يتميز الكتاب المقدس بعهديه بكونه كلمة الله، وقاعدة الإيمان، والحياة العملية لسائر البشر.. وهو يتضمن سراً عميقاً هو سرّ محبة الله للبشر.
نجد في الفصول الأولى للكتاب (1-11) إجابة عن أسئلة جوهرية تسيطر على تفكير الإنسان منذ القدم... كيف نفهم العالم الذي نعيش فيه؟.. من هو الإنسان؟.. وما هي مكانته في هذا العالم؟ لماذا طبعت علاقاته مع إخوته البشر بطابع العداوة؟..وهل من علاج لهذه الحالة؟..
حاول الإنسان، منذ فجر البشرية كما هو معروف، الإجابة عن هذه الأسئلة، فاتجه بتفكيره نحو الأسطورة، حيث كانت مصدر المعرفة آنذاك.
يتحدث علم الاجتماع عن أهمية المحيط والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، فعقلية الشعب تتأثر بمحيطه الجغرافي والثقافي. الإنسان ليس صخراً سقط في صحراء، بل هو نبتة تتكيف بالبيئة وتلتصق بالتربة لتستمد منها الحياة، ومع ذلك نجد أنّ شعب العهد القديم يختلف عن بقية الشعوب التي عاصرها، بشعوره أنه شعب فريد لأن الله كلّمه ودعاه.. ولكنه اختلط بعقلية الشعوب المجاورة واطلع على حضارتها وثقافاتها.
إن أهم حضارتين عاصرتا كتابة هذه الفصول من العهد القديم هما الحضارة المصريّة وحضارة بلاد ما بين النهرين إضافة إلى العقليّة الكنعانيّة.
حضارة المصريّ، بتأثير طبيعة بلاده وجغرافيتها ومناخها، متفائلة.. والآلهة التي يصوّرها كلها حنان ورأفة، وهو يعلم أنها تسهر عليه، ويؤمن بحياة جديدة تنتظره بعد الموت. وهذا ما يبدو واضحا ً في نشيد مصري لآله الشمس آتون نظمه اخناتون.
أما حضارة بلاد مابين النهرين، التي تأثّر بها كاتب الفصول الأولى من كتاب "التكوين" فمتشائمة في أساسها. حيث يعيش ساكنها في وادٍ يخشى الطوفان، بالإضافة إلى الحروب والغزوات وغارات العصابات والهجرات من شبه الجزيرة. فنرى الآلهة عندهم متقلّبون في صراع وتصارع دائمين.. والإنسان دائم الخوف، وشديد الاحتراس من ردود أفعال الآلهة عليه.. حزين لأن ظلال الموت مجتمعة، وليس له مصير مفرح، وقد كثرت الخرافات والأساطير كمحاولة لكشف أسرارها، كـ:
1- ملحمة أطراحيس 1600 ق.م: قصيدة تظهر الآلهة متعبة، فتقرر أن تخلق الإنسان ليقوم بالعمل، فيصنعونه من الطين الممزوج بدم إله مذبوح.. لكن البشرية تتكاثر فتحدث ضجيجاً ما يتعب الآلهة، فيرسلوها إلى الأرضّ!.. وفي آخر الأمر يرسلون الطوفان. لكن الإله "آيا" أعلَمَ رجلاً بالأمر فبنى هذا الرجل سفينة، وأركب فيها عائلته وزوجين من جميع الحيوانات.
2 – قصيدة أنوماليش 1100ق.م: تقول أن في أصل كل شيء مصدران ذوات جنس، عبسو (المياه الحلوة) وتيامات(المياه المالحة)، ومنها خرجت جميع الآلهة. أرادت تيامات قتلهم لأنهم يزعجونها، لكن مردوك انتصر عليها ثم خلق الإنسان مع دم إله متمرّد.
3- ملحمة جلجامش: أشهر تحف بلاد ما بين النهرين.. جلجامش من أبطال سومر أزعج الآلهة بتمرده بسبب كبريائه، فأقاموا له منافس اسمه انكيدو وهو وحش يعيش مع البهائم. فقامت امرأة وجعلت منه إنساناً فأصبح صديقاً لجلجامش.. ولكن بعد موت انكيدو اكتشف جلجامش فظاعة الموت، وشرع يبحث عن الخلود، فأطلعه بطل الطوفان على سرّ شجرة الحياة، ووفق جلجامش في الاستيلاء عليها. ولكنّ حيّة خطفتها منه فلم يبقَ له إلا أن يموت.
أما العقلية الكنعانية 1500 ق.م : فتشير إلى كبير الآلهة، واسمه إيل وتعبد هذه الديانة قوات الطبيعة: البعل إله العاصفة والأمطار، وأخته عشتار وهي آلهة الحب والخصب والحرب.
نجد في هذا العرض المختصر أسئلة تحاول الأساطير الإجابة عليها: من أين أتى العالم؟.. لماذا يوجد الإنسان؟.. ما هي صلة الإنسان بالإله؟. وكما ذكرنا للإجابة عن هذه الأسئلة يهرب الإنسان إلى عالم الخيال والأحلام.
يطلعنا الكتاب المقدس في صفحاته الأولى، بحسب ثقافة عصره، عن قصة نشوء العالم وكيفية خلق الله للعالم، ويروي لنا قصة خلق الإنسان.
إن رواية الخلق كتبت على مرحلتين، هما بالحقيقة مؤلَفان منفصلان، أقدمهما يعرف باسم التقليد "اليهوي" }لأنه يسمي الله يهوه{ وقد وضع في القدس في عهد سليمان على الأرجح، أي بعد أن عاش الشعب اختبار التحرّر من العبودية في مصر، واختبر من خلال إيمانه أن الله مخلص ومحب. أما الرواية الثانية، أو التقليد الثاني، فيعرف بالتقليد "الكهنوتي"، ومؤلفه كاهن من أورشليم كتبه أثناء الجلاء إلى بابل ما بين {580-538} ق.م، ليعلن للشعب أن الله خالق ومحب ومخلّص، وسوف يخلّص شعبه من السبي لأن الله أراد لشعبه أن يكون حراً.
قام أحد جامعي سفر التكوين بخلط النصين بكثير من المهارة حتى بدا نصاً واحداً وبصورته الحالية الغنية بالرموز، والقريبة بالشكل والأسلوب إلى حدّ ما بالأدب الأسطوري. ذلك لأن الكاتبين تأثّرا بثقافة أساطير الشعوب الأخرى المجاورة لهم كما ذكرنا سابقاً، وهذا التأثير شمل الناحية الشكلية والصيغة الأدبية فقط دون أن يؤثر على المضمون الفكري واللاهوتي المختلف. فنرى الله، في سفر التكوين، الإله الخالق المحب للإنسان والحنون، وقد هيأ كل ما هو حسن وصالح له. ولأن الكتاب المقدس قد كتب بوحي من الله فقد أصبح نوراً باقٍ إلى الآن يُجيب عن تساؤلاتنا عن معنى الخلق وعن طبيعة الحياة المطبوعة بطابع الخير والشر، والفرح والألم، والحياة والموت. مع الإشارة دائماً إلى وجود الله في حياتنا كإله محبّ و مخلص وأمين.