الآباء الأقباط والفكر الآبائي في الكنيسة الأولى - أحد رهبان برية القديس مقاريوس

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
الآباء الأقباط والفكر الآبائي في الكنيسة الأولى
5781102650.jpg


اللغة القبطية ولهجاتها:
إن لغة مصر الفرعونية التي تنقسم إلى لهجات متعددة، لم تنقرض أبداً حتى والبلاد تمر تحت سيادات أجنبية متعددة. بل بالعكس ظل المصريون يتكلمون بها، لأن غالبية الشعب لم يكونوا يهتمون بما يجري في الأوساط الأدبية والسياسية في الإسكندرية، ولا بالأوساط المدنية الأخرى التي كان يديرها الأجانب. وطلت اللغة المصرية تشق طريقها كما يشق النيل طريقه دون توقف. أما اللغة القبطية فهي تمثل المرحلة الأخيرة من اللغة المصرية القديمة.
وقد استوعب اللغة القبطية في قاموسها –أثناء السيادة اليونانية- وعلى الأخص بعد دخول المسيحية، قدراً كبيراً من الاصطلاحات اليونانية، ما لم يكن قبلاً في اللغة الأدبية المكتوبة، كما دخلت في لغة الحديث أيضاً بعض هذه التعبيرات.
وقد اعترى اللغة القبطية ما اعترى اللغات الأخرى من تطور وتغيير، من استعمال وإدخال تعبيرات وأشكال دارجة أو عامية، قبل أن تصل إلى مرحل الكتابة الأدبية حيث تبدأ بوادر الفناء بجمود الأشكال الأدبية والتعبيرات اللغوية. لذا فقد صارت اللغة القبطية لغة ديناميكية على ممر الأجيال. ووجود النصوص المكتوبة القديمة –وهي ليست في الواقع عديدة وقد ترجع على الأكثر إلى القرن الثاني المسيحي- وجود هذه النصوص يفترض بوجود لغة التخاطب والحديث أكثر قدماً من لغة الكتابة.

واللغة القبطية تنقسم إلى 9 لهجات على الاقل:
اثنان منها ذات أهمية خاصة: الأولى وهي اللهجة الصعيدية وهي –على ما يُظن- كانت هي اللهجة الأصلية لمصر الوسطى والعليا، وكانت هي اللغة الأدبية للعصر القديم؛ وقد استُبدلت في العصور الوسطى شيئاً فشيئاً باللهجة البحيرية لهجة أهل الشمال، والتي انتشرت أيضاً في النهاية في الصعيد حول طيبة.
والثانية ذات الأهمية، هي اللهجة البحيرية، لغة الدلتا الغربية، وقد انتشرت في العصور الوسطى في كل مصر القبطية، وهي الآن اللغة السائدة وعلى الأخص في القداس الإلهي.
وهناك لهجات أخرى سادت في مناطق محددة:
اللهجة الأخميمة، وهي لغة الحديث في المناطق حول أخميم (قديماً بانوبوليس). ولهجة الليكوبوليس، وهي السائدة نواحي أسيوط (قديماً ليكوبوليس)، وقد صارت في وقت ما اللغة المشتركة أو لغة التفاهم مع المنطقة مع نجع حمادي إلى الفيوم.
ولهجة منطقة "الأُكسيرنكوس" وهي لهجة مصر السفلى.
واللهجة الفيومية، كانت لغة الحديث في منطقة الفيوم، وكان تأثيرها محسوساً قبل تلاشي لهجة الأشمونين ولهجة مصر الوسطى من بلادها.
ويتبقى بعد ذلك ثلاث لهجات صغرى، اكتشفت في مخطوطات قليلة: لهجة طيبة القديمة، واستخدمت إما في طيبة أو في المنطقة حول الأقصر وقفط. ولهجة الأشمونين، حيث كانت هي لغة التخاطب هناك. ثم هناك اللهجة البشمورية، ويرجح أنها كانت تُستخدم في جنوب القاهرة وحتى المناطق الساحلية للبحر الأبيض المتوسط.

-متى تُرجم الكتاب المقدس إلى القبطية؟
1-العهد القديم:
من المقطوع به أن العهد القديم تُرجم إلى اللغة القبطية الصعيدية قبل ترجمة العهد الجديد، أي قبل القرن الثالث.
ويُشبِّهون هذه الترجمة بالترجمة السبعينية، التي ترجمها بطليموس في الإسكندرية لمنفعة المتكلمين باليونانية في ما قبل ميلاد المسيح، فالترجمة القبطية قُدِّمت للمتكلمين بالقبطية دون اليونانية من أهل مصر.
ويذكر أحد الكُتاب المدنيين من الأقباط في القرن الثاني (واسمه زوسيموس الطيبي) ضمن كتاباته ما يعني أن "شيئاً باللغة القبطية نُقل عن الكتابات العبرانية" (ولا شك أنه يقصد العهد القديم)، "وأن هذا المنقول محفوظ في مكتبه بطليموس بالإسكندرية".

2-العهد الجديد:
أما العهد الجديد فلدينا أقدم ترجمة له باللغة القبطية الصعيدية، وترجع إلى النصف الأخير من القرن الثالث.
وهذا يعني أن البشارة بالإنجيل وصلت إلى وصلت (ممن لا يتكلمون باليونانية أصلاً) وصلت إليهم باللغة القبطية الصعيدية التي كانت هي اللغة السائدة بين أقباط.
وإننا نُذهَل من الترجمات القبطية العديدة للكتاب المقدس، وهذا أمر معقول حيث أن مكتبات المخطوطات كان مكانها عادة داخل الأديرة، حيث كانت هذه الترجمات مخصصة لخدمة المطالب الطقسية الليتورجية.

الأقباط وكتابات الآباء الرسوليين
لقد تفاعل الأقباط مع الكنيسة الجامعة في كل أنحاء المسكونة، تعلموا من آبائها دون تمييز بين قومية وأخرى، وأَثَروْا هم أيضاً فكر الكنيسة الجامعة وتعليمها (ما سنعرضه بالتفصيل فيما بعد)، بكتابات آبائهم العظام وتعليمهم اللاهوتي الدقيق.
ونحن نعني بكتابات الآباء الرسوليين تلك الكتابات المسيحية في القرن الأول وبداية القرن الثاني، وهي تُعتبر الصدى المباشر لكرازة الرسل، الذي تتلمذ هؤلاء الآباء على أيديهم وسمعوهم.
وقد بُدئ بهذه التسمية في القرن السابع عشر للتدليل على الكُتَّاب الكنسيين الخمسة: برنابا، كلمنضس الروماني، بوليكاربوس أسقف أزمير، إغناطيوس، هرماس.
وقد أضيف عليهم بعد ذلك بابياس، ومؤلف الرسالة إلى ديوجينيتُس، وفي القرن التاسع عشر أضيف عليهم مؤلف كتاب "الديداخي".

1-القديس كلمنضس الروماني
وصلت إلينا رسالته الأصلية المسماة "الرسالة إلى كورنثوس" من خلال ترجمتين قبطيتين باللهجة الأخميمية. الأولى على بردية محفوظة في المكتبة الوطنية ببرلين. والفصول 5:34 إلى 42، غير موجودة، لأن خمس ورقات من المخطوطة قد فُقدت. وترجع هذه المخطوطة إلى القرن الرابع الميلادي، وكانت في دير القديس أنبا شنودة بسوهاج (الملقب بالدير الأبيض).
وقد قام العالم كارل شميدث عام 1908 بنشر دراسة حول هذه المخطوطة، قدَّم خلالها لأكاديمية برلين دراسة نقدية لما وجده من كلمات قبطية جديدة، كما عقد مقارنة بين هذه الترجمة والنسخ الأخرى لنفس الرسالة.
أما المخطوطة الثانية، فهي في ستراسبورج، ومكتوبة على بردية من القرن السابع. وهي قطع متناثرة ولا تتعدى الفصل 2:26. وقد اشتغل العالم فردريك روش بدارسة هذه المخطوطة عام 1910.
والتقييم العلمي للكتابات الآبائية القديمة، يشهد أن للقديس كلمنضس الروماني كتابات أخرى كثيرة، وهي: رسالتان عن البتولية موجهتان إلى المتبتلين من الجنسين، تحت اسم كلمنضس الروماني. ويمكن إرجاعها إلى النصف الأول من القرن الثالث. ولكن النص اليوناني المفقود، عدا بعض القطع المتناثرة اكتشفت في مجموعة "الكتابات المقدسة" لراهب اسمه أنطيوخس من دير مار سابا بفلسطين.
إلا أن هناك (ضمن كتابات أخرى) ترجمة قبطية لهاتين الرسالتين ولكن على أنهما للقديس أثناسيوس الرسولي. وتحوي هذه الترجمة الفصول من 1-8 من الرسالة الأولى، وقد انتُزعت من مخطوطة في المكتبة الأهلية بباريس.
وقد اهتم العالم المعروف "لوفورت" بالبحث في هذه المعضلة، عما إذا كانت الرسالتان للقديس كلمنضس أم للقديس أثناسيوس؟ في مقال له بمجلة "Le Muséon" المجلد 40 (1927) ص 249-264.

2-القديس إغناطيوس الأنطاكي
هو الأسقف الثاني في الترتيب على كرسي أنطاكية، شخصيته ذات تأثير لا يُضارع. حُكم عليه بالرمي للوحوش أثناء حكم تراجان (98-117م). وفي طريقه إلى روما دبجت يراعه سبعاً من الرسائل، هي التذكار الفريد العزيز الذي يُحتفظ به لهذا القديس.
وقد قام العالم "جوزيف باربر لايتفوت"، بالإشارة إلى ما عثر عليه من مخطوطات قبطية كترجمة لهذه الرسائل، وذلك في كتابه المشهور "الآباء الرسوليون" الذي نشره في لندن ونيويورك عام 1885-1890 الجزء الثاني من المجلد الثالث (ص 277-298).
وكذلك العالم "جان بابتست بترا" في باريس –نشر في عضون هذه الفترة عينها نص المخطوطة القبطية التي تحوي رسائل القديس إغناطيوس. وتقبع نسخ من هذه المخطوطة في المكتبة الأهلية بفيينا والمتحف البرطاني، وهناك أيضاً مخطوطة بورجيا المنشورة في فيينا عام 1913.

3-الراعي لهرماس
يدخل كتاب "الراعي" لمؤلفه "هرماس" ضمن كتابات الآباء الرسوليين، كما يدخل ضمن ما يُسمى بالرؤى الأبوكريفية. ويحوي هذا الكتاب الإعلانات التي تلقاها "هرماس" في روما على يد شخصيتين سماويتين.
وبالرغم من توفر المخطوطات التي تحوي النص اليوناني لهذا الكتاب، إلا أنه لا ينبغي أن نغفل المعونة القيمة التي تقدمها لنا المخطوطات المترجمة للقبطية الصعيدية والتي نشرها العالم "دولابورت Delaporte" في مجلة "الشرق المسيحي" بالفرنسية المجلد 10 (عام 1905) من صفحة 424-433، والمجلد 11 (1906) من صفحة 101-102. وهذه الأبحاث تقوم على دراسة المخطوطة رقم 1305 بالمكتبة الأهلية بباريس والبردية 9997 بمتحف اللوفر.
وهناك عالم آخر انشغل بكتاب "الراعي" لهرماس في التقليد القبطي، قدمه لنا في ستة مخطوطات بالقبطية الصعيدية، ذلك هو العالم Lefort، نشره في مجله "Le Muséon" المجلد 51 (1938) صفحة 239-276. وقد كان هذا العالم قد اشترى تلك المخطوطات مكتوبة على رق الغزال من القاهرة.

4-الديداخي (التعليم) Διδαχή
والاسم المختصر لهذا الكتاب: "تعليم الرسل الاثنى عشر"، أما العنوان الكامل لهذا العمل فهو "تعليم الرب بواسطة الرسل الاثنى عشر إلى الأمم". وهذا العنوان هو الاسم الأصلي الذي أعطاه الكاتب المجهول الاسم لهذه الوثيقة.
ونحن نعلم أن "الديداخي" هو الوثيقة الهامة جداً في الفترة التي أعقبت مباشرة عصر الرسل، وهو أقدم مصدر للتشريع الكنسي لدينا الآن.
وقد ظلت هذه الوثيقة مجهولة تماماً حتى عام 1883م. حينما نشرها المطران فيلوثيئوس برينيوس مطران الروم الأرثوذكس بنيقوميديا، نقلاً عن مخطوط على رق الغزال (يرجع تاريخ نساخته إلى عام 1056م) كان محفوظاً ببطريركية الروم الأرثوذكس بأورشليم. إلا أن هناك ترجمة قبطية لبعض فصول هذا المخطوط (الفصول من 10-12)، وترجع إلى القرن الخامس، ونجدها تحت رقم 9271 برديات بالمتحف البريطاني، وقد نشرها العالم "جورج وليم هورنر" في مجلة "الدراسات اللاهوتية" مجلد 25 (1923-1924) من صفحة 225-231.
وهذا النص المكتوب باللغة القبطية الفيومية، راجعه وأعاد ترجمته مرة أخرى العالم "كارل شميدث" بعنوان جميل هو "الديداخي القبطية" عام 1925.
ولم يخلُ الأمر أيضاً من وجود مخطوطات بالقطبية الصعيدية نُشرت بواسطة علماء مختلفين، ونجد بيانها في كتاب البيبلوجرافي القبطي لمؤلفه "كرام Crum" تحت أرقام من 1225 إلى 1232.
إلا أن هذه المخطوطة الفيومية –المشار إليها- قُدمت إلينا على شكل صلاة تقال على زيت المسحة (الميرون)، بعد صلوات الإفخارستيا.
كما نسجل أيضاً أن النص اليوناني الأورشليمي للفصول 3:1-4، 7:2 إلى 2:3 محفوظ على مخطوطة على رق الغزال من منطقة "الأُكسيرنكس" قرب بني سويف من القرن السادس. كما أن الكتاب السابع من قوانين الرسل (المجموعة في القرن السادس" تتضمن كل نص الديداخي تقريباً.
وقد أسبغت هاتان المخطوطتان على مخطوطة المتحف البريطاني أهميته خاصة.

+++

ختاماً –إن لنا من هذا العرض ثلاث ملاحظات:
1-إن الأقباط كانوا منذ البدء على صلة وثيقة بالفكر الآبائي للكنيسة الجامعة. ولم يتعطلوا عن ترجمته إلى صميم لغة الشعب حتى في أقاصي الصعيد.
2-إن النصوص الآبائية المعتبرة لدى العلماء اليوم أنها مفقودة (وما أكثرها)، تنتظر بفارغ الصبر يوم نشر المخطوطات القبطية التي تغص بها المتاحف والمكتبات في العالم لتدلي بشهادتها الوثيقة في هذا الشأن.
3-إن كثيرين من آباء الرهبنة الذين أُشيع عنهم خطأ وظلماً أنهم "أُمِّيون" لمجرد أنهم لم يكونوا يقرأون اللغة اليونانية، مثل القديس أنطونيوس الكبير والقديس مقاريوس الكبير، كانوا قرائين ودارسين لكتابات الآباء الذي سبقوهم، إن لكن في أصلها باللغة اليونانية، ففي ترجماتها باللغة القبطية. وكانوا بهذا موصِّلين للتقليد الآبائي وممتدين به للأجيال اللاحقة التي تتلمذت عليهم. وهذا ظاهر في رسائل القديس أنطونيوس وعظات القديس مقاريوس كما سنوضحه في الفصلين الخاصين بهما.

من كتاب دراسات في آباء الكنيسة - أحد رهبان برية القديس مقاريوس - ص 150-155
 
أعلى