رد على: سقراط .....مشاهير العالم ...(7 ) .
تقديم تعريب محاورة الكريطوس لأفلاطون
أ) أشخاص المحاورة :ِ
1) سقراط، أستاذ أفلاطون.
2) كريطوس، صديق سقراط منذ الشّباب، وتلميذه المخلص، وهو أيضا من أثرياء أثينا.
ب) مكان المحاورة.
سجن بأثينا.
ج) حيثيّة المحاورة.
كان سقراط قد حُكِمَ عليه بشرب السمّ، لأنّه رُمِيَ بأنّه كان يفسد شباب أثينا، وأنّه يلحد بالآلهة. ولكنّ إنفاذ الحكم فيه قد أُجّل ريثما تعود السّفينة الّتي أبحرت إلى معبد دالوس لتقدّم القرابين إلى الآلهة . وذلك كان شعيرة تفعله أثينا كلّ سنة. وهذه الشّعيرة كانت تقضي أيضا بأنّه لا أحد حُكِمَ عليه بالموت يقتل في تلك الأيّام حتّى رجوع السّفينة. إلاّ أنّه في أثناء ذلك سعى كثير من أصحاب سقراط وتلاميذه أن يخرجوه من السّجن وينقذوه من الموت، لكنّه امتنع وأبى. وآخر مسعى لذلك كان مسعى كريطوس لمّا كان قد أزف رجوع السّفينة المذكورة. وفي هذه المحاورة إنّما يظهر إفلاطون كيف أراد كريطوس أن يقنع صديقه ومعلّمه بالفرار، وكيف كان جواب سقراط له.
ه) تاريخ تأليف المحاورة.
نحو 385 ق . م.
و) رأينا في المحاورة.
إنّها نصّ سلك فيه الفيلسوف أفلاطون العظيم معانيا قلّما رقا إلى ذراها، واستنبط دررها عقل من العقول في زمن أو مصر. وكلّ الكلام الّذي كان أجراه التّلميذ الفاضل على لسان أستاذه سقراط الحكيم، لمصابيح لطالما قد أنارت سبيل البشر فيما مضى من دهر، و اليوم ما أحوج النّاس إليها، وقد لفّهم الجهل واستأثر بهم الحمق ، وأُفْرِغُوا من كلّ معنى إنسانيّ، ووجوديّ أعلى، وأسمى، يأخذ بهم إلى الكمال والخير.
أفلاطون.
الكريطوس*
تعريب لطفي خيراللّه
***
سقراط.
أيّ شيء جاء بك هذه السّاعة هاهنا يا كريطوس، أفليس الوقت الصّبح ؟
كريطوس.
بلى، إنّه لكذاك.
سقراط.
فأيّ شيء الوقت على التّعيين هو الآن ؟
كريطوس.
لقد أخذت تباشير النّهار في الظّهور.
سقراط
ما عجبي إلاّ من السّجّان كيف كان قد رضي بفتحه الباب لك ؟
كريطوس.
يا سقراط، إنّماهو لكونه كان قد رآني غير مرّة هاهنا، فقد صار يعرفني غاية المعرفة. ثمّ إنّي لي لديه لَيَدٌ.
سقراط
أ قدمت الحين، أم أنّك موجود هاهنا من زمن غير قريب ؟
كريطوس.
بل من زمن غير قريب.
سقراط.
فما بالك إذًا، لم ترم إيقاظي أَوَّلَ ما قدمت، بل مكثت بجانبي ممسكا عن الكلام ؟
كريطوس.
واللّه، يا سقراط، إنّما أنا قد وزعت نفسي عن ذلك. إذ لو كنت مكانك، لكرهت أيضا أن أُوقَظَ باكرا، فأُتْرَكَ غرضا للبأس والحيرة. وإنّي أيضا، والحقّ أقول، لقد بقيت زمنا غير يسير أنظرك وأتعجّب منك كيف تغطّ في نومك العميق، وما كان إمساكي عن إيقاظك إلاّ تعمّدا حتىّ تستمتع بوقتك ما أمكن من الاستمتاع. و لَكَمْ كنت فيما مضى من عمرك كلّه أُكْبِرُ رباطة جأشك، ولكنّي، وإذْ تبيّنت أيّ صبر وأيّ سلوان قد تجمّلت بهما في هذه النّائبة، فلا إكبار البتّة يضاهي إكباري لها الآن.
سقراط.
ذلك لأنّه، يا كريطوس، ليس يَحْسُنُ برجل سنّه كسنّي أن يجزع لدنوّ أجله.
كريطوس.
فما بالنا نرى، يا سقراط، من الرّجال ممّن قد أسنّ كما أسْنَنْتَ، هو لايلبث، على سنّه الطّاعن، أن يُظْهِرِ الشّكوى ممّا كان قد كُتِبَ له.
سقراط.
صدقت. ولكن هلاّ أخبرتني ما جاء بك باكرا ؟
كريطوس.
إنّما أبكرت زيارتك، ياسقراط، حتّى آتيك بنبأ هو سيء وحزين، كما هو بيّن ، ليس لك، وإنّما لي ولسائر أصحابك
كلّهم، ولست أرى أنّه يوجد نبأ أعظم هولا وأشدّ وطأة على احتماليه منه البتّة.
سقراط.
وما ذاك الخبر؟ لاجرم أنّ السّفينة الّتي قُضِي لي أن أموت بعد مجيئها هي قد عادت من دالوس**.
كريطوس.
كلاّ، إنّها لم تصل بعد، ولكنّ ظنّي أنّها توافي اليوم، على ما أخبر به رهط قد قدموا من سونيوس**، وكانوا قد تركوها هنالك. فهو ظاهر على ما أخبروا به أنّ وصول السّفينة يكون اليوم، ولذا، فهو لا مناص لك، يا سقراط، من أنّك غدا إنّما تفارق الدّنيا.
سقراط.
فبشراي ثمّ بشراي يا كريطوس ! فلو كانت تلك هي مشيئة الآلهة فيّ، كانت مشيئتها. ومع ذلك فأنا لا أرى أنّ السّفينة تصل اليوم.
كريطوس.
وكيف ظننت هذا الظنّ ؟
سقراط.
أنا ذاكر لك ذلك. أ فليس بالاضطرار إنّ موتي إنّما يكون اليوم الّذي يلي يوم إيّاب السّفينة.
كريطوس.
بلى، فذلك ما كان قد قضى به مَنْ بيدهم الأمر.
سقراط.
لهذا فأنا لا أرى أنّ رجوعها يكون هذا اليوم، بل غدا. وإنّ ذلك إنّما أوحت لي به رؤيا كنت رأيتها هذه اللّيلة، وقد فعلت حسنا في أنّك قد أمسكت عن إيقاظي.
كريطوس.
وكيف هي هذه الرؤّيا ؟
سقراط.
لقد رأيت فيما يرى النّائم امرأة ذات حسن ووقار، متسربلة بالبياض، وقد أقبلت إليّ، فنادتني، ثمّ خاطبتني بقولها : " أَيْ سقراط، إنّك لمُوَافٍ أرض البيتي** ذات الخصب، بعد ثلاثة أيّام."
كريطوس.
أيّ رؤيا ملغزة رؤياك يا سقراط.
سقراط.
بل هي، في رأيي، على غاية البيان.
كريطوس.
فهي إذًا قد أفرطت فيه. ولكنّي أناشدك آخر المناشدة أيّها الفاضل سقراط، هلاّ أخذت بنصحي ونجوت بنفسك. فموتك، عندي، لجالب لِغير واحد من الشّرور : ففوق أنّني لسوف أُحْرَمُ صديقا كلّ اليقين أنّي لن أجد له أبدا نظيرا، فعسى أن يذهب الظنّ بكثير من النّاس لا يعرفوننا جيّد المعرفة، بأنّني لوكانت نفسي قد طابت لإنفاق المال لِنجاتك، لأنجوتك، ولكنّني إنّما أنا قد طويت عن ذلك كشحا. فبحقّك، أيّ شيء أقدح لِعِرْضِ المرء من أن يُعْرَفَ بأنّه لأحرص على ماله من وفائه لصديق ؟ وعامّة النّاس سوف لن تؤمن، حينئذ، بأنّك لم تلن لتوسّلاتنا وأنّه إنّما أنت الّذي كان قد أبى الفرار من هاهنا.
سقراط.
ألا أيّها الفاضل كريطوس فمالنا وما لِمَا ترى العوامّ. أمّا أولو الألباب الّذين إنّما هم من ينبغي أن ننشغل لرأيهم، فهؤلاء، لا جرم أنّهم سوف لن يخالجهم أبدا شكّ في أنّ الأشياء إنّما قد حصلت كما كانت قد حصلت في الحقيقة.
كريطوس.
أفما ترى، ياسقراط، أنّه، مع ذلك، فهو لا مناص من أن ننشغل برأي الكثرة. إذْ ما قد نالك لَيُرِينَا غاية الإراءة أنّ الكثرة هي لَقادرة ليس فقط على أن تُنْزِلَ بنا الضُرّ ، بل إنّها كلّما ألمّت بها النّميمة فهي قادرة على أن تنزل بنا أكبر الضرّ.
سقراط.
ياليت هؤلاء النّاس، يا كريطوس، كانوا أهل قدرة على فعل أعظم الشّرور، فيكونوا أيضا قادرين على فعل أعظم الخير. غير أنّهم في الحقيقة إنّما هم ذوو قصور على فعلهم أَيًّا من الأمرين، بل ما أعجزهم على أن يجعلوا امرء ما، ذا رشاد، أو ذا سفاهة! وكلّ شيء فعلوه، فإنّما أصله الجزاف والتّنحّس.
كريطوس.
لنضع أنّ الأمر هو كذلك. ولكنّك، يا سقراط، هلاّ أجبتني عن سؤالي هذا : أيكون الّذي أقعدك هاهنا إنّما هو رعاية منك لنا ؟ أي أتكون قد خشيت إن أنت فررت من هاهنا أن يلحق بنا أهل السّعاية والوشاية الضرّ لكوننا قد ساعدناك في الهروب، أو أن ينال مالنا أو كثير مالنا خسارة، أو أن ينالنا ضرر آخر من الأضرار. فإن كان قد ساورك ضرب من ضروب هذه الخشية، فلتنزعها عنك، إذْ، لعمري، إنّما هو حقّ علينا أن نركب مثل هذا المَحْذُورِ، وأن نركب ما هو أدهى منه، لو اقتضى الأمر ذلك، طلبا لنجاتك. فهلاّ قبلت بنصحي، وأضربت عن الرّفض.
سقراط.
إي نعم، يا كريطوس، إنّها رعاية منّي لكم، وأسباب أخرى تمنع عنّي ما تدعوني إليه.
كريطوس.
فإذن أَلاَ لا اهتممت بهذا الأمر. إذ أنّه ما كان قد طُلِبَ منّا كثير مال حتّى نخرجك من هذا المكان. وأيضا، أفلست تعلم أنّه قد نرشي هؤلاء السّعاة بثمن بخس، وأنّه ليس يجب مال كثير حتّى نُخْرِسَ ألسنتهم. فأنت لك أن تفعل بمالي ما شئت : فعسى أن يكون وافيا بما نطلبه. أمّا لو كنت إنّما قد أشفقت عليّ، وكنت ترى أنّه لا يجوز لي أن أنفق مالي، فهو يوجد ها هنا رجال غرباء يرغبون في أن ينفقوا أموالهم من أجلك. وواحد من هؤلاء كان قد حمل معه ما يكفي مِقْدَارَ مَالٍ. وأيضا قابس وآخرون كثيرون فكلّهم قيد إشارتك. لِذَا فها أنا أعيد عليك الطّلب كرّة أخرى : ألا لا تضربنّ عن طلب النّجاة لِمَا قد خشيته من مثل تلك الأشياء، ولا يَذْهَبَنَّ بك الظنّ كما كنت قد قلت عند المحكمة أن أمرك صائر إلى العسر لأنّك لو خرجت من هاهنا، فإنّك ستضيق بك السّبل. كلاّ، بل إنّك في غير بلادك، لسوف تُكْرَمُ أيضا، أمّا لو رُمْتَ أن تذهب إلى تسّالي**، فلي بها أهل ضيافة سوف يقدّرونك حقّ قدرك، وسوف يجيرونك حقّ الإجارة حتّى أنّه لاواحد من أهلها من شأنه أن يصيبك بالأذى أدنى إصابة.
V ـ وهناك شيء آخر، ياسقرط. فظنّي أنّك لو كنت قادرا على الهروب، ولكنّك رميت بنفسك وسارعت إلى ما قد يكون تمنّاه فيك الأعداء، أو إلى ما كانوا قد تمنّوه فيك، على الحقيقة، نِكَايَةً بك، فإنّك لَرَاكِبٌ إثما. والأمر، لعمري، ليس هذا فقط، بل ظنّي أيضا أنّك إنّما أنت تخون أبناءك. فأنت قادر علىأن تربّيهم غاية التّربية، وأن تعلّمهم غاية التّعليم. لكنّك آثرت أن تتوارى وتتركهم وشأنهم، وكلّ الّذي في سيرتهم إنّما يرجع أمره إليك، فقد فوّضته للجزاف والصّدفة. ولا جرم أنّه سوف ينالهم ما ينال كلّ يتيم من شرّ وضرّ. إنّنا إمّا أن نُمْسِكَ عن ولادة الأولاد، وإمّا أن نكدح من أجلهم لإطعامهم، وتربيتهم. أمّا أنت، فكأنّي بك قد مِلْتَ للحظّ الهيّن، والحال أنّه كان حقيقا بك أن تميل للحظّ الّذي إنّما يختاره أهل الفضل، لا سيّما إذا كنّا ممّن دأب كلّ حياته يعلّم الفضيلة ويحضّ عليها. لذلك فهو ليملكني الخجل لِمكانك ولِمكان أصحابك : فَفَرَقِي أن يُعْزَى إلى خذلاننا لك كلّ ما قد نالك، من قبول الدّعوى ضدّك في المحكمة، وقد كنّا قادرين على منعها، ومن طريقة التّرافع نفسها، ومن عاقبتها ذات الإزراء الّتي من شأنها أن تدفع بالظنّ إلى أنّه لكوننا قد تراخينا وتلهّينا فنحن لم نهتمّ للدّعوى، لأنّنا لم نهبّ لإنقاذك، وأنّك نفسك لم تنج بنفسك، ولقد كان ذلك ممكنا حقّ الإمكان ما لو كنّا قد أغثناك أدنى الإغاثة. إذن، يا سقراط، أفلم تر العار الّذي هو لاحقنا و لاحقك، فضلا عن الضرّ الّذي هو نازل بك ؟ ألا فالتُرَوِّ، بل ليس الحين حين تروّ، فبالاضطرار لقد كنت روّيت في الأمر، إذ ليس لك إلاّ خصلة واحدة تختارها، فهو اللّيلة القادمة إنّما يكون لِزَامًا أن يُقْضَى كلّ شيء. أمّا لو تمادينا في الإرجاء، فإنّ الأمر صائر حينئذ إلى الامتناع. فلا مناص البتّة من ذلك، يا سقراط، ألا فلتسمع لنصحي وتعمل بقولي.
سقراط.
هيهات أيّها الصّديق المخلص، فغِيرَتُكَ عليّ قد كانت أن تُصيب أيّما رضا في نفسي لو كانت قد وافقت الواجب؛ وإلاّ فهي كلّما كانت قويّة، كانت ممجوجة. لذا فقد لزم أن ننظر في إن كان واجبا علينا أن نفعل ما حضضتنا عليه، أم ليس بالواجب؛ فأنت تعرفنني أنّني قد اتّخذت لنفسي مبدأ، ليس اليوم فقط، بل في كلّ الأزمان، بأنّني لا أنصت فِيَّ أبدا إلاّ لصوت واحد، ألا وهو صوت العقل الّذي قد بان لي عند الفحص، بأنّه أفضل الأصوات كلّها وأحسنها طريقة. و ليس يَحْسُنُ بي أنّ أَنْكُصَ عن كلّ الحجج الّتي ما فتئت أنتصر لها فيما مضى، أَوَّلَ ما يكون قد نزل بي شرّ من الشّرور. بل إنّ محلّها في نفسي محلّ الإجلال والتّعظيم هو هو، على التّمام، اليومَ كما كان من قبل. فإذن إن نحن ما ظفرنا هاهنا بشيء أفضل منها، فلتعلم جيّد العلم بأنّني لن أُذْعِنَ لك إذًا أبدا، وإن اندفعت الغوغاء ذات القوّة القاهرة، لتبعث الرّوع في نفوسنا كما نُرَوِّعُ الأطفال، تهدّدنا بأنواع المخوّفات من حبس، وبسط عذاب، وافتكاك أموال. فأيّ الطّرق، ليت شعري، هي أحسنها، على التّمام، حتّى نأتي هذا الفحص ؟ أفلا ترى معي أنّ ذلك إنّما يكون بأن نشرع أوّلا من حيث كنت قد تكلّمت في ظنّ العوامّ ؟ إذ أَ فترانا كنّا محقّين أم غير محقّين لمّا قلنا أنّه ليس كلّ الآراء ينبغي أن نأبه لها ؟ أم أنّ هذا الرّأي إنّما كان صوابا قبل أن يُقْضَى بموتي، أمّا الآن، فهو قد بان واضحَ البيان أنّه لم نكن قد قلناه إلاّ جزافا ولغاية الكلام، و في الواقع فهو لم يكن سوى تلهّيا وثرثرة. فلتنظر إذًا معي، يا كريطوس، إن هو قد تغيّر لِمَا أنا فيه الآن، أو بقي كما كان من قبل، وهل لنا أن نجعله ظِهْرِيًّا أم نتّخذه شريعة ومنهاجا؟ فهل لك أن أتلو عليك، إن لم تخنّي ذاكرتي، ما كان يقوله في كلّ لقاء أهل الفضل والكياسة. فإنّهم كانوا يُثْبِتُونَ كما كنت قد أثبته أنا نفسي بأنّه من الآراء الّتي ينطق بها النّاس ما ينبغي أن نأبه لها، ومنها ما لا ينبغي أن نأبه لها. والّذي فطرك، يا كريطوس، أ فلا ترى أنّ هذا الكلام نِعَمَّا مَا هو؟ فأنت، كما قد نتبيّنة من أمور البشر، ليس يحيق بك موت يَوْمَ غَدٍ، ولا أنت مضطرب الذّهن لِدنوّ شَرٍّ منك. فإذًا لوكنت قد قلّبت الأمر، أفما كنت إنّما سوف تتبيّن بأنّ القول بأنّه لا ينبغي أن نأبه لكلّ أراء النّاس، بل إنّما ينبغي أن نأبه لبعضها، وأن نضرب عن بعضها، و أنّه لا ينبغي أن نحتفي بها كلّها، بل ببعضها فقط، ونترك سائرها، إنّما هو عين الحقّ والصّواب ؟ أفلا ترى أنّ هذا الكلام لهو سديد ؟
كريطوس.
إنّه لسديد.
سقراط.
فهي الأراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها، وليست الآراء السيّئة.
كريطوس.
نعم، إنّها الآراء الحسنة الّتي إنّما ينبغي توقيرها.
سقراط.
وأنت تعلم أنّ الأراء الحسنة إنّما هي أراء أهل الرّشاد، والأراء السيّئة إنّما هي أراء أهل الخطل.
كريطوس.
نعم إنّي أعلمه.
سقراط.
VII ـ فلتنظر الآن كيف كنّا قد أثبتنا ذلك المبدأ. إنّ امرء ما شُغْلُهُ التمرّن في الرّياضة، وتحصيله المعرفة فيها، أَفتراه كان سوف يأبه لإطراء رجل أو قدحه أَيٍّ كان من الرّجال، أم أنّه إنّما اهتمامه لن يكون إلاّ لرأي طبيبه أو مدرّبه ؟
كريطوس.
بل لرأي مدرّبه أو طبيبه ليس غيرهما.
سقراط.
فهو إذًا لن يخشى من مديح أو قدح إلاّ مديح أو قدح واحد من ذينك الرّجلين، أمّا العوامّ، فكلّ مديحهم وقدحهم فهو عنده إلى احتقار.
كريطوس.
إنّه عنده إلى احتقار.
سقراط.
لِذلك كان قد لزم عليه أن يتمرّن، ويأكل، ويشرب، لا كما قد يصف له سائر النّاس جميعا، وإنّما فحسب، كما قد يصف له من وُكِّلَ به، ويكون عارفا بالأمر قادرا عليه.
كريطوس.
ليس في ذلك شكّ من الشّكوك.
سقراط.
فإذا تَقَرَّرَ ذلك. فهلاّ أجبتني أفما كان ذلك الرّجل هو نائله لا محالة شرّ من الشّرور، لو كان قد عصى الرّجل الموكّل به، وازدرى رأيه ونصائحه، ليأخذ برأي الحَشْوِ ذي الجهل والعجز ونصائحها؟
كريطوس.
لا محالة هو كان نائله ذلك.
سقراط.
فأيّ شرّ هذا الشّر الّذي يكون نائله حينئذ ؟ وأيّ شيء فيه أو في أيّ جزء منه هو سوف يناله ذلك الشرّ بسبب عصيانه ؟
كريطوس.
إنّه، لعمري، البدن ما سيناله حينئذ الشرّ لامحالة. إذْ إنّما هو بدنه الّذي يكون يُهْلِكُ.
سقراط.
مرحى مرحى. ولأنّني لا أرى فائدة في أن أعرض للأشياء كلّها، فأنا مكتف بسؤالئك هذا السّؤال : أفماترى، يا كريطوس، أنّ الأمر لهو كذلك، في سائر الأشياء أيضا ؟ و في أمور العدل والظّلم، والقبيح والحسن، والخير والشرّ الّتي نحن الآن إنّما نروّي فيها، على جهة التّخصيص، أفليس إنّما ينبغي أن نتّبع رأي حاكم واحد من أهل المعرفة ونخشاه، على فرض وجوده، وألاّ نتّبع ظنّ العوام ولا نخشاه ؟ وأنّه ينبغي أن نوقّر هذا الحاكم ونخشاه أكثر من توقيرنا وخشيتنا لسائر النّاس مجتمعين. لأنّنا إن عصيناه، فكما كنت قد أسلفت، فإنّه سوف ينال الفساد والبوار ما يكتسب الكمال بالعدل، ويحيق به الهلاك بالظّلم. أم أَتُرَانَا إنّما قد أخطأنا الصّواب في كلّ ذلك ؟
كريطوس.
كلاّ، ياسقراط، بل أنا على رأيك.
سقراط.
فإذًا، إن كان هو قد تقرّر بأنّنا إنّما نصيب بالهلاك ما شأنه أن يصير حسنا بالصحّة، وفاسدا بالمرض، إن نحن أخذنا برأي أهل جهل، أفترانا كنّا سنقدر على الحياة وفينا هذا الجزء الفاسد ؟ و لا جرم أنّك قد أدركت المراد بالجزء الفاسد، وعلمت بأنّه هو الجسد.
كريطوس.
صدقت.
سقراط.
فإذن، أترى أنّه يمكننا العيش بجسد عراه الفساد والبوار؟
كريطوس.
إنّ ذلك لمتنع كلّ الامتناع.
سقراط.
أفترانا إذن أنّه يمكننا أيضا العيش إن نحن أهلكنا ذلك الّذي الظّلم هو يُبْلِيه والعدل يقويّه ؟ أم أنجعل ذلك الجزء منّا الّذي هو محلّ الظّلم والعدل، في مرتبة أخسّ من مرتبة الجسد ؟
كريطوس.
إنّ ذلك لممتنع لا محالة.
سقراط.
فهو إذا أشرف من الجسد ؟
كريطوس.
لشتّان ما بينه وبين الجسد.
سقراط.
لذلك فقد وجب، أيّها الفاضل كريطوس، ألاّ نلتفت أدنى إلتفات لما يقوله الرّعاع، وألاّ نهتمّ إلاّ لما قد يقوله فينا رجل المعرفة بالعدل والظّلم الّذي هو محاسبنا الوحيد ، ولِما قد تقوله الحقيقة نفسها. من أجل ذلك فإنمّا أنت قد أسأت في تطرّقك للمسألة، لمّا بدأت بالقول بأنّه من الواجب أن نلتف لما تراه الدّهماء في أمر العدل، والجمال، والخير، وأضدادها. وإن كان حقّا، أنّه قد يقال لنا بأنّ الحشو لَأَهْلُ قدرة على إهلاكنا.
كريطوس.
إنّهم لقائلون لنا ذلك لا محالة يا سقراط.
سقراط.
صدقت. أمّا أنا، أيّها الفاضل كريطوس، فذلك المبدأ الّذي كنّا قد أثبتاه فهو لا يزال عندي على سَمْتِ الحقّ الآن كما كان من ذي قبل. ثمّ هل لك أن تنظر، أيضا، هذا المبدأ الآخر الّذي مفاده أنّه ليس الأحرى أن يحي المرء، بل الأحرى أن يحي حياة الكرامة، وقل لي إن كنت تراه ما زال صادقا عندنا أم لا ؟
كريطوس.
نعم، إنّه ما زال صادقا.
سقراط.
وهل المبدأ الآخر بأنّ الخير والجمال والعدل إنّما هي شيء واحد، هو مازال صادقا أيضا ؟
كريطوس.
إنّه لكذلك أيضا.
يتبع :