كل يوم اية واحدة وتامل .. asmicheal

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة

"ماذا تظنّون: إن كان لإنسان مائة خروف وضلّ واحد منها،

أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال.

وإن اِتَّفق أن يجده،

فالحق أقول لكم أن يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل.

هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار"
[متى 18 : 12-14].


هكذا يكشف السيِّد عن نظرته للإنسان أنه ليس مجرّد فرد بين عدد لا يُحصى، إنّما يهتمّ به الله شخصيًا وباسمه، مقدّمًا له كل اهتمامه أكثر من كل الجماعة المحفوظة في مراعيه على الجبال المقدّسة، لكي يجتذبه ويدخل به إلى العضويّة في هذه الجماعة، إن الله لا يهتمّ باَلكَمّ إنّما بالنوع، يهتمّ بكل عضو بكونه ابنًا له.

بهذا الروح الأبوي تطلّع القديس يوحنا الذهبي الفم إلى شعبه فلم ينشغل بالكاتدرائيّة المكتظَّة بالعابدين، ولم يفرح بكثرة الملتصقين بالكنيسة، وإنما كان يئن حزينًا لو أن إنسانًا واحدًا في المدينة لم ينعم بعد بالحياة الأبديّة. في اهتمامه بكل عضو يقول: [كل واحد منكم في عينيَّ يساوي المدينة كلها

[لا يقل لي أحد أن كثيرين قد نفَّذوا الوصيّة فإنّني لا أبتغي هذا، بل أريد الكل أن يفعلوا هكذا. فإنّي لا أستطيع أن التَقط أنفاسي حتى أرى ذلك قد تحقّق، فإن كان واحد قد ارتكب الزنا بين أهل كورنثوس صار بولس يتنهّد كما لو أن المدينة كلها قد ضاعت





=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربِحت أخاك"

[متى 18 : 15].


هذا السلوك الذي أوصانا به السيِّد ليس مجرّد عمل أخلاقي يلتزم به المؤمن، لكنّه في جوهره هو اختفاء في شخص السيِّد المسيح، فلا يرى المؤمن أخاه يسيء إليه، إنّما يسيء إلى نفسه وإلى تمتّعه بالأبديّة، فيذهب ليعاتبه لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، وإنما يذهب إليه حاملًا فكر المسيح لكي يقتنيه بالحب للمسيح كعضوٍ حيٍّ في جسده، ينقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في ذات الجسد.

يذهب إليه منفردًا حتى لا يتحوّل العِتاب إلى نوعٍ من التشهير، ولكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ يذهب إليه ليحمله إلى التوبة لله لا للاعتذار له. بهذا يطلب المؤمن سلامة حياة أخيه في الرب وليس معاقبته. لهذا يقول السيِّد إنك بهذا تربح أخاك، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل أنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل "يربح نفسه" بل "تربح (أنت) نفسه" مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلًا بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه
القديس أغسطينوس: [لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به اليوم (كما جاءت العبارة الإنجيليّة التي بين أيدينا) يلزمنا قبل كل شيء ألا نحمل كراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، وتكون متضايقًا حتى تُزيل عن عين أخيك ما تكرهه. النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور؟! إذ يقول الكتاب المقدّس: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس". كما يقول أن من "يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة" (1 يو 2: 9). فالبغضة إذن هي ظلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضير نفسه أولًا، مفسدًا داخله..

حقًا لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الغفران للآخرين، بعيدًا عن روح الانتقام والكراهيّة التي تحجبنا عن ملكوت السماوات. ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [عندما تُفكِّر في الانتقام، انظر أنك تنتقم من نفسك لا من الآخرين، إذ تربط خطاياك لا خطايا أخيك... أي شيء أكثر خطورة من أن تكون منتقمًا، إن كان هذا ينزع عنك عطيّة الله العُظمى؟

ويرى نفس القدّيس أن الذي يُخطئ إلينا ويظلمنا، إنّما يسبّب لنا نفعًا عظيمًا إن احتملناه بحب، إذ يقول: [لا تقل أنه شتمك وافترى عليك وصنع بك شرورًا بلا حصر، فإنه بقدر ما تعدّدت هذه الأمور وبكونها صادرة عنه، تُعلن أنه نافع لك. إنه يقدّم لك فرصة لغسل خطاياك، وقدر ما تَعظُم الأضرار التي يصُبَّها عليك، يكون علّة لنوالك غفرانًا عظيمًا للخطايا
وكما يقول: [إننا نعاقب أنفسنا بكراهيّتنا للآخرين، كما نستفيد بحبّنا لهم

القديس يوحنا الذهبي الفم: [لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه وذلك بسبب الخجل وارتباك وجهه. يطالب (السيِّد) الذي أُصيب بالخطأ ليس فقط بالذهاب إلى أخيه، وإنّما يذهب بطريقة بها يُصحّح ما قد حدث، فلم يقل له: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلا تذكيره بما أخطأ به. اخبره بما حلّ بك على يديه، بطريقة لائقة كمن يقدّم له العذر، ويسحبه بغيره نحو المصالحة

ذهابنا إلى المخطئ بمفردنا لمعاتبته لكي نربحه في الحقيقة ليس إلا اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه، فقد جاء إلينا من سمواته ليعاتبنا بالحب، ويدفعنا بعمله الخلاصي للتوبة لكي يربحنا له كأعضاء جسده المقدّس. إنه لم ينتظرنا نذهب بل جاء إلينا! هذا فإن الوصيّة التي يقدّمها لنا السيِّد لا يمكننا أن نكمِّلها ما لم نحمله هو في داخلنا فنسلك سلوكه ونحمل فكره فينا.

يقول القديس أغسطينوس: [إذ أخطأ إليك أخوك سرًا ابحث عنه لتصحِّح خطأه خفية... فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسرّ... إن كان قد أخطأ إليك وحدك، وأنت تعرف ذلك، فهو مخطئ إليك وحدك، أمّا إذا أساء إليك أمام كثيرين، فقد أخطأ إليهم أيضًا بمشاهدتهم إساءته إليك... لهذا يجب انتهاره أمام جميع من ارتكب أمامهم الخطأ





=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"وإن لم يسمع فخذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين

لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة،

وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة،

وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عِندك كالوثني والعشّار"
[متى 18 : 16-17].


حينما نأخذ معنا واحدًا أو اثنين ينبغي ألا يكون الهدف تأكيد خطأه والشهادة ضدّه وإنما لإقناعه، فنكون كالطبيب الذي يرى المرض يتزايد فيُّصرّ على تقديم دواء أكثر مرارة وأشد فاعليّة، ليس لأجل المرارة في ذاتها، وإنما من أجل شفائه. فإن لم يأتِ هذا التصرّف بثمر نُخْبر الكنيسة، لا كمن يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر، لتهتم به وتعالجه بحكمة. داود النبي وهو نبي تقي ومشهود له من الله نفسه وحكيم، عندما أخطأ لم يُدرك خطأه حتى تلقَّفته الكنيسة في شخص ناثان النبي، لتُعيد له بصيرته التي أفسدتها الخطيّة، وتردّ له فكره وحكمته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصلاح؟! لهذا لم يوصه من البداية أن يأخذ معه اثنين، وإنما بعد أن يفشل بمفرده، ولا أن يرسل إليه الجماعة ضدّه وإنما يرسل إليه اثنين أو واحدًا، فإن احتقر هذا التصرّف عندئذ فقط يحضره للكنيسة

أخيرًا إن لم يسمع من الكنيسة، رافضًا أمومتها، يكون قد رفض أبوة الله نفسه فيُحسب كالوثني والعشّار. إنه يلزم تجاهله، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لأن مرضه قد صار غير قابل للشفاء
إذن برفضه الكنيسة يَحرم الإنسان نفسه من العضويّة في جسد المسيح، ويصير من حق الكنيسة أن تربطه

=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولًا في السماء"
[متى 18 : 18]


إنه يربط نفسه بنفسه برفضه الفكر الكنسي، وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرب إليهم، كما تُعزل الخميرة الفاسدة عن العجين كله، أو يُبتر العضو الفاسد. وإن كان هذا الأمر لا يتمّ باستهتار أو بتسرّع. فإنه ليس سهلًا أن يقبل إنسان بتْر عضو من جسده إلا بعد استخدام كل وسيلة ووسيلة لعلاجه، وحينما يجد جسده كلّه في خطر يلتزم تسليمه للبتْر. أقول أنه ما أصعب على قلب الكنيسة أن ترى إنسانًا. يُلقي بنفسه خارجًا ويُلزمها بربطه، أنها تبقى منتظرة من يومٍ إلى يومٍ رجوعه لكي تحِلُّه فيجد بابها مفتوحًا له. لهذا يذكر السيِّد الربط أولًا فالحَل، ليعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، وليلهب قلب الكنيسة نحو حلّ المربوطين فلا تستكين من جهة خلاصهم حتى وإن كانوا قد ألقوا أنفسهم بأنفسهم خارج أبوابها.



=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة
"وأقول لكم أيضًا إن اِتّفق اثنان منكم على الأرض في إي شيء يطلبانه، فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السماوات. لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم"
[ متى 18 : 20]

كأن السيِّد المسيح يُعلن لكنيسته أن تبقى مصلِّية من أجل المربوطين، حتى وإن كان أعضاء هذه الكنيسة المحليّة اثنين أو ثلاثة على الأرض، فإنهم إذ يُصلّون معًا في اتّفاق بقلبٍ واحدٍ يحلّ المسيح نفسه "المحبّة" في وسطهم، وتُقبل صلواتهم أفضل من صلوات الكثيرين كل على انفراد.

يقول السيِّد "إن اتِّفق اثنان على الأرض"، لأن في اتِّفاقهما معًا بروح الحب يتّحد معهما بعض أعضاء الكنيسة الراحلين وأيضًا بعض السمائيّين، فيفرح الله بصلاة الشركة هذه!

يرى البعض في الحديث عن الاثنين أو الثلاثة هنا إشارة إلى كنيسة البيت، حيث يجتمع الزوجان معًا في الرب بروح الحب الحقيقي ومعهما الأولاد، فيسكن الرب في وسط البيت كقائدٍ لهم.

كما يرى الكثير من الآباء في قول الرب تأكيد لأهمّية حياة الشركة المُقامة على الحب في الرب، وتحذير من حياة العزلة، إذ يقول الكتاب: "اثنان خيرٌ من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحد يُقيمه رفيقُه، وويلٌ لمن هو وحده، إن وقع إذ ليس ثان ليُقيمه... والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا" (جا4: 9-12).

* إن كان اثنان بفكر واحد يستطيعان أن يفعلا هكذا فكم بالأكثر متى وُجد اتّفاق في الفكر بين الجميع؟!

القديس كبريانوس

* إن كان الرب يقول أنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما... فكم بالأكثر إن اجتمعت كل الجماعة معًا باسم الرب؟!

* آمن أن الرب يسوع حاضر عند اِستدعاء الكاهن، إذ يقول: "حينما اجتمع اثنان أو ثلاثة أكون في وسطهم"، فكم بالأكثر إن اجتمعت الكنيسة وأقيمت الأسرار يهبْنا حضوره؟!

القديس أمبروسيوس

* الصلاة الجماعيّة تُستجاب سريعًا، وتأتي بثمر كثير عندما تكون متّحدة وباتفاق في الرأي.

الآب يوحنا من كرونستادت

* لقد وَضع الاتِّفاق أولًا، وجعل من اتِّفاق السلام أساسًا أوَّليًا، معلِّما إيّانا أنه يليق بنا أن نتَّفق معًا بثبات وإيمان. ولكن كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟! كيف يمكن لاثنين أو ثلاثة أن يجتمعوا معًا باسم المسيح مع وضوح انفصالهم عن المسيح وعن إنجيله؟! فإنّنا لم ننفصل نحن عنهم بل هم انفصلوا عنّا، فظهرت الهرطقات والانشقاقات، وأقاموا لأنفسهم أماكن مختلفة للعبادة تاركين رأس الحق ومصدره
القديس كبريانوس


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة

حينئذ تقدّم إليه بطرس وقال:

يا رب كم مرّة يخطئ إليّ أخي وأنا اغفر له،

هل إلى سبع مرّات؟

قال له: لا أقول لك إلى سبع مرّات، بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات"
( متى 18 : 21-22)

إن كانت الكنيسة تلتزم بتنقيّة أعضائها، مع اهتمامها الشديد بكل وسيلة لإصلاح المخطئين مهما بلغ شرّهم، فما هو موقف العضو نحو أخيه المخطئ إليه، كم مرّة يغفر له الخطأ الشخصي؟

لقد ضرب الرسول بطرس رقم (7) بكونه يُشير إلى الكمال عند اليهود، وكأنّه رفع الغفران للأخ إلى اللاحدود من أجل محبّته له، أمّا السيِّد فأكَّد قائلًا: "بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يقدّم (السيِّد) هنا عددًا معينًا (70×7=490) بل ما هو غير محدود ودائم إلى الأبد... فلا يحدّد رقمًا للمغفرة، إنّما يطلب أن تكون دائمًا وأبديّة

ويرى القديس أمبروسيوس[690]أن رقم 7 يُشير إلى السبت الأبدي أو الراحة، وكأنّ المؤمن إذ يغفر لأخيه يدخل إلى الراحة الأبديّة. فالغفران بلا حدود مادام يطلب راحة بلا حدود!

ويرى القديس أغسطينوس[691]أن السيِّد المسيح يطلب منّا الغفران لإخوتنا 77 مرّة يوميًا لا بمعنى عدم مغفرة الخطأ رقم 78، ولكن لأن رقم 10 يُشير إلى الناموس، والوصيّة بعدم كسره تكون مفهومة ضمنًا تمثل رقم "11" وكأنه متى أخطأ أخوك كاسرًا كل الوصايا (11) بغير حدود (7) فاغفر له لكي تقتنصه بالحب إلى الحياة المقدّسة في الرب.

يجيب القديس جيروم على التساؤل: إن طلب أخي بشفتيَّه لا بقلبه فماذا أفعل؟ قائلًا: [إن أخطأ سبعين مرّة سبع مرّات يوميًا وسألك الصفح فاغفر له، ولا تقل إنه لا يطلب الصفح من أعماق قلبه بل يكذب. أترك الدينونة لله! هو توسّل إليّ وطلب منّي، فإن كان لا ينطق بالحق، فالله هو الذي يعلم. أنا اسمع الصوت لكن المسيح هو الذي يفهم القلب. أنا أقبل ما اسمعه، والمسيح يقبل ما يدركه. هذا ولتفكِّر في مكافأتِك، فإن كان هو يكذب وأنت قبلت كذبه كصدق، يكون لك ذلك خلاصًا أمّا بالنسبة له فيكون موتًا

وقد رأى القديس يوحنا الدرجي في وصية السيِّد انفتاحًا لأبواب الرجاء أمامنا لدى الرب نفسه، إذ يقول: [في أوقات اليأس لا تتوقّف عن تذكُّر وصيّة الرب لبطرس أن يغفر للمخطئ سبعين مرة سبع مرات، فإن الرب الذي أعطى هذه الوصيّة يعمل هو أعظم منها بكثير (نحونا). ولكن عندما نتكبَّر فلنتذكَّر القول: من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة -أي سقط في الكبرياء- فقد صار مجرمًا في الكل


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة
"لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا أراد أن يحاسب عبيده.

فلما ابتدأ في المحاسبة قدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة.

وإذ لم يكن له ما يوفي أمر سيّده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ماله ويوفي الدين.

فخرّ العبد وسجد له قائلًا:

يا سيّد تمهل عليّ فأوفيك الجميع.

فتحنّن سيّد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين"
[متى 18 : 23-27].



في هذا المثل يظهر الملك رمزًا للديّان الذي يقف أمامه الإنسان مدينًا بعشرة آلاف وزنة، بينما يُعلن الإنسان عجزه التام عن الإيفاء بالدين. ويلاحظ في هذا المثل:



أولًا: يشبه ملكوت السماوات بإنسان ملك، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [ملكوت السماوات هذا هو ابن الله، عندما صار في شكل جسد الخطيّة، متّحدًا بالناسوت فصار إنسانًا ملكًا[694].]



ثانيًا: العشرة آلاف وزنة التي اِسْتَدانها الإنسان، إنّما هي كسر الوصايا الإلهيّة. فإن كان رقم 10 يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر الناموس كله، وأما رقم 1000 فيُشير للأبديّة، فإن رقم 10.000 يعني أن الإنسان مدين بكسر وصايا بدِين لا يقدر أن يفيه عَبر حياته الزمنيّة.

يقول القديس أغسطينوس: [يلزمنا أن نؤكِّد أنه كما أُعطى الناموس في عشر وصايا، فإن العشرة آلاف وزنة تعني كل الخطايا التي اُرتكبت في حق الناموس[695].]

ما كان يمكن للإنسان أن يفي الدين الإلهي، فصدر الأمر ببيعه هو وزوجته وأولاده وكل ماله، لعلّه يقدر أن يفي شيئًا. إن كسر الوصيّة الإلهيّة قد دفع الإنسان ليفقد كل شيء، يفقد نفسه - أي روحه الداخليّة -التي أصابها الموت الأبدي بحرمانها من الله مصدر حياتها، ويفقده زوجته -أي جسده المرتبط به- ويلزم أن يعوله ويربِّيه، فصار الجسد الصالح دنسًا، مثقّلا بشهوات فاسدة قاتلة تثقِّل النفس وتفسد الفكر والحواس. أمّا الأولاد فيُشيرون إلى المواهب المتعدّدة التي تحوّلت خلال الخطيّة من آلات برّ لله إلى أداة إثم تعمل لحساب الشيطان؛ أمّا كل ماله - فيعني ممتلكاته - من ذهب وفضّة ونحاس إلخ. الأمور التي وإن كانت صالحة في ذاتها لكنها خلال فساد الإنسان صارت معثرة له.

يرى القديس جيروم أن الزوجة هنا هي "الغباوة"، فكما أن الحكمة هي زوجة الإنسان البار كقول الكتاب "قل للحكمة أنتِ أختي... لتحفظك من المرأة الأجنبيّة من الغربية المَلِقة بكلامها" (أم 7: 4-5)، فإن الشرّير زوجته "الغباوة". فباتّحاد البار بالحكمة ينجب أفكارًا مقدّسة وسلوكًا فاضلًا في الرب، ينجب بنينًا للحكمة يفرح بهم الرب، هكذا الشرير بالتصاقه بالغباوة ينجب أولادًا هم الأفكار الشرّيرة والتصرّفات الدنسة.

ويرى القديس أغسطينوس في الزوجة "الرغبة الشرّيرة" التي تلتصق بالشرّير، فتلد أبناء هم أعماله الشرّيرة. وكأن الإنسان في شرّه يقدّم لدى الديّان حسابًا عن زوجته، أي رغبته أو إرادته الشرّيرة، وعن أولاده، أي تصرّفاته الشرّيرة[696].

لقد تحنّن الملك على المدين فلم يتمهَّل عليه فحسب كطلبه [26]، وإنما أعطاه أكثر ممّا يسأل وفوق ما يفهم، إذ أطلقه حرًا هو زوجته وأولاده، وترك له ما لديه وعفا عنه الدين. كان هذا المسكين يطلب الإمهال ظانًا أنه يقدر أن يفي، ولم يُعلّم أنه عاجز كل العجز في تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن، لهذا أطلقه السيِّد إلى الحرّية خلال الصليب تاركًا له كل الدين بنعمته المجّانيّة. وهبه حرّية النفس والجسد، مقدّسًا مواهبه وكل ما يملكه، ليصير بكلّيته مقدّسًا له.

كان يمكن لهذا العبد أن يعيش هكذا في الحرّية كمن هو بلا دين يحمل كل شيء مقدّسًا، غير أن المعطِّل الوحيد الذي أوقف هذه النعم ونزعها عنه ليردّه إلى أشرّ ممّا كان عليه هو اِنغلاق قلبه على أخيه الذي كان مدينًا له بمائة وزنة، أي بدين بشري تافه، لأن رقم 100 تُشير إلى الجماعة في هذا العالم[697].

مسكين هذا الإنسان الذي ينعم بالتحرّر من عشرة آلاف وزنة، ولا يتنازل لأخيه عن مائة وزنة بل يكون معه قاسيًا، فيرتدّ إليه دينه الأصيل ليعجز عن الإيفاء. مهما ارتكب الإخوة في حقّنا، إنّما نكون دائنين لهم بمائة وزنة، فإن لم نتنازل عنها لن ننعم بالتنازل عن الدين الذي علينا لدى الله. "إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم" (مت 5: 15).

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ لم يكن بعد صوت المغفرة يدوي في أذنيه إذا به ينسى محبّة سيّده المترفّقة! أنظر أي صلاح أن تتذكَّر خطاياك! فلو أن هذا الإنسان احتفظ بها بوضوح في ذاكرته ما كان قد صار هكذا قاسيًا وعنيفًا. لهذا أكرّر القول... إن تذكار معاصينا أمر مفيد للغاية وضروري جدًا. ليس شيء يجعل النفس حكيمة بحقٍ ووديعة ومترفّقة مثل تذكار خطايانا على الدوام. لهذا كان بولس يتذكّر خطاياه التي ارتكبها ليس فقط بعد التطهير، وإنما تلك التي ارتكبها قبل عماده، مع أن هذه جميعها قد غُفرت في الحال وأزيلت[698].]




=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة
"فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدًا، وأتوا وقصّوا على سيّدهم كل ما جرى، فدعاه حينئذ سيّده وقال له:"أيها العبد الشرّير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتَك أنا؟!"

"هكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحدٍ لأخيه زلاته"
[ متى 18 ؛ 28- 35 )


إن كان العبد المسكين الذي أسره رفيقه في السجن طالبًا أن يفي بالمائة وزنة لم يفتح فمه ليشتكيه، لكن صوت الجماعة يصرخ من الداخل بالحزن الشديد، ويسمع الله تنهّدات البشريّة الخفيّة من أجل قسوة الناس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيكيل لهم بالكيل الذي يكيلون به لإخوتهم.

إن كان هذا هو حال البشريّة التي تئن من أجل عدم تنازل الإنسان لأخيه عن أخطائه التي سبق فارتكبها ضدّه، فماذا يكون قلب الكنيسة التي تحزن جدًا عندما ترى من أولادها من لا يصفح ليخسر في غباوة ما تمتّع به من عطايا إلهيّة ونِعم مجّانيّة. بل هذا ما هو يحزن قلب السمائيّين، وقلب الله نفسه الذي يطلب أن يجد صورته ومثله فينا!

ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الإلهيّة: [لم يقل "أباكم" بل "أبي"، إذ لا يليق أن يدعى الله أبًا لإنسان شرّير هكذا وحقود
=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"وجاء إليه الفرّيسيّون ليجرّبوه، قائلين له:

هل يحلّ للرجل أن يطلِّق امرأته لكل سبب؟

فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى.

وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته،

ويكون الاثنان جسدًا واحدًا.

إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد،

فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان"
[متى 19 : 3-6].


أراد الفرّيسيّون أن يجرّبوه ربّما لأنهم سمعوا ما قاله بخصوص التطليق في الموعظة على الجبل، فقدّموا له سؤالًا لعلّه يجيب بخلاف ما ورد في شريعة موسى رافضًا التطليق (إلا لعلّة الزنا)، فيُحسب في أعينهم كاسرًا للشريعة. أمّا هو فاستغلّ الفرصة ليقدّم لهم "الحياة الزوجيّة" في مفهوم روحي عميق ومن منظار إلهي كحياة فردوسيّة، وليس عقدًا اجتماعيًا مجرّدًا، خلالها يختبر الزوجان اتّحاد النفس بالله، فينجذِبا خلال هذه الحياة المقدّسة إلى تذوّق الملكوت الداخلي. ويلتهب قلباهما نحو الحياة السماويّة الأخرويّة ليدخلا إلى عرس أبدي، وكأن الزواج ليس عائقًا عن الملكوت وإنما هو ظلُّه، خلاله يختبر المؤمنون بحق الانطلاق نحو زواج روحي مع العريس الأبدي بفعل الروح القدس.

والعجيب أن السيِّد المسيح قد بارك البشريّة وقدّس أعمالها، فجاء ابنًا للإنسان ليقدّس بنيّ البشر، ويقدّس الحياة البشريّة ويرفع من شأنها. بطفولته قدّس الطفولة التي احتقرها البشر زمانًا طويلًا، وبمشاركته للقدّيس يوسف أعماله اليوميّة قدّس العمل اليومي، بصلواته وأصوامه قدّس عبادتنا، ببتوليّته قدّس الحياة البتولية، فما هو موقفه من الحياة الزوجيّة؟ لقد قدّس السيِّد المسيح الحياة الزوجيّة بأن قدّمها فيه بطريقة فائقة كعريس يمد يده للبشريّة كلها ويتقبّلها عروسًا له، دافعًا حياته مهرًا لها وواهبًا إيّاها روحه القدّوس عطيّته المجّانيّة للعروس الواحدة. إنه كعريس واحد للعروس الواحدة، يقدّم لنا صورة حيّة للحياة الزوجيّة خلالها استمدّت الأسرة المسيحيّة كيانها وتقديسها. إن كان السيِّد يقول: "أما قرأتم أن الذي خلق منذ البدء خلقهما ذكرًا وأنثى" [4]. إنما يدخل بنا إلى آدم الأول وحواء، فنفهم الحياة الزوجيّة خلال آدم الثاني وحواء الجديدة التي هي عروسه الكنيسة.

لقد خلق الله الرجل أولًا ثم المرأة من جنبه، صورة حيّة للعريس الأبدي الواحد الذي فيه أوجدت الكنيسة مقدّسة خلال جنبه المطعون. يرى المتزوّجون في آدم الأول وحواء الأولى مثالًا حيًا للحياة الزوجيّة الأمينة والوحدة الأسريّة، يعرف آدم حواء كمعينة تسنده في وحدته وسط الفردوس يحبّها كجسده ويعرف موضعها الحقيقي أنها في جنبه، تشاركه كل شيءٍ. أمّا هي، فتعرف آدم رأسًا لها ليس متعاليًا، لأنها ليست من قدميه، ولا بغريبة عنه لأنها واحد معه من جسده! ويرى المتزوّجون في آدم الثاني العريس الحقيقي الذي فَتح جنبه بالحب، لا لتخرج منه حواء، بل لتدخل فيه جموع البشريّة المؤمنة عروسًا واحدة، جسده المقدّس! هذا ما تؤكّده الكنيسة في ليتورجيّة الزواج فتركّز في صلواتها وطلباتها وألحانها على الكشف عن هذه العلاقة الروحيّة التي تربط العريس الملك الأبدي بعروسه الكنيسة المقدّسة ‎. لقد تلقَّفت الكنيسة هذا الفكر عن الرسول بولس أثناء حديثه عن العلاقات الأسريّة، إذ يقول: "أيها النساء اِخضعْن لرجالكُن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة وهو مخلّص الجسد. ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شيء. أيها الرجال أحبُّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها."

إن كان السيِّد قد قدّس الحياة الزوجيّة بتقديم حياة عُرْسيّة ملكوتيّة فائقة، فيه يقبل البشريّة عروسًا له، فإنه أيضًا قدّس الزواج الذي يتمّ هنا على الأرض بين الرجل والمرأة، بحضوره عرس قانا الجليل كأول عمل له بعد عماده. هذا هو الطريق الثاني لمباركته هذه الحياة. يقول القديس أغسطينوس: [بحضور الرب العرس الذي دُعي إليه أراد بطريقة رمزيّة أن يؤكّد لنا أنه مؤسِّس سرّ الزواج، لأنه يظهر قوم قال عنهم الرسول أنهم مانعون عن الزواج (1 تي 4: 3)، حاسبين الزواج شرًا من صنع الشيطان

يكشف لنا السيِّد هذه الحياة الزوجيّة بقوله: "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا. إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرِّقه إنسان" [5-6].

لقد تمّم السيِّد هذا العمل أيضًا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ترَك أباه إذ أظهر ذاته كمن هو غير مساوٍ للآب بإخلاء نفسه وأخذ شكل العبد (في 2: 7) وترك أمُّه المجمع الذي منه وُلد حسب الجسد، ملتصقًا بامرأته أي كنيسة

خلال هذا العرس الأبدي يتمتّع المتزوّجون بهذا الحب الذي به يلتصق كل منهما بالآخر، وكما يقول الرسول: "هذا السرّ عظيم، ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة، وأمّا أنتم الأفراد فليُحب كل واحد امرأته هكذا كنفسه، وأما المرأة فلتهب رجلها" (أف 32:5-33).

يقول الآب يوحنا من كرونستادت: [لنفهم العبارة يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته إمّا بالمعنى الحرفي للكلمات أو المعنى الرمزي، إذ يلتصق الإنسان بالمسيح حيث الحب الأسمى والأقدس، الذي هو أعظم من الحب للزوجة
إذ حدّ السيِّد التطليق حتى كاد أن يمنعه تمامًا إلا في حالة الزنا

=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"فلماذا أوصى موسى أن يُعطي كتاب طلاق فتطلَّق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلِّقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم إن من طلَّق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوَّج بأخرى يزني، والذي يتزوَّج بمطلَّقة يزني" [متى 19 : 7-9].


في هذا يقول القديس أغسطينوس: [لم تأمر الشريعة الموسويّة بالطلاق بل أمرت من يطلق امرأته أن يعطيها كتاب طلاق، لأن في إعطائها كتاب طلاق ما يهدِّئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب طلاق أشار إلى عدم رغبته في الطلاق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلًا: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم، لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في طلاق زوجته، إذ يعرف أنه بواسطة كتاب الطلاق تستطيع أن تتزوّج من آخر، يهدأ غضبه ولا يطلّقها. ولكي ما يؤكّد رب المجد هذا المبدأ، وهو عدم طلاق الزوجة باستهتار جعل الاِستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى (غير الزنا) بثبات، من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة. وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوّج بمطلَّقة زانيًا
ارتباط الزوجين معًا صورة حيّة للوحدة بين المخلّص وكنيسته إلى الأبد، فإن كان الرسول البتول يقول: "وأما المتزوّجون فأوصيهم لا أنا بل الرب، أن لا تُفارق المرأة رجلها، ولا يترك الرجل امرأته" (رو7: 2-3)، فكم بالأحرى يهتمّ الله ألا يفارق كنيسته ولا ينزعها من أحضانه الأبديّة، مقدّمًا كل إمكانيّاته الإلهيّة لثباتها فيه إلى الأبد.
=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"إن كان هكذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوَّج"
( متى 19 - 10 )

لم يكن التلاميذ قد أدركوا بعد سرّ الملكوت كما يليق ولا فهموا "الاتّحاد"، لهذا رأوا في الحياة الزوجيّة كما عرضها السيِّد تكاد تكون مستحيلة. أمّا المؤمن فإذ يتذوّق الملكوت السماوي في قلبه ويختبر ثباته في عرسه الأبدي وحلول عريسه في داخله يتقبّل زوجته من يديه، فيرى في اتّحاده معها عملًا إلهيًّا فائقًا يقوم به الروح القدس نفسه.

لقد ظنّ التلاميذ البتوليّة أسهل من الزواج، لكن السيِّد صحَّح لهم مفهومهم معلنًا أنه كما الاتّحاد الزوجي هو صورة للحياة الملكوتيّة الأبديّة، فإن البتوليّة أيضًا تقدّم صورة حيّة لهذه الحياة وبشكلٍ أعمق.

=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة
"ليس الجميع يقبلون هذا الكلام، بل الذين أُعطى لهم. لأنه يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمَّهاتهم. يوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خَصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات من استطاع أن يقبل فليقبل"
[متى 19 : 11-12].

ليست البتوليّة الحقّة هروبًا من الزواج بسبب صعوبة الحياة الزوجيّة، لكنها دخول في الحياة الملكوتيّة الأبديّة. إن كان طريق الزواج المسيحي يبدو صعبًا، فإن الحياة البتوليّة الحقيقية هي هبة ليست للجميع، إذ يقول: "ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أُعطيَ لهم"
ليست كل بتوليّة حسب الجسد هي بتوليّة حقَّة، فقد ميّز السيِّد بين ثلاثة أنواع من البتوليّة:

أولًا: يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمّهاتهم، يقصد بهم غير القادرين على الحياة الزوجيّة بسبب مرض جسدي. هؤلاء تُحسب بتوليّتهم -إن صح التعبير- ليست إلا عجزًا عن الزواج، يحمل الجانب السلبي، فلا تُقدّم شيئًا كبتوليّة.



ثانيًا: يوجد خصيان خصاهم الناس، هؤلاء غالبًا ما كانوا نوعًا من العبيد اِئْتمنهم السادة على ممتلكاتهم، فخصُوهم لخدمة الرجال والنساء معًا في بيوت سادتهم. فيُحرم هؤلاء الخصيان من حياتهم الزوجيّة لأجل خدمة سادتهم! هذه صورة مرّة للحياة البتوليّة - إن صح التعبير - التي لا تُقدَّم عن عجز كالفئة السابقة وإنما يتقبّلونها إرضاءً للناس. إنهم يحملون صورة التقوى والعفّة لا من أجل الملكوت، وإنما من أجل كرامةٍ زمنيّةٍ ومجدٍ باطلٍ، وهذه أخطر صورة للحياة المسيحيّة الشكليّة.



ثالثًا: يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، وهذه فئة روحيّة رائعة تضم في الحقيقة جميع المؤمنين العاملين بالحب لله بكونهم بتوليّين روحيّين، عذارى ينتظرون العريس، وعلى وجه الخصوص جماعة البتوليّين روحًا وجسدًا من أجل الرب.

البتوليّون من أجل الملكوت السماوي هم الذين تقدّموا لصليب ربّنا يسوع المسيح، لا ليُحرموا من الحياة الزوجيّة عن عجز ولا من أجل الناس، وإنما اشتياقًا للتكريس الكامل روحًا وجسدًا للعريس الأبدي. هؤلاء يناجيهم السيِّد، قائلًا: "أختي العروس جنّة مُغْلقة، عين مُقْفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12). أنها ليست عاجزة ولا مقفرة، إنّما هي جنّة تكتظ بكل أنواع الأشجار وعين ماء وينبوع لا ينضب، لكنها لا تترك هذا كلّه لآخر غير عريسها. إنها بتول لا تعاني حرمانًا، كما لا تُسلّم ذاتها إلا لمن قدّم حياته لها.

هذا ويلاحظ أن الحياة البتوليّة ليست إلزاميّة إذ يختم السيِّد حديثه هكذا: "من استطاع أن يقبل فليقبل" [12].
يقول القديس جيروم: [لا يوجد إلزام ترتبط به، فإن أردت أن تنال المكافأة إنّما يكون ذلك بكامل حريتك
ويقول القديس أمبروسيوس: [أن ما يعلنه السيِّد هنا ليس بوصيّة ملزِمة لكنها مشورة يقبلها الراغبون في درجات الكمال

يحذّرنا القديس كبريانوس لئلا نعتمد على بتوليّة الجسد وحدها حتى وإن كانت من أجل الرب، إنّما يلزم الجهاد في بتوليّة النفس خلال التمتّع بالحياة الكنسيّة المقدّمة. لقد خشَىَ َعلى البتوليّين من الكبرياء خلال بتوليّتهم الجسديّة، إذ يقول: [ليت الذين صاروا خصيانًا من أجل ملكوت السماوات مرّة يُرضون الله في كل شيء، ولا يضادّون كهنة الله ولا رب الكنيسة خلال عثرة شرّهم


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"أمّا يسوع فقال: دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات. فوضع يديه عليهم ومضى من هناك"
[متى 19 : 14-15].


إن كان المتزوّج يتلمَّس مفهوم الملكوت السماوي خلال حياته الزوجيّة المقدّسة والاتّحاد الزوجي الفائق، والبتول يلتهب قلبه حنينًا نحو الملكوت كعذارى تترقَّب عريسها، فإن الأولاد الصغار هم المَثل الحيّ الذي يُقدّم لكل مؤمن ليكون له حق العضويّة في هذا الملكوت. لم يقدّم الأولاد كفئة بين فئات كثيرة تتمتّع بالملكوت، وإنما هي الفئة الوحيدة التي يلتزم الكل أن يدخل إليها لينعم بالملكوت، فالملكوت إنّما هو ملكوت البسطاء! إذن لنرجع ونصر مثلهم، نحيا ببساطتهم فنكون بحق أبناء الملكوت.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه هي حدود الحكمة الحقيقيّة: أن تكون بسيطًا بفهم. هذه هي الحياة الملائكيّة، نعم لأن نفس الطفل الصغير نقيّة من كل الشهوات

لنقف قليلًا عند حديث السيِّد مع تلاميذه بخصوص الأولاد: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات"، ففي هذا الحديث نكتشف أمرين:



أولًا: ليس هناك طريق وُسطى، إمّا ندعو الأولاد للتمتّع بالسيِّد المسيح، أو نقف أمامهم عثرة فنمنعهم. إمّا نعمل لحساب الملكوت، فنجمع أبناء الملكوت، أو لحساب مملكة الظلمة، فنعوق الآخرين عن الحياة مع الله. هذا هو ما أعلنه السيِّد بقوله: "من لا يجمع معي فهو يفرّق".



ثانيًا: إن عملنا لحساب الملكوت، فندعو الأولاد، يتحقّق هذا بإقتدائنا بالأولاد. لنحمل فينا روح البساطة كأولاد لله البسيط، حتى نقدر أن نلتقي بالأولاد فنحملهم بالحب إلى السيِّد المسيح محب البشر!

=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"وإذا واحد تقدّم وقال له:

أيها المعلّم الصالح،

أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبديّة؟"
[ متى 19 : 16].


جاء هذا الشاب وكأنه يمثّل الأغنياء، وجاءت إجابة السيِّد تكشف عن إمكانيّة دخول الأغنياء الملكوت خلال الباب الضيق.


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة

"لماذا تدعوني صالحًا؟! ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله" [متى 19 : 17]


جاء هذا الشاب وكأنه يمثّل الأغنياء، وجاءت إجابة السيِّد تكشف عن إمكانيّة دخول الأغنياء الملكوت خلال الباب الضيق. ولكن قبل أن يجيبه على سؤاله قال له: "لماذا تدعوني صالحًا؟! ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله" [17].
إنه لم يقل "لا تدعوني صالحًا"، إنّما رفض أن يدعوه هكذا كمجرد لقب، ما لم يؤمن بحق أنه الصالح وحده. فقد اِعتاد اليهود على دعوة رجال الدين بألقابٍ لا تليق إلا بالله وحده، وقد أراد السيِّد تحذيرهم بطريقة غير مباشرة. وكأنه السيِّد يقول له: إن آمنت بي أنا الله فلتقبلني هكذا وإلا فلا. هذا وقد أكّد السيِّد نفسه أنه صالح، فيقول: "أنا هو الراعي الصالح" (يو 10: 11)
لقد عُرف الأغنياء بالمظاهر الخارجيّة وحب الكرامات، وكأن السيِّد المسيح بإجابته هذه أراد أن يوجِّه الأغنياء إلى تنقية قلوبهم من محبّة الغنى بطريق غير مباشر، مع رفض محبّة الكرامات والألقاب المبالغ فيها.

لقد أظهر هذا الشاب شوقه للحياة، لذلك قدّم له السيِّد إجابة عن اشتياقه، وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [الذين ينحنون أمامه بعنق عقولهم للطاعة يهبهم وصايا ويعطيهم نواميس. ويوزِّع عليهم الميراث السماوي، ويقدّم لهم البركات الروحيّة، فيكون بالنسبة لهم مخزنًا لعطايا لا تسقط
أجابه السيِّد: "إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا" [17]. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت لا تريد أن تحفظ الوصايا، فلماذا تبحث عن الحياة؟ إن كنت تتباطأ في العمل، فلماذا تُسرع نحو الجزاء


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


إن أردت أن تكون كاملًا، فاذهب وبع أملاكك، وأِعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني"
[متى 19 : 21].


القديس جيروم: [هذه هي ذروة الفضيلة الكاملة الرسوليّة أن يبيع الإنسان كل ما يملك ويوزِّعه على الفقراء (لو 18: 22)، متحرّرًا من كل عائق ليعبر إلى الممالك السماويّة مع المسيح[710].] [خادم المسيح الكامل ليس له شيء بجانب المسيح

[ترْجِم كلماته إلى عمل، فإنك إذ تتعرى تتبع الصليب حيث العرس، وتصعد سلّم يعقوب الذي يسهل صعوده لمن لا يحمل شيئًا

كما يقول: [يَعد الشيطان بمملكة وغنى ليُحطم الحياة، أمّا الرب فيَعدْ بالفقر ليحفظ الحياة

يقول القديس كبريانوس: [إن كان الكنز في السماء، فيكون القلب والعقل والمشاعر في السماء، ولا يستطيع العالم أن يغلب الإنسان الذي ليس فيه شيء يمكن أن يُغلب. إنك تستطيع أن تتبع الرب حرًا بلا قيود كما فعل الرسول - وكثيرون في أيامهم، الذين تركوا مالهم وأقرباءهم والتصقوا بالمسيح برباطات لا تنفك


يقول القديس أغسطينوس: [إن كانت لديهم الإرادة أن يرفعوا قلوبهم إلى فوق، فليدّخروا ما يحبّونه هناك. فإنهم وإن كانوا على الأرض بالجسد فليسكنوا بقلبهم مع المسيح. لقد ذهب رأس الكنيسة أمامهم، ليت قلب المسيحي أيضًا يسبقه إلى هناك... فإن كل مسيحي يذهب في القيامة إلى حيث ذهب قلبه الآن. لنذهب إلى هناك بذاك العضو (القلب) الذي يمكنه الآن أن يذهب. فإن إنساننا بكلّيته سيتبع قلبه ويذهب إلى حيث ذهب القلب... لنرسل أمتعتنا مقدّمًا إلى حيث نستعد للرحيل

كثيرون نَفَّذوا هذه الوصيّة بطريقة حرفيّة، فمن أجل الدخول إلى الكمال باعوا كل شيء وأعطوا الفقراء، ليكون السيِّد المسيح نفسه كنزهم. لكن فيما هم يبيعون بطريقة حرفيّة باعوا ما في القلب فلم يعد للعالم مكان فيه. فالبيع الخارجي يلزم أن يرافقه بيع داخلي وشراء، أي بيع من القلب مع اقتناء للسيّد المسيح ليملأ القلب، الذي سبق فأسره حب الغنى واهتمامات بالحياة.

هذا ما أكّده الآب موسى، قائلًا: [إننا نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبُّوس أو ريشة، بينما لو وجَّهوا أنظارهم نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون بالغنى العظيم، يتركون أيضًا كل شيء


ويقدّم لنا الكتاب المقدّس أبانا إبراهيم مثالًا حيًا للغني الذي باع من قلبه من أجل الرب، مع أنه لم يعش كفقير. ففي الظهيرة كان يترقَّب مجيء غريب يشاركه الطعام، ويطلب من زوجته أن تهيئ الطعام بيديها ولا تتركه لجاريتها وخَدَمها. إنه يعيش كمن لا يملك شيئًا، فقد باع كل شيء، ليس في القلب موضع للغنى أو الهمّ. يظهر ذلك بوضوح في أكثر من موقف، فعندما حدثت مخاصمة بين رعاة مواشيه ورعاة مواشي لوط في محبّة سأل ابن أخيه أن يختار الأرض التي تروق له دون أن يضع قلبه على موضع معيّن، قائلًا له: "لا تكن مخاصَمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخَوان. أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عنّي، إن ذهبت شمالًا فأنا يمينًا وإن يمينًا فأنا شمالًا" (تك 13: 8-9). وعندما أُنقذ لوط والملوك الخمسة والنساء وكل ممتلكاتهم في كسرة كدرلعومر، إذ أراد أن يترك ملك سدوم لإبراهيم الممتلكات مكتفيًا بأخذ النفوس، أصرّ إبراهيم ألاّ يأخذ خيطًا ولا شِراك نعْل، ولا من كل ما هو له (تك14: 23).


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة
"الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات. وأقول لكم أيضًا أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"
فلما سمع تلاميذه بهتوا جدا قائلين: إذا من يستطيع أن يخلص

فنظر إليهم يسوع وقال لهم: هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شيء مستطاع

(متى 19 : 24 - 26 )

لم يقل السيِّد "أنه يستحيل"، وإنما "يعسُر"، ومع هذا فإنه إذ بُهت التلاميذ جدًا قائلين: "إذًا من يستطيع أن يخلُص؟" نظر إليهم يسوع ربّما نظرة عتاب مملوءة ترفُّقًا، وقال لهم: "هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شيء مستطاع" [26]. إنه يعاتب تلاميذه الذين لم يُدركوا بعد أنه ليس شيء غير مستطاع لدي الله. حقًا إن الله قادر أن يعبُر بالجمل من ثقب إبرة، بتفريغ قلب الغَني من حب الغِنى وإلهاب قلبه بحب الكنز السماوي.

للقدّيس جيروم تعليق جميل على ذلك، إذ يقول: [لكن ما هو مستحيل لدى البشر ممكن لدى الله" (مر 10: 27). هذا ما نتعلّمه من المشورة التي قدّمها الرسول لتيموثاوس: "أوْصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغِنى، بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتّع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الحقيقيّة (الأبديّة)" (1 تي 6: 17-19). ها نحن نتعلّم كيف يمكن للجمل أن يعبُر من ثقب إبرة، وكيف أن حيوانًا بسنام على ظهره إذ يُلقي عنه أحماله يمكن أن يصير له جناحيّ حمامة (مز 55: 6)، يستريح في أغصان الشجرة التي نمت من حبّة الخردل (مت 13: 31-32)

يحذّر القديس أغسطينوس الفقراء لئلا يتّكلوا على فقرهم في ذاته كجواز لهم بالدخول إلى الملكوت، قائلًا: [ِاستمعوا أيها الفقراء إلى المسيح... من كان منكم يفتخر بفقره ليَحْذر من الكبرياء لئلا يسبقه الغَني بتواضعه. اِحذروا من عدم الشفقة لئلا يفوق عليكم الأغنياء بورعهم. اِحذروا من السُكر لئلا يفوق عليكم الأغنياء بوقارهم. إن كان ينبغي عليهم ألا يفتخروا بغناهم، فلا تفتخروا أنتم بفقركم

وفي نفس المقال يحذِّر أيضًا الأغنياء قائلًا: [الكبرياء هو الحشرة الأولى للغِنى، إنه العُثْ المُفسد الذي يتعرّض للكل ويجعله ترابًا

مرّة أخرى يحدّث الاثنين معًا فيقول: [أيها الأغنياء اُتركوا أموالكم، أيها الفقراء كُفُّوا عن السلب! أيها الأغنياء وزّعوا إيراداتكم، أيها الفقراء لجِّموا شهواتكم. استمعوا أيها الفقراء إلى الرسول نفسه: "وأمّا التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة" (1 تي 6:6)... ليس لكم منزلًا مشتركًا مع الأغنياء، لكن تشاركونهم في السماء وفي النور. اطلبوا القناعة والكفاف ولا ترغبوا فيما هو أكثر


=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا

( متى 19 - 27 )


الأنبا بفنوتيوس على هذه العبارة الرسوليّة، قائلًا: [لم يتركوا شيئًا سوى الشِباك البالية، لذلك فإن عبارة "تركنا كل شيء" يُفهم منها ترك الخطايا التي هي بالحقيقة أهم وأخطر... فإن ترك التلاميذ لممتلكاتهم الأرضيّة المنظورة تركًا تمامًا ليس سببًا كافيًا لينعموا بالمحبّة الرسوليّة، ويتسلّقوا بشوق واجتهاد المرحلة الثالثة التي هي شاهقة وتخص قليلين

يقول القديس جيروم: [خادم المسيح الكامل لا يطلب شيئًا بجانب المسيح وإلاَّ فهو ليس بكامل



=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة


"الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. وكل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمّا أو امرأة أولادًا أو حقولًا من أجل اسمي، يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبديّة. ولكن كثيرون أوَّلون يكونون آخرين، وآخرون أوَّلين"
[متى 19 : 28-30].


سيقف التلاميذ في يوم الرب العظيم كديّانين للأسباط الاثني عشر، لأن ما كان ينبغي لهؤلاء أن يفعلوه، أي الكرازة بالمسيّا الملك قد تخلّوا عنه ليقوم التلاميذ البسطاء به، تاركين كل شيء من أجل الملكوت.
هذه المكافأة الأبديّة يرافقها مكافأة في هذا العالم "مائة ضعف". يُعلّق الأب ثيوناس على ذلك، قائلًا: [بالأحرى إن جزاء المكافأة التي وعد بها الرب هو مائة ضعف في العالم لمن كان زهدهم كاملًا.... ويتحقّق هذا بحقٍ وصدقٍ. لا يضطرب إيماننا، لأن كثيرين استغلّوا هذا النص كفرصة لبلبلة الأفهام، قائلين بأن هذه الأمور (مائة ضعف) تتحقّق جسديًا في الألف سنة... لكن الأمر المعقول جدًا، والواضح وضوحًا تامًا أن من يتبع المسيح تخِفْ عنه الآلام العالميّة والملذّات الأرضيّة، متقبِّلًا إخوة وشركاء له في الحياة، يرتبط بهم رباطًا روحيًا، فيقتني حتى في هذه الحياة حبًا أفضل، في هذه الحياة مئة مرّة عن (الحب المتأسِّس على الرباط الدموي

لتوضيح ذلك تقول بأن الله يهب المؤمن في هذه الحياة مائة ضعف مقابل ما تركه من أجل المسيح، بجانب الحياة الأبديّة. فالراهب الذي يرفض الزواج يُحرَم من وجود زوجة وأولاد له، فإذا به في حياته الرهبانيّة يتقبّل سلامًا فائقًا، ولذّة روحيّة خلال اتّحاده مع عريس نفسه تفوق كل راحة يقتنيها زوج خلال علاقته الأسريّة.

الراهب الذي يترك بيته بقلبٍ محبٍ بحق يجد البرّيّة كلها بيته، وكما نعلم عن راهب معاصر جاء من أثيوبيا بعد أن باع كل شيء من أجل المسيح، فردّ له الله عطاياه مضاعفة، إذ صارت تستأنِس له الوحوش المفترسة والضارة، فيعيش في البرّيّة في طمأنينة أكثر أمانًا ممن يعيشون في القصور. إنه يملك في قلبه مئات الأضعاف ممّا يملكه الأغنياء وعلى مستوى أعظم!

يقول القديس كيرلس الكبير: [هل يصير الإنسان زوجًا لزوجات كثيرات أو يجد على الأرض آباء كثيرين عِوض الآب الواحد، وهكذا بالنسبة للقرابات الأرضيّة؟! لسنا نقول هذا، إنّما بالأحرى إذ نترك الجسديّات والزمنيّات نتقبّل ما هو أعظم، أقول نتقبّل أضعافًا مضاعفة لأمور كنّا نهملها... إن ترك بيتًا يتقبّل المواضع التي هي فوق، وإن ترك أبًا يقتني الآب السماوي. إن ترك إخوته يجد المسيح يضمُّه إليه في أخوة له. إن ترك زوجة يجد له بيت الحكمة النازل من فوق من عند الله، إذ كتب: "قل للحكمة أنتِ أختي واِدع الفهم ذا قرابة" (أم 7: 4). فبالحكمة تجلب ثمارًا روحيّة جميلة، بها تكون شريكًا في رجاء القدّيسين، وتُضَمْ إلى صحبة الملائكة. وإذ تترك أُمّك تجد أمًّا لا تقارن، أكثر سمُوًّا "أورشليم العُليا التي هي أمّنا (جميعًا) فهي حُرَّة" (غل 4: 26)... فإن من يُحسب مستحقًا لنوال هذه الأمور يُحسب وهو في العالم سامٍ وموضع إعجاب، إذ يكون مزيَّنًا بمجد من قبل الله والناموس
=
 
التعديل الأخير:

asmicheal

احبك ربى ياقوتى
عضو مبارك
إنضم
16 يونيو 2009
المشاركات
14,498
مستوى التفاعل
232
النقاط
63
الإقامة
مصر ام الدنيا - القاهرة

"فإن ملكوت السماوات يشبِه رجلًا رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعَلَة لكرْمه"
[متى 20 -1]

يشبّه السيِّد ملكوت السماوات برجلٍ رب بيت خرج يستأجر فعَلَة لكرمه، فاتِّفق معهم في الصباح على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، وخرج أيضًا في نحو الساعة الثالثة ليستأجر آخرين قيامًا في السوق كبطّالين وأرسلهم إلى كرمه، وهكذا في نحو الساعة السادسة والساعة التاسعة فعل ذلك، وتكرّر الأمر نحو الساعة الحادية عشر حيث سأل الواقفين كل النهار بطّالين عن وقوفهم هناك، فأجابوا: "لأنه لم يستأجرنا أحد". وفي المساء استدعى رب البيت وكلائه ليعطيهم الأجرة، مبتدئًا من الآخرين إلى الأوّلين. وإذ أعطى فعَلَة الساعة الحادية عشر دينارًا دينارًا، وجاء دور الأوّلين ظنّوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضًا دينارًا دينارًا. وفيما هم يأخذون تذمّروا على رب البيت.

من هو هذا الرجل رب البيت الذي يستأجر الفعلة إلا "كلمة الله الحيّ" الذي هو رب السماء والأرض، يرى في خليقته السماويّة والأرضيّة بيته الذي يدبّر أموره ويهتمّ به؟! أمّا كرْمه فهو القلب الذي فيه يُقيم مملكته، كقوله "ملكوت الله في داخلكم". إنه يزرع برّه فينا بروحه القدّوس مُعلنًا ذاته في داخلنا. ملكوته هو تجلّيه فينا!

ما أجمل تعبير السيِّد عن ملكوت السماوات وهو يشبهه برجلٍ رب بيت يخرج من ساعة إلى ساعة عبر النهار كلّه يستأجر فعَلَة من السوق ليعملوا في كرمه. إنه يخرج في الساعات الخمس حسب الترتيب اليهودي باكر والثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشر للعمل طوال اليوم خلال الفَعَلة في كرْمه.

ما هي هذه الساعات إلاّ مراحل حياة الإنسان عِبر كل حياته، فباكر تُشير إلى الطفولة، والثالثة إلى الصبوّة، والسادسة حيث وقت الظهيرة تُشير إلى الشباب، والتاسعة تُشير إلى الرجولة، والحادية عشر إلى الشيخوخة، أي إلى الساعة الأخيرة من حياتنا. هكذا يدعونا الله للعمل منذ طفولتنا المبكّرة مشتاقًا أن يكون كل العمر مكرسًا لحساب ملكوته ويبقى يدعونا فاتحًا ذراعية بالحب لنا حتى اللحظات الأخيرة من عمرنا فإنه لا ييأس قط منّا، مشتاقًا أن نستجيب لدعوته، ونعمل لحسابه. إن الكرم مفتوح لنا والصوت الإلهي لا يتوقّف مادام الوقت يُدعى اليوم، ومازلنا نحمل نفسًا ولو كان الأخير! لهذا يقول الرسول بولس: "عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطيّة" (عب 3: 13).

هكذا يخرج السيِّد إلينا ليدعونا للعمل، مشرقًا علينا بنوره ليجعل يومنا كلّه نهارًا بلا ليل، فنعمل بلا توقف، إذ يقول: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. مادمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 4، 5). إنه يخرج إلينا ليدعونا لا بالكلام وإنما بالعمل، إذ يعمل فينا أعمال أبيه ليجتذبنا إليه مادام الوقت نهار، ونوره مشرق فينا، لئلاّ نوجد مُصِرّين على عدم قبوله، فنختم حياتنا بليْلٍ قاتمٍ حيث لا يقدر أحد أن يعمل.
مُعلنًا ذاته في داخلنا. ملكوته هو تجلّيه فينا!



ثانيًا: ما أجمل تعبير السيِّد عن ملكوت السماوات وهو يشبهه برجلٍ رب بيت يخرج من ساعة إلى ساعة عبر النهار كلّه يستأجر فعَلَة من السوق ليعملوا في كرمه. إنه يخرج في الساعات الخمس حسب الترتيب اليهودي باكر والثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشر للعمل طوال اليوم خلال الفَعَلة في كرْمه.

ما هي هذه الساعات إلاّ مراحل حياة الإنسان عِبر كل حياته، فباكر تُشير إلى الطفولة، والثالثة إلى الصبوّة، والسادسة حيث وقت الظهيرة تُشير إلى الشباب، والتاسعة تُشير إلى الرجولة، والحادية عشر إلى الشيخوخة، أي إلى الساعة الأخيرة من حياتنا. هكذا يدعونا الله للعمل منذ طفولتنا المبكّرة مشتاقًا أن يكون كل العمر مكرسًا لحساب ملكوته ويبقى يدعونا فاتحًا ذراعية بالحب لنا حتى اللحظات الأخيرة من عمرنا فإنه لا ييأس قط منّا، مشتاقًا أن نستجيب لدعوته، ونعمل لحسابه. إن الكرم مفتوح لنا والصوت الإلهي لا يتوقّف مادام الوقت يُدعى اليوم، ومازلنا نحمل نفسًا ولو كان الأخير! لهذا يقول الرسول بولس: "عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطيّة" (عب 3: 13).

هكذا يخرج السيِّد إلينا ليدعونا للعمل، مشرقًا علينا بنوره ليجعل يومنا كلّه نهارًا بلا ليل، فنعمل بلا توقف، إذ يقول: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. مادمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 4، 5). إنه يخرج إلينا ليدعونا لا بالكلام وإنما بالعمل، إذ يعمل فينا أعمال أبيه ليجتذبنا إليه مادام الوقت نهار، ونوره مشرق فينا، لئلاّ نوجد مُصِرّين على عدم قبوله، فنختم حياتنا بليْلٍ قاتمٍ حيث لا يقدر أحد أن يعمل.

إن كان الله قد وعد الكل بالدينار، هذا لا يعني أن يؤجِّل الإنسان توبته وطاعته للعمل في كرم الرب، وكما يقول القديس أغسطينوس: [هل أولئك الذين استأجرهم في كرْمه، عندما جاءهم صاحب الكرم في الساعة الثالثة كمثال قالوا له... انتظر إننا لا نذهب حتى الساعة السادسة؟ أو أولئك الذين وجدهم في الساعة السادسة، هل قالوا: إننا لسنا ذاهبين إلاّ في الساعة التاسعة...؟ إذ نعطي الكل بالتساوي، لماذا نذهب ونُتعب أنفسنا أكثر ما يلزم...؟ فإنه ما كان يعطيهم لو لم يذهبوا... بل يجاوبهم: ألا تريدون أن تعملوا الآن يا من لا تعرفون إن كنتم ستعيشون حتى تكبروا في السن أم لا؟ لقد دُعيتَ في الساعة السادسة، تعال، حقًا إن صاحب الكرم يعدك بدينار، إن أتيت في الساعة الحادية عشر، لكنّه لم يعدك أنك تعيش حتى الساعة السابعة؛ لا أقول الحادية عشرة بل ولا السابعة. إذن لا تؤجّل، فإن الذي دعاك يؤكّد لك المكافأة، لكن الأيام غير مؤكدة

القديس أغسطينوس أيضًا: [إن السيِّد في هذا المثل قد فتح الباب للجميع، فلا ييأس أحد، إنه يكرّر الدعوة قابلًا الجميع، لكن لنبدأ أيضًا لئلا نتحطّم بالرجاء الفاسد خلال التأجيل، إذ يقول: لا تؤجل، لا تغلق أمامك الباب المفتوح الآن. هوذا واهب المغفرة فاتح الباب أمامك، فلماذا تؤجِّل؟ لتبتهج، فإن الباب مفتوح وأنت لم تقرع، لكن هل يبقى مفتوحًا إلى الأبد بالنسبة للذين سيقرعون ويبقون خارجًا...؟ إنك لا تعلم ما سيحدث غدً

ثالثًا: دعوة السيِّد لنا للعمل في كرمه ليست فقط دعوة عمليّة ومستمرّة عبر كل حياة الإنسان من طفولته حتى شيخوخته، وإنما هي أيضًا دعوة للإنسانيّة عِبر التاريخ كلّه من مهدِه حتى نهايته على الأرض. يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [لا يوجد زمن توقّف فيه الرب عن إرسال فعَلَة للعمل في كرْمه، أي تعليم شعبه

الله ينزل إلينا عبر التاريخ كله، من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، وكأنّه من ساعة إلى أخرى، يطلب فعَلَة يستأجرهم من السوق، لكي يدخل بهم إلى كرْمه الإلهي، ليهبهم المكافأة الأبديّة عند مساء حياتنا الزمنيّة.


* يا لهذه النعمة العظيمة التي لا توصف! إبراهيم المؤمن لم يدخل بعد الفردوس... أمّا اللص فدخله. وموسى لم يدخل، أمّا هذا اللص فدخله بالرغم من مخالفته الناموس.

وهذا ما يقوله القدّيس بولس الرسول مندهشًا: "حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20). إن هؤلاء الذين احتملوا ثقل النهار وحده لم يدخلوا بعد، أمّا صاحب الساعة الحادية عشرة فدخل. فلا يتذمّر أحد على رب البيت لأنه سوف يقول له: يا صاحب ما ظلمتَك؛ أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟[729]

القديس كيرلس الأورشليمى


رابعًا: وللعلامة أوريجينوس تفسير رمزي لهذه الساعات الخمس، فإنها وإن كانت تُشير إلى الحقبات الخمس السابقة (آدم، نوح، إبراهيم، موسى، السيِّد المسيح)، لكنها تمثّل دعوة الله لنا خلال الحواس الخمس لكي ما يدخل إلى قلبنا ويقيم مملكته فينا



=
 
التعديل الأخير:
أعلى