لِنَعِشْ في سبيل الأولاد

philanthropist

أميرة الورد
عضو مبارك
إنضم
30 يوليو 2013
المشاركات
1,239
مستوى التفاعل
161
النقاط
0
الإقامة
القصر الملكى السماوى قصر الملك يسوع المسيح
لِنَعِشْ في سبيل الأولاد
دورين آرنولد Doreen Arnold

إنّ الفتاة دورين آرنولد، 18 سنة، هي واحدة من أفراد مجتمع برودرهوف المسيحي الذي يعيش حياة أخوية مشتركة. وقد تطوعت حالياً في مدرسة للأولاد المعاقين قرب مدينة رودلشتات Rudolstadt، في ألمانيا.

أثناء عطلة نهاية الأسبوع، تعكس لنا قرية "كايلهاو Keilhau" الألمانية، التي هي مثال السلام والبراءة ومشهد حيّ من القصص والروايات عن دنيا الأحلام التي تنعم بالاطمئنان والسكينة، تعكس لنا الجمال الساحر للقرية الألمانية. وفيما يتصاعد بهدوء الدخان من مداخن المنازل، تمرّ أحياناً إحدى السيارات وتعكر صفاء هدوء القرية قبل أن تتوارى وتدخل إحدى الباحات من خلال البوابات الخشبية. وبحلول المساء تهجع جميع الأصوات. إلا أننا عند ذاك الوقت نسمع عن بُعد، وبيقين لا يساوره شك، دمدمة محركات عربات نقل "الخدمات الاجتماعية للشباب Jugendsozialwerk" وهي تقترب إلى القرية وتنقل أعداد الأولاد إلينا.

وسرعان ما يتحول النصف العلوي من القرية إلى ما أشبه بأمواج خافقة من أولاد الشوارع، يسحبون ورائهم حقائبهم المتهرئة السائرة بعجلات لا تريد التدحرج على الطريق المرصوف بالحجر. فلذلك تقوم ألحان التحيات والزعيق والتأنيب والضحك بإزالة ذلك الهناء الذي تنعم به قرية "كايلهاو". ولكن ما محشور في تلك الحقائب المتهرئة؟ إنها لا تحتوي ملابس الاسبوع المقبل ودمى الحيوانات المصنوعة من القماش والقطن الموصى بها من قبل معلميهم ليناموا معها في الليل فحسب بل تحتوي أيضاً على حكايات متشابكة من حضيض المجتمع، مثل: قصص حب، أو فقدان شخص عزيز، أو مآسي عائلية، أو أحلام خائبة، وغالباً ما تحتوي أيضاً على شظايا صغيرة من قصص الاعتداء وسوء المعاملة، والإدمان، والإهمال. وفيما يشقّ هؤلاء الأولاد طريقهم في الشارع الجبلي بأقصى جهدهم حاملين حقائبهم، هل بوسعنا حقا يا ترى التعرف ورؤية كل ما تحمله حقائبهم؟

منذ عام 1817م كان الأولاد يتوافدون إلى هذا الوادي النائي الواقع في ولاية تورنغن الألمانية للدوام في مدرسة داخلية خاصة تدعى بالألمانية Fröbelschule Keilhau التي أسسها المعلم فريدريش فروبل Friedrich Fröbel. فالرؤية التي كانت عنده في ذلك الوقت في إنشاء مدرسة محمية نهجها يدور حول تنمية أفضل الاهتمامات التعليمية للتلميذ (بدلا من الطريقة المعتادة والمتمركزة حول أساليب تعليمية تقليدية)، جعلت منه ثورياً في مجال عمله التربوي. ويجري تكريمه اليوم في جميع أنحاء العالم على انه الأب المؤسس لمدارس رياض الأطفال العصرية، وأيضاً للتعليم التقدمي الذي يتمحور حول الطفل بشكل عام. وبالرغم من أنّ التقلبات والأحداث التاريخية قد أرهقت وغيّرت مبادئه الأصلية وتغيرت بها الأولويات، إلّا أنَّ هدفه الرئيسي – وهو إعداد كل طفل للحياة إعداداً جديراً -- لا يزال ثابتاً مثلما كان.

وكانت أسرة أم جدتي التي هي من أحفاد فروبل Fröbel، قد قامت بإدارة المدرسة خلال السنوات المضطربة ما بين عام 1903 و 1934م. فقد داومتْ آنذاك جدتي أنّاماري فيشتر Annemarie Wächter في مدرسة البنين، وقد كانت الفتاة الوحيدة فيها، عندما كان والدها مديراً للمدرسة. أما المنحدرات الجبلية المحيطة بالمدرسة، والمشجرة بشكل رائع، فقد جعلتها جنة للأولاد، لذلك اِستغلَّتها أنّاماري مع أقرانها اِستغلالاً كاملاً، مثل استكشاف الغابات، وبناء أكواخ اللعب الخشبية، ولعبة الحرب والمطاردة، والقيام بمغامرات صبيانية أخرى، التي غالبا ما كانت تثير استياء والدتها.

وقد فصلتْ النازية، ومن ثم الحرب العالمية الثانية، ما بين أنّاماري وقرية "كايلهاو" – وقد كان انفصالاً مؤلماً ومؤسفاً لا يمكنه أن يلتئم طوال عمرها. ففي عام 1932م تركت عائلتها لتعلّم بالقرب من مدينة فولدا Fulda الألمانية، وبحلول عام 1936م أُجبرت على الفرار من وطنها الحبيب مع عريسها، الذي كان مفكراً حراً رفض أن يؤدي التحية النازية العبادية لهتلر "هايل هتلر Heil Hitler" أو الانضمام إلى الجيش الألماني. فهربا إلى إنكلترا وبعدها إلى باراغواي، وأخيراً استقرا في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي تلك الأثناء، تمت مصادرة المدرسة من قبل النازيين، وإعادة فتحها في عهد النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية في وقت لاحق.

لكن "كايلهاو" ظلّتْ ركنا رئيسياً لا يتجزأ من حياة جدتي أنّاماري خلال كل هذه الظروف. فمن إحدى المعتقدات الأساسية التي كان يؤمن بها المعلم فروبل Fröbel هي أنه عندما يأخذ الكبار بتربية الصغار، فيجب على الكبار أيضاً أن يتعلّموا من الصغار. وشعاره كان "لِنَعِشْ في سبيل الأولاد". وكان هذا يعني لجدتي أنّاماري "إظهار الوقار للأولاد". وإلى جانب تأكيد فروبل على تنمية روحية الطفل وأيضاً تنمية ذهنيته وجسمه من خلال الاستكشاف بالطبيعة ودراستها وأيضاً باللعب، صار إظهار الوقار للتربية عند جدتي أنّاماري من المعتقدات المركزية في نظرتها كمربية.

ويوجد اليوم العديد من مدارس فروبل Fröbel في جميع أنحاء العالم. أما المدرسة الأصلية في "كايلهاو Keilhau"، حيث أعمل كمتطوعة فيها، فإنّ الأولاد الذين يقصدونها هم من المعاقين الذين لديهم صعوبات في التعلّم أو الكلام أو السمع. إلَّا أنَّ ما ينهكهم أكثر من التشخيصات الطبية هي البصمات الواضحة التي تخلفها المشاكل الاجتماعية في نفسيتهم. فما أصعب رؤية تلك الوجوه الحزينة المكلومة، عندما نستقبلهم مساء يوم الأحد، وما أصعب سماع لهفة أصوات النفوس العليلة وهي تحاول إعادة التكيف مع إيقاع أسبوع جديد. ألهذا السبب جئتُ إلى "كايلهاو" بعد أربعة أجيال من زمن جدتي أنّاماري؟ ربما. فأنا أخوض المعمعة على أي حال، وأمدّ يد المساعدة، أو أحييهم بالحضن، بحسب التحية الألمانية الحديثة.

في هذه الامسية من أوائل أيام شهر ديسمبر الباردة، وعندما تعاني أذرع الأولاد من شدة وزن حقيبة الأمتعة الاسبوعية، فإنّ الأمر لا يعني لهم بأنه مجرد حقيبة. ففي نظر سونيا Sonia، يعني هذا الاسبوع الجديد الأمان والطمأنينة بفراش نظيف وبطعام حقيقي. (لقد غيّرتُ اسمها الحقيقي، وأسماء غيرها أدناه، احتراماً للخصوصية). لأنها عندما ترجع إلى البيت أثناء عطل نهاية الأسبوع، فإنّ تلك الفترة تكون مقلقة جداً لها وتخلو من الأمان واطمئنان القلب، ويشوبها الغموض، وذلك بسبب إدمان والدتها على الشرب. ففي بعض الليالي تقفل أمها الباب ولا تدعها تدخل البيت، وتُترك في الشوارع. أما ستيفان Stefan فتراه حاملاً على مقربة من صدره صورة لعائلة مبتسمة. ولكن الصورة كانت مجعدة، ومطوية ومحكوكة كثيراً إلى درجة يصعب التعرف عليها. والصورة مأخوذة من إحدى المجلات. فلم يكن خفيّاً على أحد ما هي أمنيته لعيد الميلاد Christmas، لأن ظلام عينيه البنيتين كان دائماً يترقب بشغف ويتلهّف لأن يكون لديه أب وأم. وعندما يكون يومه يوماً جيداً وفرحان فتراه يسميك بابا أو ماما. ولكن بيرجيت Birgit صاحبة العينتين المتوهجتين بفرح سري، تراها تُمَسِّد كنزتها الصوفية بكل لطافة، التي اشتراها لها أحد مقدمي الرعاية Erzieherinnen؛ لأن والديها عاجزان عن الاهتمام بها وسدّ حاجاتها. في حين كانت الفتاة سابين Sabine مهمومة جداً عندما غادرت يوم الجمعة الماضي عائدة إلى بيتها، غير عالمة أين ستقضي عطلة نهاية الأسبوع، في الملجأ أم مع زوج أمها المسيء في تعامله لها. وها هي قد عادت إلى المدرسة اليوم منطوية على نفسها ومتوترة ونظراتها كئيبة ولا ترفع عينيها عن الأرض. إلّا أنّ الحقيبة المدرسية الجميلة للولد أكسل Axel البرتقالية اللون لا تحتوي إلَّا على هدية واحدة لعيد ميلاده، ألا وهي مكعبات اللعب الخشبية، وهي نفسها التي قد ساعدته أنا في لفَّها على عجل في الأسبوع الماضي. فبالرغم من أمله الواثق في الحصول على دراجة هوائية جديدة وورق لعب البوكيمون، إلّا أنّ المكعبات كانت الهدية الوحيدة التي من نصيبه.

غير أنّ الأولاد العائدين إلى المدرسة ليس جميعهم متضررين نفسيّاً. فالفتى فرانك Frank على سبيل المثال، عاد متفاخراً كثيراً بسبب حصوله على الورقة النهائية التي ستضمن حصوله على أعلى شهادة مدرسية تمنحها مدرسة "كايلهاو" وتدعى بالألمانية Realschulabschluss. أما الفتى جَسْتِن Justin فقد جلب معه فانوساً. وأخبرنا أنّ لهب الشمعة فيه قد جاء من إحدى الكنائس في القدس، حيث تمّ نقل اللهب جواً إلى بلدته. وبسبب قلقه على لهب الشمعة لئلا يطفئها المشرف الليلي وهو نائم، فقد سألني فيما إذا كنتُ قادرة على الاحتفاظ بها لغاية صباح يوم الأثنين.

وبتساقط أول بلورات ثلجية لهذا الموسم في الصباح، تلين أرض المدرسة الطينية. ويأخذ النور يومض من الأماكن السكنية للطلاب Wohnheime الذين بدأوا يستيقظون. فماذا أفرغوا من حقائبهم؟ بالتأكيد ملابس مجعدة مثل قمصان وبنطلونات جينز وكنزات، ولكن القصص والمآسي والفجوات النفسية الكبيرة التي انطبعت فيهم خلال عطلة نهاية الأسبوع جراء حياة الفوضى التي تتسم بها عوائلهم تظهر للعيان بالقوة وبالفوضى نفسها هنا أيضاً. وباعتباري معلمة مُطبِّقة جديدة Praktikantin وتنقصني الخبرة في التعليم فلا أستطيع أن أجزم بأنني سأتمكن من رعاية جميع ما تحمله حقائب الأولاد الذين تحت إشرافي في مجرد 5 أيام، ولا أنا بقادرة على إعانتهم في خلال هذه المدة على كيفية التعامل مع الوحوش التي أتعبتهم في معاركها ضدهم، والتي ستتعبهم ثانية. إلَّا أنني قادرة على أن "أعيش في سبيل الأولاد" كما قال المعلم فروبل Fröbel، حتى يتمكنوا على الأقل من الذهاب إلى البيت يوم الجمعة وهم حاملين في حقائب السفر المضروبة من كل الجهات شيئاً من الذكريات السعيدة. لذلك، وجنباً إلى جنب مع غيري من المعلمين المطبقين ومع المعلمين الموهوبين والمتفانين من الذين يشكلون قلب المدرسة النابض، فبوسعي أن أضحك مع الأولاد، وأبني أكواخ اللعب الخشبية معهم، ونلعب لعبة الحرب، وننشد ونغني، ونستكشف الطبيعة معهم أثناء وجودهم هنا. ولهذا السبب بنى المعلم فروبل Fröbel هذا المكان. وستفرح جدتي أنّاماري بهذا بالتأكيد.
 
أعلى