صار ابني راهباً

ROWIS

رويس
عضو مبارك
إنضم
3 يوليو 2007
المشاركات
2,619
مستوى التفاعل
388
النقاط
83
[صار ابني راهباً]
... حدث ذلك بين عشية وضحاها..
لم يكن لي همّ وشغل في ذلك البيت الهادئ القابع في حدائق شبرا، سوى توفير حياة كريمة ناعمة لكل من ابني وابنتي، فلقد أوقفت عليهم كل إمكانياتي الجسدية والنفسية والمالية.. أقضى الوقت في مراقبتهما في دخولهما وخروجهما، بعين ملؤها الشفقة والرضى، فهما كل شيء في حياتي.. حياتي التي كرستها لهم بعد وفاة زوجي إثر حادث أليم، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره وقتئذ.
انهما عالمي إذ ليس لي أيه اهتمامات أخرى في حياتي، حتى قريباتي وأقاربي، فإني لا أزورهم إلاّ نادراً وعندما تحتّم الضرورة فقط. ومن أين لي الوقت الذي أقضيه في مثل تلك المجاملات. إني استيقظ عند السادسة أو قبل ذلك بقليل، لأعدّ الطعام ومن ثم أقوم بإيقاظ اثنيهما، حتى يستعد ابني للذهاب إلى عمله بينما تستعد ابنتي للذهاب إلى كليتها في عين شمس، فيأخذ ابني كلينا –أنا وشقيقته- في السيارة المتواضعة التي نملكها، يحمل كلاً منّا إلى وجهته، هي إلى كليتها وأنا إلى عملي في التأمينات الاجتماعية بشارع رمسيس.
نعم إني أعمل، وكيف أتوقف عن العمل والمعاش الذي تركه لنا أبوهما، لا يكفي بمفرده للقيام بنفقات المعيشة المرهقة، بل أنه وعندما التحق ابني بوظيفة مرموقة في مشروع مترو الأنفاق أبيت وبشدة أن آخذ منه أية نقود.. كلاّ فإني أود أن يشترّي ما يرغب فيه وأن يدّخر ما يدّخره.. إن هذا اكثر ما يسعدني.. فليست لي أيه رغبات.. بل اني واصلت شراء الملابس والهدايا له، حتى بعد أن أصبح له ذلك الراتب الكبير. إنه ما يزال في عيني: ذلك الطفل الممتلئ حركة وذكاءً والذي كان لا يكفّ عن الثرثرة والمشاجرات.. ولن يعيد إليّ تلك الأيام بخبرتها وبهجتها سوى ابنه الذي سينجبه، حيث عقدت العزم على تربيته بنفسي.
ما أن ينتهي العمل حتى اقفل راجعة إلى بيتي والذي لا اكف عن التفكير فيه على مدار الساعات الست التي أمكثها في مكتبي، لأبدأ رحلة النظافة وطهي الطعام وغسيل الملابس، وغيرها من الاهتمامات المنزلية، لأجلس بعد ذلك أتشاغل في أي شيء مثل تصفّح كتاب أو جريدة أو متابعة نشرة الأخبار، إلى غير ذلك من الاهتمامات العادية، وأظل في انتظارهما فتأتي ابنتي أولاً بعد الظهر، في حين يستمر ابني في عمله حتى الليل، يكفيني أن أراهما فقط.. وأن يتواجدا معي في البيت، حقيقة أنهما مشغولان عني، كل من اهتمامه، ولكني لم أرغمهما مرة على الجلوس أو الحديث معي.. إني أقدّر فارق السن واختلاف الثقافات والاهتمامات.
حتى في الاجازات الخاصة أو الرسمية، كان كل منهما ينضم إلى زملائه ما بين الكنيسة والزيارات والخروج للتنزّه، وأمّا أنا فليست لي في الحقيقة أية اهتمامات أو أنشطة كنيسة، وحتى ذلك الوقت لم تكن أنشطتي الروحية تتجاوز ركوعي إلى جوار السرير عند النوم وعند الاستيقاظ لتلاوة صلاة بسيطة وقصيرة لقنتني أمي إياها في طفولتي.. وحتى عندما كانا يعرضان على الاشتراك في بعض الرحلات التي تنظمها الكنيسة كنت أستعفى محتجة بمحبتي للبيت واحتياجي إلى الراحة.
وأتباسط مع "ماركو" ذات مساء فأبادره بالسؤال:
-أما فكرت بعد في الزواج؟.
-كلا لم يحدث ذلك بعد.
-أريد أن أفرح بكما قبل أن أموت..
ويرد هو بلطف داعياً لي بالعمر المديد، محتجاً بصغر سنه (23 سنة) وقلة الإمكانيات المالية للقيام بذلك المشروع.. فألوذ بالصمت، غير أني بين آن وآخر أعود لأفاتحه من جديد، ويرد بدوره ردوداً متقاربة.
وتسير الأيام وئيدة.. وتتخرج ابنتي في كلية الآداب، ولا أشعر وقتها أن حملاً ثقيلاً قد أنزاح عن كاهلي، مثلما يشعر الكثير من الآباء والامهات في مثل هذه المناسبة، فقد كنت أشعر دائماً بأن هذه هي همة سعادتي، أن تظل ابنتي في احتياج إلى طعامي والي الثياب والهدايا التي اشتريها لها ومصروف اليد الذي كنت أهبها إياه بصفة شهرية. ولكن أن تتخرج فإن ذلك يعني بالنسبة لي أنها أصبحت جاهزة لكي تترك بيتي متجهة إلى بيت زوجها المرتقب.
وأسعى في توفير وظيفة لائقة لها.. بينما استمر أنا في المتابعة دخولهما وخروجهما برضى وسرور، وأرفع قلبي بالصلاة طوال الوقت لكي يحفظهما لشبابهما.. بينما كانا هما أشد حنواً على وكأني ابنتهما، حقاً إن الأم تحتاج إلى عطف أولادها عندما تصل إلى سن معينة، وقد فعلا هما ذلك باقتدار غير مفتعل. أمّا الأمر الذي كنت أتشدد فيه معهما فقط: هو موعد العودة، أو ضرورة الاتصال عند الاضطرار إلى التأخر.
ولكن ماركو يتأخر ذات صباح، ولكن عن موعد خروجه إلى العمل، وأنظر إليه في تساؤل فيطمئنني بأن اليوم بالذات مايزال هناك متسعاً من الوقت، فأودّع اثنيهما ماركو وسلڤيا متجهة بدوري إلى عملي ويعرض عليّ توصيلي كعادته إلى الهيئة فأرفض أن يخرج خصيصاً. واستقليت تاكسياً إلى هناك، ثم عدت في موعدي لأمارس أعمالي المعتادة، أتنقّل ما بين المطبخ والحجرات الثلاثة، وأمرّ في تكاسل بالفرشاة فوق بعض قطع الأثاث وأنا أرتل بعض أبيات من ترتيلة قديمة ما تزال عالقة في ذهني.
وبينما كان الطعام فوق النار جلست أنا مقابل التلفزيون بغير هدف محدّد، ثم قمت بعد قليل تجاه المطبخ من جديد، وفي الطريق رحت أتأمّل بصورة ماركو المعلقة على الجدار ثم تمتمت ببعض كلمات وأدعية ومن ثم حدثت نفسي: لأذهبن الآن إلى حجرته أرتبها. وقبل أن تمتد يدي إلى أي شيء فيها مسحتها كلها بنظرة واحدة سريعة: السرير والمكتب وصوان الملابس الصغيرة ومكتبة الكتب المعقلة فوق المكتب والصور التي تزيّن الجدران، ثم استرعي انتباهي وجود ما يشبه الخطاب فوق مكتبه بشكل مُلفت ومن فوقه إلى الجانب ثبته بـ "الميزان رمز العدالة" والذي كان موجوداً دائماً فوق ذلك المكتب. وترددت وأنا أتجه إليه، فلم تكن من عاداتي في تعاملاتي معهما فحص محتويات مكتب أي منهما أو دولابه، وبالتالي فتح خطاباتهما أو حتى محاولة الاطلاع على خطاب قديم حتى لو كان في ذلك مبرّر للاطمئنان عليهما. واقتربت قليلاً فإذا بالخطاب مكتوب عليه: "إلى أمي العزيزة".
وتسمرت في مكاني وشعرت لحظتئذ بأن هناك سراً خطيراً ينطوي عليه هذا الخطاب، وفضضته في عجلة كادت تمزقه، وأنا أرتجف تسابق دقات قلبي كلمات الرسالة التي تقول:
"أمي الغالية..
أرجو ألا تغضبي مني
إن كان تعبك ومعاناتك محفوظة في زق عند الله
وعندي أنا الضعيف
وسأظل ما حييت أذكرك بالخير وأذكر كل ما قدمتيه لنا
إن بَذْلك الذي لا يوصف ومحبتك لكلينا قد أثمرت
لقد جسّدتِ لنا محبة الله للبشر. وليس عجيباً أن يشبّه الله نفسه بالأم الحنون
محبتك هذه هي الدافع الحقيقي خلف هذا القرار الذي اتخذته..
لقد ذهبت اليوم لأترهب في وادي النطرون.
وعليك أن تطمئني عليّ أكثر مما كنت بجوارك هنا.
أذكريني في صلاتك."
ابنك ماركو
...
عند هذا الحد اختفت السطور من أمام عيني ومادت الأرض تحت قدمي، فقد تدفقت الدموع إلى مآقيَّ وغامت الدنيا من حولي وتحولت تلك السطور إلى خطوط عريضة أشبه بالضباب!. وجلست متهالكة في كرسيه أمام المكتب، وظل فكري مشلولاً لفتره قبل أن أستعيد توازني وأتماسك.
لقد فوجئت بذلك، ولم يكن هناك أدني تمهيد لمثل عذا التحول الذي تعرضت له حياة ثلاثتنا –كما سيجيئ- والحقيقة أنه لم تكن لي علاقة قوية بالكنيسة كما شرحت لكم، ولم أكن أعرف ماذا تعني الرحلات الكثيرة التي كان يذهب معها إلى الأديرة سواء مع أولاده الذين (يعلمهم في الكنيسة) أو مع زملائه في الكلية أو الكنيسة، ولا إلى أي دير يذهبون، كنت أتابع ذلك برضى ما دام يُسعده هو، ولم أكن معنيّة كثيراً بالأماكن التي يرتادها أو الكيفية التي يقضي بها وقته، مادام هو في النهاية شخص مهذب ومحبوب ويخاف الله. ولكن أن يذهب ليستقر بشكل نهائي: فهذا ما لم يكن في الحسبان، بل انني حتى تلك اللحظة لم أكن أعلم بالضبط، أبعاد تلك الخطوة.
أول ما تبادر إلى ذهني أن أفعله هو الإسراع إلى التليفون للاتصال بشقيقي في الاسكندرية، ورحت أبلغه بالأمر بصوت متهدّج، فهدّأ من روعي علّه يستطيع أن يقف على جلية الأمر، ثم وعدني بالحضور على الفور، وحالما انتهت المكالمة أدرت قرص التليفون من جديد واتصلت بصديقه فادي ثم جوزيف ثم وائل.. رؤوف.. كريم.. ورحت أفرغ توتراني في قرص التليفون لقد أجريت ساعتها أكثر من عشرين مكالمة، وفي خلال ساعة واحدة أصبح البيت مكتظاً بالأقارب والأصدقاء وبعض من الجيران.
فلما عادت ابنتي "سلڤيا" فوجئت بذلك الحشد وما يصاحبه من هرج ومرج، فقلت لها دون أن أنظر إلى جهتها: (أخوك راح الدير بتاع الرهبانّ) فأمسكت عندئذ بيدي وجذبتني نحوها متساءلة في استنكار عما يعني ذلك، وكنت ما أزال ممسكة بخطابه فدفعته إليها بينما اتجهت أنا نحو الحاضرين، حيث جلست من جديد وقد فقدت القدرة على الحوار معهم.
وتراوحت آراء الموجودين ما بين تطوبيها وتطويب ابنها، وما بين التريث حتى يتضح الأمر كله.. وآراء أخرى تقترح الذهاب إليه هناك في الحال لمعرفة تفاصيل تلك الخطوة التي أقدم عليها في جرأة هكذا ولم أسمع ما دار بعد ذلك من أحاديث، ولم أفق إلاّ بعد ساعات حين وجدت نفسي مستلقية على سريري، حيث قيل لي أنني سقطت مغشياً عليّ لمدة ساعتين أو أكثر.
في ذلك الوقت كان هناك من بين زميلاتي في العمل من تبرع بتقديم إجازة لي لمدة أسبوع، زرنا الدير خلاله وكلّي أمل أنه حالما يراني باكية مستعطفه إياه: يتراجع من فوره عن قراره عائداً معي لنواصل حياتنا كما كنا نفعل نحن الثلاثة، وهناك بذل خاله وأنا كافة ما يمكن من ضغوط، ولكنه قابل كل ذلك بمزيد من التجلّد والتماسك وبقدر ما تلطّف بي كان جاداً واضحاً بأنه لن يستطيع طاعتي في هذه المرة بالذات، وسُقت له عشرات الأسباب التي تبرر طلبي بالعدول عن رغبته. واستمع إلى كل ذلك في هدوء شديد فلما كففت أنا عن الكلام، قال:
-إني لا أعفي نفسي من المسؤلية، ولا أنكر أنني قد اُصبح مقصراً في حقك، ولكني واثق من أنك ستكوني سعيدة لسعادتي فهذا دأبك معي منذ البداية، وفي المقابل أن تغفري لي تقصيري هذا: فإني سأذكر لكِ دوماً هذه التضحية، ولعلّ الله يقبل مني صلاتي لأجلك كل يوم.
وفي منزلي وخلال الأيام التي تلت ذلك علمت الكثير مما يتعلق بالرهبنة والأديرة، والراهبات كذلك وأديرتهن، ومُجمل ما سمعت من الأحاديث والنقاشات التي دارت قدامي، أنه طريق ملائكي ولا يختاره إلاّ شخص له علاقة قوية بالمسيح، كما سمَعت مديحاً كثيراً لأنني أخلته لهذا الطريق، وكنت سعيدة بلا شك وأنا أسمع ذلك..
ولكنة في كل مرة وحالما يتفضّ هذا الجمع وأجدني وحيدة، حتى أبكي لساعات وانتحب، إذ تغلب عليّ عاطفة الأمومة، متذكرة الآمال العراض التي عقدتها على تخرجه، وأنا انتظر بفارغ الصبر يوم زواجه، وأعد نفسي لتربية أولاده، لقد قررت أن أمله هو زوجته على الحياة معي في الشقة، ثم أعود لأتخيله في ثيابه الرهبانية مثل الملاك أو أحد القديسين فأتحول بفكري الاتجاه الروحي محاولة طرد أفكار والزواج واحتفاظي بابني معي..
وهكذا أظل شاردة تتقاذفني أفكار متضاربة.. وأقوم ذات مساء من مكاني في خطوات متثاقلة متجهة إلى حجرته لأبكي من جديد بحرقة مطلقة لنفسي العنان في التعبير عن آلامي الحقيقية، بعيداً عن يلفيا ابنتي والزائرين الذين كانوا لا يكادوا ينقطعون.. واتنقل في الحجرة ما بين مكتبه وسريره وأقلامه وصوان ملابسه ومكتبته، وكافة متعلقاته واحدة واحدة حتى الصغير منها وما يبدو تافهاً، وأمرّ بالفرشاة على كل شيء لأجعله لامعاً وكأنه موشك على العودة من عمله أو كليته.
.. وينال مني التعب فاستلقى على سريره ثم ما هي إلا دقائق حتى أذهب في النوم، وأراه جالساً بجانبي فيدور حديث من تلك الأحاديث الكثيرة التي كانت تدور فيما بيننا في الأيام الخوالي.. وأجده يسير في اتجاه الباب ثم يختفي فجأة، فأنادي عليه ولا يجيب فيعلو صوتي ثم ما يلبث أن يتحول هذا النداء إلى صراخ مزعج وأنا أجري خلفه خارجاً، فأسقط من علو شاهق فوق شيء ليّن.. إنه سريري!!.. وأقوم مفزوعة، في الوقت الذي تسرع فيه ابنتي إليّ منزعجة.. ولا تسأل عن ما حدث فقد تكرر ذلك مني مراراً من قبل، فتفعل ما كانت تفعله دائماً: حيث تربت عليّ مناولة إياي كوباً من الماء.. وألمح في عينيها هي الأخرى دموعاً تبذل جهداً كبيراً في حبسها داخل مآقيها.
ولم يعد يُجدي معي الانتهار الكثير الذي ألقاه من أفراد عائلتي، ولمّا أحسست أنهم لا يقدّرون مشاعري ولا يحسّون بوقع تلك التجربة على نفسي، اعتدت ألا أجيب على استنكارهم لي.. فأظل صامتة طوال الوقت إلى أن ينصرفوا، فأقوم من جديد واخرج مفتاح حجرته والذي احتفظ به في جيبي على الدوام، افتحها وكأني أدخل مزار أحد الأبرار، فهي الشيء الذي تركه لي أتعزى به، ويحمل رائحته ويحتوي على متعلقاته.
حتى عندما دخل معي شقيقي إلى حجرة ماركو وراقب تصرفاتي فيها: اتهمني بأنني أتعامل مع الأمر وكأن ابني قد مات، فنظرت إليه طويلاً ولم أجبه.. بل رحت أقلب في بعض أوراق كانت في درج المكتب السفلي، وإذا بي أعثر على ورقة قديمة كتب عليها بالقلم الرصاص:
-"ما هذه الحياة
انها خدعة كبرى
بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل
فمن كان يصدق أن يموت أبي في سن الثامنة والعشرين!
تُرى هل كان مستعداً؟ وأين هو الآن.
إذن لأستعد أنا كل الأيام
ماذا أريد من هذه الحياة؟
اتزوج وانجب ويكبر أولادي ويتزوجون بدورهم..
وتدركني الشيخوخة واعيش ما تبقىّ لي في سآمة منتظراً الموت يترفّق بي!
وأمي.. تلك البطلة بل والشهيدة أيضاً..
بماذا أكافئها وأموال العالم كلها تقصر عن أن تفيها حقها
قد علمت ما يجب أن أفعله لأجلها..
أن أذكرها بالخير ما دمت حياً وأصلي لأجلها..
انها تريدني أن أتزوج بلا شك..
ومن حقها أن تحلم بذلك لتفرح بي وبأولادي ولكن لماذا لم تتزوج هي؟!
ألم تعش هي أيضاً راهبة؟!
الرهبنة تكريس.. وأمي كرست حياتها للعطاء.. لمحبة الله من خلالنا..
بل أن أمي أفضل من راهبة لأنها اختارت ان تحيا هكذا..
أحبك يا أمي.."
ونزلت يدي إلى أسفل بالرسالة وقلت محدّثة نفسي بصوت عال تمزّقه دموعي: ولكني أريدك هنا.. زوجاً وأباً لأحفادي، حتى وإن كنت أنت لا ترغب في ذلك، أليس هذا من حقي..
ووصل صوتي إلى الخارج فهرعت ابنتي متساءلة، فمددت يدي إليها بالورقة وجلست لأكفكف دموعي، وتأكدت أنها تجاهد في اخفاء مشاعرها حين راحت تخفف عني مبتسمة وهي تقول:
-عنده حق –تفكير سليم، فهاجمتها قائلة:
-ولكن الله خلق الناس لكي يثمروا ويكثروا، فقالت مداعبة:
-أيرضيك هذا الانفجار السكاني.. إن ماركو بقراره هذا يسهم في تحديد النسل!
-ولكني لم أكن راغبة في الاستجابة لهذه الملاطفة..
وأبيت أن أتعزى..
ثم جاء موعد زيارتنا له في الدير بوادي النطرون، ولم أن طيلة تلك الليلة التي سبقت ذهابنا إليه، فقد رحت أعدّ له ما لا يُحصى من ألوان الطعام والحلوى والملابس والورق والأقلام والفاكهة وغيرها مما تطلب جهداً مني ومكاناً في السيارة، وذهبت معي كل من ابنتي وشقيقي وأحد أصدقاء ماركو المقربين والذي يرتاد ذلك الدير كثيراً.
وعندما وصلنا وجدنا القداس مقاماً في الكنيسة، وخلال القداس رحت أتنقّل من مكان لآخر بحثاً عن ابني، اقترب من أبواب الهياكل لأمسح المكان بعيني علّي أجده!، ظللت على تلك الحال وأنا أدور في الكنيسة مثل الحائرة، حتى اقترب مني أحد الرهبان وكان قد علم بهويتي وطمأنني، ثم طلب مني بأدب شديد أن ألزم مكاني مع الأسرة حتى ينتهي القداس وسوف أرى ابني عندئذ، وعليّ الآن أن أقف هادئة لأصلي.
ولكني لم أستطع التركيز خلال القداس، وحالما صرف الكاهن الشعب وخرج ابني حتى اقبلت كمن يهجم عليه احتضنته وانهرت وأنا أبكي بطريقة مؤلمة، بينما كان هو متماسكاً راح يلطف بي ويهدئ من روعي. فلما هدأت بدأت أمطره بوابل من الأسئلة والاستفسارات في جميع الاتجاهات، وراح هو يجيب بردود سريعة مطمئنة.
في بيت الضيافة انتحيت به جانباً ورحت أخرج له ما حملته معي واحدة واحدة، وإذا به يبتسم ثم يكاد يضحك.. ثم يربت على كتفي قائلاً: أني لا أحتاج إلى كل ذلك، غير أني لن أردّك هذه المرة فلسوف أحمل جميع ما تعبت في اعدادت، ولكن عديني ألا ترهقي ذاتك ثانية بمثل هذا، أمّا هذه النقود فأين تظنين إني أنفقها؟! عليك بوضعها في صندوق العطايا بالكنيسة.
هذا وقد علمت لاحقاً أنني قد أحضرت له الكثير من الهدايا غير المناسبة (من الملابس والأطعمة وأدوات العناية الشخصية).
وفي الدير أحاطنا الرهبان بحفاوة كبيرة، فبدأت أغير رأيي وانطباعي عن الرهبنة، فقد كنت حتى ذلك الوقت أتخيّل أن الراهب يحيا الآن كما كان في البداية، في كهف أو مغارة في الجبل بين الوحوش والزواحف، طعامه: "كسرة خبز وحصوة ملح" وأحياناً بعض البلح والحشائش.. لا يستحمون، ولا يعرف أحد عنهم شيئاً، ناهيك عن الحروب والأمراض، غير أن الآباء هناك طمأنوني بأن شيئاً من هذا لا يوجد الآن باستثناء حروب الشياطين والأمراض.
وتعددت زياراتي للدير السنوات الأولى الأربع بمعدل مرة كل أربعة شهور، ارتدى ابني خلالها الثياب الملائكية، وخلالها تزوجت ابنتي وانتقلت لتحيا مع زوجها في مدينة المنصورة، وهو شخص تقي طيب جعلني أطمئن على ابنتي بالتالي. ولكني وجدت نفسي فجأة وحيدة في مسكني ولم يعد على احالتي للمعاش سوى شهور قليلة.
وصرت أفكر يوما بعد يوم فيما فعله ابني، حتى أدركت جيداً أنه قد أصاب في هدفه وأحسن الاختيار وأنه أختصر الطريق، وأعني باختصاره الطريق، انني فكرت ملياً بعد هذا السن في أن أحيا حياة مشابهة لحياته، فلمّا عرضت الأمر على بعض من رئيسات أديرة الراهبات اعتذرن بلطف.. ورحت أطوف محاولة أن أصنع خيراً بشتى الطرق، سواء من خلال الكنيسة أو الجيران أو الأقارب. وفي النهاية قررت أن ألزم بيتي فاتخذت لي حجرة من الشقة، حيث حولتها إلى ما يشبه القلاية لا أخرج إلا يوم الأحد فقط لحضور القداس والتناول وشراء احتياجات الاسبوع، لأعود من جديد إلى معبدي الصغير، وتتصل بي ابنتي مرة كل يوم وكذلك أخي في الاسكندرية وبعض من زميلات ابنتي.
ويرسل الدير من يتصل بي ليبلغني بأن ابني مريض ويمكنني زيارته في مستشفى (...) فمضيت إلى هناك لا مهرولة مثل المرة الأولى عندما غادر ليترهب، بل بكثير من الهدوء والرصانة، وهناك رأيته شاحباً هزيلاً وحوله ثلاثة من الرهبان اخوته، وحاول أن يبدو بشوشاً مرحاً ولكن آلام المرض كانت أقوى منه، إن قلبي لا يخطئ لا سيما تجاه ولدي.. وانصرفت بعد ساعة من هناك على أن أعود في الصباح. ولم انم طوال تلك الليلة، كنت أصلي لكي يهبه الله شكراً وتسليماً وبركة المرض.
وفي الصباح وعندما كنت أستعد للاتجاه إلى المستشفى، رن جرس التليفون حيث كان على الطرف الآخر من يبلغني بصوت وقور أن ابني قد تعافى، وأنه عاد لتوه إلى الدير، وشكرت الله الذي وهبه الشفاء ووهبه فرصة جديدة ليجاهد ويلتصق به اكثر، كما شكرت الله إذ لاحظت انني لم اهد أفكر بطريقة بشرية عاطفية كما كنت أفعل من قبل، بل أسهمت حياته الجديدة في جعلي أكثر اتزاناً وروحانية.
والآن اقضي اكثر وقتي في حجرته فقد حولتها هي الأخرى إلى شبه قلاية، بعد أن ثبتّ له فيها صورة كبيرة.. أحادثه طوال الوقت وأراه وأسمعه يحادثني هو الآخر، والآن وقد بلغت الثمانين من عمري جعلت طلبتي الرئيسية:
هبني يارب أن ألتقي أنا وابني وابنتي وزوجي معاً في الملكوت.

دير البرموس
ابريل 2002م
ــــــــــ
نقلتها نصاً من كتاب سلسلة قصص روحية قصيرة وهادفة - المجموعة الثانية - عين ماء
(وهو الجزء الثاني من سلسلة أجراء وأبناء)
 

حبو اعدائكم

حبو...
عضو مبارك
إنضم
9 أكتوبر 2011
المشاركات
14,191
مستوى التفاعل
4,782
النقاط
113
الإقامة
مصر
اشكرك رويس..قصه رائعه اى نعم حاولت ان امسك دموعى بقدر الإمكان..بس جميله جدا جدا -- اشكرك...
الرب يبارك تعب خدمتك.
 

+Nevena+

عضوة ح الغلاسه
مشرف سابق
إنضم
12 ديسمبر 2007
المشاركات
20,057
مستوى التفاعل
1,903
النقاط
113
قصه في غايه الروعه
فيها كم من المحبه والتضحيه
والايمان الصادق والنصحيه والحكمه
هذه هي الامهات التي تسعي لخلاص ابنائها وخلاصها
تلك هي المرأة الحكيمه التي بنيت بيتها علي الصخر


كل الشكر والتقدير علي كتابه تلك القصه المعزيه الرائعه
يسوع يباركك
 
أعلى