- إنضم
- 16 نوفمبر 2006
- المشاركات
- 892
- مستوى التفاعل
- 6
- النقاط
- 0
سلام و نعمة ..
هذا الموضوع هو تجميع ل20 مقالة من مقالات د. نبيل فاروق ..
تتحدث جميعها عن علم الباراسيكولوجي .. أو علم الظواهر الغريبة
المواضيع المطروحة شيقة جداً .. و طريقة تناولها جميلة ..
هذا الموضوع هو تجميع ل20 مقالة من مقالات د. نبيل فاروق ..
تتحدث جميعها عن علم الباراسيكولوجي .. أو علم الظواهر الغريبة
المواضيع المطروحة شيقة جداً .. و طريقة تناولها جميلة ..
سلسلة فوق العقل ( للدكتور نبيل فاروق )
(( رسالة صديق ))
["]
من المؤكد أن (ثيواردويلار) المذيع المعروف بإذاعة مدينة (شارلوت) الأمريكية لن ينسى أبداً أحداث تلك الليلة ..
ليلة العاشر من يونيو عام 1962 م ..
ليس هذا لأن (هيوارد) قد أجرى حديثاً إذاعياً ممتازاً فى هذا التاريخ ..
ولا لأنه حصل على ترقية ، أو علاوة ، أو حتى ابتسامة من رئيسه فى العمل..
بل لأنه تلقى فيه رسالة ..
هل أدهشكم الأمر ؟!..
دعونا إذن نشرح الأمر منذ البداية ..
فى ذلك اليوم انتهى (هيوارد) من عمله بدار الإذاعة ، وعاد إلى منزله فى منتصف الليل تقريباً ، فتناول طعام العشاء ، واستعد للذهاب إلى فراشه ، بنفس الروتين اليومى ، الذى اعتاده منذ سنوات ..
وفجأة تجمد (هيوارد) فى مكانه ، وبدا لزوجته لحظة أشبه بتمثال من الشمع، لرجل مذعور ، اتسعت عيناه وانفغر فاه ..
وفجأة أيضاً ، التفت (هيوارد) إلى زوجته (بات) ، وقال فى توتر ..
- أسمعت الصوت ؟
سألته زوجته فى قلق :
- أى صوت ..
قال فى حيرة :
- صوت ارتطام السيارة .. هناك حادثة سير .
رددت فى قلق أكثر :
- حادثة سير ؟! .. إننى لم أسمع شيئاً .
خيل إليها أنه حتى لم يسمعها وهو يندفع نحو حجرته قائلاً :
- سأستطلع الأمر ، وأعود إليك على الفور .
هوى قلبها بين قدميها ، عندما رأته يرتدى ثيابه فى عجل ، ويسرع إلى حيث سيارته .
وتساءلت فى هلع : "هل أُصيب (هيوارد) بالجنون ؟" ..
هل فقد عقله ، مع شدة انهماكه فى عمله ؟ ..
فكرت فى الاتصال بطبيبهما الخاص ، خشية أن تكون حالة (هيوارد) شديدة الخطورة ، ولكن (هيوارد) لم يمهلها الوقت لهذا ، فقد انطلق بسيارته ، قبل حتى أن تتخذ قرارها ..
وبالنسبة إليه ، كان الأمر أكثر حيرة ..
لقد سمع صوت اصطدام السيارة فى وضوح ، ولكنه لم يجد سيارة واحدة تتحرك ، عندما غادر البيت ..
وهو واثق مما سمع ..
وعندما أدار محرك سيارته ، لم يكن يدرى بعد ، إلى أين يتجه ..
ولأن منزله يقع عند نقطة تتفرع منها عدة طرق ، فقد كان عليه أن يتخذ قراره باختيار الطريق الصحيح الذى يتخذه ليصل إلى منطقة التصادم ! ..
وبلا تردد ، وبثقة لم يدر من أين حصل عليها ، انطلق مباشرة إلى شارع (بارك) ، وعندما بلغ تقاطع (وودلون) انحرف يميناً ليهبط التل فى ثقة ، وكأنه يعلم مسبقاً إلى أين يتجه ..
وعندما بلغ موقع تجمع مراكب صيد الجمبرى ، وجد نفسه يتخذ طريق (مونتفورد درايف) ، بنفس الثقة العجيبة ..
وقطع (هيوارد) ستين متراً فحسب ، فى طريق (مونتفورد) ، ثم وجد نفسه يتوقف فجأة ..
هنا .. فى هذه النقطة بالذات ، وحيث لا يوجد أى شئ محدود ، كان يشعر بضرورة الخروج عن الطريق الرئيسى ..
ومجنون هو من يفعل هذا ، فى الواحدة صباحاً ..
(هيوارد) العاقل يعلم هذا ، ولكن (هيوارد) الذى يقود السيارة لم يمكنه مقاومة هذه الرغبة ، فانحرف يميناً وخرج عن الطريق ، واتجه مباشرة نحو شجرة ضخمة ترتفع وسط طريق رملى يمتد إلى ما لا نهاية ..
وهناك رأى السيارة ..
رآها فجأة على ضوء مصباح سيارته ، فضغط كامح السيارة فى قوة ، وتوقف إلى جوار السيارة التى ارتطمت مقدمتها بعامود معدنى ، على مقربة من جذع الشجرة ، وانتزعت الضربة محركها ، ودفعته إلى حيث مقعدها الأمامى ، من شدة الاصطدام وعنف الصدمة ..
وغادر (هيوارد) سيارته ، وأسرع نحو السيارة المصابة ..
ولم ير (هيوارد) أحد داخل السيارة ، ولكنه سمع من داخلها صوتاً ضعيفاً وهاناً، يقول :
- النجدة يا (هامبى) .. انقذنى .
وقفز قلب (هيوارد) بين ضلوعه فى هلع ، وانقض على السيارة ، وراح يفحص حطامها وهو يهتف :
- أنا هنا يا (جو) .. سأنقذك يا صديقى .
وأخيراً عثر (هيوارد) على صديق عمره (جون فندربيرك) محشوراً وسط الحطام ، ومصاباً بجروح شديدة والدماء تنزف منه فى غزارة ..
وحمل (هيوارد) صديق عمره إلى سيارته ، وانطلق به إلى أقرب مستشفى ، حيث أجريت جراحة عاجلة لـ (جون)، تمكن خلالها الأطباء من إنقاذ حياته بمعجزة ، وقال الجراح الدكتور (فيليب ماك آرنى) ، الذى أجرى العملية لـ (جون): إنه لو تأخر (هيوارد) عن إنقاذ صديقه ربع ساعة أخرى ، للقى (جون) مصرعه وسط الحطام ، دون أن يشعر به مخلوق واحد ..
وهذا صحيح ..
فالتقرير الذى نشرته جريدة (شارلوت نيوز) يقول أنه ، وعلى الرغم من أن طريق (مونتفورد درايف) هذا طريق شديد الحيوية ، إلا أن أحداً لم يمر به منذ وقع الحادث ، وحتى مرور 45 دقيقة من إنقاذ (هيوارد) لصديقه ..
والعجيب أن (هيوارد) قد سمع صوت الحادث على بعد عشرة كيلو مترات ، فى نفس اللحظة التى اصطدمت فيها سيارة (جون) بالعامود ، وقد أثبتت الأبحاث أنه لم يقع أى حادث مماثل ، فى دائرة قطرها خمسين كيلو متراً من منزل (هيوارد) ..
وبسؤال (جون) ، قال : إن أول ما فكر فيه ، عندما ارتطمت سيارته ، هو صديق عمره (هامبى) .. وهو الأسم الذى يخاطب به (هيوارد) منذ طفولتهما ..
ولكن كيف حدث هذا ؟ ..
كيف استقبل (هيوارد) رسالة صديقه ؟ ..
دعنا نسأل العلماء ..
وهؤلاء العلماء يقولون : إن (هيوارد) قد تلقى رسالة عقلية من صديقه (جون) بوسيلة خارقة من وسائل التخاطب العقلى ، تعرف باسم التخاطر ، أو (التليباثى) ..
ويقول العلماء أيضاً : إن الظروف التى تم فيها إرسال واستقبال هذه الرسالة ظروف مثالية ، إذ أن المادة المسئولة عن تقوية إرسال التخاطر العقلى ، هى مادة (الأدرينالين) ، التى يتم إفرازها عن التوتر والقلق والخوف ، والإصابة ، أما المادة المسئولة عن استقبال الرسائل ، فهى مادة (الكولين استراز) ، وهى مادة تفرز عند الاسترخاء والهدوء النفسى ..
وعندما حدث التصادم ، كان (جون) فى حالة (أدرينالجيا) ، أى فى حالة إفراز شديد للأدرينالين ، فى حين كان (هيوارد) يهم بالنوم ، أى كان فى حالة (كولينرجيا)، أى استرخاء كولينى ، وهذه الظروف المثالية تماماً لنقل واستقبال رسالة عقلية تخاطرية ..
ولكن كل هذه الأمور مجرد دراسات غير مؤكدة ، ونظريات غير موثوق بها..
المهم أن (هيوارد) قد تلقى رسالة (جون) ..
أما بالنسبة لكيف ، فلندع هذا للدارسين ، ولعلماء الظواهر الخارقة ..
ولما وراء العقل ..
فوق العقل (1)
ترى ما حدود قدرات العقل البشري؟!...
قديماً، كانوا مبهورين بما كشفوه من حدوده، التي لم تتجاوز أيامها، سوى قدرته على التحكم في الحواس الخمس الأساسية...
ثم تطوّر العلم، وأدركوا أنه قادر أيضاً على مزج تلك الحواس بعضها ببعض.....
وحتى منتصف العشرينيات، عندما كان العلماء يتصورون أنهم قد بلغوا ذروة العلم، كانت معارفهم عن العقل البشري محدودة للغاية، على الرغم من أنهم كانوا يجرون أبحاثهم عن الفص الأمامي، والجسم الصنوبري في المخيخ...
والواقع أنه، حتى زمن قريب للغاية، كان الفص الأمامي للمخ يمثل لغزاً علمياً محيراً، لأطباء وجراحي المخ والأعصاب، خاصة وأنه هناك حالة مسجلة، لرجل أصابه خنجر في جبهته، وانغرس لعشر سنتيمترات كاملة، دون أن يؤدي هذا إلى أي خلل، في وظائف جسده....
أو عقله....
مع تلك الحادثة، راح العلماء يدرسون الفص الأمامي للمخ، في اهتمام بالغ...
فحصوه...
ووزنوه....
وقطّعوه...
وحللوه...
ولكن هذا لم يوصلهم لشيء...
أي شيء...
وحار العلماء أكثر...
وأكثر..
وأكثر...
وتضاعفت أبحاثهم...
وتكثفت...
وتضاعفت...
وعندما أعيتهم الحيلة، بدءوا في وضع النظريات...
والمدهش أن تلك النظريات كانت أقرب إلى الفلسفة، منها إلى العلم...
فالقاعدة التي يؤمن بها كل العلماء، هي أنه ما من جزء عبثي، في جسد الإنسان كله....
جميعهم يؤمنون بهذا....
المؤمنون منهم وأيضا الملحدون...
إذن، فمادام الفص الأمامي موجوداً، فله حتماً وظيفة ما...
وظيفة مستترة، ولكنها مهمة... للغاية..
فماذا يمكن أن تكون تلك الوظيفة....
افترض فريق منهم أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن الأحلام، ولكن الدراسات التي أجريت، على كل من أصيب فصهم الأمامي، أثبتت أنهم يحلمون بصورة طبيعية للغاية...
وهنا خرج فريق آخر من العلماء بنظرية ثانية...
نظرية تفترض أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن السمات الشخصية للإنسان، خاصة وأنهم قد لاحظوا بعض التغيرات، في شخصية من أصيبوا في فصوصهم الأمامية....
وارتاح العلماء لهذا التفسير...
وقاموا بتهنئة أنفسهم...
و....
ولكن فرحتهم هذه لم تكتمل؛ إذ جاء علماء النفس، ليقلبوا تلك النظرية رأساً على عقب....
وبمنتهى العنف.
علماء نفس البشرية قاموا بقراءة ما كتبه وتوصّل إليه علماء المخ....
ورفضوه....
وبمنتهى الشدة....
فمن منظورهم، ووفقاً لدراساتهم ومشاهداتهم، لا يمكن أن تكون السمات الشخصية للمرء كامنة، في الفص الأمامي للمخ....
ولا حتى في أي فص منه...
فالسمات البشرية، من منظورهم، ليست عاملاً وراثياً، يمكن أن يكمن في فصوص المخ أو الجينات، بل هي أمر متغير، مع تغير البيئة، وقدرات المرء على التفاعل معها، وهو ما تؤكده أبحاثهم، التي أثبتت أنه حتى التوائم المتماثلة، يمكن أن تكتسب سمات مختلفة، أو حتى متعارضة، وفقاً للبيئة التي تنمو فيها، واختلافاتها...
وأسقط في يد علماء المخ والأعصاب....
فما فائدة الفص الأمامي إذن؟!...
ومع الحيرة، تولد دوماً نظرية علمية جديدة...
والنظرية هذه المرة، كانت تعتمد على فكرة الاحتياطي المختزن....
والفكرة ببساطة، أن المخ قد يتعرّض إلى تلف جزئي، من جراء صدمة أو إصابة....
وقد يخسر بعض خلاياه الحيوية
ولأن الخلايا العصبية غير قابلة للنمو أو الالتئام (وفقاً للعلوم الحالية)، فالخلايا في الفص الأمامي (الصامت)، لديها القدرة على أن تحل محل الخلايا التالفة، أياً كانت...
وكم ارتاح العلماء لهذه النظرية وهذا التفسير؛ إذ أنه يفسر غموض الفص الأمامي، ويمنحهم تفسيراً مرضياً، في الوقت ذاته، حول حالات التحسن والشفاء من إصابات المخ، على الرغم من قاعدة عدم النمو العصبي...
وهدأت الأمور...
نسبياً....
ومرحلياً....
فبسرعة، بدأ بعضهم يتساءل: وماذا لو نزعنا الفص الأمامي للمخ، ثم تسببنا في تلف جزئي لخلايا المخ؟!
وقد كان....
ففي أمخاخ حيوانات التجارب، تم بتر الفص الأمامي بأكمله، وإصابة بعض خلايا المخ بتلف جزئي...
ثم انتظر العلماء...
ورصدوا..
وتابعوا..
وسجلوا...
واندهشوا أيضاً...
فالمخ أمكنه أن يستعيض عن الأجزاء التالفة، مع التدريب والتحفيز المستمرين...
ودون الفص الأمامي...
وهكذا أثبت العلماء خطأ نظرية الاحتياطي المختزن...
وفتحوا باباً جديداً للتساؤل والحيرة...
وعاد الفص الأمامي لغزاً محيراً...
وعاد البحث عن نظرية جديدة...
ومن هنا نشأت نظرية الأحلام...
أحد العلماء أشار إلى أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن الأحلام، وأن تلفه يعني غياب الأحلام، من فترات النوم...
ولما كانت الأحلام ضرورية للغاية، في شخصية الإنسان، وحالته النفسية، فقد اهتم العلماء بشدة بتلك النظرية، وبدءوا في دراستها، وإجراء تجاربهم عليها بالفعل...
وهنا انتبهوا إلى حقيقة مدهشة....
حقيقة أنهم يجهلون من الأساس ماهية النوم...
وماهية الأحلام...
لذا كان من الضروري أن تبدأ أبحاثهم من بعيد..
بعيد جداً
فوق العقل (3)..
لماذا ننام؟!....
السؤال يبدو سهلاً للغاية في البداية....
والجواب أسهل...
فنحن ننام لأن الجسد يجهد، ويتعب، ويستنفد طاقته، ويحتاج إلى النوم، حتى يسترد عافيته وقوته....
هذا هو الجواب، الذي سنحصل عليه من أي شخص...
وسنقتنع به...
تماماً...
ولكن الواقع أنه ليس الجواب الصحيح، من الناحية العلمية.....
فكل الأبحاث، التي أجراها العلماء، تؤكد أن النوم لا يجعلنا نستعيد الطاقة، التي نفقدها طوال النهار، وأنه لا يعيد إلينا سعراً واحداً منها...
ربما يدهشك هذا، أو تستنكره، أو تغضب منه....
أو ربما حتى تتهم كاتبه بالتخريف، والتلفيق، ومحاولة الإثارة دون منطق.....
ولكنه العلم....
فالعلم لا شأن له بما نتصوّره، أو نتوقعه، أو حتى تربينا عليه...
العلم يؤمن فقط بالأرقام، والحسابات، والدراسات، والتجارب...
ولقد أجري آلاف منها على مسألة النوم تلك...
في البداية، كان الفكر النمطي يقول إن النوم حالة يستعيد بها العقل والجسد ما فقده من طاقة، لذا حسب العلماء طاقة الجسم، قبل وبعد النوم، فلم يجدوا اختلافاً بينهما....
وحاروا...
وارتبكوا...
وأجروا المزيد والمزيد من التجارب والدراسات.....
ومن أهم تلك التجارب، أنهم أخضعوا مجموعة من المتطوعين، إلى حالة من اليقظة المستمرة، في نفس الوقت، الذي تمتعت فيه مجموعة أخرى بنوم منتظم عميق....
وبدأت دراسة مقارنه للفريقين....
في البداية، بدا أفراد الفريق، المحروم من النوم، أكثر خمولاً، وعصبية، وأبطأ في الاستجابة وردود الأفعال، وكأنما فقدوا حيويتهم مع قلة النوم....
ثم حدث تطور مدهش....
أفراد الفريق المستيقظ استعادوا حيويتهم في اليوم الثالث، بل وأصبحوا أكثر حيوية ونشاطاً، من الفريق الذي ينام على نحو منتظم...
الأغرب أن ملكاتهم الإبداعية، ومهاراتهم اليدوية، أصبحت أكثر وأدق، وهم يحاولون الاستفادة بالوقت الطويل، الذي حصلوا عليه، مع حذف ساعات النوم...
وفي نهاية الأسبوع كان العلماء في حيرة أكبر، وهم يطرحون السؤال نفسه: لماذا ننام؟!..
فالفريقان تساويا في الأداء، مع ميل الكفة تجاه المستيقظين، وليس كما توقع الكل...
هناك سبب آخر إذن للنوم، بخلاف استعادة الطاقة....
وعبر بعض التجارب، انتبه أحد العلماء إلى أن الجسد البشري يفرز مادة طبيعية، شبيهة بالمورفين، أطلق عليها اسم الإندورفين، أي المورفين الداخلي....
ولأن الجسم يفرزها بصورة طبيعية، فقد افترض بعضهم أن تلك الإندورفينات تتراكم في الجسد، وفي المخ بالتحديد، مما يصيبه بشيء من التخدير، يدفعه إلى النوم....
ونظرياً، بدت الفكرة منطقية ومعقولة للغاية......
والإندورفينات أصبحت حقيقة مثبتة....
وكان هذا يعني حل لغز النوم أخيراً.....
ولكن في العلم، النظريات وحدها لا تكفي، لا بد من التجارب، والدراسات، والاختبارات، و....
والانقلابات....
وكان هذا بمثابة صدمة جديدة للعلماء، وإضافة محيرة للغز الكبير...
لغز النوم، و...
وللحديث بقية...
طويلة.
مرة أخرى، صدم العلماء، بأن ما تصوّروه سبباً للنوم، هو في الواقع ليس كذلك على الإطلاق.....
وهكذا عاد اللغز إلى بدايته....
وعاد السؤال يطرح نفسه، مع كم أكبر وأضخم من الحيرة....
ومن التوتر أيضاً....
فالسؤال، الذي بدا بسيطاً مباشراً في البداية، وبدت إجابته سهلة يسيرة للعامة، أصبح من وجهة نظر العلم لغزاً، من أكبر ألغاز العقل البشري....
لغز النوم....
ومع الأبحاث المتتالية، صار النوم لغزاً أكبر...
وأكبر...
وأكبر...
فالتجارب، التي أجريت على البشر، أثبتت كلها أن الإنسان يستطيع الاستغناء عن النوم تماماً، لو تم تدريبه على هذا.....
بل إن بعض الأمراض، ترتبط بعدم القدرة على النوم، لسنوات وسنوات.....
النوم إذن ليس ضرورة حيوية، كما كان متصوّراً من قبل، وهذه حقيقة علمية مدهشة، على الرغم من كل ما ألفناه وعهدناه وتصورناه، في عمرنا وتاريخنا كله....
ولكنه ضرورة نفسية، لا شك فيها؛ فالذين حرموا من النوم لفترات طويلة، اكتسبوا نشاطاً ليلياً مدهشاً، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والعصبية....
اكتسبوا نشاطاً ليلياً مدهشاً، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والعصبية....
وهذا يعيدنا إلى الموضوع الرئيسي، الذي دفع بنا إلى نهر العلم الفرعي هذا...
الفص الأمامي للمخ...
فمع حيرة العلماء، وضع أحدهم نظرية، تقول إن الفص الأمامي، هو المسئول عن الأحلام، التي تراودنا، في مرحلة النوم العميق....
وبعد دراسات، حدّد العلماء مرحلة الأحلام هذه، بارتجافة الجفون أثناء النوم، وراحوا يرصدون هذا، ويسجلونه، ويربطون بينه وبين مراحل النوم الأخرى....
وبعد أبحاث مجهدة، تمكن العلماء من قراءة لغة الجفون، وهي ليست لغة عاطفية كلغة العيون، ولكنها لغة خاصة بالأحلام، تحدد ما إذا كان الشخص يحلم حلماً جميلاً، أم مضطرباً، أم يعاني من كابوس عنيف....
كان من الضروري أن تكون هذه هي البداية، لدراسة علاقة الفص الأمامي للمخ بعالم الأحلام...
العلماء فحصوا اًحد الفصوص الأمامية الطبيعية، وأصحاب الفصوص المصابة، وحتى المصابين بأورام في الفصوص الأمامية لأمخاخهم....
فحصوهم جميعاً، أثناء نومهم العميق...
ومرة أخرى، خيبت النتائج آمالهم وتوقعاتهم....
الكل نام...
واستغرق في النوم...
وحلم....
وفي متوسطهم، كانت أحلامهم عادية، ومنطقية، ومتقاربة....
كلهم مر بأحلام وردية، ومضطربة، وعانى من بعض الكوابيس والهواجس، بلا فارق بين ما عليه فصوصهم الأمامية....
ودون الخوض في عالم الأحلام ودلالاته، وهو ما سنتحدث عنه في موضوع لاحق، فقد أثبتت تلك التجارب أن علاقة الفص الأمامي للمخ بعالم الأحلام تساوي صفراً كبيراً...
صفراً اتسع، ليلتهم كل أبحاث العلماء، بلا رحمة أو هوادة...
وبقي الفص الأمامي لغزاً....
وطوال تلك الفترة، التي انشغل فيها علماء الغرب بالبحث عن ألغاز الفص المخي، كان السوفيت يتعاملون معه، من منظور آخر تماماً...
منظور التقطوه من التراث الصيني والياباني، ومن الرهبان التبتيين، الذين أثاروا انتباه العالم كله، في مرحلة تالية...
فالرهبان كانوا يعيشون حياة شديدة التقشف، في ظروف مناخية غاية في السوء، وبموارد تكاد تكون منعدمة، إلا أنهم كانوا يتعايشون مع هذا كله بثبات وصبر شديدين، ويمارسون نوعاً مدهشاً من الرياضات الروحية، جعلهم يكتسبون قدرات، لم يكن العلم يتصوّر أنه من الممكن أن يكتسبها بشر....
ففي جسمنا البشري نوعان من الأعصاب والعضلات...
نوع إرادي؛ أي أننا نتحكم فيه بإرادتنا، مثل حركة أجسادنا، وأطرافنا، وحواسنا.....
ونوع لا إرادي، أي أنه من المفترض أن حركته لا تخضع لإرادتنا، مثل معدل النبض، والتنفس، واحتراق السعرات الحرارية، أو ما يعرف بالأيض، وحركة الدم في العروق....
ولكن رهبان التبت، برياضتهم الروحية، وأجسادهم النحيلة، أثبتوا أمراً مدهشاً....
ومذهلا...
لقد أخضعوا اللاإراديات إلى إرادتهم....
جعلوا اللاإرادي، إرادياً....
بإرادتهم....
وكان هذا، بالنسبة للعلم طفرة....
طفرة قلبت الموازين كلها رأساً على عقب...
وبمنتهى العنف
رهبان التبت كسروا كل معلومات العلماء، عن قدرات المخ البشري، وأثبتوا أن طاقاته تفوق كل ما أمكنهم تخيله، خلال سنوات وسنوات وسنوات من العلم والدراسة والاختبارات...
ولأنهم درسوا كل مليمتر من المخ، فقد تصوّروا أن تلك الطاقات الجديدة، لابد وأن تنبع من المنطقة الوحيدة، التي لم يمكنهم سبر أغوارها بعد....
الفص الأمامي...
ولكن المشكلة أنه لا توجد أية إصابات، في الفص الأمامي، لدى رهبان التبت؛ لدراسة تأثيرها على قدراتهم، ومن المستحيل، في الوقت ذاته، إحداث إصابة متعمدة في أحدهم أيضاً...
ليس هناك إذن سوى البحث عن وسيلة أخرى لدراسة هذا....
وهنا اتجه العلماء إلى دراسة الأمر، عبر وسيلة مختلفة تماماً....
رسّام المخ الكهربي...
جهاز يلتقط الموجات الكهرومغناطيسية للمخ، ويقوم بتسجيلها، على هيئة خطوط ومنحنيات، تحدد نشاط المخ، في كل لحظة...
في البداية، بدأت عملية تسجيل لإشارات المخ، لأكثر من مائة شخص، من مختلف الأعمار والظروف، وبعدها، تم تسجيل الإشارات المخية للرهبان، أثناء نشاطاتهم اليومية المعتادة...
ثم دخل الرهبان حالة التركيز، وراحوا فيما يشبه الغيبوبة....
وانطلقت طاقاتهم العقلية...
وانطلقت...
وانطلقت....
وعلى رسّام المخ الكهربي، قفزت الإشارات، إلى حد مدهش....
حد لم تبلغه، حتى في أشد لحظات الانفعال....
وبمنتهى الذهول، راجع العلماء إشارات المخ مرة، وثانية، وثالثة....
ولم يكن هناك مبرر من الاعتراف، بأنهم أمام ظاهرة مدهشة...
فأولئك الرهبان النحفاء، الذين يبدون وكأن أجسادهم قد استنزفت من الجوع، نقلوا كل طاقاتهم إلى عقولهم، لينطلقوا بها خارج الحدود....
كل الحدود...
ولأن العلماء يحتاجون إلى قواعد وأسس؛ يبنون عليها علومهم ونظرياتهم، فقد بدءوا في دراسة حياة رهبان التبت وتدريباتهم الروحية؛ لمعرفة تأثيرها المدهش على العقل، وقدرته على إخضاع اللاإراديات إلى إرادته...
وفي هذا السبيل، سجلوا مجموعة من التجارب المذهلة...
فأحد الرهبان تم دفنه، في تابوت تحت الأرض، دون تزويده بأي طعام أو شراب، ودون مصدر للهواء، مع توصيل جسده بجهاز خاص (Polygram)؛ لقياس معدل أيضه، ونبضات قلبه، وتنفسه....
ولقد ظل ذلك الراهب مدفوناً لثلاثة أيام، والأجهزة كلها تسجل حالة لم ير العلماء مثلها، في حياته كلها...
فالتمثيل الغذائي (الأيض)، انخفض إلى حد مذهل، بحيث صار الجسد يستهلك سعراً واحداً في الساعة تقريباً، ونبضات القلب أصبحت نبضة واحدة في الدقيقة....
أما معدّل التنفس، فقد بدا مذهلاً، كما لو أن ذلك الراهب يستهلك ذرات الهواء ذرة بذرة...
وهكذا، خرج الراهب من تحت الأرض، بعد ثلاثة أيام كاملة، سليماً معافى، على الرغم من أن الهواء المتاح لا يكفي أي إنسان عادي، لأكثر من ساعتين!!...
قدرة مذهلة، تؤكد أن طاقات العقل البشري هائلة، أكثر مما يمكن حتى أن نتخيل...
كل ما علينا هو أن نستوعب قانون العقل، الذي يتيح له الانطلاق على هذا النحو المدهش....
وهذا ما حاول العلماء التوصل إليه، عبر دراسات طويلة، لعقول ونمط حياة رهبان التبت، وبذلوا جهداً رهيباً لربط كل هذا بالفص الأمامي للمخ، الذي مازال يربكهم ويحيرهم كثيراً...
كان منتهى أملهم أن يضربوا عصفورين بحجر واحد، وأن يتوصّلوا إلى تفسير واحد للظاهرتين معاً...
وبعد عامين تقريباً، بدا لهم أنهم قد توصّلوا إلى نتائج مدهشة، تقول إن الجوع لفترات طويلة، يقلّل الجهد الواقع على الجسد، ويطلق العنان للمخ...
وبسرعة، خرجت عشرات الكتب، التي تؤيد هذه النظرية، ووجدت لها ملايين المؤيدين، في كافة أنحاء العالم، خاصة وأنها تتفق مع مبدأ (جوعوا تصحوا)، و(المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء)، وكلاهما يتردّد على ألسنة الكافة، منذ قديم الزمان...
وعلى الرغم من غياب التجارب العلمية التأكيدية، بات معظم العلماء على ثقة، من أن النظرية صحيحة تماماً..
أو فلنقل إنهم تمنوا هذا....
ولكن المشكلة أن العقل البشري يصر دوماً على أن يثبت للعلماء أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأنهم مهما تصوروا سيواجهون حتماً تحدياً جديداً، في كل خطوة....
فالكشوف العلمية، كما وصفها أحد العلماء، هي إهانة مستمرة للذكاء البشري، فكلما تصوّر الإنسان أنه قد بلغ ذروة المعرفة، صدمته نتيجة علمية جديدة، تفسّر نقطة حيرته، وتثبت خطأ نقاط أخرى، كان يتصوّر أنه قد حل ألغازها، وكشف مغاليقها....
وفي هذه المرة، جاءت الطعنة من خارج المحيط العلمي تماماً...
ومن شاب نحيل أيضاً...
شاب هدم النظرية من أساسها...
تماماً
في عام 1911م، ولد الهولندي "بيتر هيركوس"، وظل يحيا كشاب عادي، حتى انقلبت حياته رأسا على عقب فجأة في عام 1941م.
في ذلك العام كان "بيتر" يعاون والده في طلاء بناء من أربعة طوابق، عندما زلت قدمه، وسقط من الطابق الرابع، وتم نقله إلى المستشفى في سرعة، في العاشر من يوليو 1941م، حيث تم إسعافه، وقدر له أن ينجو، وأن يغادر المستشفى في الخامس من أغسطس، من العام نفسه..
ولكن شتان ما بين الدخول والخروج.. لقد كشف "بيتر"، وهو يرقد على فراشه في المستشفى أنه قد اكتسب خاصية عجيبة وهي أنه ما أن يمس شيئاً.. أي شيء.. حتى تندفع إلى رأسه كل المشاهد والأصوات والأحداث، التي عايشها هذا الشيء.. جماداً كان أو حيواناً أو نباتاً..
وكاد المسكين يُصاب بالجنون في البداية..
بل لقد تصور أنه قد أُصيب به بالفعل..
ثم اتضحت له حقيقة موهبته الجديدة شيئاً فشيئاً..
والعجيب في ظاهرة "هيركوس" أنه -ولأول مرة في التاريخ- اعترفت إدارة "اسكوتلانديارد" بموهبة شخص يحوز صفة فوق طبيعية، بل استدعت "بيتر هيركوس" إلى إنجلترا" عام 1951م، حيث عاون مفتشيها على حل غموض اختفاء الماسة الشهيرة "سكون"، وبعدها استعانت به عدة هيئات بوليسية أوروبية، وحقق في كل مرة انتصاراً مبهراً...
وعلى الرغم من هذا لم يحظَ "بيتر" باعتراف أو تأييد الأوساط العلمية، ولم يحاول عالم واحد، ممن أنكروا موهبته، اختبار وجود هذه الموهبة، بأية وسيلة، حتى إن الصحفية "نورما- لي- براوننج" التي كانت من أشد المؤيدين لـ "بيتر"، قد علقت على هذا بقولها: "لقد خسروا فرصة مثالية لفحص ظاهرة غامضة"...
وهي على حق في قولها هذا، فربما أدى فحص "بيتر هيركوس" إلى إماطة اللثام عن تلك الظاهرة..
ولكن يبدو أن البعض يخشى إماطة هذا اللثام..
وهذا أيضاً صحيح..
إن الرافضين لوجود هذه الظاهرة يقولون: إنه لو صح وجودها، فسيعني هذا أن الأسوار التي تحيط بالعقل قد تهاوت، وأنه لم يعد هناك مكان آمن لحفظ أية أسرار، مهما بلغت خطورتها، فالقاعدة الأولى، في عالم المخابرات مثلاً، تحظر الاحتفاظ بمعلومات مكتوبة، وتصر على ضرورة حفظها عن ظهر قلب، بافتراض أن العقل البشري هو الحصن الحصين، الذي يستحيل اختراقه، أو نسيانه داخل درج مغلق، أو فوق مائدة القمار، وعلى الرغم من ذلك، فمن يمتلك القدرة على قراءة الأفكار سيعبر أسوار العقل في يسر وسهولة ودون أن يقاتل العمالقة مثل "جيمس بوند"، أو يحتال ويتخابث مثل "أرسين لوبين"..
بل قد يتمادى أصحاب هذه المقدرة الفذة، فيفتتحون مكاتب خاصة، على غرار مكاتب البوليس الخاص، يعلقون على أبوابها لافتة تقول: "هنا أسرار للبيع"..
قد تبدو الصورة خيالية على الورق، ولكنها ليست كذلك في نظر العديد من العلماء، وأجهزة مخابرات الشرق والغرب، بل إنهم يولونها اهتماماً بالغاً، وينكبون على دراستها في سرية ودقة، حتى إننا نجد في المخابرات الأمريكية والسوفيتية، ما يعرف باسم "الاستخبارات فوق النفسية"..
ولعل القارئ يتصور الآن أننا لو استبعدنا الفريق الرافض من العلماء، فسيتبقى أمامنا المؤيدون للظاهرة فحسب.
ولكن هذا غير صحيح..
الواقع أنه ما من عالم -في الكرة الأرضية كلها- يمكنه أن يجزم أو ينفي وجود هذه الظاهرة، بصفة قاطعة، فبعد استبعاد الرافضين لوجودها سينقسم الباقون إلى قسم أعظم، يقف على الحياد، غير مؤيد أو معارض، أو هو ينتظر ما سيتوصل إليه الآخرون، وقسم صغير، يميل إلى الإيمان بوجود الظاهرة، ولكنه يلقي سؤالاً أكثر أهمية، وهو يقلب بين يديه نموذجاً صغيراً للمخ البشري..
من أين تنبع هذه الظاهرة؟..
فعلى الرغم من التقدم الطبي والتكنولوجي والتقني، الذي توصل إليه العالم، في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين، إلا أن أجزاء كبيرة من المخ البشري مازالت غامضة تماماً، ومازال ذلك العضو الرخوي البيضاوي، الذي يبلغ وزنه التقريبي في الرجل حوالي رطلين وعشر أوقيات "أي ما يساوي 1/55 من وزن الجسم تقريباً" يثير حيرة أعلم العلماء..
إذ أن المخ يتكون "تشريحياً" من نصفين، أيمن وأيسر، يشتركان معاً لصنع الفص الأمامي والفص الخلفي، ثم يحوز كل منهما فصاً جدارياً، وآخر صدغياً، في حين يلتقيان من الخلف عند المخيخ، والجسم الصنوبري الصغير..
ولقد درس العلماء كل خلية من خلايا هذا المخ، وعرفوا وظيفة كل جزء فيه، فيما عدا منطقتين، توقّف أمامهما الجميع في حيرة، وهما الجسم الصنوبري والفص الأمامي، فتوصلوا إلى جزء ضئيل من وظائف الأول، وعجزوا تماماً عن فهم وظيفة الثاني "مع الإيمان التام بأن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق شيئاً عبثاً"..
ومع كشف تلك القدرات فوق العقلية، عاد سؤال خطير يطرح نفسه..
هل الفص الأمامي هو محطة الإرسال والاستقبال التخاطري؟..
ولم يأتِ الجواب بعد..
ولن يأتي، لأن إثبات ظاهرة فوق نفسية، مثل التخاطر العقلي، كان وسيظل عسيراً، لأن العلماء سيعجزون دوماً عن إمساكها بأيديهم، وتقليبها، ووضعها تحت المجهر وتصويرها، وتكبيرها، و… و… وإلى أن يأتي ذلك اليوم "المستحيل"، سنظل نردد قول أحد كبار العلماء، المؤمنين بوجود الظاهرة:
"ينبغى أن يتوقف العلم عن محاولاته الدائبة، لإثبات وجود هذه الظواهر، ويحصر جهوده في بحث كيفية الإفادة منها، حتى لا نكون كمن يقضي عمره كله في محاولة إثبات كونه حياً، ثم تنقضي حياته، دون أن يصنع فيها شيئاً واحداً.."
وإلى أن تحظى ظاهرة "التليباثي" بالاعتراف، لن يتوقف العلماء عندها طويلاً، فمازالت أمامهم ألغاز بلا حدود، تكمن داخل فص المخ، و...
وللحديث بقية.
المخابرات السوفيتية، كانت أول من أقر بوجود القوى فوق العقلية، سواء أكانت تنبع من الفص الأمامي للمخ، أو من غيره....
كان كل ما يكفيها، هو أن أمخاخ أولئك، الذين يتمتعون بقوى فوق عقلية، تتضاعف إشاراتها، في حالات التجلي....
كما أن لديهم ما يعرف باسم، (مشاهدات الأمومة)....
فقبل حتى الخوض في احتمالية وجود قوى فوق عقلية، لاحظ العلماء وجود رابطة عجيبة، بين الأم وأطفالها؛ فقد تكون غارقة في نوم عميق، ثم تهب منه فجأة، دون أي مبرّر، وتهرع إلى حجرة طفلها المجاورة، لتجد أنه يكاد يختنق بوسادة مهده، دون أن يصدر عنه أدنى صوت!!..
وفي واحدة من الحالات المسجلة، قطعت أم أمريكية مائة ميل، بعد منتصف الليل، لتتفقد ابنتها، التي تقضي فترتها الجامعية في ولاية أخرى، ووصلت لتجدها محمومة، مريضة، وبعد أن تعافت، أبدت دهشتها البالغة؛ مما فعلته أمها، مؤكدة أنها، خلال مرضها، تمنت لو أن الأم إلى جوارها!!...
وعبر مائة ميل، أي ما يزيد عن مائة وستين كيلو مترا، تلقت الأم الرسالة...
وأتت...
كانت تلك القصة وغيرها كافية، لتبدأ المخابرات السوفيتية أبحاثاً طويلة مكثفة، حول القدرات فوق العقلية، وإمكانية الاستفادة منها في أعمال التخابر، مثل قراءة أفكار الخصم، وسبر أغواره، وتحديد قراراته ونواياه مسبقاً...
ومن أجل هذا الغرض، أنشأت المخابرات السوفيتية، في أواخر الخمسينيات فرعا خاصا، عرف باسم (الاستخبارات فوق النفسية)....
وعلى الرغم من أن السوفيت قد أحاطوا فرع مخابراتهم الجديد هذا بستار حديدي سميك، وبذلوا جهداً هائلاً؛ لإخفاء نتائج أبحاثهم فيه، فقد كشف الأمريكيون أمره، في منتصف الستينيات...
في البداية، سخروا من الفكرة كلها، واعتبروها مجرد تخاريف سوفيتية سخيفة، حتى أجروا تجربة واحدة، قلبت موازينهم كلها رأساً على عقب...
لقد فصلوا أنثى أرنب عن صغارها، ووضعوها في غواصة، على بعد ستين كيلومترا من الشاطئ، وعمق كيلو متر واحد، تحت سطح الماء...
ثم بدءوا في ذبحها، واحداً بعد الآخر...
وسجل علماؤهم نتائج مذهلة...
ففي كل مرة، يتم فيها ذبح أحد الصغار، كانت الأرنبة تصاب بحالة من التوتر العصبي الشديد، كما لو أنها تشعر بما يعانيه صغارها، عبر كل تلك المسافة..
ومع ذهولهم، كرّر العلماء التجربة مرة ثانية، وثالثة.... ورابعة...
وفي كل مرة كانت النتائج واحدة...
هناك اتصال عقلي فائق مؤكد، بين الأم وأبنائها...
وبين بعض البشر وبعضهم أيضاً...
وهكذا، أنشأ الأمريكيون بدورهم فرع المخابرات فوق النفسية، في مخابراتهم...
واتخذت حرب الجاسوسية مساراً جديداً...
ومدهشاً...
والواقع أن دخول المخابرات إلى المضمار، أدى إلى تسارع تجارب القوى فوق النفسية على نحو ملحوظ، باعتبارها قد أصبحت سلاحاً حربياً جديداً، يسعى كل طرف إلى التفوق فيه، والفوز بسباقه...
وهنا فقط، بدأت تظهر نتائج واضحة ومسجّلة للأمر...
فلأول مرة، يربط العلماء بالفعل، بين نشاط الفص الأمامي للمخ، والقدرات فوق العقلية، بوساطة الدقة البالغة، التي تفتقر إليها الحسابات البشرية، وتتفوق فيها أجهزة الكمبيوتر...
ولأول مرة، يلاحظون أن أصحاب القدرات فوق العقلية، يتميزون بزيادة طفيفة، في حجم فصوصهم الأمامية...
ولأول مرة أيضاً، توضع قاعدة للاتصالات العقلية الفائقة، التي تعرف باسم (التليباثي)...
فكل حالة، من الاتصال العقلي الفائق، تحتاج إلى طرفين مؤهلين، مرسل .. ومستقبل...
ولكي ينجح الاتصال الفائق، لابد من وضع المرسل والمستقبل في الحالة المطلوبة، لتحقيق شرط الاتصال، إذ لابد وأن يكون المرسل في حالة توتر، أو لهفة لإتمام الاتصال، والمستقبل في حالة استرخاء تام...
هذا لأن الأمر يعتمد عضوياً، على هرمونين أساسيين، في الجسم البشري...
الأدرينالين، وهو هرمون يتم إنتاجه في نخاع الغدة الكظرية، ويفرز في حالات التوتر والانفعال، ليزيد من ضغط الدم، وسرعة النبض، وقوة انقباض العضلات...
والكولين استيراز، وهو هرمون ذو تأثير معاكس تماماً لتأثير الأدرينالين، يعمل على خفض الضغط، وسرعة النبض، وإرخاء العضلات...
المرسل لابد وأن يكون في حالة استنفار (أدرينيرجيا)...
والمستقبل في حالة استرخاء (كولينيرجيا)..
هنا فقط، يحدث الاتصال العقلي الفائق، وهو ما يفسر حالات الاتصال الأمومي، عندما يعاني الأطفال من خطر ما، فيندفع الأدرينالين في دمائهم، وتكون الأم نائمة أو مسترخية، وهو ما ثبت، في كل حالات الاتصال الأمومي الفائق...
وبينما يسجل العلماء تجاربهم هذه، ويرصدون مستويات الأدرينالين والكولين في الدم، قفز أحدهم إلى كشف جديد مدهش...
كشف وثب بالتجارب العقلية إلى آفاق جديدة...
آفاق بلا حدود.
المخ يصدر موجات جاما، عندما يعمل...
العبارة السابقة، على بساطتها، كانت فتحاً كبيراً، في عالم الدراسات فوق العقلية، إذ أنها تشير، ولأوّل مرة، إلى أن المخ البشري يصدر طاقة ما، يمكن قياسها وحسابها...
ومع أجهزة القياس المتوافرة، في زمن الكشف، صار من الممكن أن يرصد العلماء كل تغير، في انبعاث أشعة جاما من المخ، مع نشاطاته المختلفة....
ومع مرور الزمن، تطورت أجهزة القياس، وتطوّرت معها وسائل الفحص والتقييم....
فالمخ يبعث موجات جاما، في حالة الغضب، تختلف عما يبعثه في حالة الفرح، أو الخوف، أو حتى التفكير العميق، وهذا يعني أن قياس موجات جاما، المنبعثة من المخ، يمكنه أن يحدد مشاعر صاحب هذا المخ، حتى ولو لم يفصح عنها....
ولفترة طويلة، تم التعامل مع الأمر من هذا المنظور، حتى كان أحد المؤتمرات، في عام 1988م، عندما قال أحد الخطباء، دون أن يعني سوى التعبير البليغ: إن هذا أشبه بقراءة الأفكار....
والتقط أحد العلماء العبارة، وعاد إلى معمله، وأغلقه خلفه، وراح يدرس العبارة، ويفكر فيها طويلاً...
طويلاً جداً...
فلو أن موجات جاما تتغير بالفعل، مع تغير المشاعر والأحاسيس، فلماذا لا يتم رصدها؛ لقراءة أفكار الآخرين بالفعل؟
ومن هنا، ومع أجهزة القياس المحدودة، وضع ذلك العالم فرضية جديدة، تقول: إن عملية قراءة الأفكار، أو الاتصال العقلي الفائق (التليباثي)، ما هي إلا موهبة عند البعض، لرصد موجات جاما، التي تطلقها عقول الآخرين.....
ولكن فرضيته هذه لم تلقَ رواجاً كبيراً؛ نظراً لأن حالات الاتصال العقلي الفائق، كانت تحدث، في كثير من الأحيان، بين أناس تفصلهم مئات الكيلومترات والأميال...
إلا أنها كانت بداية لعصر جديد، من عصور الدراسات العقلية وفوق العقلية...
فلعدة سنوات تالية، راح فريق من العلماء يدرس موجات جاما، التي يبثها المخ في حالاته المختلفة، وطرق الاستفادة منها...
في ذلك الحين، كان التطور العسكري يبلغ مراحل كبيرة، وسرعة الطائرات المقاتلة تتزايد...
وتتزايد...
وتتزايد...
ومع تضاعف السرعة، التي بلغت سرعة الصوت، (340م/ثانية)، أصبحت أكبر مشكلة هى رفع سرعة استجابة الطيارين، بحيث يمكنهم رصد الهدف والتصويب عليه وإصابته، وهم ينطلقون بهذه السرعة الكبيرة..
وكانت المشكلة تكمن فيما يعرف باسم (المعادلة العصبية)....
وتلك المعادلة العصبية، هي الفترة التي يحتاجها المخ البشري الطبيعي، لإدراك ما يواجهه، واتخاذ رد الفعل المناسب للتعامل معه، وهي تختلف من شخص إلى آخر، ويمكن تنميتها بالتدريب والمران المستمر...
وإلى حد ما، ومن خلال تدريبات شاقة وعنيفة، تمكن الطيارون من ضبط سرعة استجاباتهم؛ لتتوافق مع سرعة طائراتهم....
ولكن الطائرات تطورت أكثر، وتضاعفت سرعتها، فأصبحت ضعف سرعة الصوت، ثم لم تلبث أن فاقت هذه السرعة، إلى حد لم يعد من الممكن أو المنطقي رفع سرعات الاستجابة إليه، مهما بذل الطيارون من جهد...
أو من عمر...
وعندئذ، كان لابد من التفكير في وسيلة جديدة، تتيح الرصد والتصويب والإصابة، في هذه السرعة الرهيبة...
وهنا برزت فكرة أشعة جاما، المنبعثة من المخ...
وطوال ما يقرب من عام كامل، وباعتمادات مالية ضخمة، وإمكانيات متاحة غير محدودة، تمكن العلماء من تحديد أطوال موجات جاما، التي تنبعث من المخ البشري، في حالات الرصد والتسديد والإصابة، وبدقة متناهية، جعلتهم قادرين على صنع أول جهاز توجيه، يختصر المعادلة العصبية إلى أقصى حد ممكن...
خوذة جاما....
خوذة توضع على الرأس، وتسجل انطباعات وردود أفعال الطيار، عندما يرصد هدفاً ما، لتنقل الفكرة، من مخه إلى أجهزة إطلاق النار مباشرة...
بمعنى أكثر وضوحاً، يرى الطيار الهدف، ويقرّر إصابته، ويصدر عقله موجات جاما، التي تتفق مع هذه الرغبة، قد تنقلها الخوذة إلى أجهزة الإطلاق مباشرة، دون المرور بالمسار الطبيعي، الذي كان ينقلها إلى اليد، فتستجيب بالضغط على زر الإطلاق...
ونجحت الفكرة نجاحاً ساحقاً....
سرعة الاستجابة العقلية، عبر خوذة ألفا، كانت تفوق سرعة الاستجابة الجسدية بخمس مرات على الأقل..
وهكذا تحوّل العقل، ولأوّل مرة عملياً، إلى سلاح حربي خطير...
خطير للغاية..
ودفع هذا العلماء إلى إجراء تجارب أكثر وأكثر، على خوذة جاما، باعتبار أن وسائل استغلالها مازالت كثيرة.. كثيرة للغاية...
وعلى الرغم من اعتبارها سلاحاً حربياً سرياً، فوجئ قادة القوات الجوية الأمريكية ذات يوم بإعلان كبير عن بيع خوذة جاما، في الصفحة الأولى، من أكبر صحفهم، وأوسعها انتشاراً، و...
وكانت كارثة
ذات صباح، في أواخر الثمانينيات، تصدَّر إعلان كبير الصفحة الأولى، لكبرى الصحف الأمريكية، حاملاً اسم شركة ألعاب كمبيوتر شهيرة، تبشر زبائنها بابتكار وسيلة توجيه جديدة لألعاب المستقبل..
ومع العبارات الأنيقة، كانت هناك صورة خوذة..
خوذة (جاما)...
لم تكن على نفس الهيئة، التي ابتكرها عليها علماء الجيش والقوات الجوية الأمريكية، إلا أنها كانت تعتمد على النظرية نفسها..
تحديد رد فعل اللاعب، عبر انبعاثات موجات (جاما) من مخه، ونقلها مباشرة إلى أجهزة التصويب..
ومع التطور الجديد، أكَّدت الشركة المنتجة، أن هذا يمنحها فرصة مضاعفة سرعة ألعابها، إلى حد يتجاوز قدرات البشر العاديين، ولكنه يمنح متعة لا حدود لها لمن يرتدي الخوذة الجديدة..
وفور ظهور الإعلان في الصحيفة، تم حجز أكثر من عشرة آلاف خوذة من الشركة المنتجة وموزعيها، خلال ساعة واحدة..
وفي الساعة التالية، كان رجال مخابرات الجيش الأمريكي يملئون مقر الشركة، ويحتلون مكاتبها، ويستوجبون رئيس مجلس إدارتها، حول كيفية حصوله على هذا السر الخطير..
ولكن إجابة رئيس مجلس الإدارة كانت أخطر بكثير..
فالرجل أكَّد، بالأوراق والوثائق والسجلات، أن علماء شركته، هم الذين ابتكروا الفكرة، وصنعوا الخوذة.
وأسقط في يد خبراء الجيش الأمريكي..
فمن أعظم سمات العلم، أنه ليس حكراً على أحد..
وأن الفكرة الواحدة، يمكن أن تقفز إلى ألف عقل وعقل..
ولأن الشركة سجلت اختراعها، وحصلت على حق إنتاجه وتوزيعه، لم يملك الجيش الأمريكي منعها، وإنما اضطر إلى توقيع عقد احتكار معها، يجعله المشتري الوحيد لكل ما كانت تتضمنه خطتها من إنتاج تلك الخوذة العجيبة..
ولأن الخوذة قد انتشرت، بين عشرة آلاف مستهلك، كان لابد من العمل على تطويرها بسرعة، بحيث يمحو الجيل الثاني منها كل امتياز يمكن أن يمنحه الجيل الأوَّل لمستخدميه..
ثم إن سلسلة العلم قد اتصلت، عبر قنوات أخرى عديدة...
ابتكار الكمبيوتر الشخصي مثلاً، وتطوراته السريعة المتلاحقة، والقدرة على تصغيره ودمجه، ساعدت كلها على تطوير وسائل قياس ورصد موجات (جاما)؛ للوصول بها إلى أقصى قدر ممكن من الدقة..
وهكذا، أصبح من الممكن رصد أدق التغيرات، في المشاعر البشرية، عبر رصد موجات (جاما)، التي تنبعث من المخ أثناءها..
وهنا، أصبح الخيال ممكناً..
العلماء يعملون الآن، على قدم وساق، لتحويل الجيل الرابع لخوذة (جاما)، في القرن الحادي والعشرين، إلى آلة لقراءة الأفكار بالفعل..
والمدهش أن هناك نموذجا أوَّليا بالفعل لهذا..
خوذة (جاما)، يرتديها شخص ما، لتبث كل تغيير، مهما بلغت ضآلته، من مخه إلى جهاز رصد مباشرة..
ولاسلكياً..
وبمعاونة فريق من الخبراء، يمكن رصد تلك التغيرات الموجية، عبر خطوط ومنحنيات، يمكن للمتخصِّص قراءتها، وتحديد معانيها..
باختصار، يمكنه قراءة أفكار مرتديها..
وهذا ليس قمة التطور، في هذا المضمار، إذ يعمل العلماء الآن على عملية مزدوجة، عبر استخدام خوذتي (جاما)، إحداهما للبث، والأخرى للاستقبال، بحيث ترسل إحداهما أفكار مرتديها إلى عقل الآخر، فيشعر بنفس المشاعر، وكأنه يقرأ أفكار صاحبه..
والأمر لن يقتصر على هذا، فالموجات التي تطلقها عقول أصحاب القدرات فوق العقلية، يجري الآن رصدها، وبرمجتها في خوذات (جاما)، من الجيل الخامس، بحيث يمكن أن يرتديها شخص عادي، فيمتلك القدرة على التخاطر (التليباثي)، أو تحريك الأشياء عن بُعد (سيكوكينيزيس)، أو غيرها..
وهكذا تقفز خوذات (جاما) بالبشر، من العقل، إلى ما فوق العقل.. بل وربما تغوص في أعمق أعماقهم أيضاً..
فمطورو الجيل الخامس، يؤكِّدون أنهم، في غضون أعوام قليلة، سيمكنهم بوساطتها اختراق عالم الأحلام..
ليس مجازياً، ولكن فعلياً..
و..
ولهذا رواية أخرى
العلماء لم يدركوا أبداً من أين تنبع الأحلام..
ولكنهم سجلوا موجاتها..
سجلوا كل ما يبعثه العقل البشري من موجات (جاما)، قبل، وأثناء، وبعد الأحلام..
ولأن الإنسان يستيقظ في الصباح، وهو لا يذكر أكثر من خمسة في المائة مما مر بعقله من أحلام طيلة ليله، فقد ابتكر العلماء وسيلة دقيقة، تعمل على إيقاظ النائم، فور الانتهاء من أحد أحلامه، عبر رصد حركة جفنيه، وبهذا يتسنى له أن يذكر حلمه..
أو معظمه على الأقل..
وبهذه الوسيلة، تمكَّن العلماء من تحديد طبيعة الموجات، التي يبثها المخ، مع الأحلام السعيدة، والحزينة..
وحتى الكوابيس..
ومع تطوّر وسائل القياس، وأجهزة الكمبيوتر، أصبح من الممكن رصد وتسجيل كل هذا بدقة..
بل بمنتهى الدقة..
وعلى الجانب الآخر، كان فريق آخر من العلماء قد سجَّل وبرمج كل انبعاثات المخ، الخاصة بمشاعره المختلفة..
وهكذا، وبعد مؤتمر علمي لتبادل الأفكار والمعلومات، نشأت تلك الفكرة الجديدة..
لماذا لا يتم زرع الأحلام؟!...
كانت هناك محاولة سابقة، لزرع الأفكار في رأس شخص ما، باستخدام خوذة (جاما)، إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل؛ بسبب الإرادة البشرية، التي تصدَّت للأفكار الدخيلة..
هذا بالنسبة لشخص متيقظ..
ولكن ماذا عن النائم؟!..
هل يمكن برمجة مخه المسترخي، بحلم خاص جداً..
حلم سعيد، أو حزين..
حلم عن رحلة في الفضاء مثلاً..
أو عن مغامرة مثيرة..
أو قصة حب ساخنة..
من الناحية النظرية، بدا هذا ممكناً جداً، وقابلاً للحدوث..
بل وللتطوير أيضاً..
ولقد تمادى أحد رجال الأعمال، فافترض أن المستقبل سيكفل زرع كل أنواع الأحلام، في رأس النائم، ورأى في هذا مشروعاً استثمارياً ضخماً، فسارع بتسجيل الفكرة..
وهكذا، في عام 2005م، أصبح هناك بالفعل مشروع لزرع الأحلام..
ومشروع يعني استثمارات، وتمويل، ومزيد من التجارب؛ للتوصُّل إلى فكرة تتجاوز كل الأحلام..
والواقع أن التجارب الأولية قد حقَّقت نتائج ملحوظة..
صحيح أنها ليست النتائج المنشودة، الكفيلة بإنجاح مشروع كهذا، إلا أنها بداية جيدة..
والعلم دوماً يسعى خلف البداية..
خلف كسر الحاجز..
ولقد كسر العلماء بالفعل حاجز عالم الأحلام السري، الغامض، والخاص جداً جداً..
وبقي أن يفهموه، ويدرسوه، ويتفوقوا عليه، و...
ويزرعوه..
وبقدر ما يبدو عليه هذا من إبهار، فقد رآه العديد من العلماء نوعا من العبث، لا طائل من خلفه..
فبم يفيد زرع الأحلام، في رءوس النائمين؟!..
ماذا يستفيد العالم، من شخص يصحو من حلم مبهج؟!..
وهذا الفريق يحارب الفكرة في شدة، ويطالب بتطوير خوذة (جاما)؛ لاستخدامها فيما يفيد البشر كافة، وليس المرفهين وحدهم..
ولكن الفريق المعارض كان له رأي آخر..
فزرع الأحلام ليس وسيلة للرفاهية فحسب..
إنه أيضاً علاج..
علاج شاف، من العديد من الأمراض النفسية، وعلى رأسها حالات الخوف المرضي المبالغ، أو ما يطلق عليه العلم اسم (الفوبيا)، و..
ولهذا حديث آخر.
علماء النفس يؤكِّدون أنه، حتى أشجع وأقوى الرجال، لا يمكنه أن يدّعي أنه لا يعاني من خوف ما، من شيء ما....
ولو فعلها شخص واحد، فهو كاذب حتمًا، وهم يتحدونه أن يجتاز بقوله هذا اختبار جهاز كشف الكذب بنجاح!!..
هذا لأن ما من مخلوق حي بلا مخاوف..
ففي أعمق أعماق كل منا، هناك حتمًا خوف ما، من شيء ما، يحتل مساحة ما، من عقولنا، أو قلوبنا، أو أي مكان آخر من أجسادنا..
خوف سجلته عقولنا الباطنة، في لحظة ما، ربما لا تبتعد كثيراً عن لحظة مولدنا، واختزنته، وأخفته في بقعة مظلمة، لا تضاء إلا بعامل مساعد، أو فعل شرطي منعكس، وعندئذ فقط تسترجع العقول الخفية ذلك الموقف القديم، وتستعيده، وتطلقه في العقل الواعي، و…
ونخاف...
بل نرتعب ...
وبشدة...
ومخاوف البشر لا حصر لها؛ إذ أنها ترتبط بأي شيء، وكل شيء، ويمكن في بعض الأحيان أن تكمن في لحظات أو أشياء لا يمكن أن تثير ذرة واحدة من الخوف، في نفس أي مخلوق طبيعي، كملعقة فضية مثلاً، أو نوع بعينه من السجائر، أو دقات الساعة، أو أي أمر آخر..
وهذا هو العامل المساعد، الذي يضيء تلك البقعة المظلمة في أعمق أعماقنا، ليفجِّر خوفنا، ورعبنا، وفزعنا، وهلعنا، وكل تلك المشاعر، الذي تطلق عليه القواميس الطبية والعلمية اسم (الفوبيا)..
و(فوبيا) هو مصطلح لاتيني، يعني الخوف من شيء ما، ويمكن ربطه بكل أنواع المخاوف المعتادة، وغير المعتادة أيضاً، وعندما يحدث هذا، فنحن نشير إلى نوع خاص من الخوف..
النوع المرضي.. جداً
فالخوف من الأماكن المظلمة أو المغلقة، هو أمر طبيعي، عند الكثير من الناس، ولكنه عند البعض الآخر يتحوَّل إلى (فوبيا)، أو خوف مرضي، عندما يواجه هؤلاء البعض الموقف بارتعاشات عنيفة، وعرق غزير، وأعراض قد تبلغ حد التخشُّب، أو الغيبوبة التامة، أو حتى الموت، في حالات نادرة ومحدودة..
ولو حاولت أن تستنكر هذا، فكل ما أطلبه منك هو أن تتخيّل نفسك في مكان ما، لا تألفه جيِّداً، ثم انقطعت الأضواء كلها فجأة، ووجدت نفسك في قلب الظلام..
ظلام دامس رهيب، يحيط بك من كل جانب، ويرسم في خيالك عشرات الصور، والأوهام، والمخاوف، ويرهف حواسك حتى لتبدو أية حركة بسيطة أشبه بزحف ثعبان سام، أو انقضاضة خفاش قاتل، أو فحيح عفريت من الجن، أو… أو..
كل هذا سيصنعه عقلك في قلب الظلام، الذي سيجعلك ترتجف، وترتجف، وربما إلى درجة الرعب..
لا تقل لي بعدها إنك لا تعاني من الفوبيا...
ولأن الفوبيا شائعة، بين البشر جميعاً بلا استثناء، كما يؤكد علماء وأطباء النفس، كان من الضروري والطبيعي أن يسعى الكل للبحث عن علاج شاف منها...
أو عن نظرية علاج..
وتؤكِّد كل النظريات الجديدة، في العلم الحديث، أن إصابة المرء بأي مرض في الوجود يحتاج إلى عاملين أساسيين، وهما عامل الوراثة، وعامل البيئة..
وبمعنى أدق، لابد وأن تحوي الضفيرة الجينية للمرء العامل الوراثي الخاص بالمرض، وأن تحيط به ظروف بيئية، مناسبة لظهور المرض وصعوده إلى الجسم..
ولقد أكَّدت الأبحاث صحة هذه النظريات، وحتمية تشارك العاملين معاً، بحيث لا يكفي أحدهما وحده لظهور المرض، أياً كانت نوعيته، عضوية أو حتى نفسية..
النظريات والأبحاث الجديدة إذن تؤكِّد أنه حتى (الفوبيا) بأنواعها تحتاج إلى عامل وراثي، في جينات الجسم، وإلى ظروف بيئية مناسبة، تضغط على هذا العامل الوراثي، وتظهره، ليصاب الإنسان بحالة من حالات (الفوبيا)، أياً كان نوعها..
ولتوضيح الأمر أكثر، دعونا نفترض وجود طفلين، تعرَّضا لواقعة واحدة، ولتكن لدغة النحل مثلاً، في عامهما الأوَّل، الأوَّل يحمل الجينات المناسبة، والآخر لا يحملها..
كلاهما سيصاب عندئذ بالألم، والذعر، والفزع، وسيبكي كثيراً وطويلاً، ثم تمضي الواقعة، مع بعض التورّمات والكريمات المرطبة، ومضادات الحساسية المفرطة، وينتهي الأمر بأحدهما، وهو الذي يحمل الجينات بالإصابة بحالة (فوبيا) النحل طيلة عمره، في حين ينسى الآخر الأمر تماماً، وربما تزداد مخاوفه المستقبلية من النحل، إلا أنها لن تتحوَّل أبداً إلى خوف مرضي، أو هلع مفرط..
التوصُّل إلى هذا قلب كل موازين العلاج، التي كان يستخدمها الأطباء والمعالجون النفسيون قديماً، للتعامل مع أنواع (الفوبيا) الجينية..
وهذا لا ينطبق على (الفوبيا) البسيطة أو المكتسبة، والتي مازالت أساليب مواجهتها وعلاجها متشابهة، مع ما كان يحدث قديماً..
فالخطوة الأولى دوماً، هي معرفة تاريخ (الفوبيا)، ومتى ظهرت أو نشأت، وهل تتطوَّر إلى الأسوأ أم إلى الأفضل، مع مرور الزمن..
وبعدها لابد من الغوص في أعماق المريض، للوصول إلى منشأ المشكلة..
وهذه مجرد بداية
هناك عدة وسائل للقيام بالغوص النفسي الخاص جداً، في أعماق المريض؛ لبلوغ قاع حالات (الفوبيا)، إذ أن هذا يمكن أن يتم عن طريق التحدُّث المنظم والهادئ مع المريض، على فترات منتظمة، متباعدة أو متقاربة، وفقاً لنوع وشدة الحالة، حتى يصل المعالج إلى النقطة، التي تفجَّرت عندها (الفوبيا)، وإيضاحها للمريض، على نحو مباشر وهادئ أيضاً..
وفي معظم الحالات المكتسبة، يمكن أن ينهي هذا المشكلة، إذ ما أن يزيل المعالج الحاجز بين العقل الواعي والباطن، حتى تتضح الصورة للمريض، وتبدأ في اتخاذ حجمها الحقيقي، بحيث تتحوَّل من عقدة كبيرة إلى مشكلة محدودة، يسهل التعامل معها ومواجهتها، ببعض العقاقير الطبية، أو الجلسات النفسية المكثفة...
وفي حالات أخرى، يعجز المريض نفسه عن تحديد بداية المشكلة، على الرغم من المحاولات والمحاورات، لذا يصبح من الضروري الانتقال إلى مرحلة أكثر حرفية..
إلى التنويم المغنطيسي..
والتنويم المغناطيسي ليس نوعاً من الدجل أو الشعوذة، بل هو أمر علمي تماماً، ويرتبط بالعديد من العوامل، أهمها الشخص نفسه؛ فوفقاً للدراسات، ليس كل إنسان قابلا للخضوع للتنويم المغناطيسي، فهناك عقول مقاومة بشدة لهذا الأمر، ولا يمكن تنويمها أبداً..
لابد إذن أن يوافق المريض على الخضوع للتنويم المغناطيسي، وأن يستسلم لمعالجه تماماً، رغبة منه في كشف طبيعة مرضه، والقضاء عليه تماماً..
والميزة الرئيسية للتنويم المغناطيسي هي أنه يشحذ كل حواس الإنسان وذاكرته، ويساعده على استرجاع تفاصيل دقيقة، من أعمق أعماق عقله الباطن، على نحو يعجز عن فعله على نحو إرادي، مهما بذل من جهد..
ولكن هذا يحتم أن يكون المعالج نفسه شديد البراعة، في تعامله مع المنوِّم مغناطيسياً، فمنذ سنوات قليلة، كشف أحد العلماء أن المعالج قد يقود المريض، الخاضع للتنويم المغناطيسي، إلى أمور لم تحدث في عالم الواقع، ولكنه هو أوحى له بحدوثها، دون أن يدري..
إذن فالأمر يحتاج إلى دقة شديدة..
دقة تترك المريض حراً، وتسمح بتداعي أفكاره وذكرياته في انسيابية هادئة، حتى يتوصَّل المعالج إلى قلب المشكلة، ويفجِّر الحقائق كلها في وضوح، دون أن يزرع أية أوهام في عقل مريضه..
وهناك حالات عديدة من (الفوبيا)، تم علاجها تماماً، عن طريق التنويم المغناطيسي، إما بتوضيح المشكلة وعلاجها، أو بدفع المريض إلى محوها تماماً من عقله..
والأسلوب الأوَّل هو الأكثر دقة وضماناً بالتأكيد، إذ أن محو المشكلة من العقل أمر مستحيل، كما يؤكِّد بعض العلماء، مما يعني أنها قد تعود إلى البروز بغتة، ودون سابق إنذار، بعد فترة تطول أو تقصر، ولكن عودتها ستعيد (الفوبيا) مرة أخرى..
وربما على نحو أكثر عنفاً..
وكل هذا، كما سبق أن قلنا، يرتبط بحالات (الفوبيا) المكتسبة وحدها دون سواها..
أما حالات (الفوبيا) الجينية، فعلاجها يستلزم ما يعرف باسم العلاج الجيني، وهذا النوع من العلاج لم يتطوَّر إلى الحد الكافي بعد، إلا أن الحالات القليلة، التي عولجت به، أعطت نتائج مدهشة، في حالات مرض السكر، والهيموفيليا، ونقص المناعة الوراثي وغيرها..
والمجال ليس مفتوحاً هنا للحديث بالتفصيل، عن العلاج الجيني، ولكنه وسيلة لإحلال ضفيرة جينية محل أخرى، في مناطق الإحلال والتجديد، مثل نخاع العظام، بحيث تنمو، وتتضاعف، وتخلِّص الجسم من تأثيرات جينية بعينها، بعد فترة محدودة من الوقت..
ونجاح العلاج الجيني في الأمراض العضوية، لا يعني نجاحه في الأمراض النفسية أيضاً، أو أنه ليست هناك أية تجارب واضحة في هذا الشأن، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكنه وسيلة مستقبلية، تنبأ لها العلماء والأطباء بالنجاح الفائق، وبقدرتها على تغيير وجه العالم طبياً ونفسياً، مع مطلع العقد الثاني من القرن الحالي..
والأمر الذي يستحق الانتباه، في هذا الشأن، هو أن معظم حالات (الفوبيا)، التي خضعت للعلاج المكثف، وأقر الأطباء بنجاحها، وبأنها قد عولجت تماماً، لم يمكن الجزم بأن علاجها سيستمر إلى الأبد..
ففي وجود العامل الوراثي، قد تتوارى (الفوبيا)، أو تنكمش، وتهادن العقل الواعي لبعض الوقت، بعد كشف الصدمة البيئية، التي سببت ظهورها، ولكنها تظل دوماً متأهبة للظهور ثانية، مع أية صدمة بيئية جديدة..
ففي اثنتين وثلاثين في المائة من الحالات، ارتدت (الفوبيا) مرة أخرى، بعد ثلاث إلى خمس سنوات من الشفاء، بسبب واقعة واحدة، وقد تقل كثيراً عن الواقعة الأصلية، التي كانت السبب في ظهورها، في مرحلة الإصابة الأولى..
وإذا ما عادت (الفوبيا)، فإن علاجها يستلزم عندئذ وقتاً أطول، وجهداً أكبر، تماماً مثلما يحدث في لعبة (اليويو)، التي يدفعها الأطفال إلى أسفل، ثم يجذبونها إلى أعلى، فتدور حول خيطها لترتفع، ثم تعاود الانخفاض، وهكذا..
ولو أنك تابعت (اليويو)، لوجدت أنه يلتهم في المرة الأولى مساحة كبيرة في الخيط، في سرعة مدهشة، ثم يلتهم مساحة أقل، في سرعة أقل، في دورته الثانية، وكذلك في الثالثة، وما بعدها..
ومن هنا، أطلق العلماء على عملية عودة (الفوبيا)، وعلاجها لأكثر من مرة، اسم (مبدأ اليويو)..
ومؤخراً، لجأ العلماء إلى خوذة جاما، التي يبثون من خلالها موجات خاصة، تتعادل مع موجات خوفه، وتخمدها...
وهذا يعطي نتائج مدهشة...
ولكنها مؤقتة للأسف...
ربما لأن المخ سرعان ما يستعيد موجاته الأولى، ويعود إلى مخاوفه الدفينة...
وهذا لا يعنى أن (الفوبيا) غير قابلة للشفاء، ولكن يعني حتمية الحرص الشديد في التعامل مع مريضها بعد العلاج، بحيث يبتعد تماماً عن كل المؤثرات، التي يمكن أن تصيبه بصدمة بيئية أخرى..
وقبل أن نختم حديثنا، لابد وأن نشير هنا إلى أن أحد الأسباب القوية، التي تمنع علاج مرض (الفوبيا)، هو نوع من (الفوبيا) أيضاً..
(فوبيا) الأطباء..
فالمرضى هنا لا يخشون في الدنيا كلها قدر الأطباء، والمستشفيات، وحجرات العلاج، والعناية المركَّزة، و…
وسيطول الحديث إلى ما لا نهاية؛ لأننا نتحدَّث عن حالة يمكن أن نضعها في ألف صورة وصورة..
حالة (فوبيا).[/
["]
من المؤكد أن (ثيواردويلار) المذيع المعروف بإذاعة مدينة (شارلوت) الأمريكية لن ينسى أبداً أحداث تلك الليلة ..
ليلة العاشر من يونيو عام 1962 م ..
ليس هذا لأن (هيوارد) قد أجرى حديثاً إذاعياً ممتازاً فى هذا التاريخ ..
ولا لأنه حصل على ترقية ، أو علاوة ، أو حتى ابتسامة من رئيسه فى العمل..
بل لأنه تلقى فيه رسالة ..
هل أدهشكم الأمر ؟!..
دعونا إذن نشرح الأمر منذ البداية ..
فى ذلك اليوم انتهى (هيوارد) من عمله بدار الإذاعة ، وعاد إلى منزله فى منتصف الليل تقريباً ، فتناول طعام العشاء ، واستعد للذهاب إلى فراشه ، بنفس الروتين اليومى ، الذى اعتاده منذ سنوات ..
وفجأة تجمد (هيوارد) فى مكانه ، وبدا لزوجته لحظة أشبه بتمثال من الشمع، لرجل مذعور ، اتسعت عيناه وانفغر فاه ..
وفجأة أيضاً ، التفت (هيوارد) إلى زوجته (بات) ، وقال فى توتر ..
- أسمعت الصوت ؟
سألته زوجته فى قلق :
- أى صوت ..
قال فى حيرة :
- صوت ارتطام السيارة .. هناك حادثة سير .
رددت فى قلق أكثر :
- حادثة سير ؟! .. إننى لم أسمع شيئاً .
خيل إليها أنه حتى لم يسمعها وهو يندفع نحو حجرته قائلاً :
- سأستطلع الأمر ، وأعود إليك على الفور .
هوى قلبها بين قدميها ، عندما رأته يرتدى ثيابه فى عجل ، ويسرع إلى حيث سيارته .
وتساءلت فى هلع : "هل أُصيب (هيوارد) بالجنون ؟" ..
هل فقد عقله ، مع شدة انهماكه فى عمله ؟ ..
فكرت فى الاتصال بطبيبهما الخاص ، خشية أن تكون حالة (هيوارد) شديدة الخطورة ، ولكن (هيوارد) لم يمهلها الوقت لهذا ، فقد انطلق بسيارته ، قبل حتى أن تتخذ قرارها ..
وبالنسبة إليه ، كان الأمر أكثر حيرة ..
لقد سمع صوت اصطدام السيارة فى وضوح ، ولكنه لم يجد سيارة واحدة تتحرك ، عندما غادر البيت ..
وهو واثق مما سمع ..
وعندما أدار محرك سيارته ، لم يكن يدرى بعد ، إلى أين يتجه ..
ولأن منزله يقع عند نقطة تتفرع منها عدة طرق ، فقد كان عليه أن يتخذ قراره باختيار الطريق الصحيح الذى يتخذه ليصل إلى منطقة التصادم ! ..
وبلا تردد ، وبثقة لم يدر من أين حصل عليها ، انطلق مباشرة إلى شارع (بارك) ، وعندما بلغ تقاطع (وودلون) انحرف يميناً ليهبط التل فى ثقة ، وكأنه يعلم مسبقاً إلى أين يتجه ..
وعندما بلغ موقع تجمع مراكب صيد الجمبرى ، وجد نفسه يتخذ طريق (مونتفورد درايف) ، بنفس الثقة العجيبة ..
وقطع (هيوارد) ستين متراً فحسب ، فى طريق (مونتفورد) ، ثم وجد نفسه يتوقف فجأة ..
هنا .. فى هذه النقطة بالذات ، وحيث لا يوجد أى شئ محدود ، كان يشعر بضرورة الخروج عن الطريق الرئيسى ..
ومجنون هو من يفعل هذا ، فى الواحدة صباحاً ..
(هيوارد) العاقل يعلم هذا ، ولكن (هيوارد) الذى يقود السيارة لم يمكنه مقاومة هذه الرغبة ، فانحرف يميناً وخرج عن الطريق ، واتجه مباشرة نحو شجرة ضخمة ترتفع وسط طريق رملى يمتد إلى ما لا نهاية ..
وهناك رأى السيارة ..
رآها فجأة على ضوء مصباح سيارته ، فضغط كامح السيارة فى قوة ، وتوقف إلى جوار السيارة التى ارتطمت مقدمتها بعامود معدنى ، على مقربة من جذع الشجرة ، وانتزعت الضربة محركها ، ودفعته إلى حيث مقعدها الأمامى ، من شدة الاصطدام وعنف الصدمة ..
وغادر (هيوارد) سيارته ، وأسرع نحو السيارة المصابة ..
ولم ير (هيوارد) أحد داخل السيارة ، ولكنه سمع من داخلها صوتاً ضعيفاً وهاناً، يقول :
- النجدة يا (هامبى) .. انقذنى .
وقفز قلب (هيوارد) بين ضلوعه فى هلع ، وانقض على السيارة ، وراح يفحص حطامها وهو يهتف :
- أنا هنا يا (جو) .. سأنقذك يا صديقى .
وأخيراً عثر (هيوارد) على صديق عمره (جون فندربيرك) محشوراً وسط الحطام ، ومصاباً بجروح شديدة والدماء تنزف منه فى غزارة ..
وحمل (هيوارد) صديق عمره إلى سيارته ، وانطلق به إلى أقرب مستشفى ، حيث أجريت جراحة عاجلة لـ (جون)، تمكن خلالها الأطباء من إنقاذ حياته بمعجزة ، وقال الجراح الدكتور (فيليب ماك آرنى) ، الذى أجرى العملية لـ (جون): إنه لو تأخر (هيوارد) عن إنقاذ صديقه ربع ساعة أخرى ، للقى (جون) مصرعه وسط الحطام ، دون أن يشعر به مخلوق واحد ..
وهذا صحيح ..
فالتقرير الذى نشرته جريدة (شارلوت نيوز) يقول أنه ، وعلى الرغم من أن طريق (مونتفورد درايف) هذا طريق شديد الحيوية ، إلا أن أحداً لم يمر به منذ وقع الحادث ، وحتى مرور 45 دقيقة من إنقاذ (هيوارد) لصديقه ..
والعجيب أن (هيوارد) قد سمع صوت الحادث على بعد عشرة كيلو مترات ، فى نفس اللحظة التى اصطدمت فيها سيارة (جون) بالعامود ، وقد أثبتت الأبحاث أنه لم يقع أى حادث مماثل ، فى دائرة قطرها خمسين كيلو متراً من منزل (هيوارد) ..
وبسؤال (جون) ، قال : إن أول ما فكر فيه ، عندما ارتطمت سيارته ، هو صديق عمره (هامبى) .. وهو الأسم الذى يخاطب به (هيوارد) منذ طفولتهما ..
ولكن كيف حدث هذا ؟ ..
كيف استقبل (هيوارد) رسالة صديقه ؟ ..
دعنا نسأل العلماء ..
وهؤلاء العلماء يقولون : إن (هيوارد) قد تلقى رسالة عقلية من صديقه (جون) بوسيلة خارقة من وسائل التخاطب العقلى ، تعرف باسم التخاطر ، أو (التليباثى) ..
ويقول العلماء أيضاً : إن الظروف التى تم فيها إرسال واستقبال هذه الرسالة ظروف مثالية ، إذ أن المادة المسئولة عن تقوية إرسال التخاطر العقلى ، هى مادة (الأدرينالين) ، التى يتم إفرازها عن التوتر والقلق والخوف ، والإصابة ، أما المادة المسئولة عن استقبال الرسائل ، فهى مادة (الكولين استراز) ، وهى مادة تفرز عند الاسترخاء والهدوء النفسى ..
وعندما حدث التصادم ، كان (جون) فى حالة (أدرينالجيا) ، أى فى حالة إفراز شديد للأدرينالين ، فى حين كان (هيوارد) يهم بالنوم ، أى كان فى حالة (كولينرجيا)، أى استرخاء كولينى ، وهذه الظروف المثالية تماماً لنقل واستقبال رسالة عقلية تخاطرية ..
ولكن كل هذه الأمور مجرد دراسات غير مؤكدة ، ونظريات غير موثوق بها..
المهم أن (هيوارد) قد تلقى رسالة (جون) ..
أما بالنسبة لكيف ، فلندع هذا للدارسين ، ولعلماء الظواهر الخارقة ..
ولما وراء العقل ..
فوق العقل (1)
ترى ما حدود قدرات العقل البشري؟!...
قديماً، كانوا مبهورين بما كشفوه من حدوده، التي لم تتجاوز أيامها، سوى قدرته على التحكم في الحواس الخمس الأساسية...
ثم تطوّر العلم، وأدركوا أنه قادر أيضاً على مزج تلك الحواس بعضها ببعض.....
وحتى منتصف العشرينيات، عندما كان العلماء يتصورون أنهم قد بلغوا ذروة العلم، كانت معارفهم عن العقل البشري محدودة للغاية، على الرغم من أنهم كانوا يجرون أبحاثهم عن الفص الأمامي، والجسم الصنوبري في المخيخ...
والواقع أنه، حتى زمن قريب للغاية، كان الفص الأمامي للمخ يمثل لغزاً علمياً محيراً، لأطباء وجراحي المخ والأعصاب، خاصة وأنه هناك حالة مسجلة، لرجل أصابه خنجر في جبهته، وانغرس لعشر سنتيمترات كاملة، دون أن يؤدي هذا إلى أي خلل، في وظائف جسده....
أو عقله....
مع تلك الحادثة، راح العلماء يدرسون الفص الأمامي للمخ، في اهتمام بالغ...
فحصوه...
ووزنوه....
وقطّعوه...
وحللوه...
ولكن هذا لم يوصلهم لشيء...
أي شيء...
وحار العلماء أكثر...
وأكثر..
وأكثر...
وتضاعفت أبحاثهم...
وتكثفت...
وتضاعفت...
وعندما أعيتهم الحيلة، بدءوا في وضع النظريات...
والمدهش أن تلك النظريات كانت أقرب إلى الفلسفة، منها إلى العلم...
فالقاعدة التي يؤمن بها كل العلماء، هي أنه ما من جزء عبثي، في جسد الإنسان كله....
جميعهم يؤمنون بهذا....
المؤمنون منهم وأيضا الملحدون...
إذن، فمادام الفص الأمامي موجوداً، فله حتماً وظيفة ما...
وظيفة مستترة، ولكنها مهمة... للغاية..
فماذا يمكن أن تكون تلك الوظيفة....
افترض فريق منهم أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن الأحلام، ولكن الدراسات التي أجريت، على كل من أصيب فصهم الأمامي، أثبتت أنهم يحلمون بصورة طبيعية للغاية...
وهنا خرج فريق آخر من العلماء بنظرية ثانية...
نظرية تفترض أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن السمات الشخصية للإنسان، خاصة وأنهم قد لاحظوا بعض التغيرات، في شخصية من أصيبوا في فصوصهم الأمامية....
وارتاح العلماء لهذا التفسير...
وقاموا بتهنئة أنفسهم...
و....
ولكن فرحتهم هذه لم تكتمل؛ إذ جاء علماء النفس، ليقلبوا تلك النظرية رأساً على عقب....
وبمنتهى العنف.
------------
فوق العقل ( 2 )
فوق العقل ( 2 )
علماء نفس البشرية قاموا بقراءة ما كتبه وتوصّل إليه علماء المخ....
ورفضوه....
وبمنتهى الشدة....
فمن منظورهم، ووفقاً لدراساتهم ومشاهداتهم، لا يمكن أن تكون السمات الشخصية للمرء كامنة، في الفص الأمامي للمخ....
ولا حتى في أي فص منه...
فالسمات البشرية، من منظورهم، ليست عاملاً وراثياً، يمكن أن يكمن في فصوص المخ أو الجينات، بل هي أمر متغير، مع تغير البيئة، وقدرات المرء على التفاعل معها، وهو ما تؤكده أبحاثهم، التي أثبتت أنه حتى التوائم المتماثلة، يمكن أن تكتسب سمات مختلفة، أو حتى متعارضة، وفقاً للبيئة التي تنمو فيها، واختلافاتها...
وأسقط في يد علماء المخ والأعصاب....
فما فائدة الفص الأمامي إذن؟!...
ومع الحيرة، تولد دوماً نظرية علمية جديدة...
والنظرية هذه المرة، كانت تعتمد على فكرة الاحتياطي المختزن....
والفكرة ببساطة، أن المخ قد يتعرّض إلى تلف جزئي، من جراء صدمة أو إصابة....
وقد يخسر بعض خلاياه الحيوية
ولأن الخلايا العصبية غير قابلة للنمو أو الالتئام (وفقاً للعلوم الحالية)، فالخلايا في الفص الأمامي (الصامت)، لديها القدرة على أن تحل محل الخلايا التالفة، أياً كانت...
وكم ارتاح العلماء لهذه النظرية وهذا التفسير؛ إذ أنه يفسر غموض الفص الأمامي، ويمنحهم تفسيراً مرضياً، في الوقت ذاته، حول حالات التحسن والشفاء من إصابات المخ، على الرغم من قاعدة عدم النمو العصبي...
وهدأت الأمور...
نسبياً....
ومرحلياً....
فبسرعة، بدأ بعضهم يتساءل: وماذا لو نزعنا الفص الأمامي للمخ، ثم تسببنا في تلف جزئي لخلايا المخ؟!
وقد كان....
ففي أمخاخ حيوانات التجارب، تم بتر الفص الأمامي بأكمله، وإصابة بعض خلايا المخ بتلف جزئي...
ثم انتظر العلماء...
ورصدوا..
وتابعوا..
وسجلوا...
واندهشوا أيضاً...
فالمخ أمكنه أن يستعيض عن الأجزاء التالفة، مع التدريب والتحفيز المستمرين...
ودون الفص الأمامي...
وهكذا أثبت العلماء خطأ نظرية الاحتياطي المختزن...
وفتحوا باباً جديداً للتساؤل والحيرة...
وعاد الفص الأمامي لغزاً محيراً...
وعاد البحث عن نظرية جديدة...
ومن هنا نشأت نظرية الأحلام...
أحد العلماء أشار إلى أن الفص الأمامي للمخ، هو المسئول عن الأحلام، وأن تلفه يعني غياب الأحلام، من فترات النوم...
ولما كانت الأحلام ضرورية للغاية، في شخصية الإنسان، وحالته النفسية، فقد اهتم العلماء بشدة بتلك النظرية، وبدءوا في دراستها، وإجراء تجاربهم عليها بالفعل...
وهنا انتبهوا إلى حقيقة مدهشة....
حقيقة أنهم يجهلون من الأساس ماهية النوم...
وماهية الأحلام...
لذا كان من الضروري أن تبدأ أبحاثهم من بعيد..
بعيد جداً
-----------
فوق العقل (3)..
لماذا ننام؟!....
السؤال يبدو سهلاً للغاية في البداية....
والجواب أسهل...
فنحن ننام لأن الجسد يجهد، ويتعب، ويستنفد طاقته، ويحتاج إلى النوم، حتى يسترد عافيته وقوته....
هذا هو الجواب، الذي سنحصل عليه من أي شخص...
وسنقتنع به...
تماماً...
ولكن الواقع أنه ليس الجواب الصحيح، من الناحية العلمية.....
فكل الأبحاث، التي أجراها العلماء، تؤكد أن النوم لا يجعلنا نستعيد الطاقة، التي نفقدها طوال النهار، وأنه لا يعيد إلينا سعراً واحداً منها...
ربما يدهشك هذا، أو تستنكره، أو تغضب منه....
أو ربما حتى تتهم كاتبه بالتخريف، والتلفيق، ومحاولة الإثارة دون منطق.....
ولكنه العلم....
فالعلم لا شأن له بما نتصوّره، أو نتوقعه، أو حتى تربينا عليه...
العلم يؤمن فقط بالأرقام، والحسابات، والدراسات، والتجارب...
ولقد أجري آلاف منها على مسألة النوم تلك...
في البداية، كان الفكر النمطي يقول إن النوم حالة يستعيد بها العقل والجسد ما فقده من طاقة، لذا حسب العلماء طاقة الجسم، قبل وبعد النوم، فلم يجدوا اختلافاً بينهما....
وحاروا...
وارتبكوا...
وأجروا المزيد والمزيد من التجارب والدراسات.....
ومن أهم تلك التجارب، أنهم أخضعوا مجموعة من المتطوعين، إلى حالة من اليقظة المستمرة، في نفس الوقت، الذي تمتعت فيه مجموعة أخرى بنوم منتظم عميق....
وبدأت دراسة مقارنه للفريقين....
في البداية، بدا أفراد الفريق، المحروم من النوم، أكثر خمولاً، وعصبية، وأبطأ في الاستجابة وردود الأفعال، وكأنما فقدوا حيويتهم مع قلة النوم....
ثم حدث تطور مدهش....
أفراد الفريق المستيقظ استعادوا حيويتهم في اليوم الثالث، بل وأصبحوا أكثر حيوية ونشاطاً، من الفريق الذي ينام على نحو منتظم...
الأغرب أن ملكاتهم الإبداعية، ومهاراتهم اليدوية، أصبحت أكثر وأدق، وهم يحاولون الاستفادة بالوقت الطويل، الذي حصلوا عليه، مع حذف ساعات النوم...
وفي نهاية الأسبوع كان العلماء في حيرة أكبر، وهم يطرحون السؤال نفسه: لماذا ننام؟!..
فالفريقان تساويا في الأداء، مع ميل الكفة تجاه المستيقظين، وليس كما توقع الكل...
هناك سبب آخر إذن للنوم، بخلاف استعادة الطاقة....
وعبر بعض التجارب، انتبه أحد العلماء إلى أن الجسد البشري يفرز مادة طبيعية، شبيهة بالمورفين، أطلق عليها اسم الإندورفين، أي المورفين الداخلي....
ولأن الجسم يفرزها بصورة طبيعية، فقد افترض بعضهم أن تلك الإندورفينات تتراكم في الجسد، وفي المخ بالتحديد، مما يصيبه بشيء من التخدير، يدفعه إلى النوم....
ونظرياً، بدت الفكرة منطقية ومعقولة للغاية......
والإندورفينات أصبحت حقيقة مثبتة....
وكان هذا يعني حل لغز النوم أخيراً.....
ولكن في العلم، النظريات وحدها لا تكفي، لا بد من التجارب، والدراسات، والاختبارات، و....
والانقلابات....
وكان هذا بمثابة صدمة جديدة للعلماء، وإضافة محيرة للغز الكبير...
لغز النوم، و...
وللحديث بقية...
طويلة.
-----------
فوق العقل (4)..
مرة أخرى، صدم العلماء، بأن ما تصوّروه سبباً للنوم، هو في الواقع ليس كذلك على الإطلاق.....
وهكذا عاد اللغز إلى بدايته....
وعاد السؤال يطرح نفسه، مع كم أكبر وأضخم من الحيرة....
ومن التوتر أيضاً....
فالسؤال، الذي بدا بسيطاً مباشراً في البداية، وبدت إجابته سهلة يسيرة للعامة، أصبح من وجهة نظر العلم لغزاً، من أكبر ألغاز العقل البشري....
لغز النوم....
ومع الأبحاث المتتالية، صار النوم لغزاً أكبر...
وأكبر...
وأكبر...
فالتجارب، التي أجريت على البشر، أثبتت كلها أن الإنسان يستطيع الاستغناء عن النوم تماماً، لو تم تدريبه على هذا.....
بل إن بعض الأمراض، ترتبط بعدم القدرة على النوم، لسنوات وسنوات.....
النوم إذن ليس ضرورة حيوية، كما كان متصوّراً من قبل، وهذه حقيقة علمية مدهشة، على الرغم من كل ما ألفناه وعهدناه وتصورناه، في عمرنا وتاريخنا كله....
ولكنه ضرورة نفسية، لا شك فيها؛ فالذين حرموا من النوم لفترات طويلة، اكتسبوا نشاطاً ليلياً مدهشاً، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والعصبية....
اكتسبوا نشاطاً ليلياً مدهشاً، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والعصبية....
وهذا يعيدنا إلى الموضوع الرئيسي، الذي دفع بنا إلى نهر العلم الفرعي هذا...
الفص الأمامي للمخ...
فمع حيرة العلماء، وضع أحدهم نظرية، تقول إن الفص الأمامي، هو المسئول عن الأحلام، التي تراودنا، في مرحلة النوم العميق....
وبعد دراسات، حدّد العلماء مرحلة الأحلام هذه، بارتجافة الجفون أثناء النوم، وراحوا يرصدون هذا، ويسجلونه، ويربطون بينه وبين مراحل النوم الأخرى....
وبعد أبحاث مجهدة، تمكن العلماء من قراءة لغة الجفون، وهي ليست لغة عاطفية كلغة العيون، ولكنها لغة خاصة بالأحلام، تحدد ما إذا كان الشخص يحلم حلماً جميلاً، أم مضطرباً، أم يعاني من كابوس عنيف....
كان من الضروري أن تكون هذه هي البداية، لدراسة علاقة الفص الأمامي للمخ بعالم الأحلام...
العلماء فحصوا اًحد الفصوص الأمامية الطبيعية، وأصحاب الفصوص المصابة، وحتى المصابين بأورام في الفصوص الأمامية لأمخاخهم....
فحصوهم جميعاً، أثناء نومهم العميق...
ومرة أخرى، خيبت النتائج آمالهم وتوقعاتهم....
الكل نام...
واستغرق في النوم...
وحلم....
وفي متوسطهم، كانت أحلامهم عادية، ومنطقية، ومتقاربة....
كلهم مر بأحلام وردية، ومضطربة، وعانى من بعض الكوابيس والهواجس، بلا فارق بين ما عليه فصوصهم الأمامية....
ودون الخوض في عالم الأحلام ودلالاته، وهو ما سنتحدث عنه في موضوع لاحق، فقد أثبتت تلك التجارب أن علاقة الفص الأمامي للمخ بعالم الأحلام تساوي صفراً كبيراً...
صفراً اتسع، ليلتهم كل أبحاث العلماء، بلا رحمة أو هوادة...
وبقي الفص الأمامي لغزاً....
وطوال تلك الفترة، التي انشغل فيها علماء الغرب بالبحث عن ألغاز الفص المخي، كان السوفيت يتعاملون معه، من منظور آخر تماماً...
منظور التقطوه من التراث الصيني والياباني، ومن الرهبان التبتيين، الذين أثاروا انتباه العالم كله، في مرحلة تالية...
فالرهبان كانوا يعيشون حياة شديدة التقشف، في ظروف مناخية غاية في السوء، وبموارد تكاد تكون منعدمة، إلا أنهم كانوا يتعايشون مع هذا كله بثبات وصبر شديدين، ويمارسون نوعاً مدهشاً من الرياضات الروحية، جعلهم يكتسبون قدرات، لم يكن العلم يتصوّر أنه من الممكن أن يكتسبها بشر....
ففي جسمنا البشري نوعان من الأعصاب والعضلات...
نوع إرادي؛ أي أننا نتحكم فيه بإرادتنا، مثل حركة أجسادنا، وأطرافنا، وحواسنا.....
ونوع لا إرادي، أي أنه من المفترض أن حركته لا تخضع لإرادتنا، مثل معدل النبض، والتنفس، واحتراق السعرات الحرارية، أو ما يعرف بالأيض، وحركة الدم في العروق....
ولكن رهبان التبت، برياضتهم الروحية، وأجسادهم النحيلة، أثبتوا أمراً مدهشاً....
ومذهلا...
لقد أخضعوا اللاإراديات إلى إرادتهم....
جعلوا اللاإرادي، إرادياً....
بإرادتهم....
وكان هذا، بالنسبة للعلم طفرة....
طفرة قلبت الموازين كلها رأساً على عقب...
وبمنتهى العنف
------------
فوق العقل (5)..
فوق العقل (5)..
رهبان التبت كسروا كل معلومات العلماء، عن قدرات المخ البشري، وأثبتوا أن طاقاته تفوق كل ما أمكنهم تخيله، خلال سنوات وسنوات وسنوات من العلم والدراسة والاختبارات...
ولأنهم درسوا كل مليمتر من المخ، فقد تصوّروا أن تلك الطاقات الجديدة، لابد وأن تنبع من المنطقة الوحيدة، التي لم يمكنهم سبر أغوارها بعد....
الفص الأمامي...
ولكن المشكلة أنه لا توجد أية إصابات، في الفص الأمامي، لدى رهبان التبت؛ لدراسة تأثيرها على قدراتهم، ومن المستحيل، في الوقت ذاته، إحداث إصابة متعمدة في أحدهم أيضاً...
ليس هناك إذن سوى البحث عن وسيلة أخرى لدراسة هذا....
وهنا اتجه العلماء إلى دراسة الأمر، عبر وسيلة مختلفة تماماً....
رسّام المخ الكهربي...
جهاز يلتقط الموجات الكهرومغناطيسية للمخ، ويقوم بتسجيلها، على هيئة خطوط ومنحنيات، تحدد نشاط المخ، في كل لحظة...
في البداية، بدأت عملية تسجيل لإشارات المخ، لأكثر من مائة شخص، من مختلف الأعمار والظروف، وبعدها، تم تسجيل الإشارات المخية للرهبان، أثناء نشاطاتهم اليومية المعتادة...
ثم دخل الرهبان حالة التركيز، وراحوا فيما يشبه الغيبوبة....
وانطلقت طاقاتهم العقلية...
وانطلقت...
وانطلقت....
وعلى رسّام المخ الكهربي، قفزت الإشارات، إلى حد مدهش....
حد لم تبلغه، حتى في أشد لحظات الانفعال....
وبمنتهى الذهول، راجع العلماء إشارات المخ مرة، وثانية، وثالثة....
ولم يكن هناك مبرر من الاعتراف، بأنهم أمام ظاهرة مدهشة...
فأولئك الرهبان النحفاء، الذين يبدون وكأن أجسادهم قد استنزفت من الجوع، نقلوا كل طاقاتهم إلى عقولهم، لينطلقوا بها خارج الحدود....
كل الحدود...
ولأن العلماء يحتاجون إلى قواعد وأسس؛ يبنون عليها علومهم ونظرياتهم، فقد بدءوا في دراسة حياة رهبان التبت وتدريباتهم الروحية؛ لمعرفة تأثيرها المدهش على العقل، وقدرته على إخضاع اللاإراديات إلى إرادته...
وفي هذا السبيل، سجلوا مجموعة من التجارب المذهلة...
فأحد الرهبان تم دفنه، في تابوت تحت الأرض، دون تزويده بأي طعام أو شراب، ودون مصدر للهواء، مع توصيل جسده بجهاز خاص (Polygram)؛ لقياس معدل أيضه، ونبضات قلبه، وتنفسه....
ولقد ظل ذلك الراهب مدفوناً لثلاثة أيام، والأجهزة كلها تسجل حالة لم ير العلماء مثلها، في حياته كلها...
فالتمثيل الغذائي (الأيض)، انخفض إلى حد مذهل، بحيث صار الجسد يستهلك سعراً واحداً في الساعة تقريباً، ونبضات القلب أصبحت نبضة واحدة في الدقيقة....
أما معدّل التنفس، فقد بدا مذهلاً، كما لو أن ذلك الراهب يستهلك ذرات الهواء ذرة بذرة...
وهكذا، خرج الراهب من تحت الأرض، بعد ثلاثة أيام كاملة، سليماً معافى، على الرغم من أن الهواء المتاح لا يكفي أي إنسان عادي، لأكثر من ساعتين!!...
قدرة مذهلة، تؤكد أن طاقات العقل البشري هائلة، أكثر مما يمكن حتى أن نتخيل...
كل ما علينا هو أن نستوعب قانون العقل، الذي يتيح له الانطلاق على هذا النحو المدهش....
وهذا ما حاول العلماء التوصل إليه، عبر دراسات طويلة، لعقول ونمط حياة رهبان التبت، وبذلوا جهداً رهيباً لربط كل هذا بالفص الأمامي للمخ، الذي مازال يربكهم ويحيرهم كثيراً...
كان منتهى أملهم أن يضربوا عصفورين بحجر واحد، وأن يتوصّلوا إلى تفسير واحد للظاهرتين معاً...
وبعد عامين تقريباً، بدا لهم أنهم قد توصّلوا إلى نتائج مدهشة، تقول إن الجوع لفترات طويلة، يقلّل الجهد الواقع على الجسد، ويطلق العنان للمخ...
وبسرعة، خرجت عشرات الكتب، التي تؤيد هذه النظرية، ووجدت لها ملايين المؤيدين، في كافة أنحاء العالم، خاصة وأنها تتفق مع مبدأ (جوعوا تصحوا)، و(المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء)، وكلاهما يتردّد على ألسنة الكافة، منذ قديم الزمان...
وعلى الرغم من غياب التجارب العلمية التأكيدية، بات معظم العلماء على ثقة، من أن النظرية صحيحة تماماً..
أو فلنقل إنهم تمنوا هذا....
ولكن المشكلة أن العقل البشري يصر دوماً على أن يثبت للعلماء أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأنهم مهما تصوروا سيواجهون حتماً تحدياً جديداً، في كل خطوة....
فالكشوف العلمية، كما وصفها أحد العلماء، هي إهانة مستمرة للذكاء البشري، فكلما تصوّر الإنسان أنه قد بلغ ذروة المعرفة، صدمته نتيجة علمية جديدة، تفسّر نقطة حيرته، وتثبت خطأ نقاط أخرى، كان يتصوّر أنه قد حل ألغازها، وكشف مغاليقها....
وفي هذه المرة، جاءت الطعنة من خارج المحيط العلمي تماماً...
ومن شاب نحيل أيضاً...
شاب هدم النظرية من أساسها...
تماماً
---------------
فوق العقل (6)
في عام 1911م، ولد الهولندي "بيتر هيركوس"، وظل يحيا كشاب عادي، حتى انقلبت حياته رأسا على عقب فجأة في عام 1941م.
في ذلك العام كان "بيتر" يعاون والده في طلاء بناء من أربعة طوابق، عندما زلت قدمه، وسقط من الطابق الرابع، وتم نقله إلى المستشفى في سرعة، في العاشر من يوليو 1941م، حيث تم إسعافه، وقدر له أن ينجو، وأن يغادر المستشفى في الخامس من أغسطس، من العام نفسه..
ولكن شتان ما بين الدخول والخروج.. لقد كشف "بيتر"، وهو يرقد على فراشه في المستشفى أنه قد اكتسب خاصية عجيبة وهي أنه ما أن يمس شيئاً.. أي شيء.. حتى تندفع إلى رأسه كل المشاهد والأصوات والأحداث، التي عايشها هذا الشيء.. جماداً كان أو حيواناً أو نباتاً..
وكاد المسكين يُصاب بالجنون في البداية..
بل لقد تصور أنه قد أُصيب به بالفعل..
ثم اتضحت له حقيقة موهبته الجديدة شيئاً فشيئاً..
والعجيب في ظاهرة "هيركوس" أنه -ولأول مرة في التاريخ- اعترفت إدارة "اسكوتلانديارد" بموهبة شخص يحوز صفة فوق طبيعية، بل استدعت "بيتر هيركوس" إلى إنجلترا" عام 1951م، حيث عاون مفتشيها على حل غموض اختفاء الماسة الشهيرة "سكون"، وبعدها استعانت به عدة هيئات بوليسية أوروبية، وحقق في كل مرة انتصاراً مبهراً...
وعلى الرغم من هذا لم يحظَ "بيتر" باعتراف أو تأييد الأوساط العلمية، ولم يحاول عالم واحد، ممن أنكروا موهبته، اختبار وجود هذه الموهبة، بأية وسيلة، حتى إن الصحفية "نورما- لي- براوننج" التي كانت من أشد المؤيدين لـ "بيتر"، قد علقت على هذا بقولها: "لقد خسروا فرصة مثالية لفحص ظاهرة غامضة"...
وهي على حق في قولها هذا، فربما أدى فحص "بيتر هيركوس" إلى إماطة اللثام عن تلك الظاهرة..
ولكن يبدو أن البعض يخشى إماطة هذا اللثام..
وهذا أيضاً صحيح..
إن الرافضين لوجود هذه الظاهرة يقولون: إنه لو صح وجودها، فسيعني هذا أن الأسوار التي تحيط بالعقل قد تهاوت، وأنه لم يعد هناك مكان آمن لحفظ أية أسرار، مهما بلغت خطورتها، فالقاعدة الأولى، في عالم المخابرات مثلاً، تحظر الاحتفاظ بمعلومات مكتوبة، وتصر على ضرورة حفظها عن ظهر قلب، بافتراض أن العقل البشري هو الحصن الحصين، الذي يستحيل اختراقه، أو نسيانه داخل درج مغلق، أو فوق مائدة القمار، وعلى الرغم من ذلك، فمن يمتلك القدرة على قراءة الأفكار سيعبر أسوار العقل في يسر وسهولة ودون أن يقاتل العمالقة مثل "جيمس بوند"، أو يحتال ويتخابث مثل "أرسين لوبين"..
بل قد يتمادى أصحاب هذه المقدرة الفذة، فيفتتحون مكاتب خاصة، على غرار مكاتب البوليس الخاص، يعلقون على أبوابها لافتة تقول: "هنا أسرار للبيع"..
قد تبدو الصورة خيالية على الورق، ولكنها ليست كذلك في نظر العديد من العلماء، وأجهزة مخابرات الشرق والغرب، بل إنهم يولونها اهتماماً بالغاً، وينكبون على دراستها في سرية ودقة، حتى إننا نجد في المخابرات الأمريكية والسوفيتية، ما يعرف باسم "الاستخبارات فوق النفسية"..
ولعل القارئ يتصور الآن أننا لو استبعدنا الفريق الرافض من العلماء، فسيتبقى أمامنا المؤيدون للظاهرة فحسب.
ولكن هذا غير صحيح..
الواقع أنه ما من عالم -في الكرة الأرضية كلها- يمكنه أن يجزم أو ينفي وجود هذه الظاهرة، بصفة قاطعة، فبعد استبعاد الرافضين لوجودها سينقسم الباقون إلى قسم أعظم، يقف على الحياد، غير مؤيد أو معارض، أو هو ينتظر ما سيتوصل إليه الآخرون، وقسم صغير، يميل إلى الإيمان بوجود الظاهرة، ولكنه يلقي سؤالاً أكثر أهمية، وهو يقلب بين يديه نموذجاً صغيراً للمخ البشري..
من أين تنبع هذه الظاهرة؟..
فعلى الرغم من التقدم الطبي والتكنولوجي والتقني، الذي توصل إليه العالم، في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين، إلا أن أجزاء كبيرة من المخ البشري مازالت غامضة تماماً، ومازال ذلك العضو الرخوي البيضاوي، الذي يبلغ وزنه التقريبي في الرجل حوالي رطلين وعشر أوقيات "أي ما يساوي 1/55 من وزن الجسم تقريباً" يثير حيرة أعلم العلماء..
إذ أن المخ يتكون "تشريحياً" من نصفين، أيمن وأيسر، يشتركان معاً لصنع الفص الأمامي والفص الخلفي، ثم يحوز كل منهما فصاً جدارياً، وآخر صدغياً، في حين يلتقيان من الخلف عند المخيخ، والجسم الصنوبري الصغير..
ولقد درس العلماء كل خلية من خلايا هذا المخ، وعرفوا وظيفة كل جزء فيه، فيما عدا منطقتين، توقّف أمامهما الجميع في حيرة، وهما الجسم الصنوبري والفص الأمامي، فتوصلوا إلى جزء ضئيل من وظائف الأول، وعجزوا تماماً عن فهم وظيفة الثاني "مع الإيمان التام بأن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق شيئاً عبثاً"..
ومع كشف تلك القدرات فوق العقلية، عاد سؤال خطير يطرح نفسه..
هل الفص الأمامي هو محطة الإرسال والاستقبال التخاطري؟..
ولم يأتِ الجواب بعد..
ولن يأتي، لأن إثبات ظاهرة فوق نفسية، مثل التخاطر العقلي، كان وسيظل عسيراً، لأن العلماء سيعجزون دوماً عن إمساكها بأيديهم، وتقليبها، ووضعها تحت المجهر وتصويرها، وتكبيرها، و… و… وإلى أن يأتي ذلك اليوم "المستحيل"، سنظل نردد قول أحد كبار العلماء، المؤمنين بوجود الظاهرة:
"ينبغى أن يتوقف العلم عن محاولاته الدائبة، لإثبات وجود هذه الظواهر، ويحصر جهوده في بحث كيفية الإفادة منها، حتى لا نكون كمن يقضي عمره كله في محاولة إثبات كونه حياً، ثم تنقضي حياته، دون أن يصنع فيها شيئاً واحداً.."
وإلى أن تحظى ظاهرة "التليباثي" بالاعتراف، لن يتوقف العلماء عندها طويلاً، فمازالت أمامهم ألغاز بلا حدود، تكمن داخل فص المخ، و...
وللحديث بقية.
-----------------
فوق العقل (7)
المخابرات السوفيتية، كانت أول من أقر بوجود القوى فوق العقلية، سواء أكانت تنبع من الفص الأمامي للمخ، أو من غيره....
كان كل ما يكفيها، هو أن أمخاخ أولئك، الذين يتمتعون بقوى فوق عقلية، تتضاعف إشاراتها، في حالات التجلي....
كما أن لديهم ما يعرف باسم، (مشاهدات الأمومة)....
فقبل حتى الخوض في احتمالية وجود قوى فوق عقلية، لاحظ العلماء وجود رابطة عجيبة، بين الأم وأطفالها؛ فقد تكون غارقة في نوم عميق، ثم تهب منه فجأة، دون أي مبرّر، وتهرع إلى حجرة طفلها المجاورة، لتجد أنه يكاد يختنق بوسادة مهده، دون أن يصدر عنه أدنى صوت!!..
وفي واحدة من الحالات المسجلة، قطعت أم أمريكية مائة ميل، بعد منتصف الليل، لتتفقد ابنتها، التي تقضي فترتها الجامعية في ولاية أخرى، ووصلت لتجدها محمومة، مريضة، وبعد أن تعافت، أبدت دهشتها البالغة؛ مما فعلته أمها، مؤكدة أنها، خلال مرضها، تمنت لو أن الأم إلى جوارها!!...
وعبر مائة ميل، أي ما يزيد عن مائة وستين كيلو مترا، تلقت الأم الرسالة...
وأتت...
كانت تلك القصة وغيرها كافية، لتبدأ المخابرات السوفيتية أبحاثاً طويلة مكثفة، حول القدرات فوق العقلية، وإمكانية الاستفادة منها في أعمال التخابر، مثل قراءة أفكار الخصم، وسبر أغواره، وتحديد قراراته ونواياه مسبقاً...
ومن أجل هذا الغرض، أنشأت المخابرات السوفيتية، في أواخر الخمسينيات فرعا خاصا، عرف باسم (الاستخبارات فوق النفسية)....
وعلى الرغم من أن السوفيت قد أحاطوا فرع مخابراتهم الجديد هذا بستار حديدي سميك، وبذلوا جهداً هائلاً؛ لإخفاء نتائج أبحاثهم فيه، فقد كشف الأمريكيون أمره، في منتصف الستينيات...
في البداية، سخروا من الفكرة كلها، واعتبروها مجرد تخاريف سوفيتية سخيفة، حتى أجروا تجربة واحدة، قلبت موازينهم كلها رأساً على عقب...
لقد فصلوا أنثى أرنب عن صغارها، ووضعوها في غواصة، على بعد ستين كيلومترا من الشاطئ، وعمق كيلو متر واحد، تحت سطح الماء...
ثم بدءوا في ذبحها، واحداً بعد الآخر...
وسجل علماؤهم نتائج مذهلة...
ففي كل مرة، يتم فيها ذبح أحد الصغار، كانت الأرنبة تصاب بحالة من التوتر العصبي الشديد، كما لو أنها تشعر بما يعانيه صغارها، عبر كل تلك المسافة..
ومع ذهولهم، كرّر العلماء التجربة مرة ثانية، وثالثة.... ورابعة...
وفي كل مرة كانت النتائج واحدة...
هناك اتصال عقلي فائق مؤكد، بين الأم وأبنائها...
وبين بعض البشر وبعضهم أيضاً...
وهكذا، أنشأ الأمريكيون بدورهم فرع المخابرات فوق النفسية، في مخابراتهم...
واتخذت حرب الجاسوسية مساراً جديداً...
ومدهشاً...
والواقع أن دخول المخابرات إلى المضمار، أدى إلى تسارع تجارب القوى فوق النفسية على نحو ملحوظ، باعتبارها قد أصبحت سلاحاً حربياً جديداً، يسعى كل طرف إلى التفوق فيه، والفوز بسباقه...
وهنا فقط، بدأت تظهر نتائج واضحة ومسجّلة للأمر...
فلأول مرة، يربط العلماء بالفعل، بين نشاط الفص الأمامي للمخ، والقدرات فوق العقلية، بوساطة الدقة البالغة، التي تفتقر إليها الحسابات البشرية، وتتفوق فيها أجهزة الكمبيوتر...
ولأول مرة، يلاحظون أن أصحاب القدرات فوق العقلية، يتميزون بزيادة طفيفة، في حجم فصوصهم الأمامية...
ولأول مرة أيضاً، توضع قاعدة للاتصالات العقلية الفائقة، التي تعرف باسم (التليباثي)...
فكل حالة، من الاتصال العقلي الفائق، تحتاج إلى طرفين مؤهلين، مرسل .. ومستقبل...
ولكي ينجح الاتصال الفائق، لابد من وضع المرسل والمستقبل في الحالة المطلوبة، لتحقيق شرط الاتصال، إذ لابد وأن يكون المرسل في حالة توتر، أو لهفة لإتمام الاتصال، والمستقبل في حالة استرخاء تام...
هذا لأن الأمر يعتمد عضوياً، على هرمونين أساسيين، في الجسم البشري...
الأدرينالين، وهو هرمون يتم إنتاجه في نخاع الغدة الكظرية، ويفرز في حالات التوتر والانفعال، ليزيد من ضغط الدم، وسرعة النبض، وقوة انقباض العضلات...
والكولين استيراز، وهو هرمون ذو تأثير معاكس تماماً لتأثير الأدرينالين، يعمل على خفض الضغط، وسرعة النبض، وإرخاء العضلات...
المرسل لابد وأن يكون في حالة استنفار (أدرينيرجيا)...
والمستقبل في حالة استرخاء (كولينيرجيا)..
هنا فقط، يحدث الاتصال العقلي الفائق، وهو ما يفسر حالات الاتصال الأمومي، عندما يعاني الأطفال من خطر ما، فيندفع الأدرينالين في دمائهم، وتكون الأم نائمة أو مسترخية، وهو ما ثبت، في كل حالات الاتصال الأمومي الفائق...
وبينما يسجل العلماء تجاربهم هذه، ويرصدون مستويات الأدرينالين والكولين في الدم، قفز أحدهم إلى كشف جديد مدهش...
كشف وثب بالتجارب العقلية إلى آفاق جديدة...
آفاق بلا حدود.
-------------
فوق العقل (8)
المخ يصدر موجات جاما، عندما يعمل...
العبارة السابقة، على بساطتها، كانت فتحاً كبيراً، في عالم الدراسات فوق العقلية، إذ أنها تشير، ولأوّل مرة، إلى أن المخ البشري يصدر طاقة ما، يمكن قياسها وحسابها...
ومع أجهزة القياس المتوافرة، في زمن الكشف، صار من الممكن أن يرصد العلماء كل تغير، في انبعاث أشعة جاما من المخ، مع نشاطاته المختلفة....
ومع مرور الزمن، تطورت أجهزة القياس، وتطوّرت معها وسائل الفحص والتقييم....
فالمخ يبعث موجات جاما، في حالة الغضب، تختلف عما يبعثه في حالة الفرح، أو الخوف، أو حتى التفكير العميق، وهذا يعني أن قياس موجات جاما، المنبعثة من المخ، يمكنه أن يحدد مشاعر صاحب هذا المخ، حتى ولو لم يفصح عنها....
ولفترة طويلة، تم التعامل مع الأمر من هذا المنظور، حتى كان أحد المؤتمرات، في عام 1988م، عندما قال أحد الخطباء، دون أن يعني سوى التعبير البليغ: إن هذا أشبه بقراءة الأفكار....
والتقط أحد العلماء العبارة، وعاد إلى معمله، وأغلقه خلفه، وراح يدرس العبارة، ويفكر فيها طويلاً...
طويلاً جداً...
فلو أن موجات جاما تتغير بالفعل، مع تغير المشاعر والأحاسيس، فلماذا لا يتم رصدها؛ لقراءة أفكار الآخرين بالفعل؟
ومن هنا، ومع أجهزة القياس المحدودة، وضع ذلك العالم فرضية جديدة، تقول: إن عملية قراءة الأفكار، أو الاتصال العقلي الفائق (التليباثي)، ما هي إلا موهبة عند البعض، لرصد موجات جاما، التي تطلقها عقول الآخرين.....
ولكن فرضيته هذه لم تلقَ رواجاً كبيراً؛ نظراً لأن حالات الاتصال العقلي الفائق، كانت تحدث، في كثير من الأحيان، بين أناس تفصلهم مئات الكيلومترات والأميال...
إلا أنها كانت بداية لعصر جديد، من عصور الدراسات العقلية وفوق العقلية...
فلعدة سنوات تالية، راح فريق من العلماء يدرس موجات جاما، التي يبثها المخ في حالاته المختلفة، وطرق الاستفادة منها...
في ذلك الحين، كان التطور العسكري يبلغ مراحل كبيرة، وسرعة الطائرات المقاتلة تتزايد...
وتتزايد...
وتتزايد...
ومع تضاعف السرعة، التي بلغت سرعة الصوت، (340م/ثانية)، أصبحت أكبر مشكلة هى رفع سرعة استجابة الطيارين، بحيث يمكنهم رصد الهدف والتصويب عليه وإصابته، وهم ينطلقون بهذه السرعة الكبيرة..
وكانت المشكلة تكمن فيما يعرف باسم (المعادلة العصبية)....
وتلك المعادلة العصبية، هي الفترة التي يحتاجها المخ البشري الطبيعي، لإدراك ما يواجهه، واتخاذ رد الفعل المناسب للتعامل معه، وهي تختلف من شخص إلى آخر، ويمكن تنميتها بالتدريب والمران المستمر...
وإلى حد ما، ومن خلال تدريبات شاقة وعنيفة، تمكن الطيارون من ضبط سرعة استجاباتهم؛ لتتوافق مع سرعة طائراتهم....
ولكن الطائرات تطورت أكثر، وتضاعفت سرعتها، فأصبحت ضعف سرعة الصوت، ثم لم تلبث أن فاقت هذه السرعة، إلى حد لم يعد من الممكن أو المنطقي رفع سرعات الاستجابة إليه، مهما بذل الطيارون من جهد...
أو من عمر...
وعندئذ، كان لابد من التفكير في وسيلة جديدة، تتيح الرصد والتصويب والإصابة، في هذه السرعة الرهيبة...
وهنا برزت فكرة أشعة جاما، المنبعثة من المخ...
وطوال ما يقرب من عام كامل، وباعتمادات مالية ضخمة، وإمكانيات متاحة غير محدودة، تمكن العلماء من تحديد أطوال موجات جاما، التي تنبعث من المخ البشري، في حالات الرصد والتسديد والإصابة، وبدقة متناهية، جعلتهم قادرين على صنع أول جهاز توجيه، يختصر المعادلة العصبية إلى أقصى حد ممكن...
خوذة جاما....
خوذة توضع على الرأس، وتسجل انطباعات وردود أفعال الطيار، عندما يرصد هدفاً ما، لتنقل الفكرة، من مخه إلى أجهزة إطلاق النار مباشرة...
بمعنى أكثر وضوحاً، يرى الطيار الهدف، ويقرّر إصابته، ويصدر عقله موجات جاما، التي تتفق مع هذه الرغبة، قد تنقلها الخوذة إلى أجهزة الإطلاق مباشرة، دون المرور بالمسار الطبيعي، الذي كان ينقلها إلى اليد، فتستجيب بالضغط على زر الإطلاق...
ونجحت الفكرة نجاحاً ساحقاً....
سرعة الاستجابة العقلية، عبر خوذة ألفا، كانت تفوق سرعة الاستجابة الجسدية بخمس مرات على الأقل..
وهكذا تحوّل العقل، ولأوّل مرة عملياً، إلى سلاح حربي خطير...
خطير للغاية..
ودفع هذا العلماء إلى إجراء تجارب أكثر وأكثر، على خوذة جاما، باعتبار أن وسائل استغلالها مازالت كثيرة.. كثيرة للغاية...
وعلى الرغم من اعتبارها سلاحاً حربياً سرياً، فوجئ قادة القوات الجوية الأمريكية ذات يوم بإعلان كبير عن بيع خوذة جاما، في الصفحة الأولى، من أكبر صحفهم، وأوسعها انتشاراً، و...
وكانت كارثة
-------------
فوق العقل (9)
ذات صباح، في أواخر الثمانينيات، تصدَّر إعلان كبير الصفحة الأولى، لكبرى الصحف الأمريكية، حاملاً اسم شركة ألعاب كمبيوتر شهيرة، تبشر زبائنها بابتكار وسيلة توجيه جديدة لألعاب المستقبل..
ومع العبارات الأنيقة، كانت هناك صورة خوذة..
خوذة (جاما)...
لم تكن على نفس الهيئة، التي ابتكرها عليها علماء الجيش والقوات الجوية الأمريكية، إلا أنها كانت تعتمد على النظرية نفسها..
تحديد رد فعل اللاعب، عبر انبعاثات موجات (جاما) من مخه، ونقلها مباشرة إلى أجهزة التصويب..
ومع التطور الجديد، أكَّدت الشركة المنتجة، أن هذا يمنحها فرصة مضاعفة سرعة ألعابها، إلى حد يتجاوز قدرات البشر العاديين، ولكنه يمنح متعة لا حدود لها لمن يرتدي الخوذة الجديدة..
وفور ظهور الإعلان في الصحيفة، تم حجز أكثر من عشرة آلاف خوذة من الشركة المنتجة وموزعيها، خلال ساعة واحدة..
وفي الساعة التالية، كان رجال مخابرات الجيش الأمريكي يملئون مقر الشركة، ويحتلون مكاتبها، ويستوجبون رئيس مجلس إدارتها، حول كيفية حصوله على هذا السر الخطير..
ولكن إجابة رئيس مجلس الإدارة كانت أخطر بكثير..
فالرجل أكَّد، بالأوراق والوثائق والسجلات، أن علماء شركته، هم الذين ابتكروا الفكرة، وصنعوا الخوذة.
وأسقط في يد خبراء الجيش الأمريكي..
فمن أعظم سمات العلم، أنه ليس حكراً على أحد..
وأن الفكرة الواحدة، يمكن أن تقفز إلى ألف عقل وعقل..
ولأن الشركة سجلت اختراعها، وحصلت على حق إنتاجه وتوزيعه، لم يملك الجيش الأمريكي منعها، وإنما اضطر إلى توقيع عقد احتكار معها، يجعله المشتري الوحيد لكل ما كانت تتضمنه خطتها من إنتاج تلك الخوذة العجيبة..
ولأن الخوذة قد انتشرت، بين عشرة آلاف مستهلك، كان لابد من العمل على تطويرها بسرعة، بحيث يمحو الجيل الثاني منها كل امتياز يمكن أن يمنحه الجيل الأوَّل لمستخدميه..
ثم إن سلسلة العلم قد اتصلت، عبر قنوات أخرى عديدة...
ابتكار الكمبيوتر الشخصي مثلاً، وتطوراته السريعة المتلاحقة، والقدرة على تصغيره ودمجه، ساعدت كلها على تطوير وسائل قياس ورصد موجات (جاما)؛ للوصول بها إلى أقصى قدر ممكن من الدقة..
وهكذا، أصبح من الممكن رصد أدق التغيرات، في المشاعر البشرية، عبر رصد موجات (جاما)، التي تنبعث من المخ أثناءها..
وهنا، أصبح الخيال ممكناً..
العلماء يعملون الآن، على قدم وساق، لتحويل الجيل الرابع لخوذة (جاما)، في القرن الحادي والعشرين، إلى آلة لقراءة الأفكار بالفعل..
والمدهش أن هناك نموذجا أوَّليا بالفعل لهذا..
خوذة (جاما)، يرتديها شخص ما، لتبث كل تغيير، مهما بلغت ضآلته، من مخه إلى جهاز رصد مباشرة..
ولاسلكياً..
وبمعاونة فريق من الخبراء، يمكن رصد تلك التغيرات الموجية، عبر خطوط ومنحنيات، يمكن للمتخصِّص قراءتها، وتحديد معانيها..
باختصار، يمكنه قراءة أفكار مرتديها..
وهذا ليس قمة التطور، في هذا المضمار، إذ يعمل العلماء الآن على عملية مزدوجة، عبر استخدام خوذتي (جاما)، إحداهما للبث، والأخرى للاستقبال، بحيث ترسل إحداهما أفكار مرتديها إلى عقل الآخر، فيشعر بنفس المشاعر، وكأنه يقرأ أفكار صاحبه..
والأمر لن يقتصر على هذا، فالموجات التي تطلقها عقول أصحاب القدرات فوق العقلية، يجري الآن رصدها، وبرمجتها في خوذات (جاما)، من الجيل الخامس، بحيث يمكن أن يرتديها شخص عادي، فيمتلك القدرة على التخاطر (التليباثي)، أو تحريك الأشياء عن بُعد (سيكوكينيزيس)، أو غيرها..
وهكذا تقفز خوذات (جاما) بالبشر، من العقل، إلى ما فوق العقل.. بل وربما تغوص في أعمق أعماقهم أيضاً..
فمطورو الجيل الخامس، يؤكِّدون أنهم، في غضون أعوام قليلة، سيمكنهم بوساطتها اختراق عالم الأحلام..
ليس مجازياً، ولكن فعلياً..
و..
ولهذا رواية أخرى
----------
فوق العقل(10)
العلماء لم يدركوا أبداً من أين تنبع الأحلام..
ولكنهم سجلوا موجاتها..
سجلوا كل ما يبعثه العقل البشري من موجات (جاما)، قبل، وأثناء، وبعد الأحلام..
ولأن الإنسان يستيقظ في الصباح، وهو لا يذكر أكثر من خمسة في المائة مما مر بعقله من أحلام طيلة ليله، فقد ابتكر العلماء وسيلة دقيقة، تعمل على إيقاظ النائم، فور الانتهاء من أحد أحلامه، عبر رصد حركة جفنيه، وبهذا يتسنى له أن يذكر حلمه..
أو معظمه على الأقل..
وبهذه الوسيلة، تمكَّن العلماء من تحديد طبيعة الموجات، التي يبثها المخ، مع الأحلام السعيدة، والحزينة..
وحتى الكوابيس..
ومع تطوّر وسائل القياس، وأجهزة الكمبيوتر، أصبح من الممكن رصد وتسجيل كل هذا بدقة..
بل بمنتهى الدقة..
وعلى الجانب الآخر، كان فريق آخر من العلماء قد سجَّل وبرمج كل انبعاثات المخ، الخاصة بمشاعره المختلفة..
وهكذا، وبعد مؤتمر علمي لتبادل الأفكار والمعلومات، نشأت تلك الفكرة الجديدة..
لماذا لا يتم زرع الأحلام؟!...
كانت هناك محاولة سابقة، لزرع الأفكار في رأس شخص ما، باستخدام خوذة (جاما)، إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل؛ بسبب الإرادة البشرية، التي تصدَّت للأفكار الدخيلة..
هذا بالنسبة لشخص متيقظ..
ولكن ماذا عن النائم؟!..
هل يمكن برمجة مخه المسترخي، بحلم خاص جداً..
حلم سعيد، أو حزين..
حلم عن رحلة في الفضاء مثلاً..
أو عن مغامرة مثيرة..
أو قصة حب ساخنة..
من الناحية النظرية، بدا هذا ممكناً جداً، وقابلاً للحدوث..
بل وللتطوير أيضاً..
ولقد تمادى أحد رجال الأعمال، فافترض أن المستقبل سيكفل زرع كل أنواع الأحلام، في رأس النائم، ورأى في هذا مشروعاً استثمارياً ضخماً، فسارع بتسجيل الفكرة..
وهكذا، في عام 2005م، أصبح هناك بالفعل مشروع لزرع الأحلام..
ومشروع يعني استثمارات، وتمويل، ومزيد من التجارب؛ للتوصُّل إلى فكرة تتجاوز كل الأحلام..
والواقع أن التجارب الأولية قد حقَّقت نتائج ملحوظة..
صحيح أنها ليست النتائج المنشودة، الكفيلة بإنجاح مشروع كهذا، إلا أنها بداية جيدة..
والعلم دوماً يسعى خلف البداية..
خلف كسر الحاجز..
ولقد كسر العلماء بالفعل حاجز عالم الأحلام السري، الغامض، والخاص جداً جداً..
وبقي أن يفهموه، ويدرسوه، ويتفوقوا عليه، و...
ويزرعوه..
وبقدر ما يبدو عليه هذا من إبهار، فقد رآه العديد من العلماء نوعا من العبث، لا طائل من خلفه..
فبم يفيد زرع الأحلام، في رءوس النائمين؟!..
ماذا يستفيد العالم، من شخص يصحو من حلم مبهج؟!..
وهذا الفريق يحارب الفكرة في شدة، ويطالب بتطوير خوذة (جاما)؛ لاستخدامها فيما يفيد البشر كافة، وليس المرفهين وحدهم..
ولكن الفريق المعارض كان له رأي آخر..
فزرع الأحلام ليس وسيلة للرفاهية فحسب..
إنه أيضاً علاج..
علاج شاف، من العديد من الأمراض النفسية، وعلى رأسها حالات الخوف المرضي المبالغ، أو ما يطلق عليه العلم اسم (الفوبيا)، و..
ولهذا حديث آخر.
-------------------
فوق العقل (11)
فوق العقل (11)
علماء النفس يؤكِّدون أنه، حتى أشجع وأقوى الرجال، لا يمكنه أن يدّعي أنه لا يعاني من خوف ما، من شيء ما....
ولو فعلها شخص واحد، فهو كاذب حتمًا، وهم يتحدونه أن يجتاز بقوله هذا اختبار جهاز كشف الكذب بنجاح!!..
هذا لأن ما من مخلوق حي بلا مخاوف..
ففي أعمق أعماق كل منا، هناك حتمًا خوف ما، من شيء ما، يحتل مساحة ما، من عقولنا، أو قلوبنا، أو أي مكان آخر من أجسادنا..
خوف سجلته عقولنا الباطنة، في لحظة ما، ربما لا تبتعد كثيراً عن لحظة مولدنا، واختزنته، وأخفته في بقعة مظلمة، لا تضاء إلا بعامل مساعد، أو فعل شرطي منعكس، وعندئذ فقط تسترجع العقول الخفية ذلك الموقف القديم، وتستعيده، وتطلقه في العقل الواعي، و…
ونخاف...
بل نرتعب ...
وبشدة...
ومخاوف البشر لا حصر لها؛ إذ أنها ترتبط بأي شيء، وكل شيء، ويمكن في بعض الأحيان أن تكمن في لحظات أو أشياء لا يمكن أن تثير ذرة واحدة من الخوف، في نفس أي مخلوق طبيعي، كملعقة فضية مثلاً، أو نوع بعينه من السجائر، أو دقات الساعة، أو أي أمر آخر..
وهذا هو العامل المساعد، الذي يضيء تلك البقعة المظلمة في أعمق أعماقنا، ليفجِّر خوفنا، ورعبنا، وفزعنا، وهلعنا، وكل تلك المشاعر، الذي تطلق عليه القواميس الطبية والعلمية اسم (الفوبيا)..
و(فوبيا) هو مصطلح لاتيني، يعني الخوف من شيء ما، ويمكن ربطه بكل أنواع المخاوف المعتادة، وغير المعتادة أيضاً، وعندما يحدث هذا، فنحن نشير إلى نوع خاص من الخوف..
النوع المرضي.. جداً
فالخوف من الأماكن المظلمة أو المغلقة، هو أمر طبيعي، عند الكثير من الناس، ولكنه عند البعض الآخر يتحوَّل إلى (فوبيا)، أو خوف مرضي، عندما يواجه هؤلاء البعض الموقف بارتعاشات عنيفة، وعرق غزير، وأعراض قد تبلغ حد التخشُّب، أو الغيبوبة التامة، أو حتى الموت، في حالات نادرة ومحدودة..
ولو حاولت أن تستنكر هذا، فكل ما أطلبه منك هو أن تتخيّل نفسك في مكان ما، لا تألفه جيِّداً، ثم انقطعت الأضواء كلها فجأة، ووجدت نفسك في قلب الظلام..
ظلام دامس رهيب، يحيط بك من كل جانب، ويرسم في خيالك عشرات الصور، والأوهام، والمخاوف، ويرهف حواسك حتى لتبدو أية حركة بسيطة أشبه بزحف ثعبان سام، أو انقضاضة خفاش قاتل، أو فحيح عفريت من الجن، أو… أو..
كل هذا سيصنعه عقلك في قلب الظلام، الذي سيجعلك ترتجف، وترتجف، وربما إلى درجة الرعب..
لا تقل لي بعدها إنك لا تعاني من الفوبيا...
ولأن الفوبيا شائعة، بين البشر جميعاً بلا استثناء، كما يؤكد علماء وأطباء النفس، كان من الضروري والطبيعي أن يسعى الكل للبحث عن علاج شاف منها...
أو عن نظرية علاج..
وتؤكِّد كل النظريات الجديدة، في العلم الحديث، أن إصابة المرء بأي مرض في الوجود يحتاج إلى عاملين أساسيين، وهما عامل الوراثة، وعامل البيئة..
وبمعنى أدق، لابد وأن تحوي الضفيرة الجينية للمرء العامل الوراثي الخاص بالمرض، وأن تحيط به ظروف بيئية، مناسبة لظهور المرض وصعوده إلى الجسم..
ولقد أكَّدت الأبحاث صحة هذه النظريات، وحتمية تشارك العاملين معاً، بحيث لا يكفي أحدهما وحده لظهور المرض، أياً كانت نوعيته، عضوية أو حتى نفسية..
النظريات والأبحاث الجديدة إذن تؤكِّد أنه حتى (الفوبيا) بأنواعها تحتاج إلى عامل وراثي، في جينات الجسم، وإلى ظروف بيئية مناسبة، تضغط على هذا العامل الوراثي، وتظهره، ليصاب الإنسان بحالة من حالات (الفوبيا)، أياً كان نوعها..
ولتوضيح الأمر أكثر، دعونا نفترض وجود طفلين، تعرَّضا لواقعة واحدة، ولتكن لدغة النحل مثلاً، في عامهما الأوَّل، الأوَّل يحمل الجينات المناسبة، والآخر لا يحملها..
كلاهما سيصاب عندئذ بالألم، والذعر، والفزع، وسيبكي كثيراً وطويلاً، ثم تمضي الواقعة، مع بعض التورّمات والكريمات المرطبة، ومضادات الحساسية المفرطة، وينتهي الأمر بأحدهما، وهو الذي يحمل الجينات بالإصابة بحالة (فوبيا) النحل طيلة عمره، في حين ينسى الآخر الأمر تماماً، وربما تزداد مخاوفه المستقبلية من النحل، إلا أنها لن تتحوَّل أبداً إلى خوف مرضي، أو هلع مفرط..
التوصُّل إلى هذا قلب كل موازين العلاج، التي كان يستخدمها الأطباء والمعالجون النفسيون قديماً، للتعامل مع أنواع (الفوبيا) الجينية..
وهذا لا ينطبق على (الفوبيا) البسيطة أو المكتسبة، والتي مازالت أساليب مواجهتها وعلاجها متشابهة، مع ما كان يحدث قديماً..
فالخطوة الأولى دوماً، هي معرفة تاريخ (الفوبيا)، ومتى ظهرت أو نشأت، وهل تتطوَّر إلى الأسوأ أم إلى الأفضل، مع مرور الزمن..
وبعدها لابد من الغوص في أعماق المريض، للوصول إلى منشأ المشكلة..
وهذه مجرد بداية
--------------------
فوق العقل (12)
فوق العقل (12)
هناك عدة وسائل للقيام بالغوص النفسي الخاص جداً، في أعماق المريض؛ لبلوغ قاع حالات (الفوبيا)، إذ أن هذا يمكن أن يتم عن طريق التحدُّث المنظم والهادئ مع المريض، على فترات منتظمة، متباعدة أو متقاربة، وفقاً لنوع وشدة الحالة، حتى يصل المعالج إلى النقطة، التي تفجَّرت عندها (الفوبيا)، وإيضاحها للمريض، على نحو مباشر وهادئ أيضاً..
وفي معظم الحالات المكتسبة، يمكن أن ينهي هذا المشكلة، إذ ما أن يزيل المعالج الحاجز بين العقل الواعي والباطن، حتى تتضح الصورة للمريض، وتبدأ في اتخاذ حجمها الحقيقي، بحيث تتحوَّل من عقدة كبيرة إلى مشكلة محدودة، يسهل التعامل معها ومواجهتها، ببعض العقاقير الطبية، أو الجلسات النفسية المكثفة...
وفي حالات أخرى، يعجز المريض نفسه عن تحديد بداية المشكلة، على الرغم من المحاولات والمحاورات، لذا يصبح من الضروري الانتقال إلى مرحلة أكثر حرفية..
إلى التنويم المغنطيسي..
والتنويم المغناطيسي ليس نوعاً من الدجل أو الشعوذة، بل هو أمر علمي تماماً، ويرتبط بالعديد من العوامل، أهمها الشخص نفسه؛ فوفقاً للدراسات، ليس كل إنسان قابلا للخضوع للتنويم المغناطيسي، فهناك عقول مقاومة بشدة لهذا الأمر، ولا يمكن تنويمها أبداً..
لابد إذن أن يوافق المريض على الخضوع للتنويم المغناطيسي، وأن يستسلم لمعالجه تماماً، رغبة منه في كشف طبيعة مرضه، والقضاء عليه تماماً..
والميزة الرئيسية للتنويم المغناطيسي هي أنه يشحذ كل حواس الإنسان وذاكرته، ويساعده على استرجاع تفاصيل دقيقة، من أعمق أعماق عقله الباطن، على نحو يعجز عن فعله على نحو إرادي، مهما بذل من جهد..
ولكن هذا يحتم أن يكون المعالج نفسه شديد البراعة، في تعامله مع المنوِّم مغناطيسياً، فمنذ سنوات قليلة، كشف أحد العلماء أن المعالج قد يقود المريض، الخاضع للتنويم المغناطيسي، إلى أمور لم تحدث في عالم الواقع، ولكنه هو أوحى له بحدوثها، دون أن يدري..
إذن فالأمر يحتاج إلى دقة شديدة..
دقة تترك المريض حراً، وتسمح بتداعي أفكاره وذكرياته في انسيابية هادئة، حتى يتوصَّل المعالج إلى قلب المشكلة، ويفجِّر الحقائق كلها في وضوح، دون أن يزرع أية أوهام في عقل مريضه..
وهناك حالات عديدة من (الفوبيا)، تم علاجها تماماً، عن طريق التنويم المغناطيسي، إما بتوضيح المشكلة وعلاجها، أو بدفع المريض إلى محوها تماماً من عقله..
والأسلوب الأوَّل هو الأكثر دقة وضماناً بالتأكيد، إذ أن محو المشكلة من العقل أمر مستحيل، كما يؤكِّد بعض العلماء، مما يعني أنها قد تعود إلى البروز بغتة، ودون سابق إنذار، بعد فترة تطول أو تقصر، ولكن عودتها ستعيد (الفوبيا) مرة أخرى..
وربما على نحو أكثر عنفاً..
وكل هذا، كما سبق أن قلنا، يرتبط بحالات (الفوبيا) المكتسبة وحدها دون سواها..
أما حالات (الفوبيا) الجينية، فعلاجها يستلزم ما يعرف باسم العلاج الجيني، وهذا النوع من العلاج لم يتطوَّر إلى الحد الكافي بعد، إلا أن الحالات القليلة، التي عولجت به، أعطت نتائج مدهشة، في حالات مرض السكر، والهيموفيليا، ونقص المناعة الوراثي وغيرها..
والمجال ليس مفتوحاً هنا للحديث بالتفصيل، عن العلاج الجيني، ولكنه وسيلة لإحلال ضفيرة جينية محل أخرى، في مناطق الإحلال والتجديد، مثل نخاع العظام، بحيث تنمو، وتتضاعف، وتخلِّص الجسم من تأثيرات جينية بعينها، بعد فترة محدودة من الوقت..
ونجاح العلاج الجيني في الأمراض العضوية، لا يعني نجاحه في الأمراض النفسية أيضاً، أو أنه ليست هناك أية تجارب واضحة في هذا الشأن، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكنه وسيلة مستقبلية، تنبأ لها العلماء والأطباء بالنجاح الفائق، وبقدرتها على تغيير وجه العالم طبياً ونفسياً، مع مطلع العقد الثاني من القرن الحالي..
والأمر الذي يستحق الانتباه، في هذا الشأن، هو أن معظم حالات (الفوبيا)، التي خضعت للعلاج المكثف، وأقر الأطباء بنجاحها، وبأنها قد عولجت تماماً، لم يمكن الجزم بأن علاجها سيستمر إلى الأبد..
ففي وجود العامل الوراثي، قد تتوارى (الفوبيا)، أو تنكمش، وتهادن العقل الواعي لبعض الوقت، بعد كشف الصدمة البيئية، التي سببت ظهورها، ولكنها تظل دوماً متأهبة للظهور ثانية، مع أية صدمة بيئية جديدة..
ففي اثنتين وثلاثين في المائة من الحالات، ارتدت (الفوبيا) مرة أخرى، بعد ثلاث إلى خمس سنوات من الشفاء، بسبب واقعة واحدة، وقد تقل كثيراً عن الواقعة الأصلية، التي كانت السبب في ظهورها، في مرحلة الإصابة الأولى..
وإذا ما عادت (الفوبيا)، فإن علاجها يستلزم عندئذ وقتاً أطول، وجهداً أكبر، تماماً مثلما يحدث في لعبة (اليويو)، التي يدفعها الأطفال إلى أسفل، ثم يجذبونها إلى أعلى، فتدور حول خيطها لترتفع، ثم تعاود الانخفاض، وهكذا..
ولو أنك تابعت (اليويو)، لوجدت أنه يلتهم في المرة الأولى مساحة كبيرة في الخيط، في سرعة مدهشة، ثم يلتهم مساحة أقل، في سرعة أقل، في دورته الثانية، وكذلك في الثالثة، وما بعدها..
ومن هنا، أطلق العلماء على عملية عودة (الفوبيا)، وعلاجها لأكثر من مرة، اسم (مبدأ اليويو)..
ومؤخراً، لجأ العلماء إلى خوذة جاما، التي يبثون من خلالها موجات خاصة، تتعادل مع موجات خوفه، وتخمدها...
وهذا يعطي نتائج مدهشة...
ولكنها مؤقتة للأسف...
ربما لأن المخ سرعان ما يستعيد موجاته الأولى، ويعود إلى مخاوفه الدفينة...
وهذا لا يعنى أن (الفوبيا) غير قابلة للشفاء، ولكن يعني حتمية الحرص الشديد في التعامل مع مريضها بعد العلاج، بحيث يبتعد تماماً عن كل المؤثرات، التي يمكن أن تصيبه بصدمة بيئية أخرى..
وقبل أن نختم حديثنا، لابد وأن نشير هنا إلى أن أحد الأسباب القوية، التي تمنع علاج مرض (الفوبيا)، هو نوع من (الفوبيا) أيضاً..
(فوبيا) الأطباء..
فالمرضى هنا لا يخشون في الدنيا كلها قدر الأطباء، والمستشفيات، وحجرات العلاج، والعناية المركَّزة، و…
وسيطول الحديث إلى ما لا نهاية؛ لأننا نتحدَّث عن حالة يمكن أن نضعها في ألف صورة وصورة..
حالة (فوبيا).[/
]
التعديل الأخير: