التأله

إنضم
21 مارس 2008
المشاركات
7,800
مستوى التفاعل
770
النقاط
113
الإقامة
عائدٌ من القبر
التأله
الأب يوسف الهودلي
محاضرة ألقاها في المركز الثقافي الأرثوذكسي
بيت جالا، آذار 2007


إن هدف خلق الإنسان هو التأله وكما يوضح القديس مكسيم المعترف إن الله خلق الإنسان وذلك لكي يشاركه الطبيعة الإلهية ومشابهاً لله من خلال نعمته التي يعطيه إياها. إن التأله لا يخضع للوصف ولا حتى الذين ذاقوا بحياتهم الأرضية استطاعوا أن يصنفوا التأله.
إن التأله كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس؛ تبقى غير مدركة.

شروط التأله:
إن شروط تأله الإنسان موجودة داخل الصورة والمثال أي داخل خليقة الله، وهذا لا يعني أن التأله يتم من خلال قوة الإنسان وقدراته أو إنها تنتج عن تطوير أخلاقي وروحي للإنسان إن الله غير مخلوق، بينما الإنسان مخلوق بين طبيعة الله وطبيعة الإنسان يوجد عدم تواصل أو ترابط أي اختلاف حتى لو تقدم الإنسان وحتى لو صار كاملاً أخلاقياً أو روحياً لا يستطيع أن يقترب من الله وأن يتأله وإذا كان هذا يحصل لعموم البشر وذلك لأن لهم طبيعة مخلوقة فلا يستطيع أيضاً أن يقترب ولا يتأله الإنسان الخاطئ والساقط الذي شوه طبيعته ولمخلوقه.

تحقيق التأله:
إن التأله لا ينتج من الإنسان ولكنه عطية من عطايا الله له، لقد أراد الإنسان منذ البدء أن يتأله ولكنه فشل وذلك لأنه أنكر الله، وكل ما لم يحصل عليه (الإنسان) بإنكاره لله، قدمه له الله بتجسده، إن تجسد الله يحقق تأله الإنسان، إذ أن الإله الكلمة قد أخذ الطبيعة البشرية والألهها، وقد تم هذا بالتعاون مع العذراء مريم وذلك بتقدمة نفسها لله، فإن جسد المسيح هو الخليقة الجديدة أو الجذر الجديد الذي يقدم لأغصانه الحياة الأبدية وعدم الفساد، ومن المسيح الذي له ملىء النعمة الإلهية نأخذ منه نعمة نحن كما يقول القديس يوحنا الإنجيلي:
"ومن ملئه نلنا نحن نعمة فوق نعمة" (يوحنا 1: 7).
وبما أن المسيح قد أخذ جسده من العذراء أمه فقد أصبحت هي رمز الكنيسة وأم المؤمنين، وهكذا فإن الناس يرتبطون بالله وبينهم كإخوة للمسيح وأبناء للعذراء.

الحالة جديدة:
إن عمل المسيح هو عمل واحد للإله المثلث الأقانيم فبالمسيح لا يعود الإنسان على الحالة التي كان عليها قبل سقوطه ولكنه يذهب إلى أعلى بكثير. هذه الحالة تظهر بصعود المسيح إلى السماء، إن صعود المسيح مثل باقي أحداث حياته، فهي لا تشكل مواضيع شخصية له، بل هي من أجل إظهار مجد الإنسان الجديد، إذ أن صعود المسيح حرر الإنسان والطبيعة البشرية من الاحتياجات العالمية ورفعها في غبطة ملكوت السموات، فهكذا أصبح هو أب الدهر الآتي، والمسيح بما أنه (صورة الله غير المنظورة) "كول 1: 15"، فإنه يفتح للذي على الصورة ومثال الله أي الإنسان المخلوق طريق التأله الذي هو طريق الحرية الحقيقة، وهذه العطية عطية المسيح، تقدم للإنسان بحسب طبيعة صورته أي بالروح القدس/ روح الحرية، وذلك لأن كل إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، فإنه يملك بداخله شوق التأله الذي يظهر في كثير من المرات بأشكال كثيرة ومتضاربة مثل: السحر ومحبة الأبراج والتنبؤ والعلم بالغيب عن طريق الفنجان.
إن الشوق هذا هو في النهاية شوق للمسيح الذي من البدء الإنسان عائد له.

التعاون:
إن الإنسان مدعو لكي يتعاون مع نعمة الله وذلك لكي يتاله، وبدون هذا الشرط يكون التأله مستحيل (الإنسان يملك إرادته فقط).
وهنا تفرض المسؤولية الكبيرة على المسيحي، إذا كان للإنسان الذي ليس له علاقة مع المسيح كانت سبب الخطيئة هو شهوته للتأله فإن خطيئة المسيحي كانت وستكون الإهمال والكسل وعدم تشغلي النعمة المقدمة من الله (نعمة الروح القدس) التي تؤله الإنسان، وإذا كانت خطيئة الإنسان الذي عاش قبل أو بعيداً عن المسيح له بعض الحجة ولكن خطيئة المسيحي عليها كل الثقل والرهبة والرعب وذلك من علو التقدمة المقدمة للإنسان وهي نعمة الروح لقدس للتأله.

الثلاث مراحل:
إن تأله الإنسان يأتي كثمرة مثاله بالمسيح وبدون مثال حياة المسيح فإنه من المستحيل الكمال وتأله الإنسان. في التقليد الآبائي يتميز بالعادة ثلاث مراحل روحية للكمال والتأله:
الأول: الطهارة.
الثاني: الاستنارة.
الثالث: التأله.
- في المرحة الأولى يتطهر الإنسان من أهوائه.
- في المرحلة الثانية يستنير ويعلم حقائق الوجود التي بدورها تقوده للإله الكلمة.
- في المرحلة الثالثة يتم الاتحاد وتشابه المسيح نحو الله وهو ما يدعى التأله.
هذا بحسب القديس مكسيموس المعترف.
إن تمييز هؤلاء المراحل الثلاث للكمال الروحي يجب أن لا تفهم بشكل ديناميكي ولكن دلائلي، في الواقع ولا واحدة من هذه الـ3 مراحل غير منفصل عن المرحلتين الأخرتين ولكنها ترتبط بهما وكل مرحلة بالتي تتبع تفرض السابقة.

يجب أن نذكر أيضاً مراحل التأله الثلاث للقديس صفرونيوس، وهي:
1. مرحلة الدعوة التي تكون مليئة بالغنى الروحي.
2. مرحلة رفع النعمة أو التخلي الإلهي، وهي مرادفة لتجارب إيمان إنسان الله.
3. مرحلة عودة النعمة والتي هي أغنى نعمة من المرحلة الأولى والثانية.
إن التمييز بين هذه الثلاث مراحل يوضح وحدة الثلاث ميادين للكمال الإلهي.

التأله والتواضع:
إن الكمال في القداسة لا يحدث من لحظة لأخرى ولكن عبر جهاد طويل ومر مستمر، وبالرغم من ذلك دائماً من المقدور بنعمة الروح القدس أن يوجد شخص في الحالة الروحية التي بها هذه المرحلة يصلون الآخرين بجهادات طويلة. إن ذلك الشخص الذي يصل بسرعة له أهمية خصوصية وكبرى للمؤمن هو أن يتوب الإنسان ويتواضع باستمرار وبدون التواضع الحقيقي فإن التأله لا يستطاع، بينما بالغرور يذهب الإنسان إلى الجحيم وبالتواضع يرتفع إلى الله ولكن جاعلاً ذهنه بشكل إرادي في الجحيم أي أن ينزل إلى أعماق الجحيم راجياً من الله ومنتظراً بتواضع نعمة الروح القدس والتأله.

الكمال في المحبة:
إن إظهار نعمة الله في الإنسان تكون نتيجة كماله في المحبة ومن الجدير بالذكر بأنه بحسب اتصال ثلاث فضائل الكمال عند المؤمنين بثلاث مراحل الكمال والتأله لدى المؤمنين التي رأيناها في التقليد الآبائي. فالفضيلتين الأولتين (الإيمان والرجاء) يعود إلى المرحلتين الأولتين (التطهر والاستنارة) بينما المرحلة الثالثة (التأله) تعود إلى فضيلة (المحبة). ولا شيء يجعل الإنسان قابلاً لنعمة الله وإناءً للتأله قدراً للمحلة.

شركة تأله:
إن الله في حياة الإنسان المتأله ليس هو واحد ولكنه الثلاثة أقانيم (الثالوث) وإيقونة الله المنقوشة داخل الإنسان لا تحصر في شخص الإنسان فقط بل تمتد إلى كل الإنسانية والبشرية (مثال الرهبان).
إن الكنيسة هي إيقونة الله المثلث الأقانيم فبها يتحقق توحد العالم والتشبه بالله، ليس التأله مسألة شخصية ولكنها كنسية وحدث كنسي داخل الكنيسة مدعو الإنسان المؤمن أن يكون بالنعمة ما عليه الله بالطبيعة وهذا الكمال يكون بالمحبة التي تجعل الإنسان شخص حقيقي مستعيداً وحدة طبيعته وشركته مع الله.
إن للتأله صفة أخروية يظهر في ملئه عندما ينتقل الإنسان من نعمة الإيمان إلى نعمة النوعية عندما يرى الإنسان الله وجهاً لوجه، علماً بأنه في حالة النعمة بحسب الإيمان ممكن أن يعطى للإنسان حالات/ خبرات روحية للنعمة النوعية، هذه الخبرات لها صفات سرية، هذه الخبرات يعيشها المتألهون المؤمنون وفي بعض مقالاتهم يكتبونها، مثل القديس سمعان اللاهوتي الحديث في تسبيح الفضائل الإلهية.

تجلي الإنسان:
نعمة الله تجلي الإنسان المؤمن (كله) كوحدة واحدة جسدية ونفسية، يتحد مع الله ويصبح صديقه مثل الحديد المحمى بالنار دون أن يتوقف أن يكون حديداً، هكذا الإنسان الذي يتنعم بالنور الإلهي يصبح هو نور إلهي دون أن يتوقف أن يكون إنساناً، ففي الطبيعة البشرية المخلوقة فإن الذي يعمل الله اللامخلوق ويوضح القديس غريغوريوس بالاماس عن القديس بولس الرسول: "إن الذي يحيا هو بولس لكن المسيح هو المتكلم".
لذلك فإن الإنسان المتأله لا يفخر من أجل إنجازاته ولا فضائله وكل عمل صالح وكل فضيلة هي بالنهاية ثمر نعمة الروح القدس الذي يعمل بداخله كما يقول بولس الرسول: "ليكون الفضل لله لا منا".
الإنسان المتأله يصبح نور العالم يقبل ويقدم نور الله، ليس هو مصدر النور ولكنه مستقبل هذا النور ومرسله، ومن المنبع الوحيد للنور يقبل الإنسان البهاء على حسب مقياسه، وحيث أنه مخلوق فيصبح لا مخلوقاً بالنعمة، هكذا فالإنسان يأتي إلى سبت دهري، الله لا محدود وقدرات تطور الإنسان ونموه في الله لا محدودة. نعمة الله لا تحد ولا توصف وغبطة الإنسان الذي يشاركها لا تحد ولا توصف، وكصديق لله ومشاركاً للنعمة المؤلهة يتحرر الإنسان من قيود المكان والزمن، يصبح لا زمن له وغير محصور وذلك لأنه يعيش مع الذي لا بدء له وغير المحصور.
يشارك حياة يسوع الأقنومية ويصبح هو اقنوم حقيقي وإلهاً بالنعمة.
 
أعلى