أودية البركة أم اللعنة؟

الكرمه الصغيره

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
24 ديسمبر 2012
المشاركات
2,622
مستوى التفاعل
786
النقاط
113
23551217_824216177757836_288752687318955887_o.jpg

أودية البركة أم اللعنة؟
منذ بضعة شهور مررت من أمام كنيسة في المنطقة التي أقطن فيها، فقرأت عبارة تشعّ من لافتتها المضيئة تقول:
"الإيمان ينمو في الوادي".
ولست أدري لماذا بقيت هذه العبارة عالقة في ذهني فترة طويلة، وكأنني كنت أحاول أن أستوحي منها بعض أجوبة للصراع الرهيب والشكوك التي أخذت تراودني، أو بعض الاحتجاجات الصامتة التي تخامر عقلي المكدود. فأنا كنت أمر في فترة من الحيرة والضياع رحتُ أبحث فيها عن معنى لِمَا يحدق بي من تجارب وضيقات أسفرت عن تساؤلات أخفقت في العثور على أجوبة عنها.
ولقد يتراءى لبعضٍ منا أن الشكوك التي تستبدّ بنا هي خطيئة لا يجدر بالمؤمن أن يرتكبها. هذا صحيح إلى حدٍّ كبير ولكن الإنسان مهما بلغ من التقوى والإيمان هو عرضة في خضمّ ظروف معيّنة لمقاساة هذه الحالات النفسية، والروحية، والعقلية ولا سيّما في غمرة الآلام والأوجاع والتجارب التي تحاول أن تمزّق نسيج حياتنا وتنقض صروح إيماننا. ولعلّ أفضل مثلٍ على هذه الحقيقة هي مواقف أيوب عندما حلّت به المصائب فأضحى نهبة للشكوك والاحتجاج.

ولكن هناك فارق كبير بين الشكوك التي تفضي إلى اليأس والابتعاد عن يَهْوَهْ، والاسترابة بهيمنته وسلطانه، فيجد المرء نفسه آنئذ غارقاً في حمأة البؤس والشقاء، يلغ من صديد التعاسة البشرية من غير أن يرى نوراً يلوح له في نهاية الدرب؛ والشكوك التي تحْفز القلب البشري والوعي الإنساني، واليقظة الروحية للبحث، والتساؤل، واللجوء إلى يَهْوَهْ كي يقشع عن عينيه الغيوم المتلبّدة، فيرى، من ثَمَّ الحقيقة بعين الإيمان والرجاء، ويسكن إلى راحة محبة يَهْوَهْ وسلامه.

وأودّ هنا أن نتأمّل معاً في الإيمان النامي في الوادي وبعض خصائصه التي يتميّز بها. فالوادي هنا هو رمز للظروف القاسية التي يمرّ بها المسيحي والتي من شأنها أن تترك آثاراً أليمة في النفس والروح. والواقع أن هناك طائفة من الوديان التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس في صور رمزية والتي تشكل في المعانات الإنسانية تنانين رهيبة. ولكنني سأقتصر في هذه المقالة على ذكر واديين معروفين هما:
أولاً:
وادي ظل الموت
وهو الوادي الذي أشار إليه النبي داود في المزمور الثالث والعشرين. هذا الوادي، هو بلا شك أرهب الوديان في نظر أكثرية الناس ومنهم بعض المؤمنين. فهم يرون فيه "مرحلة سفر" مخيفة يكتنفها الغموض، وتحدق بها أخطار المجهول. ولكن دعونا نمعن النظر في هذه الآية لنطل على مشارف مبهجة في هذا الوادي. يقول النبي:
"أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ (يَهْوَهْ) مَعِي."
(المزامير 23: 4)
إن الرؤية البديعة في هذه الآية هو تحوّل الموت إلى ظلّ، أي إن الموت لم يعد تنيناً رهيباً لأنه فقد قوته وشوكته، تماماً كما ردّد بولس الرسول:
"أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟"
(1كورنثوس 15: 55)
لم يبقَ للموت سلطان على المؤمن لأنه أصبح ظلاً باهتاً، والسر كل السر هو لأن الرب يرافق المؤمن في تلك اللحظات التي تبدو لأغلبية الناس لحظات مفزعة. إنه لا يخاف أي شيء حتى في وادي الأهوال لأن يَهْوَهْ معه. والواقع أن عدداً كبيراً من أبناء الملكوت عندما أشرفوا على الموت اكتست وجوههم بالغبطة لأنهم رأوا في ساعة الفراق المجد الإلهي الذي ينتظرهم، فازدادوا شوقاً إليه. هل معنى هذا أن هؤلاء الذين شاهدوا في هنيهات حياتهم الأخيرة قبساً من بهاء مجد يَهْوَهْ لم يتعرّضوا للشكوك؟
إن طبيعتنا ميّالة للتساؤل، والريبة، ولا سيما في خضمّ المعاناة، ولكن حين تتحوّل هذه المعاناة إلى السعي للمعرفة فإن الإيمان ينمو في الوادي.

ثانيًا:
وادي البكاء
وهو وادي البكاء كما نصّ عليه المزمور:
".. وَادِي الْبُكَاءِ، .."
(مزمور 6:84)
لا يقتصر وادي البكاء هذا على ما يصيبنا من آلام وأحزان فقط، ولكنه أيضاً وادي المسؤولية التي يحملها المؤمن تجاه المجتمع الذي يعيش فيه. إن الشرور المستشرية في العالم، وعبودية الناس للخطيئة، وإدراكنا الواعي لمصير رافضي خلاص المسيح ولا سيما من يمتّون إلينا بصلات القرابة من أبناء وبنات ووالدين وسواهم، يبعث في النفس الحسرة والأسى. إن وادي البكاء هو رمز لكل ما يحزن قلب يَهْوَهْ والمؤمنين:
هو وادي القتل :
(إشعياء 5:57)؛
والانحراف عن وصايا يَهْوَهْ
(إرميا 23:2).
هو وادي القضاء الإلهي
(يوئيل 14:3).
ولكن إن كانت هذه هي المناحي السلبية في رمز الوادي، فهناك أيضاً نواحٍ مشرقة للذين يحبون يَهْوَهْ ، بل إن هذه الوديان المرعبة تتحوّل إلى جنات، يقول صاحب نشيد الأنشاد:
"نَزَلْتُ إِلَى جَنَّةِ الْجَوْزِ لأَنْظُرَ إِلَى خُضَرِ الْوَادِي"
(نشيد 11:6).
ولكن ما الذي يُحيل الوادي الذي تكمن فيه العقارب والأفاعي إلى وادي الطمأنينة والسلام بل روضة غنّاء يجد فيها المؤمن في أشدّ الضيقات والنكبات سكينة القلب؟
أودّ أن أشير إلى بعض البركات التي يتمتّع بها المؤمن حتى في أحلك الظروف.
فهو أولاً،
لا يجتاز هذه الوديان وحيداً لأن يَهْوَهْ معه:
"لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي."
وثانياً،
إن الأمطار أو البركات التي تنهمر على الجبال تسيل كلها إلى الوديان، وهكذا كل وادٍ يمتلئ :
(لوقا 5:3).
وعندما يبارك الرب تتعطف الأودية بَرَّاً
(مزمور13:65).
وثالثاً،
يقول الكتاب:
"طُوبَى لأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ .. عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ، يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا.."
(المزامير 84: 5-6)
وذلك بفضل نعماء الرب الذي لا يتخلّى عن أتقيائه لأنه هو الذي ضرب الصخرة فتفجّرت المياه وفاضت الأودية :
(مزمور 78).
بل ورد في قوله :
"اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ. بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي."
(مزمور 10:104)
وأكثر من ذلك نرى السوسن ينمو في الوادي :
"أَنَا نَرْجِسُ شَارُونَ، سَوْسَنَةُ الأَوْدِيَةِ."
(نشيد 1:2).
فعلى الرغم من أن الوادي هو في المنظور البشري رمز إلى وضع روحي ونفسيّ وعقلي متدهور، فإن المؤمن المتكل على الرب، الواثق بمحبته ووعوده يدرك يقيناً أنه ليس إنساناً مستوحشاً، تخلّى عنه يَهْوَهْ، وتركه يصارع نكبات هذا الدهر من غير عضد أو قوة. فالمسيح في خطابه الأخير لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء، قال لهم:
"..وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ.آمِينَ."
(متى 28: 20)
وهذا الوعد مرصود لكل مؤمن الذي طُرُقُ الرب في قلبه.
عزيزي القارئ،
لا تجعل الخوف يتطرّق إلى قلبك عندما تجد نفسك توغل في أودية الحياة التي لا ترحم.. تذكّر أنك لست وحدك بل إن الرب الذي مات من أجلك وأحبّك هو يسير معك ويرشدك إلى مرفأ الأمان على الرغم من طرقات الوادي ومنعطفاته المتعرجة.
* * *
أشكرك أحبك كثيراً...
بركة الرب لكل قارئ .. آمين .
وكل يوم وأنت في ملء بركة إنجيل المسيح... آمين

يسوع يحبك ...
 
أعلى