أهلا وسهلا أستاذ ياسر عاش من شافك يا صديقي المشاكس!
شكرا لتعازيك الطيبة (والمشاكسة أيضا) ومرحبا بحضورك.
هل مفهوم نص لوقا يتضمن أن اللاهوت سجد للاهوت؟
السؤال نفسه خاطئ يا أستاذ ياسر! إذا كان اللاهوت متحدا مع الناسوت لا يفارقه: أصبح السؤال عن اللاهوت منفردا، أو الناسوت منفردا، هو بحد ذاته
نفي لهذا الاتحاد! مجرد
التفكير في اللاهوت، أو في الناسوت، أيّهما بمعزل عن الآخر، تفكير يتناقض مع حقيقة اتحادهما! انظر إلى التناقض في عبارتك نفسها:
ذلك حسب فهمى يتضمن أن فعل المسيح لا يختص بأحدهما (ناسوت أو لاهوت) بل بكليهما.
إذا كان هذا حقا فهمك فلماذا بعد ذلك مباشرة تقول:
السؤال: هل مفهوم نص لوقا يتضمن أن اللاهوت سجد للاهوت؟
إيه بقا اللي جاب سيرة اللاهوت تاني؟
كيف تقول إن
«فعل المسيح لا يختص بأحدهما» ثم بعد ذلك مباشرة "
تخص" أنت نفسك أحدهما بالصلاة والسجود، ولو في هيئة سؤال؟ هل ترى التناقض؟
المشكلة هنا ـ في فهمك وحتى في بعض شروحنا ـ هي أننا
نفصل بين اللاهوت والناسوت دائما. لماذا؟ لأن العقل لا يفكر ولا يعمل إلا بهذه الطريقة. هناك
مفهوم (
concept) هو اللاهوت، مقابل مفهوم آخر هو الناسوت: هكذا ندرك
كليهما. نحتاج لكي "نعقل" أي مفهوم، كالخير مثلا، إلى مفهوم مقابل هو الشر، الوجود مقابل العدم، التسيير مقابل التخيير، الخلاص مقابل الهلاك، وهكذا. هذه هي آلية العقل نفسها وطريقة عمله: عبر
المقابلة والمقارنة والتمييز بين المفاهيم المختلفة. من ثم إذا اتحد اللاهوت والناسوت معا، وهما مفهومان متقابلان، عجز العقل تماما عن فهم هذا الاتحاد، بل ربما اعتبره حتى تناقضا محالا.
وقد يؤمن العقل بذلك غيبا، أو يقبله مؤقتا كما في حالتك لأجل الفهم، ولكن بكل حال يستمر العقل في
التفكير بنفس طريقته التي لا يملك سواها، أي عبر المقابلة والمقارنة والتمييز ـ ومن ثم
الفصل ضمنيا ـ بين اللاهوت والناسوت!
من هنا ندرك لماذا أصر قديسنا الكبير كيرلس ـ على خطى القديس أثناسيوس ـ على
الطبيعة الواحدة للسيد المسيح: ببساطة لكي لا ينقسم المسيح هكذا إلى لاهوت وناسوت كما يفرض العقل. هذا التفكير بحد ذاته كما أشرنا هو
نفي ضمني لاتحادهما، ومن ثم فأي استنتاج يترتب عليه هو
بالضرورة استنتاج خاطئ (وهو بالضبط ما وقع فيه النساطرة)!
الصواب بالتالي هو أن هذا الوحـدة نفسها دون انقسام ـ هذا الكلمة المتجسد، أو الإله المتأنسن، هذا "المسيح" باختصار ـ هو الذي كان يصلى. هو الذي، دون انقسام، فتح الأعين وأبرأ المرضى وأقام الموتى وجاء بكل تلك المعجزات الباهرة. وهو الذي، دون انقسام، مات في النهاية وقبر وقام!
***
من ناحية أخرى ـ وهذا هو قلب
المفارقة ـ لا يئول اتحاد اللاهوت والناسوت إلى اختلاطهما (كالقمح والشعير) أو امتزاجهما (كالماء والخمر) أو تغيّرهما إلى طبيعة أخرى مفارقة للطبيعتين، بل
يبقى اللاهوت لاهوتا والناسوت ناسوتا رغم اتحادهما. لماذا؟
ببساطة لأن اتحاد اللاهوت والناسوت لا يعني "اجتماع" الطبيعتين معا، كما يجتمع القمح مع الشعير أو الماء مع الخمر. هذا أيضا ضرب من التفكير الخاطئ رغم شيوعه. بالأحرى نقول إن
الإله ذاته "
تأنسن"! نقول
«الله ظهر في الجسد». نقول
«الكلمة صار جسدا». لذلك تحديدا
«مَن رآني فقد رأي الآب». بل أكثر من ذلك
«أنا والآب واحد»! وهكذا لم يجتمع اللاهوت مع الناسوت حقا، بل لا فرق في الحقيقة بين اللاهوت والناسوت في هذه الحالة (الفرق فقط بعقولنا)! هذا هو نفسه السبب أنهما لم ينفصلا أبدا بعد ذلك.
لماذا لم "
يترك"
الله هذا الجسد بعد انتهاء مهمته على الأرض،كما يسأل البعض أحيانا؟ لأنه ليس مجرد جسد "
اتخذه" أو "
حلّ" فيه أو نطق من "
خلاله"، بل بالحري "
تجسد" سبحانه،
هو ذاته تأنسن،
هو ذاته المتجسد الظاهر في الجسد!
"
الإله" إذاً ـ خالق السماء والأرض العليّ القدوس سبحانه ـ هو هو نفسه هذا "
الإنسان" يسوع الماثل أمامنا بجسده!
هذا بالتالي هو قلب المفارقة حقا، لأننا لا نقول إن المحدود اجتمع مع اللامحدود في كيان واحد فحسب، بالحري نقول إن
المحدود هو نفسه اللامحدود في آنٍ معا! أنا والآب
واحد: لا اثنان، بل واحد لا ثاني له! لم يجتمع من ثم ابن الله مع ابن الإنسان في شخص المسيح، بل
ابن الله هو نفسه ابن الإنسان في آنٍ معا! هكذا بالتالي ظلّ اللاهوت لاهوتا والناسوت ناسوتا ـ حسب تقسيم العقل ووفق مفاهيمه ـ رغم الوحدة الكاملة بينهما!
(حقيقة أن اللاهوت ظل لاهوتا والناسوت ناسوتا أهميتها هي أنها تفسر ـ أولا ـ كيف أن اللاهوت ثابت حقا لا يتغير أو يتبدل رغم تجسده في لحظة معينة داخل الزمن! تفسر ـ ثانيا ـ كيف ظل الكون موجودا وظل يعمل رغم موت المسيح، وهو الله، ذلك أن اللاهوت كما ذكرنا ـ كلاهوت ـ لم يطرأ عليه أي تغيير مطلقا! تفسر ـ أخيرا ـ لماذ نلجأ أحيانا، كما فعلت الملكة هيلانه، إلى القول إن المسيح فعل هذا بناسوته دون لاهوته، أو بلاهوته دون ناسوته. هذا تجاوز بالطبع وتفكير نسطوري يقسم المسيح إلى اثنين كما أشرنا. لكنه تجاوز مقبول في بعض الظروف والسياقات ما دام اللاهوت ظل على أي حال لاهوتا وظل الناسوت ناسوتا).
***
ختاما لنتذكر ـ أمام عجز العقل تماما عن فهم هذا السر ـ أنها
مفارقة كما نقول (
paradox) لا تناقض (
contradiction)! كل ذلك له بالتالي ما يفسره ويفك ألغازه تماما، فقط بشرط أن
يتجدد العقل نفسه أولا ويستنير، بنعمته سبحانه، وتتغير بالتالي حتى طريقته في التفكير والفهم والاقتراب من هذه
الحقائق الإلهية، والتي من ثم يدركها الله نفسه فقط لا يدركها أحد أبدا سواه! لذلك فحتى نحن حين ندركها لا ندركها حقا بعقولنا، مهما علت واستنارت، بل به هو ذاته،
بحضور الله نفسه فينا!
تحياتي ومحبتي.
***