أحكام الميراث والتركات ـ هل حقا نحتاج الشريعة الإسلامية؟

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,197
مستوى التفاعل
1,240
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل


باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد
له المجد دائما أبديا آمين

christianlegalsociety_200.jpg



ينتشر بين أخوتنا المسلمين على الشبكة زعم غريب، هو أن المسيحية تخلو من أية أحكام للميراث ومن أية شريعة توضح فرائضه! وقد شاعت هذه الفكرة بكل أسف هنا وهناك حتى أنها تسربت إلى بعض دوائرنا ومنتدياتنا، بل أصبحت عند البعض اعتقادا لا مجرد فكرة أو خاطر، ذلك رغم أن هذا الزعم كما سوف نرى خاطئ جملة وتفصيلا وليس له أي أساس من الصحة على الإطلاق. صحيح أن غاية المسيحي دائما هي السماويات لا الأرضيات والروحيات قبل الماديات، وصحيح أن السيد المسيح لم يأت إلى الأرض قاضيا أو مُقسّما، لكن هذا لا يعني أن الكنيسة كانت عبر كل هذه العصور غافلة عما يترك الناس من تركات وأراض وأموال، أو أنها كانت تقف عاجزة عن توزيع هذه التركات بين المستحقين لها، حسب قواعد واضحة وأحكام منضبطة ثابتة وأنصبة شرعية عادلة.



أما مصادر هذا التشريع الكنسي فتنقسم ـ باختصار ـ إلى نوعين: أولا المصادر الأساسية: وتشمل "الكتب الإلهية"، ثم "القوانين البيعية"، ثم "الفروع العقلية والقياسية"، حسب اصطلاح ابن العسال وتقسيمه، وثانيا المصادر الثانوية: وتشمل عموم "الأحكام الملية". فإذا عرفنا أن "الدسقولية" كلها على سبيل المثال جزء من القوانين البيعية حسب هذا التقسيم، أدركنا بالتالي ضرورة جمع هذه القوانين معا في مجموعات فقهية تشريعية مستقلة، وهو ما تم بالفعل فخرجت هذه المجموعات للنور وكان أشهرها لا شك "المجموع الصفوي" للشيخ العلامة الصفي أبي الفضائل ابن العسال، حوالي 1230 ميلادية.



هذه فقط إشارة مختصرة لتوضيح الأمور قليلا، نوردها بمناسبة سؤال جاء مؤخرا من أحد الأخوة المسلمين حول الميراث، وهي أسئلة تأتي نادرا على سبيل الاستفهام وغالبا على سبيل التهكم، نظرا كما أوضحنا لهذه الفكرة الشائعة عن غياب التشريع المسيحي في مسائل الميراث بالكلية. يقول السائل في رسالته تحت عنوان "سؤال لكم أيها المسيحيون":


كم ترث المرأة المسيحية من زوجها المسيحي إذا لم يكن لهما أولاد
وكم ترث إذا كان لهما أولاد
أرجو الإجابة وشكرا


بالطبع تجاهل صديقنا أن المسيحيين يلتزمون حاليا في مسائل الميراث بقوانين السلطة الزمنية الحاكمة في بلادهم، حتى لو كانت قوانين الإسلام، وهو أمر لا نأسف أبدا عليه، لأن التركات والممتلكات والأموال ـ بل كل الأرض وما عليها ـ لا تعنينا ولا تشغلنا ولا توجه أفكارنا أو يتأثر بها إيماننا، فالمحبة أولا وأخيرا هي الطموح وهي الشريعة، وهذا هو الحال دائما وعلى وجه العموم. أما إذا شغلت بعضنا لأي سبب أو أحدثت الخلاف بينهم، وإذا لم يكن هناك في الوقت نفسه قانون زمني مُـلزم للجميع، فإن الكنيسة عندئذ تحتكم لتشريعها الأصيل الذي سلفت الإشارة إليه فتطبقه. سنجيب الآن إذن على هذا السؤال كمثال عملي لكل ما سبق:


أولا القاعدة في التشريع المسيحي هو ألا فرق بين الرجل والمرأة على الإطلاق، وعليه فكل ما يلي ينطبق سيان كان الزوج هو الذي انتقل أو كانت الزوجة.


ثانيا أول الفروض أو الأنصبة حسب قواعد الميراث المسيحية ـ بعد طرح الوصية إن وُجدت ـ يذهب دائما إلى الزوجة (على أساس أن الزوج هو الذي انتقل، كما في السؤال)، ولكن هنا نميز بين 3 حالات:

1- إذا لم يكن للزوج أبناء (سيان ذكور أو إناث) ولم يكن له أي أقارب: في هذه الحالة فإن التركة بالكامل تذهب منطقيا إلى الزوجة.


2- إذا لم يكن للزوج أبناء وكان له أقارب: في هذه الحالة تحصل الزوجة على النصف ويذهب الباقي للأقارب حسب قاعدة خاصة (تلي لاحقا).


3- إذا كان للزوج أبناء: في هذه الحالة يجب التمييز: إذا كانوا 3 أبناء فأقل تحصل الزوجة أولا على الربع والباقي يوزع على الأبناء. أما إذا كانوا أكثر من 3 أبناء فيتم توزيع التركة على الجميع ـ الزوجة والأبناء ـ بأنصبة متساوية لكل منهم.

الآن فيما يخص أقارب الزوج: القاعدة العامة هي أن هناك 7 طبقات تحجب كل منهم الطبقة التي تليها وهي بالترتيب كما يلي:


طبقة الأبناء

طبقة الآباء

طبقة الأخوة

طبقة الأجداد

طبقة الأعمام والأخوال

طبقة آباء الأجداد

طبقة أعمام الآباء وأخوالهم *



لذلك في المثال الذي معنا فإن وجود الأبناء (حالة 3) يمنع ميراث الآباء، لأن الأبناء "يحجبون" الآباء. ولكن ماذا إذا لم يكن هناك أبناء ويوجد أقارب (حالة 2)؟ أولا يخرج النصف للزوجة كما سبقت الإشارة (وفرض الزوجة هو أول ما يخرج دائما)، بعد ذلك تذهب بقية التركة لهؤلاء الأقارب ـ حسب طبقتهم ـ ولكل منهم سهم تحدده قواعد ونسب خاصة: أولا طبقة الآباء إن وجدوا (بنسبة الثلث والثلثين)، فإن لم يوجد آباء فطبقة الأخوة (أيضا بنسبة تختلف بين الأشقاء وغير الأشقاء)، فإن لم يوجد أخوة فطبقة الأجداد (أيضا بنسبة تختلف بين الأجداد لأب والأجداد لأم)، وهكذا حسب ترتيب الطبقات المذكور عاليه.


بالطبع يجري كل ذلك بعد تنفيذ الوصية إن وُجدت، حسب حدودها وشروطها، ثم أن هناك أيضا بطبيعة الحال تفريعات وبدائل لا حصر لها، مثل حالة الحفيد مثلا، الذي يعتبر من الأبناء وبالتالي يحجب عن الآباء، وهو ما يسمى "النيابة"، لأنه "ينوب" عن أبيه إذا كان ميتا، ومثل ابن الأخ حين ينوب عن الأخ إذا كان الأخ ميتا، وبالتالي يحجب عن الأجداد، وهكذا. يصل ابن العسال بالطبقات السبعة نفسها إلى 22 طبقة فرعية، تتداخل معا وتترتب فيها الأسهم والأنصبة حسب كل حالة منفردة، وبالضبط كما نرى عند حل أي مسألة من هذا النوع في أية شريعة كاملة، وإن كنا نرى ـ دون أدنى تحيز ـ أن الشريعة المسيحية في المواريث هي الأكثر عدلا وكمالا من كل ما سواها، لأنها على الأقل لا تميز أبدا بين الورثة حسب الجنس، فتعطي الذكر "مثل حظ الأنثيين"، لا لشيء إلا لأن هذا ذكر وتلك أنثى!


أما الطريف حقا فهو أن ابن العسال ـ بعد التفصيل والشرح ـ استعان في موسوعته أيضا بفن "الأرجوزة" كما كان بعض علماء اللغة وفقهاء العرب يفعلون في كتبهم المطوّلة، ذلك تسهيلا للحفظ على طلاب هذا العلم. على سبيل المثال يبدأ ابن العسال أرجوزته في الميراث بقوله:

الشـــكــرُ للــهِ الوحيـــدِ الذاتِ + ســـــبحانَهُ مثــلث الصــفاتِ
أزيــدُ في التمجــيدِ والتســبيحِ + لابــنِ الإلهِ الســيدِ المســـيحِ
يــا أيهــا الطــالبُ عـــلمَ الشــــرعِ + في الإرثِ، خذ مختصرا من فرعِ
اســمع هُديت أفضلَ الســبيلِ + جملتــه نظمــا بلا تفصـيلِ


وفي موضع أخر يقول عن نصيب الزوجة، أيضا على سبيل المثال:

والزوجُ إن مــاتَ بلا أولادِ + للزوجــةِ النصفُ بلا عنادِ
والزوجُ والزوجةُ في الحكمِ سوى + والنصفُ للأهلِ فدع عنك الهوى

ثم ينطــــلق: **

والأمُّ إن كانت معَ الأعمامِ + تحـــوزُ الثــلثَ بلا كــلامِ
أولادُ عمٍ ميتٍ من حكمهم + ثلثٌ لهم من زوجةٍ لعمهم
وجَـــدّه من والــدٍ وجــدّتــِه + ثلثٌ لهم من إرثهِ مع أخوتِه
. . . . . . . . . . . . . . . .


* * *

وبعد، فقط أردنا باختصار توضيح المسألة عمليا لإزالة هذه الفكرة الشائعة عن الميراث المسيحي رغم بطلانها التام كما رأينا. هناك حرفيا آلاف الصفحات التي تشرح كل هذه القواعد وتفصيلاتها المختلفة، وهكذا في كل أبواب الميراث والوصية والهبة والولاية والتبني، ناهيك بالطبع عن الخطبة والزواج والطلاق وغيرها من مسائل الأحوال الشخصية.


فأما إذا زعم أحدهم ختاما أن هذا هو فقط شرع الكنيسة القبطية، أو أن "المجموع الصفوي" كتاب محلي لا ينصرف على عموم المسيحية، فهو زعم باطل مردود: أولا لأن المجموع الصفوي ليس الكتاب التشريعي أو "الفقهي" الوحيد، وإنما هو واحد من كتب وموسوعات وأمهات عديدة، بعضها جاء قبله مثل "فقه النصرانية" لأبي الفرج ابن الطيب السرياني، وبعضها جاء بعده مثل "الفرائض الكاملة" لفرج الله الإخميمي، وغيرهما. ليس "المجموع الصفوي" إذن هو "منبـع" التشريع الكنسي وإنما هو فقط واحد من الموسوعات التي جمعت هذا التشريع وبوّبته ونظمته. نحن لذلك تحديدا لا نفترض العصمة لهذه الكتب، بل نضعها جميعا في ميزان النقد في الدراسات الحديثة وكما نأخذ منها أيضا نرد عليها. ثانيا ـ وهو الأهم ـ أن ما نقوله هنا ينصرف قطعا على المسيحية كلها، ذلك لأن مصادر هذا التشريع، كما كان حبرنا الجليل المتنيح القمص صليب سوريال يقول، هي نفس المصادر التي اتفقت عليها الكنائس التقليدية جميعا، لأنها الكتاب المقدس بالدرجة الأولى، ثم قوانين الرسل الأطهار، ثم أخيرا قرارات المجامع المسكونية وما يلحق بها من تعاليم كبار آباء الكنيسة الجامعة.


* * *
 

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,197
مستوى التفاعل
1,240
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل


إشـــارات:


للتوثيق: يراجع "المجموع الصفوي" لابن العسال، وإذا تعذر الاطلاع عليه أو ضاق الوقت دونه، يراجع على سبيل المثال: "القوانين الكنسية في الأحوال الشخصية" ـ القمص صليب سوريال ـ مكتبة التربية الكنسية بمطرانية الجيزة ـ أبريل 1990. أيضا يعد كتاب "الخلاصة" من أقيم الكتب في الميراث والأحوال الشخصية عموما، رغم صغر حجمه، وهو كتاب قديم جدا اسمه الكامل "الخلاصة القانونية في الأحوال الشخصية" ـ تأليف الإيغومانوس فيلوثاوس "رئيس الكنيسة الكبرى المرقسية" ـ مطبعة التوفيق 1896.

(*) في بعض المراجع تصل الطبقات الرئيسية إلى تسعة، بإضافة طبقة أجداد الأجداد ثم أعمام الأجداد وأخوالهم، ولكن لأنهما عمليا طبقتان لا تصل إليهما أي أنصبة فقد استغنت عنهما المراجع الحديثة من باب التبسيط.

(**) الأبيات التي سقناها أخيرا من الأرجوزة تتعلق بما يسمي "الفروض"، وهي لا تخضع للقياس العام أو لقاعدة الأقرب فالأقرب. الفرض سهم أو نصيب ثابت، يخرج بعد الوصية، ثم تتوزع بقية التركة بعد الوصية والفروض حسب القياس المذكور. ميراث الزوجة في الحقيقة من الفروض، لذلك يخرج أولا. من الفروض أيضا ـ كما في هذه الأبيات ـ فرض الأم مع الأعمام، حيث يكون لهم الثلث، وهكذا.


ابن العسال

أولاد العسال أسرة اشتهرت كنسيا ودنيويا في عهد الدولة الأيوبية في مصر، في زمن البابا يؤانس السادس والبابا أثناسيوس الثالث، فكانوا ذوي مراكز في الدولة وفي الوقت ذاته من أراخنة الكنيسة الذين شاركوا أحيانا في مجريات أمورها، وقد خلفوا لنا مؤلفات عديدة في التفسير والطقس واللاهوت وغيرها. أشهر هؤلاء جميعا ثلاثة أخوة هم الشيخ أبو الفرج الأسعد والشيخ الفاضل مؤتمن الدولة أبو إسحق وأخيرا الشيخ الصفي أبو الفضائل صاحب المجموع الصفوي. أما الكتاب نفسه ـ المجموع الصفوي ـ فلا يقتصر فقط على تشريعات المواريث والأحوال الشخصية والمعاملات وحتى الجنايات، أو بالجملة "السياسة المدنية" كما كان ابن العسال يسميها، بل يختص القسم الأول منه (22 بابا) بأمور الكنيسة والإكليروس والرهبنة والعماد والقداس وغيرها.

* * *​
 

خادم البتول

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
13 أبريل 2012
المشاركات
1,197
مستوى التفاعل
1,240
النقاط
113
الإقامة
عابـــر سبيــــل


أسعدني حضورك كثيرا، د. باول :16_4_10:
شكرا على القراءة، وشكرا على المرور العطر والإضافة القيمة

:Roses:

ولكن حيث أتيت بالكتاب فلابد من كلمة عن صاحبه، فبعيدا عن افتتاني شخصيا بالتاريخ، هذا لا شك رجل استثنائي لا يجب أبدا أن يسقط من ذاكرتنا:

هو حضرة صاحب النيافة الأب الجليل فيلوثاؤس إبراهيم، أحد عباقرة الكنيسة القبطية في كل العصور، وواحد من الآباء الخطباء الذين "طبقت شهرتهم الآفاق" كما يقولون، حيث كانت الجموع تتسابق لسماع كلماته الخلابة وعظاته البليغة سواء في القاهرة أو أورشليم أو دمشق أو بيروت أو حتى أثيوبيا. بلغ أثره وصيته بلاط الملوك والأباطرة، فحصل على نيشان من الخديوي توفيق، ثم حصل بعد توفيق على نيشان أرفع من الخديوي عباس، إضافة لنيشان النجمة من النجاشي فيليك، ومن قبله المدائح ورسائل التبجيل من النجاشي يوحنا الذي وصفه بأنه "كنز الحكمة". جاهد الجهاد الحسن، أكمل السعي وحفظ الإيمان، وأخيرا رقد في الرب بسلام عام 1904 عن عمر يتجاوز الخامسة والستين.


www-St-Takla-org--Eghomenos-Filotheos-Ibrahim-001.jpg


من مقدمة أحد كتبه (نفح العبير) نلمح مثال هذه الفصاحة والتمكن حين كتب يقول:

... إني أقدمُ لكمالك يا ذا الجلالِ والمجد * فائقَ التسبيحِ والتقديسِ ورائقَ الثناءِ والحمد * حمدًا وشكرًا وتعظيمًا على التوالي بلا تراخٍ أو فتور * مع أبيكَ الصالحِ وروحِكَ القدوسِ الآن وإلى دهرِ الدهور * وبمصباحِ هديكَ يا شعاعَ مجدِ الآبِ أهتدي * وبإفصاحِ إرشادكَ يا صورةَ الأزليةِ أسترشدُ وأقتدي. وبعد، فيقول الحقير في مصاف القسوس، الايغومانُس فيلثاؤوس.....


بركة صلواته فلتكن معنا آمين


 
أعلى