أستاذنا الحبيب سلام المسيح. شكرا على السؤال الهام، الذي ينطوي في الحقيقة على فكرتين اثنتين لا واحدة: الأولى هي "
قصة آدم وحواء" ـ كما تسميها ـ وكيف تفهمها أو تراها أنت شخصيا، والثانية هي "الرد" على صديقك وكيف تثبت خطأه، وهو سؤالك الظاهري هنا. كما هو واضح: الفكرة الثانية تعتمد على الفكرة الأولى! لا يمكن إقناع صديقك حقا بأي رأي ما لم تكن مؤمنا أنت أولا بهذا الرأي، واثقا منه واضحا بشأنه، بل لديك أيضا ما يبرر هذا الإيمان!
السؤال الأول بالتالي هو "قصة آدم وحواء" نفسها. ما هي هذه القصة التي حيرت الكثيرين وربما حتى عثروا بسببها؟ القصة في ظاهرها
بسيطة جدا، بسيطة لدرجة أنها قد لا تبرر حقا للعقل ما ترتب على أحداثها من عواقب وخيمة وشاملة. أضف إلى ذلك أنها قد تتعارض ظاهريا مع العلم الحديث وخاصة قوانين التطور ومبادئه، كما أنها علاوة على ذلك فقد وردت بالفعل في كثير من أساطير العالم القديم.
هل هي بالتالي قصة حقيقية، أم خرافية كما يقول صديقك وسواه؟
وإذا كانت حقيقية: هل هي
حرفية كما يبدو من ظاهر النص، أم
رمزية كما يرى حاليا كثير من المسيحيين خاصة بالغرب، بغض النظر عن رأي الكنيسة الرسمي هنا أو هناك؟ لنتذكر في هذا السياق أن التفسير الرمزي لهذه القصة تحديدا ليس غريبا عنا، فهذا بالأحرى هو التفسير الذي اعتمدته مدرسة الأسكندرية والعلامة
أوريجانوس بوجه خاص منذ البداية تماما ومنذ مراحل التكوين الأولى.
غير أن الرمزية تثير أيضا بعض الأسئلة: ما هو مثلا معنى هذه الرمزية؟ ما هي حدودها وما شروطها؟ هل تطرف حقا أوريجانوس في تفسيراته ـ كما استقر على ذلك معظم الآباء ـ أم أنه كان بالعكس فذا عميقا لدرجة أننا ببساطة لم نفهم ما كان يرمي إليه ـ كما قال القديس ديديموس الضرير في دفاعه عنه؟ ثم بغض النظر عما قال أريجانوس تحديدا وخالفه فيه الآباء: هل ما زال ممكنا تفسير هذه القصة رمزيا، ولو بتقديم تفسير جديد تماما لها؟
هذه كلها أسئلة هامة لا نطمح بالطبع إلى إجابتها هنا في رسالة واحدة أو حتى عدة رسالات، ولكن يكفي أن نطرحها وأن تظل حية بوعينا، لأنها تقتح بحد ذاتها أفقا جديدا أمام عقولنا للتفكير والتأمل والبحث، كما تعطينا إمكانية هائلة لاكتشاف كنوز من المعاني في المستوى الرمزي لهذه القصة.
من ناحية أخرى: حتى إذا أخذنا بتفسير مدرسة أنطاكيه الحرفي فإن هذا لا يعني أننا فهمنا هذه القصة حقا أو استنفذنا سائر المعاني الكامنة فيها. ما زال معظمنا لا يعرف ـ مثلا ـ لماذا كان اسم تلك الشجرة "
معرفة الخير والشر"؟ ماذا قصد الوحي حقا بذلك وما هي بالضبط دلالة هذا الاسم وأبعاده؟ هل يكمن بهذا المعنى نفسه ـ معرفة الخير والشر ـ ما يبرر مثلا تحريم تلك الشجرة ابتداء على الإنسان؟ هل يكمن بهذا المعنى نفسه ما يفسر حتى سقوط الإنسان واللعنة التي لحقته بعد ذلك. إن فهمنا المستقر ـ والساذج إلى حد ما ـ يحصر المشكلة كلها في أن آدم فقط "
خالف" الوصية! فقط "ما بيسمعش الكلام" كما يقول التعبير العامي! ولكن هل كانت هذه "المخالفة" حقا هي "الخطيئة" الرهيبة التي سببت كل تلك الملحمة التي أعقبت ذلك، من "السقوط" حتى "الصليب"؟ ألا يمكن أن نجد في اسم الشجرة نفسه ـ معرفة الخير والشر ـ مفتاحا لشرح الأمر كله على نحو ربما يختلف عما نعتقد؟ لماذا ربط الله بين العلم أو
الإدراك من ناحية
والأكل من هذه الشجرة تحديدا من ناحية أخرى:
«من أعلمك انك عريان؟ هل أكلت من الشجرة ...؟» وكأن الأكل من الشجرة هو نفسه سبب هذا الإدراك وعلته؟
كما نرى: هناك مستويات متعددة للفهم والدلالة بل هناك أبعاد رمزية حتى في الفهم الحرفي لهذه القصة!
أضف إلى ذلك ـ أيضا فقط على سبيل المثال ـ هذا الجزء من السرد:
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله فقالت للمراة: أحقا قال الله لا تاكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمراة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل.
هذا هو النص الشهير الذي ارتبطت بسببه "الغواية" دائما بالمرأة خاصة في الفهم اليهودي. غير أن أسئلة ثلاثة تبرز هنا دائما ولا نجد إجابة شافية عليها:
أولا كيف تتكلم الحية؟ هل تتكلم الحيات؟ هل يستطيع حتى لسان الحية ـ ناهيك عن عقلها ـ أن "ينطق" هكذا كما ينطق الإنسان؟
ثانيا أين كان آدم في هذا المشهد؟ لماذا غاب أدم هكذا فجأة عن امرأته وتعرضت وحدها بالتالي لهذا الاختبار وهذه الغواية؟
ثالثا ـ وهو ربما الأهم ـ لماذا كانت الحية تخاطب الاثنين معا طوال الوقت رغم أن آدم لم يكن حاضرا؟ إن الحية كما نرى لا تتحدث أبدا "
عن" آدم بضمير الغائب، بل تتحدث "
إلى" الاثنين معا مباشرة بضمير المخاطَب:
أحقا قال الله لا تأكلا... لن تموتا... أعينكما... تكونان...!
ولنتوقف هنا قليلا: نستطيع ـ إذا أخذنا هذه الأسئلة في الاعتبار ـ أن نقترح لهذا الجزء فهما بديلا يخالف الفهم الشائع: وهو أن آدم بالعكس كان
حاضرا أثناء هذا الحوار! غاية الأمر أن آدم ببساطة لم يفهم ـ أو حتى لم يسمع ـ حديث الحية! إن الحية لم "تتكلم" هكذا كما نتكلم وإنما كان حديثها بالأحرى نفسيا روحيا، حدسيا إلهاميا، ضربا من الوحي الداخلي أدركته المرأة وفهمته بينما آدم ـ رغم حضوره ـ لم يدرك منه شيئا!
ما يذكره الكتاب إذاً ـ إذا صحّ هذا التفسير ـ لم يكن "نص" حوار جرى حقا بين حية وامرأة وإنما كان "ترجمة" لنوع فائق من التواصل بين الاثنين، لا يمكن فهمه إلا إذا ترجمناه هكذا أولا إلى لغتنا البشرية وهو ببساطة ما فعله الكتاب. هذا التفسير لا يجيب فقط أسئلتنا الثلاثة لكنه أيضا يتسق مع فكرة أن الشيطان ـ وليس الحية ـ هو الذي قام في الحقيقة بالغواية!
وبالطبع قد يقود هذا التفسير بدوره إلى أسئلة أخرى جديدة (إلى السؤال مثلا عن طبيعة هذا الوحي أو الكلام الإلهامي الذي يتجاوز الحواس المعروفة، أو إلى السؤال عن عجز آدم عن فهم الحية رغم حضوره، أو حتى إلى السؤال عن طبيعة المرأة ولماذا تتميز عادة بتلك القدرة على الحدس، أو ما يعرف بـ"حاستها السادسة" الشهيرة، ولماذا لا يملك الرجل عادة هذه الحاسة). غير أن هذا كله بالطبع لا يشغلنا في هذا المقام. غايتنا هنا هي فقط التأكيد على ما كنا نقول: وهو أنه
حتى إذا أخذنا بالتفسير الحرفي لهذه القصة فإن هذا لا يعني أننا فهمناها حقا أو استنفذنا سائر المعاني الكامنة فيها، خاصة وأنها قصة تقبل عدة مستويات من التفسير، مدمجة شديدة الثراء مفعمة بالكثير من الدلالات ولإشارات والرموز!
الخلاصــة: يبدو أن البساطة الشديدة التي قدم بها الوحي "قصة آدم وحواء" قد خدعت البعض حتى أعثرتهم أو على الأقل سببت لهم بعض الحرج عند شرحها والدفاع عنها، خاصة مع توغلنا في الثقافة المادية الحسية والعقلية وابتعادنا عن المفاهيم والأبعاد الروحية ـ ناهيك عن الإشارات والدقائق الرمزية ـ التي يحفل بها الكتاب المقدس. غير أن المشكلة ليست أبدا في القصة نفسها، المشكلة ببساطة ـ وكالعادة مع الكتاب ـ هي
فهمنا نحن لهذه القصة. المشكلة هي عقولنا نحن وهي بحوثنا ونظرياتنا في هذا المجال وربما
وعينا وثقافتنا وخطابنا الديني بشكل عام.
أدعوك بالتالي، وجميع الأحباء، إلى تجنب هذا النقاش عموما ما لم تكن مسلحا أولا بدراسة عميقة ورؤية واسعة للأمر، تتوسل فيها بكل ما نملك من تراث ثري يبدأ حتى مع أوريجانوس نفسه وأفكاره ولا ينتهي مع أحدث ما قدم العلم من معرفة حول نشأة الإنسان، كما تستعين فيها بنعمة الرب على
إدراك ما يخفى حقا خلف الأحداث الظاهرة البسيطة لهذه القصة وعلى اكتشاف المعاني العميقة الرائعة بل الباهرة التي تكمن فيها!
عذرا للإطالة في هذا الجزء حول الفكرة الأولى، لكنها في تقديري الأهم.
..........................