- إنضم
- 24 أغسطس 2007
- المشاركات
- 524
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 0
تكفيك نعمتي - غلام مسيح نعمان
الفصل الأول
بيتي الإسلامي
وُلدت في عائلة مسلمة مُكوَّنة من ثمانية أفراد، أربعة إخوة أكبر مني وواحد أصغر، وذلك في جامو في كشمير حيث كانت أمي في إجازة، فإن جدودي جاءوا من ظفراوال في سيالكوت. وكانوا أصلاً في منغوليا من أصحاب الأرض الأغنياء. وكان والدي غنياً يملك أرضاً، يزرع القمح بقرب نهر الدِك الذي كان يمتلئ بالمياه في موسم الأمطار فيروي الأرض المحيطة على جانبيه. وكان القمح الذي ننتجه يكفينا ويزيد، وكنا عائلة سعيدة لم نختبر عوزاً. وكان عندنا خدم يقومون بمعظم أعمال الفلاحة، فلم يحتج والدي أن يقوم بأي عمل يدوي. وعندما كبر إخوتي تحملوا مسئولية الزراعة. وقد ولدت أمي إخوة آخرين لي ماتوا في مرحلة الطفولة. فكان ميلادي وبقائي على قيد الحياة يُعتبر معجزة. وقد ثقبت أمي أذني اعترافاً بفضل الله. وكانت مسلمة متدينة، ولكنها في الوقت نفسه احتفظت بعبادة أوثانها القديمة التي كان جدودها يتعبَّدون لها. وكانت تذهب على التلال في كشمير، إلى مزار مقدس لواحدة من الآلهة. ونذرت أنها إذا ولدت صبياً تكرسه لتلك الإلهة وتحضره معها كل سنة تعبيراً عن الشكر. ولذلك ثقبت أذني ووضعت فيها قرطاً ذهبياً ليعلن أني مِلْك تلك الإلهة. ولقد كان ذلك سبب مصائب كثيرة عليَّ في المدرسة، فكان زملائي يضحكون مني. وعندما كنت أتعارك معهم كانوا يشدون القرط فيؤذي أذني كثيراً. وهكذا كانت علامة ميلادي وحياتي كارثة عليَّ من الألم والخجل.
ولكني اكتشفت عندما كبرت أن يداً عُليا كانت معي، هي يد إلهي الحيّ.
وأشفق عمي عليَّ فأزال القرط من أذني، رغم أن أمي تضايقت ضيقاً شديداً لأنها ظنت أن هذا سيميتني، فقد كانت تعتبر القرط طلسماً يضمن سلامتي من الأخطار والموت. وجاء عمي ينقذني مرة أخرى من الرعب وطمأنني بأني لن أموت، وأن إيمان أمي مجرد خرافات. وعندما طلبت أمي أن أصحبها لزيارة ذلك المزار اعتذرتُ بأدب. وكنت في التاسعة من عمري. وعندما مرت الأيام دون أن أموت تخلَّصْتُ من الرعب الذي سيطر عليَّ. ومنذ ذلك الوقت لم أخَفْ أبداً حتى وسط الحالات الخطيرة، ولكني اختبرت الحزن عندما مات أخي الأصغر رمضان فجأة بعد التهابٍ رئوي لم يمهله سوى بضعة أيام. وكنت صغيراً عندما تزوج إخوتي الأربعة الكبار. وعشنا كلنا في بيت كبير يتكون من ثماني غرف للنوم وصالة كبيرة. وكان لكل أخ من إخوتي غرفته المنفصلة له ولزوجته وأطفاله. ولكننا عشنا عيشة مشتركة في كل شيء من الأكل والشرب، كما كانت تفعل العائلات الكبيرة في ذلك الوقت في الهند.
وكانت عائلتنا سعيدة، فقد كانت أمي رقيقة مُحبّة، تحب أبي وتحب زوجات أولادها. وكنت أدعو زوجات إخوتي أخواتي كما علّمني أبي. وهكذا تعاملت معهن إذ لم تكن لي أخت. لقد عشنا حياة محبة عائلية حقيقية.
ولعل القارئ يظن أنه حيث توجد أربع زوجات لأربعة إخوة لا بد أن يكون هناك خلاف. لكن لم يكن عندنا خلاف بفضل محبة أمي وتفهُّمها. وتعلَّمت من أمي كيف أخدم الآخرين، وكانت تقول: الإنسان الذي يحيا لنفسه فقط هو حيوان. فإذا أردنا أن نبرهن أننا بشر، علينا أن نحيا للآخرين . ولقد رأيت أمي تطبق ما تقوله حتى في أقسى الظروف، فكانت محبتها الأساس الوطيد لحياتي. ومع أني مررتُ بفترات مظلمة فيما بعد، إلا أني لم أنفصل تماماً عن ذلك الأساس الكريم.
وكان والدي رجلاً عسكريا، شغل منصباً كبيراً في الجيش في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن الروح الوطنية الهندية في ذلك الوقت قد وصلت إلى المرحلة التي تعتبر فيها خدمة الجيش البريطاني عاراً، فقد كانت الهند جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، وكانت الحرب عبر البحار تحت الراية البريطانية تعتبر عملاً شريفاً. فكان والدي يذكر بفخر ما فعله أثناء الحرب، ويروي لنا قصصاً كثيرة تثير دهشتنا وخيالنا. وكنا نحب أن نستمع إليه وهو يحكي لنا قصةً بعد قصة عن مواقعه الحربية في أفريقيا. وزرعَتْ قصص والدي داخلي رغبة في الحرب، لأني أردت أن أكون مثله، أقوم بعمل غير عادي. وكنت أعتقد أن كل إنسان يجب أن يقوم بعمل شريف يجتذب انتباه الآخرين له. وكلما قام الإنسان بعمل خطير استحقَّ احترامهم.
وكان والدي يهتم بخير الآخرين، فإذا وجد مظلوماً عاجزاً عن الحصول على العدالة يعاونه بكل طاقته، حتى لو أدَّى ذلك إلى الذهاب للمحاكم. غير أن والدي لم يأخذ أية قضية خاصة به إلى المحكمة. وعندما كان يعجز بعض الجنود عن الحصول على معاشاتهم، كان والدي يهتم ويساعدهم ليحصلوا على مستحقاتهم، ولذلك احترمه الجيران كثيراً لأنه كريم النفس. وكان كثيرون من الضيوف يأتون إلى بيتنا.
وذات يوم رحب والدي بقَتَلة أخيه في بيتنا. وكان عمي قد تعارك مع مجموعة من الناس فقتلوه، وهرب قاتلوه لمكانٍ يختبئون فيه. ودون أن يعلموا، احتموا ببيتٍ أقامه والدي وسط الحقول. ولم يكن والدي يعلم ما جرى منهم، فدعاهم ليأكلوا. وأخيراً عرف من أصدقائه أنهم قَتَلة عمي. وكم حزن لأن عمي مات، لكن لدهشة الجميع لم يغضب أبي على القَتَلة، فقد كان رجلاً باراً لا يحمل ضغينة ضد أحد. ومع أن والدي لم يكن يهتم كثيراً بالمظاهر الخارجية للدين، لأنه لم يكن يحب رجال الدين، إلا أنه كان يمارس روح الدين. كان يصلي في الخفاء كمتصوِّف ويكره العبادة العلنية. وكان التصوُّف يعطيه راحةً نفسية، وكان يقول إنه يوصّله بالله مباشرة. والصوفية تشبه الرهبنة المسيحية التي انتشرت في صحاري مصر والعربية. وكان الإمام الغزالي الذي مات سنة 1011م صوفياً كبيراً يتصف بالتواضع وضبط النفس وإنكارها. وكان يقول: إن طاعة الله تنبعث من داخل قلب الإنسان، فعلى كل واحد أن يلاحظ تعاليم الله وشرائعه، وأن يطلب طهارة نفسه، وأن يصرف وقتاً في التواصل مع الله والتأمل ليعرف محبة الله . ولذلك استطاع أبي أن يحب الله وأن يطيعه. ومع أن بعض المتصوفين كانوا يستعملون مخدرات ليصلوا إلى حالة السموّ، إلا أن والدي كان يرفض هذا تماماً، لأن علاقته بالله كانت تنشئ داخله هذه السعادة العميقة، فلم يلجأ أبداً إلى المخدرات أو الموسيقى أو الرقص. وكانت طمأنينته الداخلية سِمَةً دائمةً لحياته.
كان والدي في البيت رجلاً رقيقاً يهتم بتعليم وخير الجميع، فعلَّمني وإخوتي في مدرسة تبعد ثلاثة كيلومترات من بيتنا. وليسهّل الأمور علينا بنى لنا بيتاً قريباً من المدرسة في ظفراوال حتى نصل إلى المدرسة في موعد مريح. والتحقتُ بالمدرسة الإبتدائية في الخامسة من عمري، وبدأت أتردد على الجامع القريب من بيتنا كل يوم جمعة، فقد كانت عادتنا أن الطفل عندما يبلغ الخامسة من عمره يجب أن يذهب للجامع مرة أسبوعياً، ويحفظ القرآن الكريم. وعندما كان الإمام يؤمّنا في الصلاة كنت أؤدي الركعات كما كان يفعل. ثم كان يلقي موعظة عن صفات النبي محمد وتعاليمه. ومع أنه لم يكن من السهل عليَّ أن أفهم ما يقول، إلا أن الإمام لقَّنني الكثير عن إيماني بما في ذلك تلاوة الشهادتين لا إله إلا الله. محمد رسول الله .
وكان ناظر المدرسة ذا تأثير كبير عليَّ، فقد كان شاعراً وخطيباً وكاتباً وموسيقياً، شجعني أن أبدأ كتابة الشعر بنفسي. وكان ذلك مصدر سعادة حقيقية لي. وكانت الكراسة التي أكتب فيها الشعر دائماً في متناول يدي. وتعلمت أن أعزف الموسيقى، ولو أنهم في البيت )لأسبابٍ دينية( لم يسمحوا لي بالتدريب، فسمح لي الناظر أن أتدرَّب في بيته. وكانت يد الله عليَّ منذ مطلع سنوات حياتي، لأنه كان يجهزني لحياة خدمة. لقد اهتم الله بأصغر تفاصيل حياتي.
قضيتُ أربع سنوات في المدرسة الابتدائية. وعندما بلغت التاسعة غادر إخوتي البيت، فذهب اثنان منهم إلى جامو واثنان إلى لاهور . وبدأت أهتم بالدراسة الأكاديمية، ولكن عائلتي قررت أن أقوم بذلك بنفسي، فالتحقت بالمدرسة الثانوية في جامو في كشمير. وكان طلبة المدرسة من أبناء الأغنياء والعائلات ذات النفوذ )المهراجات( الذين حكموا أجزاءً متعددة في الهند. وكان منهم في كشمير اثنان وعشرون مهراجا في ذلك الوقت. وكنتُ المسلم الوحيد في المدرسة التي لم تكن تسمح إلا بتعليم الهندوس وحدهم. ولكن لما كان والدي ضابطاً بالجيش، وصاحب نفوذ إجتماعي فقد أقنع ناظر المدرسة أن يقبلني. وكان الناس يجدون صعوبة في رفض طلبات أبي. وكانت تلك المدرسة تقدم تدريباً عسكرياً يناسب أبناء الملوك، فكنا نركب الخيول، الأمر الذي أحببته، كما استمتعت بالتصويب وإطلاق الرصاص. وكانت بندقية والدي خفيفة الوزن، فكنت أقضي معها وقتاً طويلاً كلما سنحت لي الفرصة. وكنت أحب ذلك أكثر من إحضار اللبن كل صباح، الأمر الذي كنت أحتقره لأني أعتقد أنه عمل الخدم. وكان الصيد يستهويني أكثر من الدراسة، خصوصاً أني لم أكن جاداً في الدرس. ولم أجد حكمة في أن أتابع الدراسة، فقد كان زملائي من أب
ناء المهراجات يستعدون لمستقبلهم ليكونوا ضباطاً في الجيش، أو في خدمة الحكومة، أما أنا فلم أكن أعرف أيَّ مستقبل ينتظرني بعد دراستي. ولما كانت المدرسة للهندوس، فقد كانوا يراعون التعاليم الهندوسية. فكنت أستيقظ معهم مبكراً للصلاة، وأحفظ عن ظهر قلب فصولاً من كتبهم المقدسة. ولكن الهندوسية لم تجتذبني، ولو أن ما تعلمته منها أعطاني فهماً كافياً لها. وكان يجب أن أتعلم اللغة الهندوسية التي أتكلمها الآن بطلاقة منذ ذلك الوقت. وكان هناك نقص في تعليمي الثانوي، هو أني لم أتلقَّ أي تعليم عن الإسلام. ومع أني كنت سعيداً بذلك إلا أن أخي خودا بخش لم يكن سعيداً به. ومات أبي فتحمَّلأخي مسئولية الإشراف على تعليمي، ونقلني من مدرستي الهندوسية إلى مدرسة إسلامية. واكتشفت أنها أقرب ما يكون إلى ملجأ أيتام أكثر منها مدرسة داخلية. ولكن هذا لم يضايق أخي في شيء، فقد كان يريدني أن أتعلم أصول الإسلام مهما كان المكان الذي أتلقاه فيه. ولم أكن تلميذاً مجدّاً، فكنت أهرب من الدروس وأذهب إلى البيت لأتناول الطعام عندما لا يكون أخي في المنزل. وكانت زوجات إخوتي يخفين عن أخي ذلك حرصاً على علاقتي به. وكان أخي يدفع نفقات تعليمي ويقاسي الكثير ليدفع تلك النفقات. وزادت حالتي سوءاً في الدراسة عندما تعرفت على شابة أثناء إحدى إجازاتي في قرية قريبة من سريناجار حيث كنا نملك قطعة أرض. هناك قابلت سليمة ووقعت في حبها منذ أن وقعت عيناي عليها. كانت قريبة لنا، وكان أبوها صديقاً لأبي. ولم أعرف أن إعجابنا كان متبادلاً إلا عندما حلَّ موعد رحيلي. فقد كنت معها وحدنا عندما بدأت تبكي ولم تُرد أن أذهب. وقد لمس هذا قلبي وزاد حبي لها كثيراً. وفي العام التالي عدت إلى ذات البلد حيث كانت سليمة فوجدتها قد كبرت وصارت أكثر جمالاً. ولكني لاحظت فيها تغييراً لأنها لم تكن تقترب مني كما كانت تفعل في العام السابق، وأكدت لي أن حبها لي أكبر وأني أوحشتها جداً. وقد حيَّرني هذا، فتساءلت: تُرى ما هو الخطأ؟ لقد كانت علاقتنا طاهرة، وكنا نفرح ببعضنا، واختبرنا محبة سامية بغير جنس، لأني كنت قد تعلمت أن الجنس يدمّر العلاقات الجميلة، ويجب أن نبقيه إلى ما بعد الزواج. ولكني أدركت أنها لن تكون زوجتي، فقد أحسَّت عائلتها أن عائلتي لن تقبل زواجنا، لأن عائلة سليمة لم تكن على مستوى عائلتنا في الغنى، ولذلك لن تسمح عائلتي بزواجي منها. وكم انكسر قلبي، لكن لم يكن هناك ما أستطيع أن أفعله. وقد سبَّب ذلك توتراً بيني وبين عائلتي.
واعتصر الحزن قلبي وأنا أعود للمدرسة، فلم أكن متحمساً للدراسة. صحيح أني لم أكن متحمساً للدراسة من قبل، أما الآن فقد صرت أقل حماساً وأقل سعادة بالمدرسة وبالبيت، لأني شعرت أن عائلتي تدمر فرص سعادتي. وسرعان ما وصلت علاقتي بأسرتي إلى قمة التوتر. فقد تركت المدرسة يوماً وجلست في محل لشرب الشاي، وإذا بأخي يضبطني هناك. وسألني: لماذا تشرب الشاي في موعد المدرسة؟ ولم يكن عندي جواب مقبول أقدمه له، فغضب عليَّ كثيراً. ورأى أخي ولداً صغيراً في الثامنة من عمره يعمل في محل الشاي، فانتهز الفرصة ليسخر بي أمام الجميع. فاستدعى الولد وبدأ يسأله: متى تستيقظ في الصباح يا ولدي؟ فأجابه: في الثالثة صباحاً يا سيدي، فأنظف الأطباق القذرة من الليلة الماضية، وأجلو أواني الطبخ لتجهيز طعام الإفطار. ثم أبقى في محل الشاي كل النهار . فسأله: ومتى تنام يا ولدي؟ فقال: لا يمكن أن أنام قبل الحادية عشرة مساءً . فنظر إليَّ أخي بعينين غاضبتين وقال: انظر إلى هذا الولد الصغير الذي لم يكن من الواجب أن يترك حضن أمه، لكنه لا ينام إلا أربع ساعات يومياً. ليكن نموذجاً ودرساً لك. أنت يا من لا تدرس ولا تعمل! كن رجلاً! . وتركني ومضى. وكم خجلت وسط أهل قريت
ي وأخي يفضح كسلي! صحيح أن عائلتي كانت غنية وذات شهرة طيبة، ولكني كنت لهم كشَوْكة في العين. واكتشفتُ فجأة أني معتمد على غيري. وكانت كلمات أخي لي تحدياً شخصياً، فقررت أن أعتمد على نفسي، وقلت: لن أحيا على حساب الآخرين! . وبكل أسف لم يكن هذا القرار دافعاً لي على أن أتحمس للدراسة، إنما قررت أن أهرب من المدرسة قبل امتحانات السنة العاشرة من دراستي.
الفصل الثاني
من هو المسيح؟
كنت في السادسة عشرة من عمري عندما بدأت الحرب العالمية الثانية. وكان لا بد للهند أن تدخل الحرب. لقد كانت النازية شراً يجب أن نقف كلنا ضده. ورأى الهنود في النازية عنصرية إمبريالية. ولكن روح الاستقلال كانت تعمّ الهند، فأعلن البرلمان الوطني الهندي بأعلى صوت أن الهند الحرة سوف تشترك في الحرب ضد ألمانيا. وكان لا بد من استشارة الشعب قبل دخول الحرب، وانقسم رجال السياسة فيما بينهم. لقد كرهوا عدوان هتلر، وفي الوقت نفسه لم يكونوا يحبون مساعدة بريطانيا!
ولما كانت الدول المُستعمَرَة لا تستطيع أن تختار حظها وطريقها، فقد وجدت الهند نفسها تحارب مع بريطانيا. وكنت مشتركاً مع المتحمسين في طلب الاستقلال من بريطانيا، ولكني كنت صغير السن لا أدرك أسرار السياسة. وكنت في ذلك الوقت أفتش عن عمل أقوم به، فانضممت إلى سلاح الطيران. ولم أجد صعوبة في أن يقبلوني. وأصبحت ميكانيكياً أعمل في صيانة الطائرات وتلقيت تدريبي في لاهور وكان أول تعيين لي في مطار كلكتا . وبعد ذلك أرسلوني إلى بورما ورانجون . وكنت أعمل تحت الطلب أربعاً وعشرين ساعة يومياً. ثم أرسلوني إلى كلية ضباط الطيران في كلكتا حيث انضممت إلى سلاح المخابرات. وتأثرت كثيراً بنصيحة قيلت لي: عليك أن تربح ثقة العاملين معك . وهكذا حاولت أن أربح ثقة الذين يعملون تحت أمري، وبنيت معهم علاقات شخصية قوية. وتذكرت نصيحة أمي، ومثال أبي، فأحببت الجميع بغضّ النظر عن لونهم وعِرْقهم وعقيدتهم. ولم أعصَ أبداً أوامر رؤسائي، كما لم أسمح لمرؤوسيَّ أن يعصوني.
ولم أكن ضد الإنجليز، ولكني كنت ألاحظ أن علاقاتنا معهم لم تكن طيبة لأن كبار الضباط البريطانيين كانوا ينظرون إلينا بعدم احترام، ويعتبروننا من الدرجة الثانية لمجرد أننا هنود. وكان بعضهم يعاملوننا بغير أدب. وكنا نلتقط كلماتهم الإنجليزية ونستعملها أحياناً دون أن نفهم المعنى المضبوط لكل كلمة. وذات يوم استدعاني أحد الضباط الكبار وسألني: من أين تعلمت هذه الكلمات الإنجليزية يا ولدي؟ فأجبته: من الضباط البريطانيين . فقال لي: هذه لغة سيئة غير مؤدبة، وهي مخجلة. أرجوك ألاَّ تستعملها مرة أخرى .
وكنا نفضل أن نتعيَّن في بلاد بعيدة بالرغم من شدة حرارتها لنكون بعيدين عن الإنجليز. وشعرنا أنهم لا يهتمون بسلامتنا. فذات يوم كلّفونا بإصلاح طائرة، ثم طلبوا من أحدنا أن يقوم بتجربتها، ونسوا أن يعطوا خبراً لسلاح الدفاع بأن تلك الطائرة بريطانية وتحت التجربة. وفي طريق عودة الطيَّار الهندي الذي جرّبها أصابه رجال الدفاع الجوي البريطاني وقتلوه.
ثم حدثت حادثة أخرى مؤلمة أثناء المجاعة في البنغال كشفت عن رداءة الإنسان، ففي سنة 1943 - 1944 أصابت مجاعة شرق وجنوب الهند والبنغال، تبعها وبأ الكوليرا والملاريا. وقالت السلطات الرسمية إن ضحاياه بلغت ثلاثة ملايين نفساً ونصف. فقد كان الآلاف يموتون كل يوم. وكان يمكن أن ننقذ حياة الكثيرين لو أن السلطات المسئولة تصرفت باهتمام وكفاءة، فقد كانت الأدوية والأطعمة تملأ المخازن. عند ذلك بدأت آخذ من الشاي والسكر والأدوية للمحتاجين. لكن المؤسف أن بعض الأغنياء زادوا غنى إذ باعوا الأدوية والأطعمة بأضعاف سعرها، حتى اضطر كثيرون من الفقراء أن يقدموا بناتهم للبغاء. لقد عصف الحزن والبؤس بقلبي وأنا أرى هذه الحالات المؤلمة لمرضى وجوعي وموتى لا ينقذهم إخوتهم في الإنسانية، بل يشربون ما بقي من دمائهم ليزدادوا غِنى! وسألت نفسي: أين الله وسط كل هذا؟! .
ولكني سرعان ما بدأت أرى النور وسط الظلام. فقد كان بين الضباط الإنجليز بعض المسيحيين الحقيقيين الذين ساروا في خطوات سيدهم المسيح، وأظهروا نور الله ومحبته. وقد نمت بذور هذه المحبة في قلبي حتى أينعت واكتملت بتجديدي للمسيح.
وكان أحد هؤلاء النجوم اللوامع الكابتن باكستر وهو ضابط شاب في فرقتنا. ومع أنه كان - شأنه شأن بقية الإنجليز - متحفّظاً، إلا أنه كان متسع العقل، وكانت معاملاته لمرؤوسيه طيبة وبطريقة شخصية. لم يكن يتكبر على الهنود، بل كان يطلب خيرهم. وعندما احتاج الضباط الهنود إلى بعض أدوات الطبخ، أمر فوراً بإعطائها لنا، كما أمر بتقديم طعام خاص للمسلمين يتناسب مع فروض دينهم. وذات يوم احتجنا إلى فُرن من الطين لنخبز فيه بالطريقة التي تعوَّدناها. وانذهلْتُ في آخر اليوم عندما رجعت إلى المعسكر فوجدت فُرناً مبنيَّاً بالمواصفات المضبوطة، قام الكابتن باكستر وحده ببنائه كما طلبنا. فزاد إعجابي به. وجعلت أراقبه، فوجدت أنه يلاحظ احتياجات الناس ويعمل على تقديمها. كما كان يتناول إفطاره معنا كل يوم، بينما لم يفعل هذا غيره من الضباط البريطانيين ترفُّعاً علينا. ومع أن هذا شيء بسيط، إلا أنه ترك في نفسي أثراً كبيراً. وذات يوم جاء أحد رجالنا إلى مائدة الإفطار بغير أن يحلق، فلم يوبخه باكستر لكنه أعطاه شفرة حلاقة من جيبه. وهكذا كان يفعل لينبّه الجنود والضباط إلى مسئولياتهم.
ولقد أثَّر فيَّ كثيراً موقف باكستر أثناء الغارات الجوية، فلم يكن يهرع إلى الملجأ )المخبأ( بل كان يدعو الرجال جميعاً إلى الكنيسة للصلاة. وكانت الكنيسة مجرد خيمة مخصصة للعبادة. وكنا عادة نطيعه. وذات يوم كان هجوم اليابانيين علينا شديداً للغاية. وامتلأت السماء بالطائرات. ودعانا باكستر للكنيسة، وذهبنا معه والموت يحيط بنا. وقلت في نفسي: من المعقول أن نذهب لتلك الخيمة عندما تكون الغارة بسيطة، أما والغارة الجوية قوية فيجب أن نذهب إلى الملاجئ )المخابئ( . ولكنه سرعان ما طمأننا وقال: سأصلي للرب يسوع المسيح. أنتم لا تحتاجون أن تضعوا إيمانكم فيه، فقط قولوا آمين على طلباتي . ومع أننا كنا في أول الأمر نشك لكننا طاوعناه. وبدأ باكستر يصلي، ولا تزال كلماته ترن في أذنيَّ إلى اليوم: يا ربي يسوع، أعلِنْ قوتك وعظمتك الآن. أثبِتْ لهؤلاء الرجال أنك حيّ. احفظهم من الغارة من أجل خاطر أحبائهم وآبائهم. عرِّف هؤلاء الرجال أنك حي قادر أن تخلص، ليس فقط الجسد من الهلاك والموت، لكن النفس من الخطية .
وحدث تغيير في الخيمة كلها عندما كان باكستر يصلي، فقد صمت الجميع. والأغرب من ذلك أننا لم نعد نسمع أصوات الانفجارات في الخارج. وعندما خرجنا من الخيمة كان المنظر مذهلاً. كانت أشلاء الرجال متناثرة هنا وهناك. أما الوحدة التي على الجانب الآخر من النهر فقد زالت تماماً بعد أن دمرتها القنابل! وكانت صرخات الجرحى تملأ آذاننا. وكانت إحدى القنابل قد سقطت في النهر فكان ماؤه يغلي، والطين يفيض على جانبيه، وسحابة ثقيلة من الدخان الأسود تخيِّم على المكان معلنة الدمار الشامل الذي حلَّ به. ولم نملك إلا أن نقول: إن مسيح باكستر حيّ، استجاب صلاته وخلَّص شعبه. فمن هو يسوع هذا؟ !
كل ما كنت أعرفه عن المسيح أنه نبي من الأنبياء كما يقول القرآن. ولكني لم أسمع من قبل صلاة بسيطة مباشرة كصلاة باكستر . وتذكرت أني في طفولتي كنت أذهب إلى كنيسة مع بعض أصدقائي وأستمتع بالترتيل، وألعب مع بقية الأولاد باللعب المتوافرة في فناء الكنيسة. ولكني لم أفهم شيئاً من صلاة القسيس، رغم أن صوته كان عالياً. لم يكن صوت باكستر عالياً، لكنه كان يصلي كمن يكلم صديقاً يقف إلى جواره. وكانت صلاته بسيطة واضحة بلا تكلّف. وسألت نفسي: هل يمكن أن أصلي أنا كما يصلي باكستر ؟
الفصل الثالث
معارك من داخل ومن خارج
بعد انتهاء الغارة الجوية اليابانية عملت كميكانيكي طيران. ولكن عملي توقف بسبب حادثة كادت تُنهي حياتي، فقد كنا نصلح الطائرات المتعطلة ونجربها. وذات يوم تلقيت أمراً من القائد أن نعيد إصلاح طائرة، لأن إصلاحها الأول لم يكن كافياً. وعندها تذكرت أن أحد زملائي وهو يجرب طائرة بعد إصلاحها أُصيب فتشوَّه نصف وجهه. ولكن كان يجب أن أطيع الأوامر، فاعتليت الطائرة مع زميلٍ لي. وأمرونا أن نطير ثلاثاً وثلاثين دقيقة قبل أن نعود. ولكن على بُعْد ثلاثين ميلاً من مركز إصلاح الطائرات أُصيبت طائرتنا، وأُصبت أنا أيضاً. فأزاحني زميلي من مقعد الطيَّار وتولى القيادة حتى هبطنا بسلام. ونقلوني إلى المستشفى، وقد احترق نصف وجهي الأيمن. ولم أكن مدركاً لما حدث لي بسبب غيابي عن الوعي. وعندما بدأت أفيق سمعت محادثة بخصوصي. كان أحد الأطباء يطلب دخولي جناح الضباط، بينما الآخر يرفض ذلك لأني لست ضابطاً. وسمعتُ ممرضتين تناقشان الطبيبين، أيّهما أكثر أهمية، الرتبة العسكرية أو حياة هذا الشخص؟ ولكنهما لم تنجحا في إقناع الطبيب، فلم أدخل للعلاج في جناح الضباط. فقررتا أن تأخذاني إلى جناح الممرضات لتقدّما لي عناية خاصة. ولم أكن أعلم أين أنا، لأن عينيَّ كانتا مربوطتين. وكان كل ما عرفته عن إصابتي ما كنت أسمعه من المحيطين بي بخصوصها. ورقدت في تلك الغرفة عشرين يوماً، لقيتُ أثناءها عناية كاملة من الممرضتين اللتين كانتا كملاكين. واستطعت أن أبصر بعيني اليمنى. وفي يوم خروجي عرَّفتني الممرضتان بنفسيهما: أمبر وماري ممرضتان هنديتان. وسألتهما عن سر اهتمامهما بي، واندهشتُ من الإجابة. لم يكن ممكناً أن تقولا لي: لأنك شاب جذَّاب، فقد كانت الضمادات تغطي وجهي. ولا لأنهما ستنالان مكافأة مالية، فلم يكن معي شيء. وكم اندهشت إذ قالتا إن اهتمامهما بي يرجع إلى أنهما مسيحيتان. وقالتا: لقد تألم مخلّصنا لينقذ البشر، فتعلّمنا منه أننا يجب أن نخدم الآخرين .
واندهشت من هذه الإجابة وبكيتُ حتى أغرقتْ دموعي وجهي. لقد خجلتُ من ممرضتين تعتنيان بمريض عاجز لأنهما مسيحيتان. فشجعتاني وقالتا: لا يجب أن تبكي لأن جرحك حديث . فأحنيت رأسي بإحساسٍ غامرٍ بالشكر، وكم وددت أن أقبّل أقدامهما. لقد رأيت السيد المسيح في تلميذتين من أتباعه. كان هو نفسه يتابعني حتى لا أهرب منه. لقد رأيت أتباعه يعتنون بالآخرين ويطبّقون ما كانت أمي تحاول أن تعلّمه لي. لقد لمستُ حضور الله في شعبه.
وعندما عدتُ إلى المعسكر أعطوني عملاً خفيفاً يتناسب مع حالتي الصحية. فكان عليَّ أن أمنع رجال سلاح الطيران من دخول أجزاء في المدينة لا يجب أن يدخلوها، حرصاً على سلامتهم. وأعطاني هذا العمل فرصة التعرُّف على أهل بلدي. لم أكن أتوقع أن أجد محبة، لكن هذا ما وجدته. فقد تعرفت على شاب هندي اسمه فيليب من ولاية بيهار، كانت صحبته سعيدة، وكنا نقضي أوقاتاً كثيرة في الضحك. وكان كل أصدقائي يحبون أن يكونوا مع فيليب للاستمتاع بروحه المرحة. وذات يوم صدرت الأوامر بنقله إلى مكان آخر، وكان عليَّ أن أبلغه ذلك. وعندما أبلغته حزن حزناً كبيراً. ولما سألته عن السبب، قال لأنه تعرَّف على فتاة اسمها كُمْلة، مومس من عائلة حقيرة، يريد أن يتزوجها لينقذها من البؤس الذي كانت فيه. وقال لي: إن ديانتي تقوم على التضحية. لقد أحب المسيح أشخاصاً مثلي وبذل نفسه من أجل خلاص نفوسهم. فإن كان قد قبلني بخطاياي، فيجب أن أقبل الخطاة بغير احتقار . وقد اندهشت من هذا التعليق. كنت أظن فيليب مجرد شخص ضحوك، أما الآن فقد رأيته في صورة جادة، تحكم مبادئُه تصرفاتِه. كان فيليب كضوءٍ وسط الظلام! وحاولت أن أثنيه عن عزمه في الزواج من كُملة، لكنه رفض تماماً. فقد كان عرضه عليها الزواج تضحية من جانبه على مثال تضحية المسيح.
وأدرك الكابتن باكستر ما يفعله فيليب، فشجَّعه على ذلك. وتم إلغاء قرار نقل فيليب. ودعونا كُملة لتقيم بالقرب من المعسكر إلى أن يتمم قسيس المعسكر مراسم الزواج. ثم أخذ فيليب كُملة إلى قريته بكل شجاعة ليعلن زواجه. وكان يمكن أن يتزوج بها في مكان بعيد لا يعرف أحدٌ عنها فيه شيئاً. لقد رأيت في فيليب المحبة التي رأيتها في باكستر وفي الممرضتين أمبر وماري ، وجعلت أتساءل: أين يجد الإنسان شجاعة ليقف ضد الممارسات والعادات الإجتماعية، ويضحي فيتزوج فتاة مثل كُملة؟
بيتي الإسلامي
وُلدت في عائلة مسلمة مُكوَّنة من ثمانية أفراد، أربعة إخوة أكبر مني وواحد أصغر، وذلك في جامو في كشمير حيث كانت أمي في إجازة، فإن جدودي جاءوا من ظفراوال في سيالكوت. وكانوا أصلاً في منغوليا من أصحاب الأرض الأغنياء. وكان والدي غنياً يملك أرضاً، يزرع القمح بقرب نهر الدِك الذي كان يمتلئ بالمياه في موسم الأمطار فيروي الأرض المحيطة على جانبيه. وكان القمح الذي ننتجه يكفينا ويزيد، وكنا عائلة سعيدة لم نختبر عوزاً. وكان عندنا خدم يقومون بمعظم أعمال الفلاحة، فلم يحتج والدي أن يقوم بأي عمل يدوي. وعندما كبر إخوتي تحملوا مسئولية الزراعة. وقد ولدت أمي إخوة آخرين لي ماتوا في مرحلة الطفولة. فكان ميلادي وبقائي على قيد الحياة يُعتبر معجزة. وقد ثقبت أمي أذني اعترافاً بفضل الله. وكانت مسلمة متدينة، ولكنها في الوقت نفسه احتفظت بعبادة أوثانها القديمة التي كان جدودها يتعبَّدون لها. وكانت تذهب على التلال في كشمير، إلى مزار مقدس لواحدة من الآلهة. ونذرت أنها إذا ولدت صبياً تكرسه لتلك الإلهة وتحضره معها كل سنة تعبيراً عن الشكر. ولذلك ثقبت أذني ووضعت فيها قرطاً ذهبياً ليعلن أني مِلْك تلك الإلهة. ولقد كان ذلك سبب مصائب كثيرة عليَّ في المدرسة، فكان زملائي يضحكون مني. وعندما كنت أتعارك معهم كانوا يشدون القرط فيؤذي أذني كثيراً. وهكذا كانت علامة ميلادي وحياتي كارثة عليَّ من الألم والخجل.
ولكني اكتشفت عندما كبرت أن يداً عُليا كانت معي، هي يد إلهي الحيّ.
وأشفق عمي عليَّ فأزال القرط من أذني، رغم أن أمي تضايقت ضيقاً شديداً لأنها ظنت أن هذا سيميتني، فقد كانت تعتبر القرط طلسماً يضمن سلامتي من الأخطار والموت. وجاء عمي ينقذني مرة أخرى من الرعب وطمأنني بأني لن أموت، وأن إيمان أمي مجرد خرافات. وعندما طلبت أمي أن أصحبها لزيارة ذلك المزار اعتذرتُ بأدب. وكنت في التاسعة من عمري. وعندما مرت الأيام دون أن أموت تخلَّصْتُ من الرعب الذي سيطر عليَّ. ومنذ ذلك الوقت لم أخَفْ أبداً حتى وسط الحالات الخطيرة، ولكني اختبرت الحزن عندما مات أخي الأصغر رمضان فجأة بعد التهابٍ رئوي لم يمهله سوى بضعة أيام. وكنت صغيراً عندما تزوج إخوتي الأربعة الكبار. وعشنا كلنا في بيت كبير يتكون من ثماني غرف للنوم وصالة كبيرة. وكان لكل أخ من إخوتي غرفته المنفصلة له ولزوجته وأطفاله. ولكننا عشنا عيشة مشتركة في كل شيء من الأكل والشرب، كما كانت تفعل العائلات الكبيرة في ذلك الوقت في الهند.
وكانت عائلتنا سعيدة، فقد كانت أمي رقيقة مُحبّة، تحب أبي وتحب زوجات أولادها. وكنت أدعو زوجات إخوتي أخواتي كما علّمني أبي. وهكذا تعاملت معهن إذ لم تكن لي أخت. لقد عشنا حياة محبة عائلية حقيقية.
ولعل القارئ يظن أنه حيث توجد أربع زوجات لأربعة إخوة لا بد أن يكون هناك خلاف. لكن لم يكن عندنا خلاف بفضل محبة أمي وتفهُّمها. وتعلَّمت من أمي كيف أخدم الآخرين، وكانت تقول: الإنسان الذي يحيا لنفسه فقط هو حيوان. فإذا أردنا أن نبرهن أننا بشر، علينا أن نحيا للآخرين . ولقد رأيت أمي تطبق ما تقوله حتى في أقسى الظروف، فكانت محبتها الأساس الوطيد لحياتي. ومع أني مررتُ بفترات مظلمة فيما بعد، إلا أني لم أنفصل تماماً عن ذلك الأساس الكريم.
وكان والدي رجلاً عسكريا، شغل منصباً كبيراً في الجيش في الحرب العالمية الأولى. ولم تكن الروح الوطنية الهندية في ذلك الوقت قد وصلت إلى المرحلة التي تعتبر فيها خدمة الجيش البريطاني عاراً، فقد كانت الهند جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، وكانت الحرب عبر البحار تحت الراية البريطانية تعتبر عملاً شريفاً. فكان والدي يذكر بفخر ما فعله أثناء الحرب، ويروي لنا قصصاً كثيرة تثير دهشتنا وخيالنا. وكنا نحب أن نستمع إليه وهو يحكي لنا قصةً بعد قصة عن مواقعه الحربية في أفريقيا. وزرعَتْ قصص والدي داخلي رغبة في الحرب، لأني أردت أن أكون مثله، أقوم بعمل غير عادي. وكنت أعتقد أن كل إنسان يجب أن يقوم بعمل شريف يجتذب انتباه الآخرين له. وكلما قام الإنسان بعمل خطير استحقَّ احترامهم.
وكان والدي يهتم بخير الآخرين، فإذا وجد مظلوماً عاجزاً عن الحصول على العدالة يعاونه بكل طاقته، حتى لو أدَّى ذلك إلى الذهاب للمحاكم. غير أن والدي لم يأخذ أية قضية خاصة به إلى المحكمة. وعندما كان يعجز بعض الجنود عن الحصول على معاشاتهم، كان والدي يهتم ويساعدهم ليحصلوا على مستحقاتهم، ولذلك احترمه الجيران كثيراً لأنه كريم النفس. وكان كثيرون من الضيوف يأتون إلى بيتنا.
وذات يوم رحب والدي بقَتَلة أخيه في بيتنا. وكان عمي قد تعارك مع مجموعة من الناس فقتلوه، وهرب قاتلوه لمكانٍ يختبئون فيه. ودون أن يعلموا، احتموا ببيتٍ أقامه والدي وسط الحقول. ولم يكن والدي يعلم ما جرى منهم، فدعاهم ليأكلوا. وأخيراً عرف من أصدقائه أنهم قَتَلة عمي. وكم حزن لأن عمي مات، لكن لدهشة الجميع لم يغضب أبي على القَتَلة، فقد كان رجلاً باراً لا يحمل ضغينة ضد أحد. ومع أن والدي لم يكن يهتم كثيراً بالمظاهر الخارجية للدين، لأنه لم يكن يحب رجال الدين، إلا أنه كان يمارس روح الدين. كان يصلي في الخفاء كمتصوِّف ويكره العبادة العلنية. وكان التصوُّف يعطيه راحةً نفسية، وكان يقول إنه يوصّله بالله مباشرة. والصوفية تشبه الرهبنة المسيحية التي انتشرت في صحاري مصر والعربية. وكان الإمام الغزالي الذي مات سنة 1011م صوفياً كبيراً يتصف بالتواضع وضبط النفس وإنكارها. وكان يقول: إن طاعة الله تنبعث من داخل قلب الإنسان، فعلى كل واحد أن يلاحظ تعاليم الله وشرائعه، وأن يطلب طهارة نفسه، وأن يصرف وقتاً في التواصل مع الله والتأمل ليعرف محبة الله . ولذلك استطاع أبي أن يحب الله وأن يطيعه. ومع أن بعض المتصوفين كانوا يستعملون مخدرات ليصلوا إلى حالة السموّ، إلا أن والدي كان يرفض هذا تماماً، لأن علاقته بالله كانت تنشئ داخله هذه السعادة العميقة، فلم يلجأ أبداً إلى المخدرات أو الموسيقى أو الرقص. وكانت طمأنينته الداخلية سِمَةً دائمةً لحياته.
كان والدي في البيت رجلاً رقيقاً يهتم بتعليم وخير الجميع، فعلَّمني وإخوتي في مدرسة تبعد ثلاثة كيلومترات من بيتنا. وليسهّل الأمور علينا بنى لنا بيتاً قريباً من المدرسة في ظفراوال حتى نصل إلى المدرسة في موعد مريح. والتحقتُ بالمدرسة الإبتدائية في الخامسة من عمري، وبدأت أتردد على الجامع القريب من بيتنا كل يوم جمعة، فقد كانت عادتنا أن الطفل عندما يبلغ الخامسة من عمره يجب أن يذهب للجامع مرة أسبوعياً، ويحفظ القرآن الكريم. وعندما كان الإمام يؤمّنا في الصلاة كنت أؤدي الركعات كما كان يفعل. ثم كان يلقي موعظة عن صفات النبي محمد وتعاليمه. ومع أنه لم يكن من السهل عليَّ أن أفهم ما يقول، إلا أن الإمام لقَّنني الكثير عن إيماني بما في ذلك تلاوة الشهادتين لا إله إلا الله. محمد رسول الله .
وكان ناظر المدرسة ذا تأثير كبير عليَّ، فقد كان شاعراً وخطيباً وكاتباً وموسيقياً، شجعني أن أبدأ كتابة الشعر بنفسي. وكان ذلك مصدر سعادة حقيقية لي. وكانت الكراسة التي أكتب فيها الشعر دائماً في متناول يدي. وتعلمت أن أعزف الموسيقى، ولو أنهم في البيت )لأسبابٍ دينية( لم يسمحوا لي بالتدريب، فسمح لي الناظر أن أتدرَّب في بيته. وكانت يد الله عليَّ منذ مطلع سنوات حياتي، لأنه كان يجهزني لحياة خدمة. لقد اهتم الله بأصغر تفاصيل حياتي.
قضيتُ أربع سنوات في المدرسة الابتدائية. وعندما بلغت التاسعة غادر إخوتي البيت، فذهب اثنان منهم إلى جامو واثنان إلى لاهور . وبدأت أهتم بالدراسة الأكاديمية، ولكن عائلتي قررت أن أقوم بذلك بنفسي، فالتحقت بالمدرسة الثانوية في جامو في كشمير. وكان طلبة المدرسة من أبناء الأغنياء والعائلات ذات النفوذ )المهراجات( الذين حكموا أجزاءً متعددة في الهند. وكان منهم في كشمير اثنان وعشرون مهراجا في ذلك الوقت. وكنتُ المسلم الوحيد في المدرسة التي لم تكن تسمح إلا بتعليم الهندوس وحدهم. ولكن لما كان والدي ضابطاً بالجيش، وصاحب نفوذ إجتماعي فقد أقنع ناظر المدرسة أن يقبلني. وكان الناس يجدون صعوبة في رفض طلبات أبي. وكانت تلك المدرسة تقدم تدريباً عسكرياً يناسب أبناء الملوك، فكنا نركب الخيول، الأمر الذي أحببته، كما استمتعت بالتصويب وإطلاق الرصاص. وكانت بندقية والدي خفيفة الوزن، فكنت أقضي معها وقتاً طويلاً كلما سنحت لي الفرصة. وكنت أحب ذلك أكثر من إحضار اللبن كل صباح، الأمر الذي كنت أحتقره لأني أعتقد أنه عمل الخدم. وكان الصيد يستهويني أكثر من الدراسة، خصوصاً أني لم أكن جاداً في الدرس. ولم أجد حكمة في أن أتابع الدراسة، فقد كان زملائي من أب
ناء المهراجات يستعدون لمستقبلهم ليكونوا ضباطاً في الجيش، أو في خدمة الحكومة، أما أنا فلم أكن أعرف أيَّ مستقبل ينتظرني بعد دراستي. ولما كانت المدرسة للهندوس، فقد كانوا يراعون التعاليم الهندوسية. فكنت أستيقظ معهم مبكراً للصلاة، وأحفظ عن ظهر قلب فصولاً من كتبهم المقدسة. ولكن الهندوسية لم تجتذبني، ولو أن ما تعلمته منها أعطاني فهماً كافياً لها. وكان يجب أن أتعلم اللغة الهندوسية التي أتكلمها الآن بطلاقة منذ ذلك الوقت. وكان هناك نقص في تعليمي الثانوي، هو أني لم أتلقَّ أي تعليم عن الإسلام. ومع أني كنت سعيداً بذلك إلا أن أخي خودا بخش لم يكن سعيداً به. ومات أبي فتحمَّلأخي مسئولية الإشراف على تعليمي، ونقلني من مدرستي الهندوسية إلى مدرسة إسلامية. واكتشفت أنها أقرب ما يكون إلى ملجأ أيتام أكثر منها مدرسة داخلية. ولكن هذا لم يضايق أخي في شيء، فقد كان يريدني أن أتعلم أصول الإسلام مهما كان المكان الذي أتلقاه فيه. ولم أكن تلميذاً مجدّاً، فكنت أهرب من الدروس وأذهب إلى البيت لأتناول الطعام عندما لا يكون أخي في المنزل. وكانت زوجات إخوتي يخفين عن أخي ذلك حرصاً على علاقتي به. وكان أخي يدفع نفقات تعليمي ويقاسي الكثير ليدفع تلك النفقات. وزادت حالتي سوءاً في الدراسة عندما تعرفت على شابة أثناء إحدى إجازاتي في قرية قريبة من سريناجار حيث كنا نملك قطعة أرض. هناك قابلت سليمة ووقعت في حبها منذ أن وقعت عيناي عليها. كانت قريبة لنا، وكان أبوها صديقاً لأبي. ولم أعرف أن إعجابنا كان متبادلاً إلا عندما حلَّ موعد رحيلي. فقد كنت معها وحدنا عندما بدأت تبكي ولم تُرد أن أذهب. وقد لمس هذا قلبي وزاد حبي لها كثيراً. وفي العام التالي عدت إلى ذات البلد حيث كانت سليمة فوجدتها قد كبرت وصارت أكثر جمالاً. ولكني لاحظت فيها تغييراً لأنها لم تكن تقترب مني كما كانت تفعل في العام السابق، وأكدت لي أن حبها لي أكبر وأني أوحشتها جداً. وقد حيَّرني هذا، فتساءلت: تُرى ما هو الخطأ؟ لقد كانت علاقتنا طاهرة، وكنا نفرح ببعضنا، واختبرنا محبة سامية بغير جنس، لأني كنت قد تعلمت أن الجنس يدمّر العلاقات الجميلة، ويجب أن نبقيه إلى ما بعد الزواج. ولكني أدركت أنها لن تكون زوجتي، فقد أحسَّت عائلتها أن عائلتي لن تقبل زواجنا، لأن عائلة سليمة لم تكن على مستوى عائلتنا في الغنى، ولذلك لن تسمح عائلتي بزواجي منها. وكم انكسر قلبي، لكن لم يكن هناك ما أستطيع أن أفعله. وقد سبَّب ذلك توتراً بيني وبين عائلتي.
واعتصر الحزن قلبي وأنا أعود للمدرسة، فلم أكن متحمساً للدراسة. صحيح أني لم أكن متحمساً للدراسة من قبل، أما الآن فقد صرت أقل حماساً وأقل سعادة بالمدرسة وبالبيت، لأني شعرت أن عائلتي تدمر فرص سعادتي. وسرعان ما وصلت علاقتي بأسرتي إلى قمة التوتر. فقد تركت المدرسة يوماً وجلست في محل لشرب الشاي، وإذا بأخي يضبطني هناك. وسألني: لماذا تشرب الشاي في موعد المدرسة؟ ولم يكن عندي جواب مقبول أقدمه له، فغضب عليَّ كثيراً. ورأى أخي ولداً صغيراً في الثامنة من عمره يعمل في محل الشاي، فانتهز الفرصة ليسخر بي أمام الجميع. فاستدعى الولد وبدأ يسأله: متى تستيقظ في الصباح يا ولدي؟ فأجابه: في الثالثة صباحاً يا سيدي، فأنظف الأطباق القذرة من الليلة الماضية، وأجلو أواني الطبخ لتجهيز طعام الإفطار. ثم أبقى في محل الشاي كل النهار . فسأله: ومتى تنام يا ولدي؟ فقال: لا يمكن أن أنام قبل الحادية عشرة مساءً . فنظر إليَّ أخي بعينين غاضبتين وقال: انظر إلى هذا الولد الصغير الذي لم يكن من الواجب أن يترك حضن أمه، لكنه لا ينام إلا أربع ساعات يومياً. ليكن نموذجاً ودرساً لك. أنت يا من لا تدرس ولا تعمل! كن رجلاً! . وتركني ومضى. وكم خجلت وسط أهل قريت
ي وأخي يفضح كسلي! صحيح أن عائلتي كانت غنية وذات شهرة طيبة، ولكني كنت لهم كشَوْكة في العين. واكتشفتُ فجأة أني معتمد على غيري. وكانت كلمات أخي لي تحدياً شخصياً، فقررت أن أعتمد على نفسي، وقلت: لن أحيا على حساب الآخرين! . وبكل أسف لم يكن هذا القرار دافعاً لي على أن أتحمس للدراسة، إنما قررت أن أهرب من المدرسة قبل امتحانات السنة العاشرة من دراستي.
الفصل الثاني
من هو المسيح؟
كنت في السادسة عشرة من عمري عندما بدأت الحرب العالمية الثانية. وكان لا بد للهند أن تدخل الحرب. لقد كانت النازية شراً يجب أن نقف كلنا ضده. ورأى الهنود في النازية عنصرية إمبريالية. ولكن روح الاستقلال كانت تعمّ الهند، فأعلن البرلمان الوطني الهندي بأعلى صوت أن الهند الحرة سوف تشترك في الحرب ضد ألمانيا. وكان لا بد من استشارة الشعب قبل دخول الحرب، وانقسم رجال السياسة فيما بينهم. لقد كرهوا عدوان هتلر، وفي الوقت نفسه لم يكونوا يحبون مساعدة بريطانيا!
ولما كانت الدول المُستعمَرَة لا تستطيع أن تختار حظها وطريقها، فقد وجدت الهند نفسها تحارب مع بريطانيا. وكنت مشتركاً مع المتحمسين في طلب الاستقلال من بريطانيا، ولكني كنت صغير السن لا أدرك أسرار السياسة. وكنت في ذلك الوقت أفتش عن عمل أقوم به، فانضممت إلى سلاح الطيران. ولم أجد صعوبة في أن يقبلوني. وأصبحت ميكانيكياً أعمل في صيانة الطائرات وتلقيت تدريبي في لاهور وكان أول تعيين لي في مطار كلكتا . وبعد ذلك أرسلوني إلى بورما ورانجون . وكنت أعمل تحت الطلب أربعاً وعشرين ساعة يومياً. ثم أرسلوني إلى كلية ضباط الطيران في كلكتا حيث انضممت إلى سلاح المخابرات. وتأثرت كثيراً بنصيحة قيلت لي: عليك أن تربح ثقة العاملين معك . وهكذا حاولت أن أربح ثقة الذين يعملون تحت أمري، وبنيت معهم علاقات شخصية قوية. وتذكرت نصيحة أمي، ومثال أبي، فأحببت الجميع بغضّ النظر عن لونهم وعِرْقهم وعقيدتهم. ولم أعصَ أبداً أوامر رؤسائي، كما لم أسمح لمرؤوسيَّ أن يعصوني.
ولم أكن ضد الإنجليز، ولكني كنت ألاحظ أن علاقاتنا معهم لم تكن طيبة لأن كبار الضباط البريطانيين كانوا ينظرون إلينا بعدم احترام، ويعتبروننا من الدرجة الثانية لمجرد أننا هنود. وكان بعضهم يعاملوننا بغير أدب. وكنا نلتقط كلماتهم الإنجليزية ونستعملها أحياناً دون أن نفهم المعنى المضبوط لكل كلمة. وذات يوم استدعاني أحد الضباط الكبار وسألني: من أين تعلمت هذه الكلمات الإنجليزية يا ولدي؟ فأجبته: من الضباط البريطانيين . فقال لي: هذه لغة سيئة غير مؤدبة، وهي مخجلة. أرجوك ألاَّ تستعملها مرة أخرى .
وكنا نفضل أن نتعيَّن في بلاد بعيدة بالرغم من شدة حرارتها لنكون بعيدين عن الإنجليز. وشعرنا أنهم لا يهتمون بسلامتنا. فذات يوم كلّفونا بإصلاح طائرة، ثم طلبوا من أحدنا أن يقوم بتجربتها، ونسوا أن يعطوا خبراً لسلاح الدفاع بأن تلك الطائرة بريطانية وتحت التجربة. وفي طريق عودة الطيَّار الهندي الذي جرّبها أصابه رجال الدفاع الجوي البريطاني وقتلوه.
ثم حدثت حادثة أخرى مؤلمة أثناء المجاعة في البنغال كشفت عن رداءة الإنسان، ففي سنة 1943 - 1944 أصابت مجاعة شرق وجنوب الهند والبنغال، تبعها وبأ الكوليرا والملاريا. وقالت السلطات الرسمية إن ضحاياه بلغت ثلاثة ملايين نفساً ونصف. فقد كان الآلاف يموتون كل يوم. وكان يمكن أن ننقذ حياة الكثيرين لو أن السلطات المسئولة تصرفت باهتمام وكفاءة، فقد كانت الأدوية والأطعمة تملأ المخازن. عند ذلك بدأت آخذ من الشاي والسكر والأدوية للمحتاجين. لكن المؤسف أن بعض الأغنياء زادوا غنى إذ باعوا الأدوية والأطعمة بأضعاف سعرها، حتى اضطر كثيرون من الفقراء أن يقدموا بناتهم للبغاء. لقد عصف الحزن والبؤس بقلبي وأنا أرى هذه الحالات المؤلمة لمرضى وجوعي وموتى لا ينقذهم إخوتهم في الإنسانية، بل يشربون ما بقي من دمائهم ليزدادوا غِنى! وسألت نفسي: أين الله وسط كل هذا؟! .
ولكني سرعان ما بدأت أرى النور وسط الظلام. فقد كان بين الضباط الإنجليز بعض المسيحيين الحقيقيين الذين ساروا في خطوات سيدهم المسيح، وأظهروا نور الله ومحبته. وقد نمت بذور هذه المحبة في قلبي حتى أينعت واكتملت بتجديدي للمسيح.
وكان أحد هؤلاء النجوم اللوامع الكابتن باكستر وهو ضابط شاب في فرقتنا. ومع أنه كان - شأنه شأن بقية الإنجليز - متحفّظاً، إلا أنه كان متسع العقل، وكانت معاملاته لمرؤوسيه طيبة وبطريقة شخصية. لم يكن يتكبر على الهنود، بل كان يطلب خيرهم. وعندما احتاج الضباط الهنود إلى بعض أدوات الطبخ، أمر فوراً بإعطائها لنا، كما أمر بتقديم طعام خاص للمسلمين يتناسب مع فروض دينهم. وذات يوم احتجنا إلى فُرن من الطين لنخبز فيه بالطريقة التي تعوَّدناها. وانذهلْتُ في آخر اليوم عندما رجعت إلى المعسكر فوجدت فُرناً مبنيَّاً بالمواصفات المضبوطة، قام الكابتن باكستر وحده ببنائه كما طلبنا. فزاد إعجابي به. وجعلت أراقبه، فوجدت أنه يلاحظ احتياجات الناس ويعمل على تقديمها. كما كان يتناول إفطاره معنا كل يوم، بينما لم يفعل هذا غيره من الضباط البريطانيين ترفُّعاً علينا. ومع أن هذا شيء بسيط، إلا أنه ترك في نفسي أثراً كبيراً. وذات يوم جاء أحد رجالنا إلى مائدة الإفطار بغير أن يحلق، فلم يوبخه باكستر لكنه أعطاه شفرة حلاقة من جيبه. وهكذا كان يفعل لينبّه الجنود والضباط إلى مسئولياتهم.
ولقد أثَّر فيَّ كثيراً موقف باكستر أثناء الغارات الجوية، فلم يكن يهرع إلى الملجأ )المخبأ( بل كان يدعو الرجال جميعاً إلى الكنيسة للصلاة. وكانت الكنيسة مجرد خيمة مخصصة للعبادة. وكنا عادة نطيعه. وذات يوم كان هجوم اليابانيين علينا شديداً للغاية. وامتلأت السماء بالطائرات. ودعانا باكستر للكنيسة، وذهبنا معه والموت يحيط بنا. وقلت في نفسي: من المعقول أن نذهب لتلك الخيمة عندما تكون الغارة بسيطة، أما والغارة الجوية قوية فيجب أن نذهب إلى الملاجئ )المخابئ( . ولكنه سرعان ما طمأننا وقال: سأصلي للرب يسوع المسيح. أنتم لا تحتاجون أن تضعوا إيمانكم فيه، فقط قولوا آمين على طلباتي . ومع أننا كنا في أول الأمر نشك لكننا طاوعناه. وبدأ باكستر يصلي، ولا تزال كلماته ترن في أذنيَّ إلى اليوم: يا ربي يسوع، أعلِنْ قوتك وعظمتك الآن. أثبِتْ لهؤلاء الرجال أنك حيّ. احفظهم من الغارة من أجل خاطر أحبائهم وآبائهم. عرِّف هؤلاء الرجال أنك حي قادر أن تخلص، ليس فقط الجسد من الهلاك والموت، لكن النفس من الخطية .
وحدث تغيير في الخيمة كلها عندما كان باكستر يصلي، فقد صمت الجميع. والأغرب من ذلك أننا لم نعد نسمع أصوات الانفجارات في الخارج. وعندما خرجنا من الخيمة كان المنظر مذهلاً. كانت أشلاء الرجال متناثرة هنا وهناك. أما الوحدة التي على الجانب الآخر من النهر فقد زالت تماماً بعد أن دمرتها القنابل! وكانت صرخات الجرحى تملأ آذاننا. وكانت إحدى القنابل قد سقطت في النهر فكان ماؤه يغلي، والطين يفيض على جانبيه، وسحابة ثقيلة من الدخان الأسود تخيِّم على المكان معلنة الدمار الشامل الذي حلَّ به. ولم نملك إلا أن نقول: إن مسيح باكستر حيّ، استجاب صلاته وخلَّص شعبه. فمن هو يسوع هذا؟ !
كل ما كنت أعرفه عن المسيح أنه نبي من الأنبياء كما يقول القرآن. ولكني لم أسمع من قبل صلاة بسيطة مباشرة كصلاة باكستر . وتذكرت أني في طفولتي كنت أذهب إلى كنيسة مع بعض أصدقائي وأستمتع بالترتيل، وألعب مع بقية الأولاد باللعب المتوافرة في فناء الكنيسة. ولكني لم أفهم شيئاً من صلاة القسيس، رغم أن صوته كان عالياً. لم يكن صوت باكستر عالياً، لكنه كان يصلي كمن يكلم صديقاً يقف إلى جواره. وكانت صلاته بسيطة واضحة بلا تكلّف. وسألت نفسي: هل يمكن أن أصلي أنا كما يصلي باكستر ؟
الفصل الثالث
معارك من داخل ومن خارج
بعد انتهاء الغارة الجوية اليابانية عملت كميكانيكي طيران. ولكن عملي توقف بسبب حادثة كادت تُنهي حياتي، فقد كنا نصلح الطائرات المتعطلة ونجربها. وذات يوم تلقيت أمراً من القائد أن نعيد إصلاح طائرة، لأن إصلاحها الأول لم يكن كافياً. وعندها تذكرت أن أحد زملائي وهو يجرب طائرة بعد إصلاحها أُصيب فتشوَّه نصف وجهه. ولكن كان يجب أن أطيع الأوامر، فاعتليت الطائرة مع زميلٍ لي. وأمرونا أن نطير ثلاثاً وثلاثين دقيقة قبل أن نعود. ولكن على بُعْد ثلاثين ميلاً من مركز إصلاح الطائرات أُصيبت طائرتنا، وأُصبت أنا أيضاً. فأزاحني زميلي من مقعد الطيَّار وتولى القيادة حتى هبطنا بسلام. ونقلوني إلى المستشفى، وقد احترق نصف وجهي الأيمن. ولم أكن مدركاً لما حدث لي بسبب غيابي عن الوعي. وعندما بدأت أفيق سمعت محادثة بخصوصي. كان أحد الأطباء يطلب دخولي جناح الضباط، بينما الآخر يرفض ذلك لأني لست ضابطاً. وسمعتُ ممرضتين تناقشان الطبيبين، أيّهما أكثر أهمية، الرتبة العسكرية أو حياة هذا الشخص؟ ولكنهما لم تنجحا في إقناع الطبيب، فلم أدخل للعلاج في جناح الضباط. فقررتا أن تأخذاني إلى جناح الممرضات لتقدّما لي عناية خاصة. ولم أكن أعلم أين أنا، لأن عينيَّ كانتا مربوطتين. وكان كل ما عرفته عن إصابتي ما كنت أسمعه من المحيطين بي بخصوصها. ورقدت في تلك الغرفة عشرين يوماً، لقيتُ أثناءها عناية كاملة من الممرضتين اللتين كانتا كملاكين. واستطعت أن أبصر بعيني اليمنى. وفي يوم خروجي عرَّفتني الممرضتان بنفسيهما: أمبر وماري ممرضتان هنديتان. وسألتهما عن سر اهتمامهما بي، واندهشتُ من الإجابة. لم يكن ممكناً أن تقولا لي: لأنك شاب جذَّاب، فقد كانت الضمادات تغطي وجهي. ولا لأنهما ستنالان مكافأة مالية، فلم يكن معي شيء. وكم اندهشت إذ قالتا إن اهتمامهما بي يرجع إلى أنهما مسيحيتان. وقالتا: لقد تألم مخلّصنا لينقذ البشر، فتعلّمنا منه أننا يجب أن نخدم الآخرين .
واندهشت من هذه الإجابة وبكيتُ حتى أغرقتْ دموعي وجهي. لقد خجلتُ من ممرضتين تعتنيان بمريض عاجز لأنهما مسيحيتان. فشجعتاني وقالتا: لا يجب أن تبكي لأن جرحك حديث . فأحنيت رأسي بإحساسٍ غامرٍ بالشكر، وكم وددت أن أقبّل أقدامهما. لقد رأيت السيد المسيح في تلميذتين من أتباعه. كان هو نفسه يتابعني حتى لا أهرب منه. لقد رأيت أتباعه يعتنون بالآخرين ويطبّقون ما كانت أمي تحاول أن تعلّمه لي. لقد لمستُ حضور الله في شعبه.
وعندما عدتُ إلى المعسكر أعطوني عملاً خفيفاً يتناسب مع حالتي الصحية. فكان عليَّ أن أمنع رجال سلاح الطيران من دخول أجزاء في المدينة لا يجب أن يدخلوها، حرصاً على سلامتهم. وأعطاني هذا العمل فرصة التعرُّف على أهل بلدي. لم أكن أتوقع أن أجد محبة، لكن هذا ما وجدته. فقد تعرفت على شاب هندي اسمه فيليب من ولاية بيهار، كانت صحبته سعيدة، وكنا نقضي أوقاتاً كثيرة في الضحك. وكان كل أصدقائي يحبون أن يكونوا مع فيليب للاستمتاع بروحه المرحة. وذات يوم صدرت الأوامر بنقله إلى مكان آخر، وكان عليَّ أن أبلغه ذلك. وعندما أبلغته حزن حزناً كبيراً. ولما سألته عن السبب، قال لأنه تعرَّف على فتاة اسمها كُمْلة، مومس من عائلة حقيرة، يريد أن يتزوجها لينقذها من البؤس الذي كانت فيه. وقال لي: إن ديانتي تقوم على التضحية. لقد أحب المسيح أشخاصاً مثلي وبذل نفسه من أجل خلاص نفوسهم. فإن كان قد قبلني بخطاياي، فيجب أن أقبل الخطاة بغير احتقار . وقد اندهشت من هذا التعليق. كنت أظن فيليب مجرد شخص ضحوك، أما الآن فقد رأيته في صورة جادة، تحكم مبادئُه تصرفاتِه. كان فيليب كضوءٍ وسط الظلام! وحاولت أن أثنيه عن عزمه في الزواج من كُملة، لكنه رفض تماماً. فقد كان عرضه عليها الزواج تضحية من جانبه على مثال تضحية المسيح.
وأدرك الكابتن باكستر ما يفعله فيليب، فشجَّعه على ذلك. وتم إلغاء قرار نقل فيليب. ودعونا كُملة لتقيم بالقرب من المعسكر إلى أن يتمم قسيس المعسكر مراسم الزواج. ثم أخذ فيليب كُملة إلى قريته بكل شجاعة ليعلن زواجه. وكان يمكن أن يتزوج بها في مكان بعيد لا يعرف أحدٌ عنها فيه شيئاً. لقد رأيت في فيليب المحبة التي رأيتها في باكستر وفي الممرضتين أمبر وماري ، وجعلت أتساءل: أين يجد الإنسان شجاعة ليقف ضد الممارسات والعادات الإجتماعية، ويضحي فيتزوج فتاة مثل كُملة؟
†††يتبع†††