الأخ الصديق أستاذنا الحبيب
الدكتور إليكتريك: كنتَ بالأمس القريب تصلي لأجل ضعفي فلا أقل من أشارك اليوم ما دمت حاضرا ببعض أفكاري البسيطة. أنت في الحقيقة لا تحتاج إلى صلاتنا أنت تحتاج أن نرسل إليك التهاني والتبريكات!
خير كبير ينتظرك بمشيئة الرب، تفاءل يا صديقي الجميل واعلم أن ذرة واحدة في الكون لا تنتقل من مكانها إلا لأن ذلك حتما هو الأفضل، وإلا ما انتقلت! هذا قانون الحياة بأسرها وهذا هو السبب أن كل شيء من حولنا في تغـيّـر دائم.
الرسول كما ذكرتَ يخبرنا أن
«كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله». نعم، ولكن هل يعني هذا ـ بدلالة المخالفة ـ أن «بعض الأشياء تعمل معا للشر للذين لا يحبون الله»؟ حاشا وكلا، بل
كل الأشياء تعمل معا للخير دائما ومطلقا، للذين يحبون الله والذين لا يحبونه سواء. ولكن خصّ الوحي الشريف «الذين يحبون الله» بالخير
لأن هؤلاء فقط، بسر محبتهم، هم وحدهم الذين يعاينون هذا الخير ويدركونه، حتى في قلب المحن والشدائد! أما الذين لا يحبون الله فبالعكس لا يدركون الخير أبدا حتى لو كانوا يرفلون في الراحة والنعيم. أو كما قال سيدنا
ذهبي الفم: «حتى الأمور التي تبدو صالحة ومقدسة تعمل ضدهم
إن لم يرجعوا إليه بالحب»، كاليهود الذين لم ينتفعوا بالناموس الصالح، بل عثروا حتى في السيد المسيح ذاته!
تخبرنا هذه الآية من ثم عن "المحبة" وسرها وليس عن "الأشياء" وكيف تعمل. أما الأشياء فبالحريّ تعمل كلها للخير دائما ودون استثناء، بل كما قلنا: لا تنتقل ذرة واحدة في كل هذا الكون من موضعها إلا لأن في انتقالها
تعبير أفضل عن الحياة وسرها الباهر، إعلان أكبر عن القدوس الكامن وراء الأشياء جميعا، خطوة أقرب نحو حضرته الأسنى، وانتصار أعظم لـ"حقيقة" أنواره وأمجاده على "أوهام" الظلمة والخطيئة والشر والموت!
* * *
نعم، نحن ـ حسب عقولنا ـ نميل بالطبع إلى الثبات ونفضل ما ألِفناه واعتدنا عليه ونتمسك بل نتشبث بهذا الشعور الزائف بالأمان والاستقرار. نحن أيضا ـ حسب عقولنا ـ نعاين "الظلم" و"التعسف" ونفتش عن "سبب النقل" و"المسئول عن النقل".. إلخ. نحارب من ثم ذلك كله، نطالب بالعدل، وندفع عن أنفسنا وعن حقوقنا ما استطعنا. غير أن هذا في النهاية هو فقط ظاهر الأمور ولا يجدر بنا في حومة الصراع أن يأخذنا الظاهر عن الباطن أو أن ننسي الحقيقة أبدا. والحقيقة هي......
الحقيقة هي ـ أولا ـ أن كل الأشياء تعمل معا للخير، للمحبة والنور، للبنيان والخلاص، بفيض حكمة قدسية تشمل حياتنا بأسرها سيان أدركنا ذلك في حينه أم لم ندركه. الحقيقة ـ ثانيا ـ هي أن "التعسف" و"الظلم" و"الاضطهاد" كل ذلك لا يأتينا أبدا من خارج إنما يبدأ في الداخل أولا! يستحيل على أي مخلوق كائنا مَن كان أن يظلمك أو يقهرك أو يضطهدك ما لم يكن "قلبـــك" أولا مظلوما مقهورا مضطهدا! يستحيل على أي مخلوق كائنا من كان أن يغلب روحا اتحدت بقوة الله في علياء جلالتها.. أن يقهر أو يضطهد قلبا يحيا في حضرة صاحب المجد والعظمة والسلطان ذاته.. أو أن يبدد سلاما ينبع مباشرة من سلام القدوس أبي الأنوار نفسه! ثم الحقيقة ـ ثالثا وأخيرا ـ هي أننا، أولاد السماء وبناتها، لا نعرف أبدا الخوف أو الحزن أو حتى الجزع أمام تقلبات الحياة ودورانها. لماذا؟ لأنه لا يخيفنا ولا يحزننا إلا شيء واحد فقط: هو أن تأخذنا الحياة إلى مكان لا يوجد الرب فيه، أو أن تحملنا الظروف إلى موضع لا يستطيع الرب دخوله! فإن كان ذلك محالا، إن كان شمس البر في كل لحظة معنا، أقرب إلينا حتى من دمنا، فكيف إذاً نخاف أو نحزن أو نجزع؟
من ثم تفاءل أيها المحبوب واستبشر. حارب حربك العادلة، ولكن مهما كانت حدة الصراع لا تفقد أبدا سلامك ولا تغب ابتسامتك الصبوح أبدا عن وجهك، بل لا تتوقف حتى في قلب المعركة عن أن تكون الخادم المُحب، الباذل المعطاء، الفارس النبيل،
سفير المحبة نور العالم! فإن خسرت في النهاية معركتك فلا تعتبرها أبدا "خسارة"، بل هذا بالعكس "انتصار" لإرادة القدوس في حياتك، انتصار يستوجب الشكر والسجود، لأن إرادة الله ـ وإن خالفت إرادتك ـ تحمل
بالضرورة الخير لأجلك وتئول
حتما ويقينا لنموّك وسموّك، لبنيانك وخلاصك، ولارتفاعك نحو النور درجة أخرى جديدة عن الدرجة التي كنت عليها!
هكذا في الختام ـ لأنك من هؤلاء الذين "
يحبون الله" حقا ـ تدرك أخيرا ألا "
أعداء" لك في الحقيقة أبدا! هذا "المسئول عن النقل" مثلا ـ وإن ظلم وتعسف ظاهرا ـ ليس سوى جندي آخر من جنود الرب، استخدمه كي تنفذ من خلاله إرادته العليا في حياتك! هذا "العدو" نفسه ليس في الحقيقة إلا "صديق"، وما تحرك كيف تحرك إلا حسب مشيئة القدوس وتدبيره لأجل بنيانك وخلاصك وتحررك! هكذا ـ لأنك من هؤلاء الذين "يحبون الله" ـ تدرك في الختام أنه
ليس سوى "المحبـــة" حقا في كل مكان! ليس سوى المحبـة الباهرة الفائقة في كل ركن، في كل اتجاه، في كل حركة، في كل فكرة، في كل نبضة قلب، في كل طرفة عين، وراء كل فعل، خلف كل قرار، ضابطة للكل خالقة للكل بها يوجد الكل ويحيا ويتحرك! بحــر من محبـــة نعيش حرفيا فيه، في كل لحظة، بحر من الأنوار والبركات، بحر فرح وسعادة وسلام وتحرر، تلك هي الحقيقة أدركنا أم لم ندرك!
* * *
وعليه: مبارك بمشيئة الرب، أستاذنا الحبيب. مبارك سكونك ومباركة حركتك، مبارك بقاؤك ومبارك انتقالك. إياك والخوف، حتى أمام أصعب الشدائد. بل انفض فورا خوفك وشكوكك ثم قم
فارفع قامتك عاليا، مشرقا بابتسامتك وعطائك وحبك، كي يرى أولادك وجيرانك والناس جميعا ـ دون كلام ـ ماذا تعني بنوة السماء حقا! نعم، سيغير انتقالك هذا بالتأكيد "خريطة الأمان" التي رسمتها لنفسك ولعائلتك. ولكن لا بأس، لترسم خريطة جديدة، مدركا على أي حال أن كل الخرائط مؤقتة زائلة! لتسكنك روح التفاؤل والثقة والإيمان ولتذكر إن في انتقالك هذا أيضا
حياة جديدة.. خبرة جديدة.. مغامرة جديدة.. اكتشاف جديد.. درس جديد.. إعلان جديد.. وكنيسة جديدة.
عذرا للإطالة، أسعد الله مساءك ومسح الهموم عن قلبك وبارك حياتك وحياة عائلتك، مع عاطر تحياتي وخالص محبتي.
* * *