقال أيضاً: "الإنسان الأول من تراب ترابي، والإنسان الثاني من السماء. ولكن كما الترابيين مثل الترابي، هكذا سيكون السمائيين مثل السمائي" (1كورنثوس 15: 47 و48 و4)، ونحن ترابيين لأن الموت ملك علينا، ففينا التراب من آدم الأول الترابي أي اللعنة والانحلال اللذين بهما دخل ناموس الخطية في أعضاء جسدنا، وإذ زاغ الكل وأخطأ الجميع فظهر إعلان موت الخطية برائحة فساد لا علاج له عند أحد ولا حتى الناموس المقدس نفسه الذي أظهر مدى تورط الإنسان في جحيم مرارة الموت. ولكن – في الواقع اللاهوتي – صرنا سمائيين
إذ نلنا هذا في المسيح يسوع ربنا، لأنه بالطبيعة إله حق من إله حق، وهو اللوغوس من فوق، أي من الله، ونزل إلينا متجسداً بطريقة فائقة، فوُلِدَ بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم، أي تجسد وتأنس لكي يجعلنا مثله ونصبح قديسين وبلا فساد، وتنزل إلينا النعمة من فوق بضمان سرّ الاتحاد الفائق العجيب، ويُصبح لنا بداية ثانية وأصل جديد فيه حينما نؤمن به ونعتمد فيه فنلبسه ونلتصق به التصاقاً ونصير معه روحاً واحداً. لأن من هو الذي يستطيع أن يصعد للسماء ويسكن هناك بقدرته
أو حتى بأعماله مهما ارتقت وصارت في أعلى قيمة إنسانية لها، لأنه لن يصعد أحد قط إلا الذي نزل من السماء، الذي هو طبيعياً في السماء، ابن الإنسان الذي هو ابن الله الحي، لأنه نزل إلى عبوديتنا ومَذَلَّتنا ليُمجدنا ويصعدنا فيه ويجلسنا معه حيثما هو جالس عن يمين العظمة في الأعالي، وهذا هو السرّ الحادث من أجلنا، لأنه لم يتجسد لأجل نفسه بل من أجلنا نحن الأموات بالخطايا والذنوب ليُحيينا معهُ:
+ ونحن أموات بالخطايا أحيانا (الله الآب) مع المسيح، بالنعمة أنتم مخلصون، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع. (أفسس 2: 5، 6) أيها القارئ العزيز، أن هذا السرّ العظيم الفائق كل فحص، سرّ تجسد اللوغوس وحيد الآب،
ينبغي أن نتعمق فيه لا على مستوى الفحص العقلي الخاضع لتقلبات الفكر والمزاج الخاص والمنطق الفلسفي أو المعقول والمقبول على المستوى البشري الطبيعي، بل يتحتم أن ندخل إليه، بل فيه، كسرّ أُعلن لنا من الله في ملء الزمان حسب تدبيره الأزلي، أي ندخل في شخص الكلمة المتجسد نفسه، لأن سرّ التجسد كما علمنا آباء الكنيسة ليس بموضوع نظري فكري للمناقشة وعرض الأفكار والاعتراضات والبحث والجدل، أو إثبات للآخرين أن الله تجسد فعلياً، أو لكي ندافع عن الإيمان أمام الناس لكي نُظهر اننا أصحاب الإيمان القويم، بل هو مجال خبرة وتذوق وحياة شركة في سرّ التقوى، عن طريق الوحدة في المسيح يسوع ربنا مع جميع القديسين كجسد واحد، أي أعضاء المسيح المطعمين فيه كالأغصان في الكرمة. + وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد. (1تيموثاوس 3: 16)
وطبعاً ندخل لسرَ المسيح الرب، لا يعني على الإطلاق أن نتأمله من حين لآخر، أو نتبنى أفكار عن تجسده، ولا لكي نُصيره مجرد مثال أخلاقي لنا أو لمن نخدمهم أو نُعلِّمهم؛ ولكن معنى أن ندخل في سرّ شخص اللوغوس المتجسد، يعني أن ندخل في سره العظيم، أي نشترك باستمرار وتواصل بل وبشكل متزايد في ناسوته الذي فيه اتخذ بشريتنا فنمتلئ بلاهوته، إذ أن لاهوته مستحيل على الإطلاق أن يفارق ناسوته لحظة واحده أو طرفة عين. وبمعنى آخر أكثر وضوحاً وباختصار وبتعبير رسولي
بحسب بشارة إنجيل الخلاص: ((أن نلبس المسيح))، وهذا هو حدث عِمادنا بالماء والروح، فنحن اعمدنا لذلك، أي لكي ندخل إليه، أي نلبسه لبساً، وذلك لكي يصير لبس المسيح حدث حياتنا كلها:
+ لأن كلكم الذين اعتمدتم بـ (في – into) المسيح قد لبستم المسيح. (غلاطية 3: 27)
وعلينا أن ننتبه أن المعمودية أو التعميد ليس فقط بالمسيح
بل وفي المسيح (كما هي موجودة في النص الأصلي اليوناني = into = في داخل) لذلك يقول الرسول [اعتمدتم في المسيح] وهذا يُفيد الدخول الحقيقي والفعلي في المسيح دخولاً سرياً غير منظور، وهو يظهر فينا بثمرة الروح، منظوراً من الناس في سرّ التقوى الذي يظهر فينا بالإيمان العامل بالمحبة، وهذا معناه الطاعة، أي طاعة الوصية، أي اننا نحيا الحياة بالوصية المقدسة التي تظهر في أعمالنا، وبذلك يمجدوا أبانا السماوي بسبب الأعمال التي نعملها بالله. + وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة؛ لأننا نحنعمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها؛ فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات. (يوحنا 3: 21؛ أفسس 2: 10؛ متى5: 16)
فالذي بالمعمودية دخل في المسيح، لا يخرج بدونه أبداً،
فهو يكون قد اتحد بالمسيح اتحاد حقيقي سري غير منظور، وذلك في الحقيقة والواقع وليس مجازاً، بل يظهر في واقع الحياة اليومية يوماً بعد يوماً حينما نحيا بالإيمان الحي حاسبين كل الأشياء خسارة ونفاية من أجل فضل معرفة المسيح ربنا، لذلك يقول بولس الرسول بنظرة ثاقبة لكي يقطع كل شك بيقين إيمان حي: + فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ in. (غلاطية 2: 20)
+ لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم كلكم الذين اعتمدتم في المسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعاً واحد "في" المسيح يسوع. (غلاطية 3: 26 – 28 حسب النص اليوناني (
+ لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا (في) جسد واحد، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحرار، وجميعنا سُقينا روحاً واحداً. (1كورنثوس 12: 13)
لقد ضمنا الابن الحبيب إليه، في جسده، وقد ماثل بشريتنا بناسوته،
فجعلنا نشاركه في طبيعته بتقبل صلاحه وروحه القدوس في أوانينا (وطبعاً غير مقصود على الإطلاق أننا نشاركه ألوهيته أي اننا نصير لاهوت، أو بأننا نصير الله ذاته أو نتحول آلهة مساوين لهُ - هذا تجديف لا يقوله عاقل - وهذا سوف نشرحه بالتدقيق في العنوان المخصص لذلك)
يقول القديس اثناسيوس الرسولي:
[الكلمة تجسد لكي يجعل الإنسان قادراً أن يتقبل اللاهوت][FONT="][iii]http://www.arabchurch.com/forums/#_edn3 [/FONT]
ويقول القديس هيلاري (367 م):
[إن ابن الله قد وُلِدَ كإنسان من العذراء في ملء الزمان لكي يرفع البشرية في شخصه حتى إلى الاتحاد باللاهوت][FONT="][iv]http://www.arabchurch.com/forums/#_edn4[/FONT]
ويقول أيضاً:
[فقد وُلِدَ (ابن) الله إذاً من أجل أن يأخذنا في نفسه إلى داخل الله][FONT="][v]http://www.arabchurch.com/forums/#_edn5[/FONT]
ويقول القديس كيرلس الكبير:
[لقد وُلِدَ بحسب الجسد من امرأة آخذاً منها جسده الخاص لكي يغرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الافتراق][FONT="][vi]http://www.arabchurch.com/forums/#_edn6 [/FONT]من هذا كله يتضح أنه ليس علينا أن نحيا مقلدين من بعيد ومن الخارج أعمال يسوع
من محبة وابتعاد عن الخطية والتصرفات التي ينقلها لنا الإنجيل لكي نحيا في شركة حقيقية واقعية مع الله، فالعمل لكي نكون قديسين بحسب مجهودنا الذاتي وعلى المستوى الشخصي بدون شخص اللوغوس الحي فينا هو غير مقبول أمام الله لأن ثمرته تمجيد الذات والافتخار الشخصي وبلوغ ما ليس لنا: + فقالت الحية للمرأة ... إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان ((عمل شخصي)) منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة ((وليس كالله)) عارفي الخير والشر. (تكوين 3: 4 و5)
وطبعاً على المستوى العملي نسمع كثيراً الأقوال الشهيرة: (أنا مش ها قدر أروح الكنيسة أو مش ها قدر اصلي أو أقرأ الإنجيل وأعيش مع الله إلا لما أبقى كويس) وهذا – بالطبع – حيلة عدو الخير الذي أوهم بها الإنسان، لأنه أقنعه أن الله ينتظر أعماله التي يتبرر بها أمامه، فيبعده عن شخص اللوغوس متصوراً بأن أعماله الحسنة تستطيع أن تُرضي الله، مع أن ثمرة عمل نعمة الله فيه بالروح القدس هو فقط ما يُرضي الله.
هذا غير طبعاً مستوى الوعظ الذي صار منهج للتدريب على القداسة الذاتية واعتبار شخص الكلمة مُجرد مثال لنا كي ما نحاول أن نتبع منهجه من الخارج، أي نصير على خُلق ولنا مجموعة من السلوك والمبادئ، فلا نفعل الشرّ ونبتعد عن الخطية اللي تسببت في جرح المسيح وموته، مع التركيز على الناحية العاطفية التي فيها يتأمل الإنسان محبة الله الظاهرة في آلام المسمار ووجع الشوك فيبكي متأثراً نفسياً بهذه الأوجاع كبنات أورشليم الذين بكوا على الحبيب من أجل آلامه لا من أجل التوبة والالتصاق به والدخول في الشركة معه بالحب الباذل الذي يحمل الصليب بمسرة ذابحاً حياته من أجل من فداه ومات لأجله، ولن استفيض لأن الكلام كله معروف على مستوى الوعظ الهزيل الذي نحفظه منذ الطفولة... فالعمل الشخصي والقداسة التي نكون نحن مصدرها
بجهدنا الخاص – ونحن منعزلين عن حياة الله – كي ما نصل إليه ونرضيه، ليست هي الطريق الحقيقي إلى الله، ولكن على العكس تماماً لأنهُ هوَّ، أي الله بشخصه الذي يقدس الطبيعة البشرية التي اتخذها مرة وإلى الأبد ويدخلها إليه ويقدسها فيه، وذلك لنكون مثله لأنه يطبع ملامحه الخاصة فينا بالروح القدس الذي يأخذ ما له ويعطينا، ولذلك يقول القديس كيرلس الكبير: فولد بالجسد من الروح لكي يجعلنا مثله ونصبح قديسين وبلا فساد، وتنزل إلينا النعمة من فوق، ويُصبح لنا بداية ثانية وأصل جديد فيه. + ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح (القدس وليس من ذاتنا ولا حسب إمكانيتنا) (2كورنثوس 3: 18)
____________________________
[/FONT]
[FONT="]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref1 (عظة 7: 23)[/FONT]
[FONT="][ii]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref2 (تعاليم في تجسد الوحيد 27)[/FONT]
[FONT="][iii]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref3 (ضد الأريوسيين) (وبالطبع لا يعني أن الإنسان يختلط باللاهوت ويصير لاهوت أو يتحول للاهوت، هذا كلام نظري وتحوير في الكلام وقصد الآباء للنقاش والجدل العقلي ما بين مؤيد ومُعارض)[/FONT]
[FONT="][iv]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref4 (في الثالوث 9: 5) (وطبعاً الاتحاد باللاهوت يعني الاتحاد بالله في سر جسد الرب أي المسيح الكلمة المتجسد الذي صار معنا واحد بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، بل هو اتحاداً سرياً كهبة وعطية وتقديس هيكلنا لسكناه بشخصه بدون اختلاط ولا تحول، بل تشرحه العبارة القادمة للقديس هيلاري)[/FONT]
[FONT="][v]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref5 (في الثالوث 9: 7) [/FONT]
[FONT="][vi]http://www.arabchurch.com/forums/#_ednref6 (تفسير لوقا 22: 19)[/FONT]