يمكننا تبسيط الأمر قليلا: هناك ببساطة نوعان من الصلاح أو البر:
بر الخلاص، وفي المقابل
بر الناموس، والتمييز بينهما يكون عادة حسب السياق. أما بر الخلاص ـ أي البر الذي يخلص به الإنسان ـ فهو المقصود هنا بالآيات الأولى، وهو البر الذي يفتقر الجميع إليه،
«إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله». فبهذا المعنى وفي هذا السياق لا بر للإنسان ولا صلاح، ومن ثم لا خلاص، إلا أن يشملنا الله ببره وصلاحه ونعمته.
في المقابل ـ وهنا تأتي المجموعة الثانية من الآيات ـ قد يلتزم الإنسان بالوصايا ويتجنب الخطايا ويصلي ويصوم ويخاف الرب ويتمسك عموما بالفضائل المختلفة، وهنا يُحسب هذا الإنسان ـ نسبيا وبالمقارنة ـ إنسانا بارا صالحا، أو حتى "كاملا" كما وصف الكتاب أيوب. ولأن مرجعيتنا في هذه الفضائل عموما هي الشريعة أو الناموس فهذا ما نسميه صلاح الناموس، أو بر الناموس.
لذلك قد يجتمع
الصلاح وعدم الصلاح في الشخص الواحد، كما في حالة بولس الرسول نفسه: فهو من حيث صلاح الناموس إنسان صالح لا شك، بل حتى يصف نفسه أنه "بلا لوم" (
... من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم)، ولكن حين تحدث عن البر بالمعنى الآخر ـ بر الخلاص ـ فعندئذ بالعكس ذكر أنه خاطئ كالجميع بل أول الخطاة (
... جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا).
***
الرسالة الى اهل رومية يعتبرها اللاهوتيين عبارة عن محكمة يحكم فيها بولس على الإنسان وأعماله. الرسول بولس يعلن حكم الرب على البشرية انه ليس أحد بار بالأعمال. كلنا زغنا وفسدنا.
لكن في نفس الرسالة الرسول بولس يعلن الحق الإلهي بأن أبراهيم وغيره كانوا أبرار بالإيمان.
فكل من ابراهيم ويوسف و برنابا هم أشخاص ابرار في الإيمان وليس بالأعمال.
في نفس الوقت كلنا نحتاج الى كفارة المسيح لكي تكفر عن أعمالنا الغير بارة.
نعم، على أن نفرّق بين "
البر" بالمفهوم الشرقي كما استخدمناه حتى الآن (
Rightousness)، بمعنى الصلاح والتقوى، وبين "
التبرير" في المفهوم الغربي (
Justification)، أي
التبرئة من ذنب الخطية. (ولنلاحظ الجذر اللغوي المشترك بين البار والبريء، أو بين البر والبراءة).
في رومية نقرأ:
والذين سبق فعيّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضا. والذين دعاهم، فهؤلاء برّرهم أيضا. والذين برّرهم، فهؤلاء مجّدهم أيضا.
في الشرق
"برّر الخاطئ": أي جعله
بارا. بينما في الغرب
"برّر الخاطئ": أي جعله
بريئا. في الغرب ـ واستنادا إلى تعاليم القديس أوغسطين بوجه خاص ـ هناك "
ذنب" يحتاج أولا إلى
تبرئة، فهذا هو معنى "التبرير". أما في الشرق ـ حيث لم نرث أصلا "ذنب" الخطية وإنما فقط "مرض" الخطية ـ فالتبرير هو الشفاء من هذا المرض وتحويل الخاطئ من ثم إلى
بار، تقيّ صالح،
لا إلى بريء.
هذا الفرق الدقيق في غاية الأهمية، لأن الغرب بسبب هذا الفرق وقع بعد ذلك في قضية التبرير (بمعنى التبرئة): هل يكون عبر الإيمان وحده (كما يقول الإصلاحيون) أم عبر الإيمان والأعمال معا (كما تقول الكنيسة)؟
بعبارة أبسط: هل يصير الإنسان المسيحي
نفسه بريئا حقا من خطاياه، عن
استحقاق شخصي، أم أن البر (البراءة) هو في الحقيقة بر المسيح وحده، والاستحقاق هو استحقاق الدم وحده، دون أن يكون للمسيحي نفسه أي بر أو استحقاق شخصي؟
هذه القضية في غاية العمق والروعة ـ لهواة اللاهوت بالطبع ـ ولكن فقط لزم التنويه باختصار لأننا حين نقول «
ليس أحد بار بالأعمال» فلابد أن يكون واضحا على الأقل أن المقصود بـ"
الأعمال" هنا هو
الختان وأعمال الناموس، فهذا ما يتحدث الرسول أساسا عنه، وليس الأعمال بالمعنى المسيحي وعلى رأسها التناول والأسرار عموما.
***
..................
لذلك سأل السيد ذاك الشاب: لماذا تدعوني صالحاً؟
هل عن ايمان أني أنا هو الاله المتجسد؟
أم هو الخطأ المعتاد في إعطاء بعض البشر مكانة لا يستحقونها؟
هذا من أقصر وأبسط الردود على هذه الشبهة الشهيرة (والتي أتعجب في الحقيقة لماذا هي أصلا شبهة؟!). هل كان السيد المسيح يمضي في الطرقات والأسواق قائلا: أنا الله فاعبدوني؟! المسيح كان بالعكس يُخفي متعمدا هذه الحقيقة، بل أكثر من ذلك كان يطلق العنان تماما للتعبير عن
إنسانيته دون أي تحفظ (أكل، غضب، بكى، صلى، إلخ)!
عندما يأتي أحدهم بالتالي فيجثو أمامه ويدعوه صالحا: كان السؤال في المقابل منطقيا جدا: لماذا ـ
وأنت تراني مجرد إنسان ـ تدعوني صالحا؟!
شرحك كافٍ ووافٍ على أي حال يا دكتور، ربنا يباركك.
***