
واحد من الأسئلة التي يرددها عادة التائهون خاصة من خلفية إسلامية والذين هم على وشك الإلحاد كلية هو سؤال الديانات الأخرى البعيدة ـ كديانات الهند والصين ـ وكيف أن الكتاب المقدس، شأنه شأن القرآن، لا يتناولها أو على الأقل يذكرها. وبالطبع يشير عادة هذا السؤال، ولو ضمنا، إلى أن السبب في ذلك هو بعد هذه الديانات الأخرى على الأقل جغرافيا عن موقع الأحداث ومن ثم جهل الأنبياء ـ أو بالأحرى دعاة الوحي ـ بها.
وبداية فإن السؤال نفسه سؤال "إسلامي"، يتكون بالأساس داخل "عقل إسلامي" ثم يأتينا كالعادة باحثا عن الإجابة في "المفهوم المسيحي". بعبارة أخرى: إذا كان لدينا كتاب يذكر الإله فيه عقائد "اليهود والنصارى والصابئين والمجوس" ويشتبك معها مباشرة، عندها يجوز السؤال: وأين الطاويين والبوذيين والهندوس؟ ألا يعلم هذا الإله بوجودهم؟ أم لا يعنيه أن يفند عقائدهم أيضا كي تصل إليهم رسالته؟ هذه الأسئلة إذن مشروعة تماما بالنظر إلى منطق هذا الكتاب نفسه.
أما الكتاب المقدس فلا يجوز معه نفس السؤال، ببساطة لأن خطابه يختلف كلية، وأهدافه تختلف كلية، وفلسفته تختلف كلية:
حركة القرآن تنطلق من "مركز" الدائرة نحو "محيطها": الخطاب يبدأ من نقطة صغيرة (محمد/مكة) ثم ينتشر خارجا (يثرب ـ اليهود ـ الصابئين ـ النصارى ـ المجوس ـ الفرس ـ الروم ـ إلخ). حركة الكتاب المقدس عكس ذلك تماما: تبدأ من المحيط الخارجي (كل العهد القديم وكل أنبيائه وأحداثه وبالجملة كل التاريخ البشري) وتتجه في العهد الجديد نحو المركز (يوحنا المعمدان، ثم السيدة العذراء، ثم أخيرا في قلب المركز السيد المسيح). "منطق" هذا الكتاب إذن يختلف كلية، فموضوعه ومحوره هو السيد المسيح وبشارته، وهو ما يكتمل في العهد الجديد فيصبح اسم الكتاب نفسه "الإنجيل"، أي البشارة: بشارة الغفران، بشارة الخلاص، بشارة الملكوت، بشارة التقديس، بشارة البنوة، إلى آخر البشارات أو "الأخبار السارة" التي ارتبطت جوهريا بشخص السيد المسيح.
لذلك سرعان ما يأخذنا العهد القديم إلى شعب الله و"مملكة الله" وكيف ولدت، كيف كبرت، كيف كانت تصعد وتشرق وكيف كانت تغيب وتغرب.(1) هذه المملكة في رحلتها لا تنشغل كثيرا بأرباب العالم وآلهته، ولا تحارب مَن تحارب في طريقها إلا بأمر الرب، لأن الله ذاته في الكتاب المقدس هو الهدف ومملكته هي القصد.(2) حتى آلهة كـ"البعل" أو "عشتاروت" لا يشتبك الكتاب مباشرة معها إلا حين يزيغ بسببها شعب الله أو تلطخ بالرجس هيكله. هكذا منذ آدم، سريعا تضيق الدائرة حول نوح، ثم من كل أولاد نوح تضيق حول سام، ثم من كل نسل سام تضيق ليقف التاريخ قليلا على باب إبراهيم، خليل الله، أبي الآباء.
ثم تمضي الرحلة صعودا وهبوطا، من انتصار إلى انكسار، من عبودية إلى تحرر، من مجد في أورشليم إلى سبي في بابل، من ملوك في أبهة سليمان إلى رعاة في بساطة عاموس، هكذا تباعا حتى نبلغ أخيرا صراخ المكابيين في لحظة تغيم فيها الرؤي، فنعرف أنه زمن المخاض وأن الليالي حُبلى. لكننا سرعان ما نعبر بحر الضباب وبرية التيه وندخل أخيرا كنعان العهد الجديد: عندئذ تضيق الدائرة تماما، وعندئذ ينحني التاريخ كله خاشعا عند أعتاب عذراء من الناصرة اسمها مريم. ها نحن أخيرا وجها لوجه أمام البشارة الكامنة في رحم الأيام منذ البدء؛ منذ السفر الأول ذاته: "لا يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا القيادة من بين رجليه حتى يأتي شيلون صاحب الأمر وله يكون خضوع شعوب ـ رابطا بالكرمة جحشه وبالدالية ابن أتانه، غاسلا بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه"!(3)

هكذا بين الخفاء والتجلي، بين التلميح والتصريح، بين النبوءة والتحقق، يدور الكتاب المقدس كله حول البشارة العظمى ويفيض برموزها ونبوءاتها وهي محور كل حركته. هذه البشارة تنمو بدورها تدريجيا في العهد الجديد حتى تكتمل، وحين تبلغ الكمال فعندئذ، وفقط عندئذ، في النهاية تماما، تأخذ حركة عكسية وتنطلق أخيرا من المركز إلى المحيط؛ تتوجه لأول مرة نحو الخارج، ذلك على لسان السيد المسيح ذاته: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم"!(4)
فـ"جميع الأمم" هنا تجيب السؤال، وتكفينا، لأنها عبارة لا لبس فيها: جميع الأمم. لكن التشويش يتراكم منذ البدء بسبب السؤال ذاته، لأن "منطق" السؤال نفسه فاسد، يبدأ بـ"مقدمات" قرآنية ويبحث عن "نتائج" إنجيلية.
لو أن أخوتنا التائهين قرأوا الكتاب المقدس جيدا وتشكلت من داخله أفكارهم ما نشأ السؤال في عقولهم، لأن حركة الوحي وأهدافه هنا تأخذ مسارا يختلف كلية عن نظيره في القرآن. نعم، لم يتعرض السيد المسيح على سبيل المثال لعبادة شيڨا في الهند، التي هي في أقصى الأرض، ولكنه أيضا لم يتعرض لعبادة أوزوريس في مصر، التي هي على مرمى بصره. لم يشتبك مع عقيدة المايا في آخر العالم، ولكنه أيضا لم يشتبك مع عقيدة المجوس أو اليونان أو حتى السامريين الذي كان يلقاهم في طريقه. من ثم افتراض الجهل بديانة ما لأنها كانت بعيدة عن موقع الأحداث افتراض باطل، على عكس الحالة القرآنية التي تعدد صراحة العقائد القريبة والمجاورة.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد...
لو أننا انطلقنا من الكتاب المقدس حقا لأدركنا أن السيد المسيح حين يقول "جميع الأمم" فهو عن عمد يذكر هذه الأمم هكذا جملة وضمنا؛ ومنذ ولد وحتى صعد عن عمد لا يعددها ولا يسميها ولا يشتبك معها تفصيلا. لماذا؟ هنا يجيب القديس بولس الرسول: لأنه "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثي، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع".(5) التفصيل من ثم والتمييز يتعارض ابتداء مع فلسفة الكتاب كلها ومع أهدافه الأعمق، والتي تؤسس بالأحرى منذ البداية لمفهوم "الواحد"، وليس "الكثرة"، وهذا الواحد هو نفسه "الله" ولا سواه! هذا في الحقيقة من أهم وأعمق وأروع المفاهيم المسيحية كلها: لم تعد اليوم حركة الوحي أو "الحضور الإلهي" من المركز نحو محيط الدائرة، ولا من محيط الدائرة نحو المركز، بل بالأحرى صار كل واحد فينا هو المركز ذاته، لأن المسيح "الواحد" صار في "الكل".
لهذا تحديدا يسمي المسيحيون أنفسهم "أبناء الله"! ويشرح لنا القديس العظيم أثناسيوس الرسولي هذا السر في عبارة باهرة الدلالة إذ يقول: لسنا أبناء (الله) بالطبيعة، إنما الابن فينا... الابن الذي فينا يدعو أباه، ويجعله أبانا نحن أيضا... إننا أبناء وآلهة لأن الكلمة فينا... روح الكلمة فينا يدعو أباه أبانا من خلالنا.(6)
* * *
والخلاصة: حركة الوحي في الكتاب المقدس وموضوعه وفلسفته وأهدافه كلها يختلف كلية عن نظيرها في أي كتاب آخر. الكتاب المقدس ليس "دائرة" تتسع لتكريس سيادة عالمية، وإنما "مركز" يطوي كل العالم ليشرق بالأحرى ملكوت روحي؛ لا يوجد في القلب منه إلا الله وحده ولا يوجد إلا مجد الله وبهاؤه ونوره. على ذلك لا يستغني فقط الكتاب عن ذكر ما تؤمن به الأمم قريبا أو بعيدا، بل إن الذكر نفسه يتعارض ابتداء مع فلسفته وأهدافه.
فيا أيها التائهون: لو أنكم تريدون فهم المسيحية حقا فاغسلوا الإسلام أولا عن رؤوسكم ثم اقرأوا كتابها جيدا، خاصة العهد الجديد. اقرأوه لا بعين الرضا ولا بعين السخط ولكن فقط بعين الحياد وطلب الفهم، حتى تنطلق ختاما أفكاركم وأسئلتكم من داخل المسيحية، لا من خارجها، ومن فضاء حقائقها، لا من سجون أوهامكم عنها.
* * *