القديس يؤانس القصير
المُلقَّب "كولوبوس"
مواقف في حياة أنبا يؤانس جديرة بالإقتداء بها
توبة القديسة بائيسة على يدىِّ القديس يوأنَّس
نياحة القديس يؤانس
من أقوال القديس يؤانس القصير
صلاة للقديس أنبا يؤانس
دير القديس يؤانس القصير
وصف دير أنبا يؤانس القصير
نقل جسد القديس أنبا يؤانس القصير إلى برية شيهيت
القديس يؤانس القصير
المُلقَّب "كولوبوس"
وُلدَ إنساناً فقيراً مُحتاجاً، ولكن فقراء ومساكين هذا العالم اختارهم الله أغنياء بالمسيح يُغنون كثيرين في ملء الروح القدس. وإنَّ أبوَيْ هذا الطوبانى كانا تقيَّين جداً يخافان الله. وبعد أن وَهَبَ لهما الله ولدين ذكرين، الكبير منهما في العمر قد صار راهباً مختاراً أخيراً، والصغير في العمر الجسدانى هو أبونا القديس يؤانس القصير. وقد كان في الجمال والفهم الجيِّد كبيراً. وتفسير اسمه: (الله حنَّان).
دعوة الله له للرهبنة:
في شبابه تحوَّل قلبه عن أباطيل العالم وشهواته وأمجاده واشتاق للرهبنة. فحرَّكته نعمة الله أن يمضي إلى برية شيهيت.
بداية دخوله الرهبنة:
وهناك في برية شيهيت اهتدى إلى شيخ قديس مُختبر، يقال له أنبا بمويه من البهنسا، وسأله أن يسمح له بالإقامة عنده. فقال له الشيخ مختبراً جدية طلبه: "يا ابني، إنك لا تقدر على الإقامة معنا لأن هذه برية مُتعِبة، والساكنون فيها يقتاتون من عمل أيديهم، فضلاً عن الصوم الكثير والصلاة والنوم على الأرض والتقشف، فارجع إلى العالم وعِشْ في التقوى". فقال له يؤانس: "لا تردُّني يا أبي من أجل الله، لأني أتيت لأكون تحت طاعتك، ومذكوراً في صلاتك، فإذا قبلتني فإني أومن أن الرب يطيِّب قلبك عليَّ".
+ ولما كان من عادة الأب بمويه أنه لا يتصرف بدون رَويَّة، فقد سأل المسيح أن يكشف له أمر هذا الشاب، فظهر له ملاك الرب قائلاً: "اقبله فإنه سيكون إناءً مختاراً". فأدخله الأب بمويه. وقص شعر رأسه، وأخذ ثياب الرهبنة ولبث يصلي عليها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وعندما ألبسه إياها رأى ملاكاً يصلِّب عليها.
اختبار الطاعة، وشجرة الطاعة:
الاختبارات التي كانت تُجرى على الراغبين في الرهبنة هى: اختبار تواضع الراهب، ومدى جحده لذاته، وعدم اهتمامه بشهوات جسده.
ابتدأ أبوه أنبا بامو يجتهد معه لكى يُعلِّمه التقوى (مخافة الله) والنسك وأنواع الفضيلة بمخافة الله، من تلاوة المزامير والسهر وطرق العبادة المقدسة والانفراد والحبس والرقاد على الأرض وجحد المشيئة الذاتية التي للنفس؛ أي ألاَّ يعتدَّ بذاته؛ والسكون والاتضاع والاستحياء والبساطة. وكان كُلَّما يُعلِّمه كلمة، كان يؤانس يحفظ المشورة ويُطيعها عاملاً بها، ولاسيما أنه كان يحفظ حواسه بسلام وقلبه من الشهوات الرديئة، ويحرس عقله وبخاصَّة من خيال الأرواح والمناظر والأحلام التي ينخدع بها الراهب غير الفَطِن فيظن خطأ أن الله يكلِّمه بها فيهلك، بل كان يعمل كل شيء بفطنة روحانية. كما كان يُعلِّمه التوجُّه إلى الكنيسة بحكمة وعقل لأنها كانت بعيدة منه قليلاً. وعلَّمه أيضاً الانتباه، وأن يجعل عقله منتبهاً ولاسيما عند قراءة الكتب المقدَّسة التي هي أنفاس الله، وأن يهذَّ في كلمة الله حافظاً إياها عن ظهر قلب، والصلاة بلا فتورٍ. وكان يُوصيه بحرص عظيم أن يفهم ما يسمع في الكنيسة بحرص، وبحرارة ودموع بغير تشتت في فكر أرضي.
أمَّا القديس أنبا يؤانس القصير فكان يخدم في الطاعة الكاملة مثل تلميذ صالح يتعلم بصبرٍ حقيقى، وهو لابس السلاح القوى الذى هو الاتضاع الحقَّاني الذى يُهلك جميع أصول الخطية.
+ وحدث يوماً أن الأنبا بمويه وجد عوداً يابساً فأعطاه لأنبا(2) يؤانس وقال له: "خذ هذا العود واغرسه واسْقِه." فأطاعه وصار يسقيه كل يوم مرتين، وكان الماء يبعد عن مسكنهما مقدار اثني عشر ميلاً. وبعد ثلاث سنين نما العود وصار شجرة مثمرة. فأخذ الشيخ من الثمرة وطاف بها على الشيوخ قائلاً: "خذوا كلوا من ثمرة الطاعة."
أمانته وخدمته لمعلمه:
+ ومرض أبوه الروحي بمويه اثنتي عشرة سنة. وكان الأب يؤانس يخدمه طول هذه المدة، ولم يسمع من معلمه في أثنائها قط أنه قصَّر في خدمته. لأن القديس بمويه كان شيخاً ذا اختبار، وقد جُرِّب كثيراً وأضناه المرض حتى صار كالعود اليابس ليكون قرباناً مختاراً. وعند نياحته جمع الشيوخ وأمسك بيد القديس يؤانس القصير وسلمه لهم قائلاً: "احتفظوا بهذا، فإنه ملاك وليس إنساناً". وأوصاه أن يقيم في المكان الذي غرس فيه الشجرة.
وبعد هذا أتى أخوه الكبير وترهب عنده وصار هو أيضاً راهباً فاضلاً.
القديس يؤانس الإنسان - درس لأنبا يؤانس:
+ وحدث مرة أن قال لأخيه الأكبر: "إني أود أن أكون بغير همٍّ مثل الملائكة، لأنه لا اهتمام لهم ولا شيئ يعملونه سوى أنهم يتعبدون لله دائماً". ومضى ونزع ثوبه وخرج عارياً إلى البرية، فأقام أسبوعاً ثم عاد إلى أخيه. فلما قرع الباب عرفه أخوه، فقبل أن يفتح له الباب قال له: "مَنْ أنت؟" فقال: "أنا يؤانس أخوك". فأجابه: "إن يؤانس أخي قد صار ملاكاً وليس هو من الناس الآن". فرد عليه قائلاً: "أنا هو أخوك!" فلم يفتح له الباب وتركه إلى الغد، حيث فتح له وقال له: "اعلم الآن أنك إنسان محتاج إلى عمل وغذاء لجسدك". فصنع له مطانية واستغفر منه.
وهذه الحادثة تبيِّن أن ليس في الرهبنة تعالٍ على الحياة الطبيعية والعمل والسُكنى مع الإخوة ومحبتهم والاشتراك في خدمتهم. وحتى الأبَّا يؤانس القصير كان محتاجاً إلى مَنْ يعلِّمه ويردُّه حينما تمادى في النسك الزائد غير المأمون.
رسامته إيغومانساً:
+ ولما صيَّروا أنبا يؤانس إيغومانساً على كنيسة الموضع حيث يجتمع الرهبان للصلاة، حدث أنه لما وضع الأب البطريرك ثاوفيلس يده على رأسه، أن أتى صوت من السماء سمعه الحاضرون قائلاً: مستحق، مستحق، مستحق. وقد امتاز هذا القديس بأنه كان وقت خدمة الأسرار يعرف مَنْ يستحق القربان ومَنْ لا يستحقه من المتقدمين للتناول.
طاعته للبطريرك في استحضار رفات قديسين،
وعدم سماح الله بذلك:
+ وكان الأب البطريرك أنبا ثاوفيلس قد بنى بالإسكندرية كنيسة للثلاثة فتية القديسين (المذكورين في سفر دانيال 1:3-30)، ورغب في إحضار أجسادهم ووضعهم فيها. فنادى القديس يؤانس القصير وكلَّفه السفر إلى بابل الكلدانيين وإحضار الأجساد المقدسة من هناك. وبعد إحجام كثير، قَبِلَ القيام بهذه المهمة الشاقة، وخرج من عند البطريرك، فحملته سحابة إلى بابل، فدخل المدينة وشاهد آثارها وأنهارها وقصورها ووجد أجساد القديسين. ولما شرع في نقلها من مكانها، خرج صوت من الأجساد المقدسة يقول له: "إن هذه إرادة الله أنهم لا يفارقون هذا المكان إلى يوم القيامة. ولكن لأجل محبة البطريرك ثاوفيلس وتعبك أيضاً، عليك أن تعرِّف البطريرك أن يجمع الشعب في الكنيسة ويأمر بتعمير القناديل ولا يوقدها، ونحن سنظهر في الكنيسة بعلامة تعرفونها في ذلك الحين".
فانصرف عائداً إلى الإسكندرية. وعرَّف البطريرك بما قاله القديسون. وقد حدث عندما كان البطريرك والشعب بالكنيسة أن القناديل أنارت فجأة! فأعطوا المجد لله.(3)
+ وبعد ذلك أغار البربر على البرية فتركها. وعندما سُئِلَ في ذلك، أجاب بأنه لم يتركها خوفاً من الموت ولكن لئلا يقتله بربري فيذهب إلى الجحيم بسببه، وأنه لا يريد أن يكون هو في راحة وغيره في عذاب بسببه. لأنه وإن كان هذا البربري مقاوِمَه في العبادة إلا أنه أخوه في الصورة الإلهية. ثم قصد جبل أنبا أنطونيوس عند القلزم وسكن بجوار قرية هناك، فأرسل له الله رجلاً مؤمناً كان يخدمه.
مواقف في حياة أنبا يؤانس
جديرة بالإقتداء بها
+ قيل عن القديس يؤانس إنه لم يكن يشبع إطلاقاً لا من الخُبْز ولا من الماء ولا من النوم، ولم تخرج من فمه قط كلمة شائنة. هذا لأنه لم يتملَّكه فكر جسدى قط، بل كان مثل ملاك في طهارة القلب والحكمة.
الهروب من مواقف الغضب:
+ مرَّةً كان في الحصاد، فأبصر أخاً قد غضب على آخر، فهرب وترك الحصاد.
+ وقال القديس: "إنى كنت دُفعةً ماضياً في طريق الإسقيط ومعي القفف على جملٍ، فأبصرتُ الجَمَّال وقد تحرَّك فيه الغضب، فتركتُ الذى لى وهربت".
+ ويقول القديسون: [اهرب من الموضع الذي يوجد فيه غضب].
+ وقيل إن أنبا يؤانس جاء يوماً إلى الكنيسة التي كانت في الإسقيط، فسمع مجادلة كلامية بين الإخوة، فرجع إلى قلايته ودار حولها ثلاث مرات ثم دخلها. فرآه الإخوة وسألوه: "أخبرنا لماذا درت حول قلايتك ثلاث مرات؟" فقال لهم: "لأن صوت الملاججة كان لا يزال في أذنى، فقلت أخرجه أولاً منها ثم أدخل القلاية حتى يكون عقلى داخل القلاية نقيّاً".
تذكُّر الدينونة ومحبة التعب:
+ قيل إن القديس كان مُزيَّناً بكل الفضائل، وإنه كثيراً ما كان يتذكر ثلاثة أمور: مخافة وقت الخروج من الجسد، ومخافة لقاء الله، ومخافة يوم الدينونة. فعندما يتذكَّرها كان ينطلق إلى داخل البرية، وكان أخوه بالجسد وهو الأكبَر منه والذى ترهَّب عنده يخرج باحثاً عنه، وإذا وجده كان يقول له: "لماذا يا أخى تُتعب نفسك هكذا كثيراً؟ أما تحققت أنك إذا أقمت في القلاية تجد الله؟" فكان يُجيبه قائلاً: "نعم، أنا أؤمن أن الله في كل موضع، لكنى أريد أن أتعب كثيراً".
+ يُلاحَظ في سير قديسين كثيرين أنهم كانوا يُتعِبون أنفسهم ليفرِّغوا الطاقة الجسدية عندهم. لذلك فالعمل بالنسبة للراهب لا غِنىَ عنه، وهو عامل مساعد للراهب في نموِّه الروحي، وليس معطِّلاً له أو منافساً لأوقات الصلاة.
كيف يواجه الأفكار الشريرة:
+ وسأله أبوه أنبا بمويه لكى يعلم حياته وخواطر قلبه ويتحقق كيف هو، فقال له: "كيف تُقاتل الأفكار الشريرة؟" فأجابه: "أنا، ياأبي، أُشبه واحداً جالساً تحت شجرة عالية جداً، فإذا رأى الوحوش والذئاب مُقبلة إليه ولا يقدر أن يقف أمامها، يهرب إلى أعلى الشجرة ويَخلُص. كذلك أنا أيضاً أكون جالساً في قلايتي، فإذا رأيت جميع أفكار العدو الشريرة مُقبلةً إليَّ أهرب إلى حماية ورجاء معونة الله بالصلاة، فأخلُص من يد العدو إلى الأبد".
حرص ويقظة القديس يؤانس تجاه الكلام البطَّال:
+ وفي أحد الأيام جاء إليه إخوة لينتفعوا منه. ولأنه ما كان يسمح لفكره بحديث بشري ولا كان يتلفظ بشيء من أمور العالم؛ فلما قالوا له: "الشكر لله يا أبانا، إن هذه السنة أمطرت أمطاراً كثيرة، وقد شرب النخل وارتوى وها هو يُخرج السعف ليجد الإخوة حاجتهم منه لعمل أيديهم"، قال لهم: "إن نعمة الروح القدس إذا ما حلت في عقل إنسان أَرْوَتْه وجددته ليُخرج أثماراً تصلح لعمل الله". وهذا لأن الكلام البطال، أى الذى بلا هدف روحى ولا يصلح لبنيان السامعين ليس له موضع في حياة الراهب، "لا تخرج كلمة رديَّة من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يُعْطِيَ نعمة للسامعين" (أف4: 29)
حكمته وإفرازه في المواقف الصعبة:
+ مرةً كان القديس صاعداً من الإسقيط مع الإخوة، فَضَلَّ مُرشِدُهم الطريق لأنه كان ليلاً. فقال الإخوة للقديس: "ماذا نصنع، لأن الأخ ضَلَّ الطريق؟" فقال لهم: "إن قلنا له شيئاً حزن واستحى، فالأفضل أن أتظاهر بأنى مريض وأقول إنى لن أستطيع المشى لأنى في شدة، وبذلك نجلس إلى الغد"، فلما أعلن لهم رأيه هذا وافقوا وقالوا: "ونحن أيضاً نجلس معك"، وفعلاً جلسوا.
+ وفى مرة كان يأكل مع الآباء، فقام واحد من الشيوخ الكبار ليسقيهم ماء، فلم يقبل منه أحد، خجلاً وتحشُّماً، إلاَّ يؤانس القصير، فتعجَّبوا منه وقالوا له: "كيف وأنت صغير بين الإخوة جسرت على أن يخدمك مثل هذا الشيخ الكبير؟!" فقال: "أنا إن كنت في خدمة وأردت أن أناول أحد الإخوة كوز ماء، أفرح بالذى يبادر ويأخذ منى ليصير لى الأجر، فلذلك قبلت أنا من الشيخ ذلك لأكمل أجره، وذلك بدلاً من أن يخجل لأنه لم يقبل منه أحد شيئاً"، فلما سمعوا انتفعوا من إفرازه.
موقفه من مديح الناس:
+ جاء إليه يوماً واحد ليراه وظلَّ يمدح أعماله، فظل القديس صامتاً لأنه كان يُضفِّر خوصاً. ثم تكلم الزائر مرة ثانية واحتفظ القديس بصمته. ولما مدحه مرة ثالثة، قال له: "منذ أن جئت أنت إلى هنا، أبعدت الله عني".
ومن ذمِّهم له:
+ قيل لما أحب الإخوة أنبا يؤانس والتفوا حوله، جربه شيخ كبير ليعرف ما إذا كان قلبه لا يزال يستهويه مديح الناس أم لا، فقال له: "إن يؤانس رجل شرير وقد زين ذاته كامرأة شريرة تكثر من عُشاقها". فأجابه القديس باتضاع قائلاً: "بالصواب نطقت يا أبى القديس، لأن الرب كشف لك ذلك".
+ وسأله أبوه أنبا بامويه: "هل اضطرب قلبك من كلام الشيخ؟" فقال له: "يا أبي كما كان خارجى كذلك داخلي من قِبَل المسيح الذى يقوينى". فأيقن المُعلِّم أن تلميذه لم يعد يتأثر بكرامات العالم الزائفة.
+ وفى مرة كان القديس جالساً يوماً أمام الكنيسة وكان الإخوة يستشيرونه عن أفكارهم، فلمَّا رأى أحد الشيوخ ذلك استولت عليه الغيرة والحسد وقال له: "يا يؤانس إنك ساحر، وإناؤك مملوء سُمّاً"، فقال له القديس: "هذا حق تماماً أيها الأب، وأنت قلت هذا لأنك رأيت الخارج فقط، ولكن لو استطعت أن ترى الداخل أيضاً فما عساك كنت تقول حينئذ؟!"
تحذيره من إدانة الآخرين والإنشغال بالتهكم عليهم:
+ وقال: [تركنا الحِمْلَ الخفيف الذى هو أن نلوم أنفسنا، وثقَّلنا أنفسنا بالحِمْلِ الثقيل الذى هو أن نُبَرِّر أنفسنا].
+ سأل أخ أنبا يؤانس قائلاً: "كيف أن النفس وهى مليئة بالأمور التى تلومها لا تستحى من أن تتهكَّم على الآخرين وتدينهم؟".
ثم قال: [هذا هو حالنا، فنحن ننسى خطايانا وندين أخانا، غير أن محبة الله للبشر تُهيئ لنا طريق الخلاص، إذ تفتح لنا باب التوبة التي إذا أردناها نخلُص].
+ وكان يقول: [احترسوا من الخطية، ولاسيما الثرثرة ودينونة الآخرين، لأن هذا يجعل الإنسان غريباً عن الله مثل الزنى والفسق، وقد عدَّد الرسول كل هذه قائلاً: "إن مثل هؤلاء لا يرثون ملكوت الله"].
دعوة القديس إلى احترام الغير والسعي لخلاصهم:
وقال القديس: [ ليكن كل واحد كبيراً في عينيك، ولا تهِن الذين هم أقل منك معرفة، ولا تطلب كرامة من أحد، لكن اتضع لكل الناس، ولا تغضب من الذى يتعظم عليك لأنه قليل المعرفة، لأن من قلة المعرفة يتعظم الأخ على أخيه.
كن هادئاً ليناً، ولا تردّ الجواب عن أمرٍ تُؤمَر به، بل كن مُطيعاً في كل شئ لكي ما تُحَب من كثيرين.
كن ميتاً عن العالم لكى تكون مختاراً لله، وكن صغيراً بين الناس لكى تكون فاضلاً عند ربك.
كن منبسطاً كي تحل عليك نعمة الله.
لا يكن بين عينيك شىء مُشْتَهَى، لكى تبصر الله.
كن حزيناً على الذين هلكوا، رحيماً على الذين طغوا، متوجعاً مع المتوجعين، مصلياً على المخطئين.
ولتكن نفسك عندك دون الكل. كن ساكناً بين إخوتك مثل من هو ميت عادم لكل غضب، لأن من الغضب تجئ الخطية.
اختر السهر أفضل من الأعمال، مع الصوم، لأن السهر يضئ العقل ويقلل الأحلام، والصوم يذل الجسد وهو معين أكثر من كل الأعمال.
وقيل: إنه بعد ما جاء أخوه الأكبر وصار راهباً، وكان أنبا يؤانس قد تقدم عنه في مخافة الله، فلكى يجعله ينمو تحت نير الاتضاع الحقيقى ولكى يُسلِّم نفسه للفضيلة، ذكَّره بضيق فقره في العالم وقال له: "يا أخى، اعلم أننا فقراء وأننا محتقرون عند الناس، لذلك فلنثابر حسب مشيئة الله في هذا الدهر لكى نأخذ كرامةً من الله ونتمجد مع جميع قديسيه". وبـهذا الكلام وما يُشبِهُهُ صار أخوه راهباً مختاراً، وأخذ أنبا يؤانس بيده في كل عملٍ صالح.
ويُذكَر أيضاً عنه أنه قال: "إن لم نجعل رفيقنا مثلنا ولاسيما في الكرامة فإننا لا نكون قد أَرَحْناَه، فإذا ما أرحت أخي أراحني الله أنا أيضاً".
لُطفه وطول أناته على الضعفاء والمحتاجين:
+ كان القديس ينبوعاً يفيض بكلام النعمة، فكان يجذب إلى نفسه نور وحلاوة مجد الروح القدس، لأنه تشبَّه بأسلافه بصدقٍ في صفاتـهم المقدسة وشخصياتهم الحقيقية التي تجلَّت فيه.
+ وقيل، كان في الإسقيط شيخ بسيط، ذهب هذا الشيخ إلى أنبا يؤانس يسترشد منه عن موضوع، فأجابه القديس. ولكنه لما رجع إلى قلايته نسي ما قاله له أنبا يؤانس، فذهب إليه مرة ثانية ليسأله فسمع نفس الكلام ورجع ونسي مرة أخرى، وهكذا فعل عدة مرات وكان يغلبه النسيان، فخجل الشيخ من نسيانه وامتنع عن مقابلة القديس، وبعد مدة قابله القديس يؤانس وسأله عن سبب انقطاعه فاعترف له بخجله، فابتسم القديس وأخذه إلى قلايته وقال له: "اذهب أوقد شمعة"، ففعل الشيخ وكرر القديس هذا العمل أكثر من مرة، وأخيراً سأل الشيخ: "هل نقصت الشمعة الأولى لأنك أوقدت منها كل الشموع أو ضعف نورها؟" أجاب الشيخ وقال: "لا"، فقال القديس: "هكذا يؤانس، فلا تتردد في المجىء إلىَّ".
+ ونزل مرة إلى الريف ومعه بعض القفف لكى يستبدلها ببعض الخبز لحاجة الجسد، ولما استبدلها وبينما هو راجع إلى البرية رأى امرأة عجوزاً أرملة تسير في الطريق مع ابنها الوحيد الذى كان أعمى وكانت تقوده. وسمع القديس الولد الصغير الأعمى يقول لأمه: "هل سيرسل الله لنا اليوم خبزاً لنأكل يا أمي؟"، فأَنَّت أمه وبكت وقالت له: "إن الرب يرى ويشفق علينا يا ابني بعنايته". فلما سمع القديس الحديث تحركت أحشاؤه ورحمة المسيح التي فيه، ودعا المرأة وقال لها: "لعلك محتاجة لبعض الخبز يا أمى!" فقالت له: "نعم ولكن هذا كثير، يا أبي"، لأنه برحمة المسيح الساكنة فيه أعطاها كل الخبز الذى معه. فأخذت المرأة الخبز بفرح وشكر، وقالت للقديس وهى مدفوعة بإيمان من الله: "يا أبى، أنا أرى أنك قديس الله، ضع يدك على عيني ابني هذا الوحيد ليأخذ بركة"، فرفع القديس عينيه نحو السماء وتنهد من قلب مملوء رحمة وقال: أيها المسيح إلهنا، معطى الصلاح، مالك كل شىء، أنت هو الكائن بالأمس واليوم وإلى الأبد، كما وهبتَ النظر للمولود أعمى بقوة إرادتك ورحمتك الكاملة، الآن أيضاً لتكن مشيئتك المقدسة مع كل ما هو خير لخليقتك، لأن لك المجد مع أبيك المملوء صلاحاً والروح القدس إلى دهر الدهور، آمين". ووضع يديه على عيني الصبي ورشمها باسم المسيح، فأبصر في الحال. ففرحت أمه وتهللت وصرخت قائلة: "مبارك الرب إله هذا الراهب الشيخ القديس". واجتمع الناس على هذا الصوت، فاعتزل هو بعيداً هارباً من مجد الناس واختفى حيث قاده المسيح.
إعلانات وتعزيات :
رؤيا عقلية عن نار الروح القدس في الجهاد
+ قال أبا يؤانس: إن أحد الرهبان رأى بالرؤيا العقلية ثلاثة رهبان وقوفاً على شاطىء البحر، فجاءهم صوت من الشاطىء الآخر قائلاً: "خذوا لكم أجنحة من نار وتعالوا إلينا." فاثنان منهم أخذا أجنحة نارية وطارا بها إلى الجانب الآخر، أما الثالث فصار يبكي ويصرخ نائحاً، وفي آخر الوقت أُعطي أجنحة لكنها عديمة القوة، وبصعوبة كان يطير ثم يعود فيسقط، فينهض ثم يعود فيغرق، وهكذا حتى وصل إلى الجانب الآخر بعد تعب عظيم. هكذا يكون عمل هذا الجيل، فإن كان قد أخذ أجنحة ولكن نار الروح ليست فيها، وبذلك تجدها قد عدمت قوة روح الله.
أنواع الآكلين:
+ في يوم كان القديس يأكل أغابى مع الرهبان، وانكشف له رؤيا بالروح القدس، ورأى فرقاً بين الإخوة الآكلين، فكان بعضهم يأكلون عسلاً؛ وآخرون يأكلون خبزاً؛ وآخرون يأكلون تراباً. ولما كان القديس مندهشاً من هذا السر، جاءه صوت من السماء قائلاً: "الذين يأكلون عسلاً هم الذين يأكلون بمخافة الله وفرح روحى، ويصلون بلا انقطاع، ويلهجون في السماويات، فصلواتهم تصعد إلى العلا كالعطر المقبول عند الله، ولذلك هم يأكلون عسلاً. والذين يأكلون خبزاً هم الذين يأكلون بشكر ممجدين الله على أعماله وهباته التي أعدها لهم. أما الذين يأكلون تراباً فهم الذين يأكلون بتذمرٍ ونميمة وثرثرة ودينونة قائلين عن هذا إنه ردئ وذاك إنه صالح".
شهادة القديس أنبا بيمن عن أنبا يؤانس:
+ وروى أنبا بيمن المبارك الممتلئ حكمة أموراً كثيرة خاصة بأبينا القديس يؤانس، فكان يقول عنه: [إن أنبا يؤانس القصير بسبب طهارة قلبه وسمو اتضاعه كان يحيط به سور من نار الروح القدس مُحرقاً الأفكار وكل سهام العدو الشريرة، لأنه لم يكن يسمح إطلاقاً لأقل أمر دنيوى أن يقترب منه، متمماً وصايا الرسول التي هى: "المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تُقبِّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شىء، وتصدق كل شىء، وترجو كل شىء، وتصبر على كل شىء، المحبة لا تسقط أبداً" (1كو 4:13-8)].
+ وذكر أيضاً أنبا بيمن عنه، فقال: [كان هذا القديس يعيش بكل قدرته في وصايا الرب حتى أكملها كلها، لدرجة أنه سيجلس أيضاً في اليوم الأخير ليدين العالم، لأنه مكتوب: "إن القديسين سيدينون العالم" (1كو 12:6)].
سر قداسة أنبا يؤانس
+ قيل عن القديس، إنه لم يخطئ في أمرٍ أو فعل أو قول ثم يعود ليسقط فيه مرة أخرى. وكان إذا رأى أو سمع أن أحداً سقط في خطية يبكى ويتنهد بوجع قلب قائلاً: "هذا سقط اليوم وربما يتوب، وربما أسقط أنا غداً ولا أُعطَى مهلة لكى أتوب"، وكان يفعل هذا كل حين لكى لا يدين أحداً.
+ وقيل عنه: إنه بعد رجوعه من الحصاد، كان يعطي نفسه للصلاة والتأمل والتسبيح حتى ترجع أفكاره وتثبت في الحالة التي كانت فيها سابقاً.
+ وقال: [إن القديسين يُشبَّهون بأشجار الفردوس الموسوقة بثمار الحياة، وهم ذوو أشكالٍ كثيرة في مثال مجدهم من قِبَلِ ينبوع الروح القدس المحيي الذى يسقيهم جميعهم].
توبة القديسة بائيسة على يدىِّ القديس يوأنِّس :
علم شيوخ البرية عن ارتداد بائيسة التي وُلدَت في منوف من أبوين غنيين، ولما توفيا جعلت منزلها مأوى للغرباء المساكين، واجتمع بها قوم أردياء واستمالوا قلبها إلى الخطية، حتى جعلت بيتها ماخوراً تقبل فيه كل الأثمة.
فوصل خبرها إلى شيوخ شيهيت القديسين فحزنوا حزناً عميقاً، وطلبوا من القديس يؤانس القصير أن يمضى إليها ويساعدها على خلاص نفسها، فذهب القديس حالاً بعد أن طلب منهم أن يُصلُّوا لأجله. ولما وصل إلى بيتها قال للبوابة: "أعلمى سيدتك بقدومى". فلما أعلمتها تزينت واستدعته، فدخل وهو يرتل قائلاً: "إذا سرت في وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي" (مز4:23).
ولما جلس نظر إليها وقال: "لماذا استهنتِ بالمسيح فاديك وأتيتِ هذا المنكر؟" فارتعدت وذاب قلبها من تأثير كلام القديس، ثم أحنى رأسه إلى الأرض وبكى، فسألته: "ما الذى يبكيك؟" فأجابها: "لأنى أعاين الشياطين تلعب على وجهِك، ولهذا أنا أبكي عليك". فقالت: "وهل لى توبة؟" أجابها: "نعم، ولكن ليس في هذا المكان".
فأخذها إلى البرية، ولما أمسى النهار نامت، والقديس نام بعيداً عنها. ثم وقف القديس ليُصلي صلاة نصف الليل، فرأى عامود نور نازلاً من السماء وملائكة الله يحملون روحها، فاقترب منها فوجدها قد ماتت، فسجد إلى الأرض وصلى صلاةً طويلة من أجلها، فسمع صوتاً يقول: "إن توبة بائيسة قد قُبِلَتْ وقت توبتها، لأنها تابت بقلبها توبة خالصة".
وبعد أن دفن جسدها وصل إلى ديره وأَعْلَمَ الشيوخ، فمجَّدوا الله الذى لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع وتحيا نفسه.
نياحة القديس يؤانس
+ ولما أراد الرب نياحته وإنهاء غُربته في هذا العالم، أرسل إليه قديسَيْه البارين أنبا مقار وأنبا أنطونيوس ليُعزِّياه بانتقاله. فمرض مرضاً بسيطاً وأرسل الخادم ليأتي له بشيء من القرية، وكان ذلك ليلة الأحد. فحضرت الملائكة وجماعة القديسين وتسلموا نفسه الطاهرة وصعدوا بها إلى السماء. وكان ذلك في يوم 20 بابة (أو 30 أكتوبر). وعندما عاد الخادم رأى نفس القديس وجماعة القديسين يحيطون بها، والملائكة يرتلون أمامها، وفي مقدمة الكل واحد منظره مثل الشمس يرتل. ودهش الخادم لهذا المنظر الرائع. فأتاه ملاك وعرَّفه عن اسم كل واحد من القديسين بقوله له: "هذا أنبا باخوم، وهذا أنبا مقار"، إلى آخره. فسأله الخادم: "ومن هذا المتقدم المنير كالشمس؟" فأجابه: "هذا أنطونيوس أبو جميع الرهبان."
ولما وصل الخادم إلى المغارة وجد جسد القديس ساجداً على الأرض، لأنه أسلم روحه في حال سجوده. فبكى بكاءً عظيماً. وأسرع إلى أهل القرية وأعلمهم بما حدث. فحضروا وحملوا جسده المقدس بكرامة عظيمة. وفي دخوله المدينة أجرى الله من جسده عجائب كثيرة.
من أقوال القديس يؤانس القصير
محاسبة النفس:
+ مثل التاجر الذي يطلب الأرباح، هكذا حاسب نفسك كل يوم وانظر ربحك وخسارتك في كل عشية، واجمع عقلك وانظر ما الذي عملته في نهارك، وانظر إلى صنيع الله ربك. وافهم بماذا أنعم عليك في يومك من إشراق النور وطيب النهار وبهاء الجبال وحسن الألوان وزينة الخليقة وزينة قامتك وحفظ حياتك، مع بقية إنعاماته. فإذا تفكَّرتَ في هذه كلها يتنبَّه قلبك وتتعجب من حب الله لك، وتدخل فيك الحرارة، وتشكر الله على ما أنعم به عليك.
+ ثم تفكَّر لعلك فعلت شيئاً يخالف هذه النعم، وقُلْ فيما بينك وبين نفسك: "لعلي فعلت في هذا اليوم أمراً يُغضِب الله، لعلي فعلت شيئاً يخالف مشيئة خالقي"، فإن أحسستَ في نفسك أنك فعلت شيئاً يخالفه، قم حالاً في الصلاة واشكر الله أولاً على النعمة التي قَبِلْتها في يومك ثم تضرع من أجل ما أخطأت، وهكذا تنام بخوف ورعدة. إننا إذا أغضبنا من هو أعظم منا، فبمخافة ورعدة نبيت، وهوذا نحن نُغضِبُ الله وننام بلا مخافة.
احتمال الشتيمة والإهانات:
+ احتمال الشتيمة والهوان، بمعرفة، يطهران القلب ويأتيان بالاتضاع الحقيقى حتى تنمو النفس في الله، أما مديح العالم وكرامته فإنهما يهدمان الفضائل.
قانون صلاة المزامير :
+ سأل إخوةٌ قائلين: "يا أبانا، أجيد أن نقول مزامير كثيرة؟" فقال لهم: [غِنَى الروح القدس يكون في النفس أسبق من حفظ العقل، سواء قرأ الإنسان كثيراً أو قليلاً، ولاسيما أن جميع ما يصنعه الراهب إذا لم يكن معه الاتضاع والتحفُّظ؛ فلا يُقبَل قدام الله].
خدمة الآخرين:
+ وسألوه قائلين: "هل جيد لنا أن نتمسك بالجهاد الصالح مع الناس؟" فقال القديس: [جيد أن نصنع الجهاد لأخينا، هذا الذى مات الإله عنه وعنا جميعاً. وبهذه المساواة الواحدة وبوداعة المسيح نربح أخانا بكل طهارة الروح القدس. ولنصنع الجهاد بقوة قبالة الأعداء الذين يبعدوننا عن الله].
تدبير الفضائل:
+ وسأل الإخوة أنبا بيمن قائلين: "هل يمكن للإنسان أن يعتمد على فضيلة واحدة لأجل خلاصه؟" فقال القديس: "إن يؤانس القصير قال: [إنني أُفضِّل أن يأخذ الإنسان لنفسه القليل من كل فضيلة]".
مثل الأسد حينما يقع:
+ وقال: [إن الأسد شجاع ومهاب، ولكن من أجل شهوته ورغبته يقع في الفخ فتبطل قوته ويصير هزءاً للناس. وكذلك الراهب، إذا ضيع قانونه وتبع شهوته أهلك وقاره وصار هزءاً لكل أحد].
مَنْ هو الراهب:
+ سأل آباؤنا القديس: "مَنْ هو الراهب؟" فقال: [الراهب هو الذى يتعب ويكد ويغصب نفسه في كل شىء، ولا يعمل حسب هواه، ولا يتمسك بكلمته في أى شىء، وأيضاً ينبغي على الراهب ألا يقول شيئاً من الكذب، ولا يحلف إطلاقاً، ولا يكون سمَّاعاً؛ ولا ثرثاراً، ولا يتذمر، ولا يدين أحداً].
نموذج لرهبان نشطين:
+ سأل أخ القديس يؤانس القصير قائلاً: "عندما كنت في كريت مع الآباء، كيف وجدت عملهم؟" فأجاب القديس: [لقد كانوا ليلاً ونهاراً يعملون على قدر طاقتهم عمل الله، كانوا يخدمون ويصلُّون ويقرأون ولا يعرفون الكسل، بل كانوا يعملون بأيديهم، وكان كل انشغالهم في الإلـهيات].
توجيهات للرهبان في حياتهم اليومية:
اهتم بقراءة الكتب، لكى تتعلم كيف تكون مع الله.
لا تختر أن تكون متعب الجسد فقط بينما يكون فكرك بطالاً، لأن ليس هذا وحده هو المطلوب منك، ولكن امزج معاً وبقَدْر: ساعة قراءة، وساعة صلاة، وساعة عمل لكى من القراءة تضئ في صلاتك.
ليس القيام الظاهرى فقط هو ما يريده الرب منك، ولكن الفكر الحكيم الذى يعرف كيف يدنو من الكمال.
كُنْ عبداً وحرّاً: عبداً مملوكاً لإرادة سيدك (المسيح)، وحُراً غير متعبِّد لشىء من تمجيد الذات الباطل. حِل نفسك من رباط الحميَّة (الغيرة الكاذبة) والزم الحرية التى حررك بها المسيح، واقتنِ حرية العالم الجديد.
ولا تقطع في أمر ما بطريقة مطلقة، لأنك مخلوق كائن تحت التغيير.
لا تستعبد نفسك لشىء ولا ترتبط بشىء. كُنْ حُراً واعتق نفسك من عبودية المُحتال (أى الشيطان).
إن لم تكن حُراً لا تقدر أن تكون عمَّالاً (خادماً) للمسيح.
كُنْ عاملاً بتدبيرك. إذا مشيت لا تدع عقلك يدور، ولكن ليكن مجتمعاً قدامك.
كُنْ طاهراً، مرتباً في لباسك، ونظرك فليكن مطرقاً إلى أسفل وفكرك فوق عند ربك.
لا تملأ عينيك من وجه إنسان، لكن بتهيب وخوف تبسط نظرك.
كُنْ شبه عذراء ذكية، واحفظ نفسك للمسيح.
كُنْ مُحباً لكل أحد وابتعد من كل أحد. اعلم أنك راهب ولا ينبغى لك أن ترتبط بشىء.
أحبب بفكرك حُباً فاضلاً ذاك الذى يقول لك كلمة منفعة، أما الذى يُبكِّتك فلا تحزن منه، لئلا تكون عدواً لكلمة الله.
فلتكن نفسك مستيقظة لخدمة الله وعقلك مُجتمعاً عند ربك.
ليس لك أن تفحص عن كل الأمور، لأنك لم تصر مُدبِّراً ولا رئيساً، ولكنك مأمور وليس لك سلطان حتى ولا على نفسك.
لا تَصِرْ من فئة الذين ينظرون إلى أصحابهم (أي تغير مما لهم أو مما يعملون أو مما يُعطَى لهم) لئلا يتسجَّس عقلك بالحسد وتكون خدمتك بلا منفعة.
لا تطلب حاجتك في كل أمر، لأنك لست لهذه التلمذة تتلمذت: أن تكون تُلبىَّ طلباتك في كل أمر.
داوم قراءة كتب الأنبياء، لأنك منها تعلم عظمة الله وأفعاله وعدله وقوَّته، وادرس أسفار المُبشِّرين بالعهد الجديد (الأناجيل)، لأنك منها تعلم رحمة المسيح وخيريَّته ونعمته. وتَهَجَّأ كلَّ حينٍ بآلام الشهداء لتقتني شجاعة النفس، ولا تشتهِ الأغاني مثل الشباب، واحذر من الحسِّيات التي يحبها هواك.
الزم القراءة أفضل من كل عمل، لأنه ربما يتشتت العقل في الصلاة، لكن القراءة تجمعه. إذا قمت في الصلاة قدام الله فاحرص أن تجمع عقلك وتطرح عنك الحسِّيات المبلبلة. خُذ في نفسك كرامة الله ونقِّ حركاتك من الحسِّيات السوء، فإن أحسست بالنعمة فداوم ولا تسترخِ، فإذا أبصر الله صبرك فهو بسرعة يحل فيك ويتقوى عقلك ويشتعل بالحرارة الروحية، وأحاسيس نفسك تُضئ، وتأخذك حركات العَجَب (أي تنال موهبة التأمل والدَهْش) على عظمة الله التي تنبع فيك. وهذه تكون من طلبات كثيرة وفكر نقي، لأنه كما أنه لا يوضع البخور الطيب في إناء منتن، هكذا الله لا يظهر عظمته في فكر ردئ.
الذى يظن في نفسه أن حياته في الدنيا إنما هي يومه الذى هو فيه، فإنه لا يكاد يخطئ.
+ وقال أيضاً:
ابتداء التدبير الجيد أن يبتعد الراهب من أحبائه ومعارفه وأقربائه بالجسد، ثم يتمسكن بتخلِّيه عن كل شىء يشغل العقل، ليس من المقتنيات فقط بل وأيضاً من النظر والسمع والكلام، وذلك بقدر قوَّته، لأن الحواس هي رباطات الإنسان الباطني وبها يسوس حياته.
لهذا فالسكون هو أفضل جميع الأعمال، لأنه بمداومة الصمت تسكت الأفكار، وتموت المشيئة الذاتية، وينقطع تذكار الأمور الباطلة، وحركة الشهوات القاتلة الجسمانية والنفسانية. أما الجسمانية فهى لذة الفم، وشره البطن، وشهوة الطبيعة، وتنزُّه الحواس، والاسترخاء، والنوم، والزنا؛ أما النفسانية فهى الجهل، والنسيان، والبلادة، وقلة الإيمان، والحسد، والشر، والمجد الباطل، والعُجْب، والعظمة، وقلة القناعة.
سكوت الجسد هو حبسه عن الدوران (أي كثرة التنقل والتنـزُّه)، وسكوت النفس هو الابتعاد عن الجهلة ومن النظر إلى الوجوه، فإن الجهلة يشغلوننا بباطلهم ويجرُّوننا إلى عاداتهم ويستخدموننا لمناهج حياتهم التي يستحسنوها، وهى تقطعنا عن حياتنا الروحية. فلذلك ليس شىء أفضل من التباعد عن هؤلاء والانصراف عنهم، لأن بدون ذلك لا يستطيع الإنسان أن ينظر نفسه.
وعمل السكوت هو: الصوم، والسهر، والهذيذ الصالح، وإتعاب الجسد بقانون حكيم في المقدار والترتيب، وبدوام ذلك يجتمع العقل إلى نفسه ويرجع من التشتت فيما هو خارج عنه، و لكن بعد قليل يبتدئ أن يصحو لنفسه، ويتصور حُسنه، ويشرق عليه نور الرب، وينظر الإله خالقه، ويعرف الله رازقه، ويفرح بوالده، ويرجع من سبيه، ويحيا من موته، ويستريح من الشهوات، ويُعتَق من الظلمة، ويتخلَّص من الشرير عدوه.
ولابد للإنسان من الإيمان الخاص الحقيقى. فالإيمان العام هو لكل الناس. ومن نعمة ربنا علينا أننا وُلِدنا في الإيمان. أما الإيمان الخاص فهو الذى يُقربنا من الله، وذلك بأن نسأل ونطلب منه العظائم التي ليس مجرد التصديق بكونها موجودة يجعلنا نقدر على الإيمان، بل أن نعتصم به (بالإيمان وبالله) ونتقوَّى، ولا نخاف من شىء، إذ نتيقَّن أن الذى نتقوَّى به هو أقوى من كل شىء.
والثبات في الجهاد والصبر على البلايا هو أيضاً من أفضل الأمور، وكلما استمر السكون ضعفت الشهوات، وكلما ضعفت الشهوات تقوَّى العقل قليلاً إلى أن يصح ويستريح، وحينئذ لا يذكر الإنسان شهواته وأحزانه السابقة، كما قال ربنا عن التي تلد (يو 21:16). وإذا انعتق الإنسان من الشهوات الشريرة التي ندم عليها، انعتق من الأحزان والآلام والأمراض العارضة كلها التي تؤدِّب الخطاة. وبدوام السكون يُعتق من الشهوات الذميمة.
أما الذين يعوقوننا عن معرفة الله ويبطلوننا عن عمل الفضيلة فلا يُلامون لأنهم لا يعرفون، أما نحن فإذ قد عرفنا رِِبحنا وخسارتنا فينبغى لنا أن نبتعد عنهم ونسكت لكى تحيا نفوسنا.
وهاهنا شئ آخر ردئ جداً ويفسد علينا النقاوة بالكلية، وهو حب الرئاسة والكرامة والمديح من الناس، فإن هذه شهوات مميتة ورجاء كاذب، وقليل مَنْ يعتق هواه منها، وهو شديد عند ذوي اللذات وشره البطن. وعسير هو التحرر من حب الرئاسة والكرامة والمجد الباطل. والارتباط به يعسر الانحلال من العالم، لأن هذه الشهوات تلبس الإنسان بلا نهاية. فلا نطلب نحن الرئاسة في هذا العالم الزائل المظلم، فإن رئاستنا نحن وكرامتنا هما في العالم المضئ السمائى. وحب المسيح ربنا وحده يخلصنا من هذه الأوجاع، آمين].
+ سأل آباؤنا مرة القديس يؤانس القصير عن الجلوس في القلاية. فقال لهم:
"مَنْ كان خالياً من مقتنيات الدنيا، وفيه فضيلة الله فهو بحق جالس في القلاية بالبرية، لأن الذى ليس له شئ من مقتنيات العالم فهو غنيٌّ بالفضيلة، أما صبره على الوحدة فهو لأجل الخيرات الأبدية. فإذا لم تكن فضيلة الله في نفس الإنسان ولديه مقتنيات العالم، فإن هذا الإنسان يقيم في القلاية أو في البرية لأجل الأمور الفانية. وإذا لم يكن للراهب اهتمام لا في أمور الله ولا في منافع الدنيا الفانية، فمن المستحيل أن يبقى في قلايته، لأنه يكون مثل سفينة بلا حمولة في لُجَّة البحر بعيدة عن الميناء بلا ملاَّحين أو مُدبِّرين، ولذلك فبسبب الرياح العاصفة تغرق".
صلاة للقديس أنبا يؤانس
+ إذا وقفت للصلاة قدام الله فقل أولاً:
"قدوس قدوس قدوس الله القوي، السماء والأرض مملوءتان من أمجادك".
وبعد ذلك قل:
"اللهم أهِّلني بنعمتك لذلك الشرف الذي هيأَّته في العالم الجديد، ولا يدينني عدلك في مجيئك العظيم، اللهم أهِّلني لمعرفتك الحقيقية والاتحاد بحبك الكامل".
وحينئذ أكمِِِلْ بالصلاة التي علمها الرب لتلاميذه، وداوم عليها، وفيها تأمل. الذي يظن في نفسه أن حياته في الدنيا إنما هي يومه الذي هو فيه فهو لا يكاد يخطىء.
دير القديس يؤانس القصير
موقعه: يقع جنوب غرب ديرىِّ أنبا بيشوى والسريان مسافة ثلاثة أرباع ساعة (45 دقيقة) إلى الجنوب الغربي.
المراجع التاريخية: ذكره المقريزى في وجه 508 من كتابه "الخطط المقريزية". وقال إنه عُمِّرَ في أيام قسطنطين ابن هيلانه، وكانت لهذا الدير حالات شُهرة وبه طوائف من الرهبان. وهذا الدير كان يحيط به سور دائري، وبه بيعة على اسم القديس (وذلك بعد نياحته) ، وفيه جسده الطاهر، وفيه بيعة للشهيد مار جرجس الجليل، وفيه مغطس كبير. ويجاور هذا الدير جوسق (حصن) كبير، وقلالي الرهبان حوله، وفي أراضيهم شجر ونخل، ومهما زُرِع فيه طلع وأثمر. وعدد الرهبان فيه إلى آخر برمهات لسنة 804 للشهداء الأطهار مائة وخمسة وستون (165) راهباً. وبإحدى القلالى بيعة على اسم إيليا النبي، اهتمَّ بتجديدها رهبان القلاية بما جمعوه من المسيحيين، وكرَّسها أنبا يوحنا البطريرك وهو الرابع والسبعون (74) في سنة 903 للشهداء الأبرار.
وشهدت سيرة البابا ألكسندروس البطريرك وهو الثالث والأربعون (43)، أنه كان بهذه الأديرة رهبان قديسون.
وشهدت سيرة البيعة وأخبار البابا بنيامين وهو الثامن والثلاثون (38) على تجديد عمارة الأديرة بوادى هبيب، وذلك بعد عودته من الاختفاء من هرقل ملك الروم بعد فتح مصر والإسكندرية بيد المسلمين. وذكرت أن جميع ماء العيون والآبار التي بهذه الأديرة مالح، وهم يشربون منه. وعادة الرهبان بهذه الأديرة عمل الحُصر من البَردى الذي ينبت في الوادى بهذه البرية.
تاريخ تأسيس هذا الدير، يمكن أن يُعرف من حساب التسلسل الآتى: وُلِدَ القديس يؤانس القصير سنة 339م، وترهَّب على يد القديس أنبا بامو سنة 357م وهو شاب له 18 عاماً، وظل تحت إرشاد أبيه وخدمته 17 عاماً. وبعد أن تنيَّح أبوه أنبا بامويه، وحسب وصيته له أن يسكن بجوار شجرة الطاعة التي كانت رمزاً له بأنه سيكون أباً لرهبان كثيرين بدأ توحُّده سنة 374م والتفَّ حوله تلاميذ كثيرون ما بين سنة 374م وسنة 380م. وبذلك يمكن تحديد بدء ظهور هذا الدير سنة 380م - 385م تقريباً.
وصف دير أنبا يؤانس القصير:
من المتفق عليه أن مبانى الأديرة الأربعة وهى: دير العذراء براموس، دير أنبا مقار، دير أنبا بيشوى، دير يؤانس القصير نشأت في زمن واحد وهو القرن الرابع الميلادى.
ويوجد تشابه كبير بين مبانيها مثل: الكنائس الرئيسية، ومائدة كانت مُلحقة بالخورس الثالث لكل كنيسة لاستخدامها في وليمة الأغابى بعد قداس الأحد، ثم مبانى الدياكونية (خدمة الطعام)، وأخيراً حصن كبير بجوار كل كنيسة، وبئر ماء.
ومن هذا الوصف العام يمكن لنا أن نتخيل الشكل المعمارى لدير القديس يؤانس القصير، فالدير في عهده الأول كان عبارة عن:
+ كنيسة باسم القديس (بعد نياحته)، وبها مائدة في الخورس الثالث، وحول الكنيسة قلالى للرهبان.
+ وبعدما كثر عدد الرهبان، حفر القديس مع تلاميذه بئر ماء بالقرب من الكنيسة، وقيل أنها لم تأت بماء بعد أن حفروها إلى عمقٍ كبير استغرق خمسة أيام من الحفر، فوقف القديس بجوارها الليل كله في الصلاة حتى استجاب الله وتفجرت منها المياه.
+ وذكر أبو المكارم(4) أنه كان بجوار الدير جوسق كبير أى حصن كبير. فمن المؤكد أن هذا الحصن تم بناؤه بعد رحيل القديس إلى القلزم، وذلك لأن القديس ترك هذا المكان بعد غارة البربر الأولى سنة 407م. وحتى هذا الوقت لم تكن هناك حصون بعد في الأديرة، لأن بناء الحصون يُنسَب إلى الملك زينون والد القديسة إيلارية الذى تنيح سنة 491م. وأيضاً لم يُذكر أى اسم للحصون في الإسقيط إلاَّ في قصة الـ 49 شهيداً، وكان ذلك سنة 444م.
+ شجرة الطاعة، وكانت بالقرب من الكنيسة، وهى التي غرسها القديس. ويُقال أنه كان يوجد إعرابى يُدعى عبود سكن عدة أيام في خرائب دير يؤانس القصير، وكان كل يوم يقطع من فروع الشجرة ويحرقها للوقيد حتى أنهى على معظم فروعها وقطعها أخيراً.
+ وقد تم بناء سور للدير في القرن التاسع.
+ وبناء صغير للدياكونية (خدمة الطعام؛ مخازن؛ وفرن للخبيز؛ وطاحونة).
+ ومكان للضيافة، وقد تكون قلاية، تستخدم لهذا الغرض.
+ حديقة للدير بها شجر ونخل، ومهما زرع فيه طلع وأثمر.
+ تم بناء مغطس في القرن الثانى عشر.
+ ظهور كنيستين أخريين بإحدى القلالى: واحدة باسم الشهيد مار جرجس، والأخرى باسم إيليا النبي.
+ ظهور مكتبة بالدير، ويُعتقد أنها تأسست في زمن الراهب العلامة والمؤرخ سمعان بن كليل الذى ترك الخدمة في الدولة العادلية وترهب في دير أنبا يؤانس القصير ببرية الإسقيط بوادى هبيب سنة 1200م، وحبس نفسه في صومعة بناها في وسط الدير مدة تزيد عن 30 سنة، وكانت سيرته فاضلة وأمره مشهوراً.
وقد ذكر الأمير عُمر طوسون في كتابه عن تاريخ أديرة وادى النطرون سنة 1936م أن مساحة الدير حوالى ثلاثة أفدنة وتسعة عشر قيراطاً وستة أسهم، أى ما يُعادل 16000م2. وكان الدير في ذلك الوقت أطلالاً، لأن الدير ظل عامراً بالرهبان حتى القرن الخامس عشر كما ذكر المقريزى قبل وفاته سنة 1442م، حيث قال: [دير أنبا يؤانس القصير: كان لهذا الدير حالات شهيرة وبه طوائف من الرهبان، ولم يبقَ به الآن إلا ثلاثة رهبان].
توقُّف الحياة الرهبانية ودمار مبانيه:
وفي ذلك الوقت كان قد تم نقل جسد القديس يؤانس القصير إلى دير أنبا مقار، بالتحديد في سنة 1413م. حيث توقفت الحياة الرهبانية في هذا الدير (دير أنبا يؤانس القصير) في ذلك القرن، ويرجع ذلك إلى سقوط سقف الدير المصنوع من الخشب وتهدمه بسبب هجوم حشرة النمل الأبيض القارضة. ويذكر المقريزى أن دير أنبا يؤانس كاما ودير إلياس الحبشى تعرضا أيضاً لهذا الهجوم وسقطا.
بدء التنقيب عنه في العصر الحديث:
ومنذ فترة قريبة، سنة 1994م، قامت جامعة ميتشجان بأمريكا بمشروع المسح الأثرى بهذه المنطقة وكشفت عن آثار كنيسة هذا الدير، ووجدوا بها مغارة مبنية تحت الأرض بالطوب الأحمر أمام مذبح الكنيسة، وظهرت أيضاً منشوبية واضحة التقسيم بجوار الدير. وليت يتمم الله عمله ويكشف لنا عن آثار هذا الدير العريق الذي طالما ارتفعت فيه أصوات التسبيح والصلوات لله.
نقل جسد القديس أنبا يؤانس القصير
إلى برية شيهيت
بعد أن تنيح القديس يؤانس في القلزم، وكان ذلك في 17 أكتوبر سنة 409م، أراد البابا يوحنا الرابع، وهو البطريرك الثامن والأربعون؛ الذى جلس على الكرسى المرقسى في الفترة (790 - 799م)؛ إرجاع جسده، حيث كان قد استولى على جسده جماعة من الخلقيدونيين، فبتوسط البطريرك وأسقف القلزم في هذا الوقت الأنبا ميخائيل الذى كان صديقاً للأمير في ذلك الزمان، توجه الرهبان إلى الدير وقد لبسوا ثياب العرب فوق ملابسهم الرهبانية ودخلوا مع العرب وحملوا الجسد المقدس، وأتوا به إلى دير أنبا مقار، حيث استودع مدة ثم انتقل إلى ديره، ولكن بعد أن خرب دير يؤانس القصير عاد الجسد إلى دير أنبا مقار حيث ظل مع أجساد المقارات الثلاثة إلى الآن ولحين إعادة تعمير الدير.
+ وقد حاول أحد البطاركة - البابا أنبا مرقس خليفة البابا يوحنا الرابع البطريرك التاسع والأربعون - أن يتبارك منه وينزع من عليه ثوب الليف الذى كان ملفوفاً به ثم يكسو جسده بأكفانٍ جديدة من حرير تكريماً لهذا القديس المحبوب، ولكن حالما تقدم منه لكى يخلع عنه الكفن حدثت زلزلة في الكنيسة، فأعاد البطريرك كَفَنَه الليف كما كان. وذُكرت هذه الحادثة المشهورة في السنكسار الأثيوبى تحت يوم 5 سبتمبر:
[من أجل أعمالك العظيمة يا يؤانس القصير، أراد أولادك أن يكفنوك بلفائف من حرير، فمنعهم الرعد الذى دوى في الكنيسة، فبقيت عليك ثياب الفقر من الليف كما أردت].
إن التكريم الحقيقي للقديس لا يكون بإلباس رفاته بما لم يلبسه في حياته على الأرض، بل بالاقتداء بسيرته والتمثُّل بفضائله وحياته الباطنية التي في المسيح والتي تمُجد الله تحقيقاً للقول: "ليتمجد (المسيح) في قديسيه" (2تس 10:1؛ الهوس الأول من التسبحة اليومية)، وحسب وصية الرسول بولس: "كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح" (1 كو 1:11).
لقد قيل عن أنبا يؤانس إنه كان يحمل شيهيت كلها باتضاعه كما يحمل الإنسان نقطة ماء على كفِّه.
**
هذا هو مصباح البرية الإيغومانس يؤانس القصير.
بركة صلاته فلتكن معنا. آمين
المُلقَّب "كولوبوس"


الأنبوبة الخشبية التي تحوي رفات القديس يؤانس القصير
المحفوظة الآن بكنيسة الشهيد أبسخيرون القليني - دير القديس أنبا مقار
المحفوظة الآن بكنيسة الشهيد أبسخيرون القليني - دير القديس أنبا مقار
القديس يؤانس القصير
مواقف في حياة أنبا يؤانس جديرة بالإقتداء بها
توبة القديسة بائيسة على يدىِّ القديس يوأنَّس
نياحة القديس يؤانس
من أقوال القديس يؤانس القصير
صلاة للقديس أنبا يؤانس
دير القديس يؤانس القصير
وصف دير أنبا يؤانس القصير
نقل جسد القديس أنبا يؤانس القصير إلى برية شيهيت
القديس يؤانس القصير
المُلقَّب "كولوبوس"
وُلدَ القديس يؤانس القصير حوالى سنة 339م في مدينة "بَمجا Pamje" المعروفة من الصعيد، واسمها بتسا وهى البهنسا الحالية.
وُلدَ إنساناً فقيراً مُحتاجاً، ولكن فقراء ومساكين هذا العالم اختارهم الله أغنياء بالمسيح يُغنون كثيرين في ملء الروح القدس. وإنَّ أبوَيْ هذا الطوبانى كانا تقيَّين جداً يخافان الله. وبعد أن وَهَبَ لهما الله ولدين ذكرين، الكبير منهما في العمر قد صار راهباً مختاراً أخيراً، والصغير في العمر الجسدانى هو أبونا القديس يؤانس القصير. وقد كان في الجمال والفهم الجيِّد كبيراً. وتفسير اسمه: (الله حنَّان).
دعوة الله له للرهبنة:
في شبابه تحوَّل قلبه عن أباطيل العالم وشهواته وأمجاده واشتاق للرهبنة. فحرَّكته نعمة الله أن يمضي إلى برية شيهيت.
بداية دخوله الرهبنة:
وهناك في برية شيهيت اهتدى إلى شيخ قديس مُختبر، يقال له أنبا بمويه من البهنسا، وسأله أن يسمح له بالإقامة عنده. فقال له الشيخ مختبراً جدية طلبه: "يا ابني، إنك لا تقدر على الإقامة معنا لأن هذه برية مُتعِبة، والساكنون فيها يقتاتون من عمل أيديهم، فضلاً عن الصوم الكثير والصلاة والنوم على الأرض والتقشف، فارجع إلى العالم وعِشْ في التقوى". فقال له يؤانس: "لا تردُّني يا أبي من أجل الله، لأني أتيت لأكون تحت طاعتك، ومذكوراً في صلاتك، فإذا قبلتني فإني أومن أن الرب يطيِّب قلبك عليَّ".
+ ولما كان من عادة الأب بمويه أنه لا يتصرف بدون رَويَّة، فقد سأل المسيح أن يكشف له أمر هذا الشاب، فظهر له ملاك الرب قائلاً: "اقبله فإنه سيكون إناءً مختاراً". فأدخله الأب بمويه. وقص شعر رأسه، وأخذ ثياب الرهبنة ولبث يصلي عليها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وعندما ألبسه إياها رأى ملاكاً يصلِّب عليها.
اختبار الطاعة، وشجرة الطاعة:
الاختبارات التي كانت تُجرى على الراغبين في الرهبنة هى: اختبار تواضع الراهب، ومدى جحده لذاته، وعدم اهتمامه بشهوات جسده.
ابتدأ أبوه أنبا بامو يجتهد معه لكى يُعلِّمه التقوى (مخافة الله) والنسك وأنواع الفضيلة بمخافة الله، من تلاوة المزامير والسهر وطرق العبادة المقدسة والانفراد والحبس والرقاد على الأرض وجحد المشيئة الذاتية التي للنفس؛ أي ألاَّ يعتدَّ بذاته؛ والسكون والاتضاع والاستحياء والبساطة. وكان كُلَّما يُعلِّمه كلمة، كان يؤانس يحفظ المشورة ويُطيعها عاملاً بها، ولاسيما أنه كان يحفظ حواسه بسلام وقلبه من الشهوات الرديئة، ويحرس عقله وبخاصَّة من خيال الأرواح والمناظر والأحلام التي ينخدع بها الراهب غير الفَطِن فيظن خطأ أن الله يكلِّمه بها فيهلك، بل كان يعمل كل شيء بفطنة روحانية. كما كان يُعلِّمه التوجُّه إلى الكنيسة بحكمة وعقل لأنها كانت بعيدة منه قليلاً. وعلَّمه أيضاً الانتباه، وأن يجعل عقله منتبهاً ولاسيما عند قراءة الكتب المقدَّسة التي هي أنفاس الله، وأن يهذَّ في كلمة الله حافظاً إياها عن ظهر قلب، والصلاة بلا فتورٍ. وكان يُوصيه بحرص عظيم أن يفهم ما يسمع في الكنيسة بحرص، وبحرارة ودموع بغير تشتت في فكر أرضي.
أمَّا القديس أنبا يؤانس القصير فكان يخدم في الطاعة الكاملة مثل تلميذ صالح يتعلم بصبرٍ حقيقى، وهو لابس السلاح القوى الذى هو الاتضاع الحقَّاني الذى يُهلك جميع أصول الخطية.
+ وحدث يوماً أن الأنبا بمويه وجد عوداً يابساً فأعطاه لأنبا(2) يؤانس وقال له: "خذ هذا العود واغرسه واسْقِه." فأطاعه وصار يسقيه كل يوم مرتين، وكان الماء يبعد عن مسكنهما مقدار اثني عشر ميلاً. وبعد ثلاث سنين نما العود وصار شجرة مثمرة. فأخذ الشيخ من الثمرة وطاف بها على الشيوخ قائلاً: "خذوا كلوا من ثمرة الطاعة."
أمانته وخدمته لمعلمه:
+ ومرض أبوه الروحي بمويه اثنتي عشرة سنة. وكان الأب يؤانس يخدمه طول هذه المدة، ولم يسمع من معلمه في أثنائها قط أنه قصَّر في خدمته. لأن القديس بمويه كان شيخاً ذا اختبار، وقد جُرِّب كثيراً وأضناه المرض حتى صار كالعود اليابس ليكون قرباناً مختاراً. وعند نياحته جمع الشيوخ وأمسك بيد القديس يؤانس القصير وسلمه لهم قائلاً: "احتفظوا بهذا، فإنه ملاك وليس إنساناً". وأوصاه أن يقيم في المكان الذي غرس فيه الشجرة.
وبعد هذا أتى أخوه الكبير وترهب عنده وصار هو أيضاً راهباً فاضلاً.
القديس يؤانس الإنسان - درس لأنبا يؤانس:
+ وحدث مرة أن قال لأخيه الأكبر: "إني أود أن أكون بغير همٍّ مثل الملائكة، لأنه لا اهتمام لهم ولا شيئ يعملونه سوى أنهم يتعبدون لله دائماً". ومضى ونزع ثوبه وخرج عارياً إلى البرية، فأقام أسبوعاً ثم عاد إلى أخيه. فلما قرع الباب عرفه أخوه، فقبل أن يفتح له الباب قال له: "مَنْ أنت؟" فقال: "أنا يؤانس أخوك". فأجابه: "إن يؤانس أخي قد صار ملاكاً وليس هو من الناس الآن". فرد عليه قائلاً: "أنا هو أخوك!" فلم يفتح له الباب وتركه إلى الغد، حيث فتح له وقال له: "اعلم الآن أنك إنسان محتاج إلى عمل وغذاء لجسدك". فصنع له مطانية واستغفر منه.
وهذه الحادثة تبيِّن أن ليس في الرهبنة تعالٍ على الحياة الطبيعية والعمل والسُكنى مع الإخوة ومحبتهم والاشتراك في خدمتهم. وحتى الأبَّا يؤانس القصير كان محتاجاً إلى مَنْ يعلِّمه ويردُّه حينما تمادى في النسك الزائد غير المأمون.
رسامته إيغومانساً:
+ ولما صيَّروا أنبا يؤانس إيغومانساً على كنيسة الموضع حيث يجتمع الرهبان للصلاة، حدث أنه لما وضع الأب البطريرك ثاوفيلس يده على رأسه، أن أتى صوت من السماء سمعه الحاضرون قائلاً: مستحق، مستحق، مستحق. وقد امتاز هذا القديس بأنه كان وقت خدمة الأسرار يعرف مَنْ يستحق القربان ومَنْ لا يستحقه من المتقدمين للتناول.
طاعته للبطريرك في استحضار رفات قديسين،
وعدم سماح الله بذلك:
+ وكان الأب البطريرك أنبا ثاوفيلس قد بنى بالإسكندرية كنيسة للثلاثة فتية القديسين (المذكورين في سفر دانيال 1:3-30)، ورغب في إحضار أجسادهم ووضعهم فيها. فنادى القديس يؤانس القصير وكلَّفه السفر إلى بابل الكلدانيين وإحضار الأجساد المقدسة من هناك. وبعد إحجام كثير، قَبِلَ القيام بهذه المهمة الشاقة، وخرج من عند البطريرك، فحملته سحابة إلى بابل، فدخل المدينة وشاهد آثارها وأنهارها وقصورها ووجد أجساد القديسين. ولما شرع في نقلها من مكانها، خرج صوت من الأجساد المقدسة يقول له: "إن هذه إرادة الله أنهم لا يفارقون هذا المكان إلى يوم القيامة. ولكن لأجل محبة البطريرك ثاوفيلس وتعبك أيضاً، عليك أن تعرِّف البطريرك أن يجمع الشعب في الكنيسة ويأمر بتعمير القناديل ولا يوقدها، ونحن سنظهر في الكنيسة بعلامة تعرفونها في ذلك الحين".
فانصرف عائداً إلى الإسكندرية. وعرَّف البطريرك بما قاله القديسون. وقد حدث عندما كان البطريرك والشعب بالكنيسة أن القناديل أنارت فجأة! فأعطوا المجد لله.(3)
+ وبعد ذلك أغار البربر على البرية فتركها. وعندما سُئِلَ في ذلك، أجاب بأنه لم يتركها خوفاً من الموت ولكن لئلا يقتله بربري فيذهب إلى الجحيم بسببه، وأنه لا يريد أن يكون هو في راحة وغيره في عذاب بسببه. لأنه وإن كان هذا البربري مقاوِمَه في العبادة إلا أنه أخوه في الصورة الإلهية. ثم قصد جبل أنبا أنطونيوس عند القلزم وسكن بجوار قرية هناك، فأرسل له الله رجلاً مؤمناً كان يخدمه.
مواقف في حياة أنبا يؤانس
جديرة بالإقتداء بها
ضبط النفس والجسد:
+ قيل عن القديس يؤانس إنه لم يكن يشبع إطلاقاً لا من الخُبْز ولا من الماء ولا من النوم، ولم تخرج من فمه قط كلمة شائنة. هذا لأنه لم يتملَّكه فكر جسدى قط، بل كان مثل ملاك في طهارة القلب والحكمة.
الهروب من مواقف الغضب:
+ مرَّةً كان في الحصاد، فأبصر أخاً قد غضب على آخر، فهرب وترك الحصاد.
+ وقال القديس: "إنى كنت دُفعةً ماضياً في طريق الإسقيط ومعي القفف على جملٍ، فأبصرتُ الجَمَّال وقد تحرَّك فيه الغضب، فتركتُ الذى لى وهربت".
+ ويقول القديسون: [اهرب من الموضع الذي يوجد فيه غضب].
+ وقيل إن أنبا يؤانس جاء يوماً إلى الكنيسة التي كانت في الإسقيط، فسمع مجادلة كلامية بين الإخوة، فرجع إلى قلايته ودار حولها ثلاث مرات ثم دخلها. فرآه الإخوة وسألوه: "أخبرنا لماذا درت حول قلايتك ثلاث مرات؟" فقال لهم: "لأن صوت الملاججة كان لا يزال في أذنى، فقلت أخرجه أولاً منها ثم أدخل القلاية حتى يكون عقلى داخل القلاية نقيّاً".
تذكُّر الدينونة ومحبة التعب:
+ قيل إن القديس كان مُزيَّناً بكل الفضائل، وإنه كثيراً ما كان يتذكر ثلاثة أمور: مخافة وقت الخروج من الجسد، ومخافة لقاء الله، ومخافة يوم الدينونة. فعندما يتذكَّرها كان ينطلق إلى داخل البرية، وكان أخوه بالجسد وهو الأكبَر منه والذى ترهَّب عنده يخرج باحثاً عنه، وإذا وجده كان يقول له: "لماذا يا أخى تُتعب نفسك هكذا كثيراً؟ أما تحققت أنك إذا أقمت في القلاية تجد الله؟" فكان يُجيبه قائلاً: "نعم، أنا أؤمن أن الله في كل موضع، لكنى أريد أن أتعب كثيراً".
+ يُلاحَظ في سير قديسين كثيرين أنهم كانوا يُتعِبون أنفسهم ليفرِّغوا الطاقة الجسدية عندهم. لذلك فالعمل بالنسبة للراهب لا غِنىَ عنه، وهو عامل مساعد للراهب في نموِّه الروحي، وليس معطِّلاً له أو منافساً لأوقات الصلاة.
كيف يواجه الأفكار الشريرة:
+ وسأله أبوه أنبا بمويه لكى يعلم حياته وخواطر قلبه ويتحقق كيف هو، فقال له: "كيف تُقاتل الأفكار الشريرة؟" فأجابه: "أنا، ياأبي، أُشبه واحداً جالساً تحت شجرة عالية جداً، فإذا رأى الوحوش والذئاب مُقبلة إليه ولا يقدر أن يقف أمامها، يهرب إلى أعلى الشجرة ويَخلُص. كذلك أنا أيضاً أكون جالساً في قلايتي، فإذا رأيت جميع أفكار العدو الشريرة مُقبلةً إليَّ أهرب إلى حماية ورجاء معونة الله بالصلاة، فأخلُص من يد العدو إلى الأبد".
حرص ويقظة القديس يؤانس تجاه الكلام البطَّال:
+ وفي أحد الأيام جاء إليه إخوة لينتفعوا منه. ولأنه ما كان يسمح لفكره بحديث بشري ولا كان يتلفظ بشيء من أمور العالم؛ فلما قالوا له: "الشكر لله يا أبانا، إن هذه السنة أمطرت أمطاراً كثيرة، وقد شرب النخل وارتوى وها هو يُخرج السعف ليجد الإخوة حاجتهم منه لعمل أيديهم"، قال لهم: "إن نعمة الروح القدس إذا ما حلت في عقل إنسان أَرْوَتْه وجددته ليُخرج أثماراً تصلح لعمل الله". وهذا لأن الكلام البطال، أى الذى بلا هدف روحى ولا يصلح لبنيان السامعين ليس له موضع في حياة الراهب، "لا تخرج كلمة رديَّة من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يُعْطِيَ نعمة للسامعين" (أف4: 29)
حكمته وإفرازه في المواقف الصعبة:
+ مرةً كان القديس صاعداً من الإسقيط مع الإخوة، فَضَلَّ مُرشِدُهم الطريق لأنه كان ليلاً. فقال الإخوة للقديس: "ماذا نصنع، لأن الأخ ضَلَّ الطريق؟" فقال لهم: "إن قلنا له شيئاً حزن واستحى، فالأفضل أن أتظاهر بأنى مريض وأقول إنى لن أستطيع المشى لأنى في شدة، وبذلك نجلس إلى الغد"، فلما أعلن لهم رأيه هذا وافقوا وقالوا: "ونحن أيضاً نجلس معك"، وفعلاً جلسوا.
+ وفى مرة كان يأكل مع الآباء، فقام واحد من الشيوخ الكبار ليسقيهم ماء، فلم يقبل منه أحد، خجلاً وتحشُّماً، إلاَّ يؤانس القصير، فتعجَّبوا منه وقالوا له: "كيف وأنت صغير بين الإخوة جسرت على أن يخدمك مثل هذا الشيخ الكبير؟!" فقال: "أنا إن كنت في خدمة وأردت أن أناول أحد الإخوة كوز ماء، أفرح بالذى يبادر ويأخذ منى ليصير لى الأجر، فلذلك قبلت أنا من الشيخ ذلك لأكمل أجره، وذلك بدلاً من أن يخجل لأنه لم يقبل منه أحد شيئاً"، فلما سمعوا انتفعوا من إفرازه.
موقفه من مديح الناس:
+ جاء إليه يوماً واحد ليراه وظلَّ يمدح أعماله، فظل القديس صامتاً لأنه كان يُضفِّر خوصاً. ثم تكلم الزائر مرة ثانية واحتفظ القديس بصمته. ولما مدحه مرة ثالثة، قال له: "منذ أن جئت أنت إلى هنا، أبعدت الله عني".
ومن ذمِّهم له:
+ قيل لما أحب الإخوة أنبا يؤانس والتفوا حوله، جربه شيخ كبير ليعرف ما إذا كان قلبه لا يزال يستهويه مديح الناس أم لا، فقال له: "إن يؤانس رجل شرير وقد زين ذاته كامرأة شريرة تكثر من عُشاقها". فأجابه القديس باتضاع قائلاً: "بالصواب نطقت يا أبى القديس، لأن الرب كشف لك ذلك".
+ وسأله أبوه أنبا بامويه: "هل اضطرب قلبك من كلام الشيخ؟" فقال له: "يا أبي كما كان خارجى كذلك داخلي من قِبَل المسيح الذى يقوينى". فأيقن المُعلِّم أن تلميذه لم يعد يتأثر بكرامات العالم الزائفة.
+ وفى مرة كان القديس جالساً يوماً أمام الكنيسة وكان الإخوة يستشيرونه عن أفكارهم، فلمَّا رأى أحد الشيوخ ذلك استولت عليه الغيرة والحسد وقال له: "يا يؤانس إنك ساحر، وإناؤك مملوء سُمّاً"، فقال له القديس: "هذا حق تماماً أيها الأب، وأنت قلت هذا لأنك رأيت الخارج فقط، ولكن لو استطعت أن ترى الداخل أيضاً فما عساك كنت تقول حينئذ؟!"
تحذيره من إدانة الآخرين والإنشغال بالتهكم عليهم:
+ وقال: [تركنا الحِمْلَ الخفيف الذى هو أن نلوم أنفسنا، وثقَّلنا أنفسنا بالحِمْلِ الثقيل الذى هو أن نُبَرِّر أنفسنا].
+ سأل أخ أنبا يؤانس قائلاً: "كيف أن النفس وهى مليئة بالأمور التى تلومها لا تستحى من أن تتهكَّم على الآخرين وتدينهم؟".
ثم قال: [هذا هو حالنا، فنحن ننسى خطايانا وندين أخانا، غير أن محبة الله للبشر تُهيئ لنا طريق الخلاص، إذ تفتح لنا باب التوبة التي إذا أردناها نخلُص].
+ وكان يقول: [احترسوا من الخطية، ولاسيما الثرثرة ودينونة الآخرين، لأن هذا يجعل الإنسان غريباً عن الله مثل الزنى والفسق، وقد عدَّد الرسول كل هذه قائلاً: "إن مثل هؤلاء لا يرثون ملكوت الله"].
دعوة القديس إلى احترام الغير والسعي لخلاصهم:
وقال القديس: [ ليكن كل واحد كبيراً في عينيك، ولا تهِن الذين هم أقل منك معرفة، ولا تطلب كرامة من أحد، لكن اتضع لكل الناس، ولا تغضب من الذى يتعظم عليك لأنه قليل المعرفة، لأن من قلة المعرفة يتعظم الأخ على أخيه.
كن هادئاً ليناً، ولا تردّ الجواب عن أمرٍ تُؤمَر به، بل كن مُطيعاً في كل شئ لكي ما تُحَب من كثيرين.
كن ميتاً عن العالم لكى تكون مختاراً لله، وكن صغيراً بين الناس لكى تكون فاضلاً عند ربك.
كن منبسطاً كي تحل عليك نعمة الله.
لا يكن بين عينيك شىء مُشْتَهَى، لكى تبصر الله.
كن حزيناً على الذين هلكوا، رحيماً على الذين طغوا، متوجعاً مع المتوجعين، مصلياً على المخطئين.
ولتكن نفسك عندك دون الكل. كن ساكناً بين إخوتك مثل من هو ميت عادم لكل غضب، لأن من الغضب تجئ الخطية.
اختر السهر أفضل من الأعمال، مع الصوم، لأن السهر يضئ العقل ويقلل الأحلام، والصوم يذل الجسد وهو معين أكثر من كل الأعمال.
وقيل: إنه بعد ما جاء أخوه الأكبر وصار راهباً، وكان أنبا يؤانس قد تقدم عنه في مخافة الله، فلكى يجعله ينمو تحت نير الاتضاع الحقيقى ولكى يُسلِّم نفسه للفضيلة، ذكَّره بضيق فقره في العالم وقال له: "يا أخى، اعلم أننا فقراء وأننا محتقرون عند الناس، لذلك فلنثابر حسب مشيئة الله في هذا الدهر لكى نأخذ كرامةً من الله ونتمجد مع جميع قديسيه". وبـهذا الكلام وما يُشبِهُهُ صار أخوه راهباً مختاراً، وأخذ أنبا يؤانس بيده في كل عملٍ صالح.
ويُذكَر أيضاً عنه أنه قال: "إن لم نجعل رفيقنا مثلنا ولاسيما في الكرامة فإننا لا نكون قد أَرَحْناَه، فإذا ما أرحت أخي أراحني الله أنا أيضاً".
لُطفه وطول أناته على الضعفاء والمحتاجين:
+ كان القديس ينبوعاً يفيض بكلام النعمة، فكان يجذب إلى نفسه نور وحلاوة مجد الروح القدس، لأنه تشبَّه بأسلافه بصدقٍ في صفاتـهم المقدسة وشخصياتهم الحقيقية التي تجلَّت فيه.
+ وقيل، كان في الإسقيط شيخ بسيط، ذهب هذا الشيخ إلى أنبا يؤانس يسترشد منه عن موضوع، فأجابه القديس. ولكنه لما رجع إلى قلايته نسي ما قاله له أنبا يؤانس، فذهب إليه مرة ثانية ليسأله فسمع نفس الكلام ورجع ونسي مرة أخرى، وهكذا فعل عدة مرات وكان يغلبه النسيان، فخجل الشيخ من نسيانه وامتنع عن مقابلة القديس، وبعد مدة قابله القديس يؤانس وسأله عن سبب انقطاعه فاعترف له بخجله، فابتسم القديس وأخذه إلى قلايته وقال له: "اذهب أوقد شمعة"، ففعل الشيخ وكرر القديس هذا العمل أكثر من مرة، وأخيراً سأل الشيخ: "هل نقصت الشمعة الأولى لأنك أوقدت منها كل الشموع أو ضعف نورها؟" أجاب الشيخ وقال: "لا"، فقال القديس: "هكذا يؤانس، فلا تتردد في المجىء إلىَّ".
+ ونزل مرة إلى الريف ومعه بعض القفف لكى يستبدلها ببعض الخبز لحاجة الجسد، ولما استبدلها وبينما هو راجع إلى البرية رأى امرأة عجوزاً أرملة تسير في الطريق مع ابنها الوحيد الذى كان أعمى وكانت تقوده. وسمع القديس الولد الصغير الأعمى يقول لأمه: "هل سيرسل الله لنا اليوم خبزاً لنأكل يا أمي؟"، فأَنَّت أمه وبكت وقالت له: "إن الرب يرى ويشفق علينا يا ابني بعنايته". فلما سمع القديس الحديث تحركت أحشاؤه ورحمة المسيح التي فيه، ودعا المرأة وقال لها: "لعلك محتاجة لبعض الخبز يا أمى!" فقالت له: "نعم ولكن هذا كثير، يا أبي"، لأنه برحمة المسيح الساكنة فيه أعطاها كل الخبز الذى معه. فأخذت المرأة الخبز بفرح وشكر، وقالت للقديس وهى مدفوعة بإيمان من الله: "يا أبى، أنا أرى أنك قديس الله، ضع يدك على عيني ابني هذا الوحيد ليأخذ بركة"، فرفع القديس عينيه نحو السماء وتنهد من قلب مملوء رحمة وقال: أيها المسيح إلهنا، معطى الصلاح، مالك كل شىء، أنت هو الكائن بالأمس واليوم وإلى الأبد، كما وهبتَ النظر للمولود أعمى بقوة إرادتك ورحمتك الكاملة، الآن أيضاً لتكن مشيئتك المقدسة مع كل ما هو خير لخليقتك، لأن لك المجد مع أبيك المملوء صلاحاً والروح القدس إلى دهر الدهور، آمين". ووضع يديه على عيني الصبي ورشمها باسم المسيح، فأبصر في الحال. ففرحت أمه وتهللت وصرخت قائلة: "مبارك الرب إله هذا الراهب الشيخ القديس". واجتمع الناس على هذا الصوت، فاعتزل هو بعيداً هارباً من مجد الناس واختفى حيث قاده المسيح.
إعلانات وتعزيات :
رؤيا عقلية عن نار الروح القدس في الجهاد
+ قال أبا يؤانس: إن أحد الرهبان رأى بالرؤيا العقلية ثلاثة رهبان وقوفاً على شاطىء البحر، فجاءهم صوت من الشاطىء الآخر قائلاً: "خذوا لكم أجنحة من نار وتعالوا إلينا." فاثنان منهم أخذا أجنحة نارية وطارا بها إلى الجانب الآخر، أما الثالث فصار يبكي ويصرخ نائحاً، وفي آخر الوقت أُعطي أجنحة لكنها عديمة القوة، وبصعوبة كان يطير ثم يعود فيسقط، فينهض ثم يعود فيغرق، وهكذا حتى وصل إلى الجانب الآخر بعد تعب عظيم. هكذا يكون عمل هذا الجيل، فإن كان قد أخذ أجنحة ولكن نار الروح ليست فيها، وبذلك تجدها قد عدمت قوة روح الله.
أنواع الآكلين:
+ في يوم كان القديس يأكل أغابى مع الرهبان، وانكشف له رؤيا بالروح القدس، ورأى فرقاً بين الإخوة الآكلين، فكان بعضهم يأكلون عسلاً؛ وآخرون يأكلون خبزاً؛ وآخرون يأكلون تراباً. ولما كان القديس مندهشاً من هذا السر، جاءه صوت من السماء قائلاً: "الذين يأكلون عسلاً هم الذين يأكلون بمخافة الله وفرح روحى، ويصلون بلا انقطاع، ويلهجون في السماويات، فصلواتهم تصعد إلى العلا كالعطر المقبول عند الله، ولذلك هم يأكلون عسلاً. والذين يأكلون خبزاً هم الذين يأكلون بشكر ممجدين الله على أعماله وهباته التي أعدها لهم. أما الذين يأكلون تراباً فهم الذين يأكلون بتذمرٍ ونميمة وثرثرة ودينونة قائلين عن هذا إنه ردئ وذاك إنه صالح".
شهادة القديس أنبا بيمن عن أنبا يؤانس:
+ وروى أنبا بيمن المبارك الممتلئ حكمة أموراً كثيرة خاصة بأبينا القديس يؤانس، فكان يقول عنه: [إن أنبا يؤانس القصير بسبب طهارة قلبه وسمو اتضاعه كان يحيط به سور من نار الروح القدس مُحرقاً الأفكار وكل سهام العدو الشريرة، لأنه لم يكن يسمح إطلاقاً لأقل أمر دنيوى أن يقترب منه، متمماً وصايا الرسول التي هى: "المحبة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تُقبِّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شىء، وتصدق كل شىء، وترجو كل شىء، وتصبر على كل شىء، المحبة لا تسقط أبداً" (1كو 4:13-8)].
+ وذكر أيضاً أنبا بيمن عنه، فقال: [كان هذا القديس يعيش بكل قدرته في وصايا الرب حتى أكملها كلها، لدرجة أنه سيجلس أيضاً في اليوم الأخير ليدين العالم، لأنه مكتوب: "إن القديسين سيدينون العالم" (1كو 12:6)].
سر قداسة أنبا يؤانس
+ قيل عن القديس، إنه لم يخطئ في أمرٍ أو فعل أو قول ثم يعود ليسقط فيه مرة أخرى. وكان إذا رأى أو سمع أن أحداً سقط في خطية يبكى ويتنهد بوجع قلب قائلاً: "هذا سقط اليوم وربما يتوب، وربما أسقط أنا غداً ولا أُعطَى مهلة لكى أتوب"، وكان يفعل هذا كل حين لكى لا يدين أحداً.
+ وقيل عنه: إنه بعد رجوعه من الحصاد، كان يعطي نفسه للصلاة والتأمل والتسبيح حتى ترجع أفكاره وتثبت في الحالة التي كانت فيها سابقاً.
+ وقال: [إن القديسين يُشبَّهون بأشجار الفردوس الموسوقة بثمار الحياة، وهم ذوو أشكالٍ كثيرة في مثال مجدهم من قِبَلِ ينبوع الروح القدس المحيي الذى يسقيهم جميعهم].
توبة القديسة بائيسة على يدىِّ القديس يوأنِّس :
علم شيوخ البرية عن ارتداد بائيسة التي وُلدَت في منوف من أبوين غنيين، ولما توفيا جعلت منزلها مأوى للغرباء المساكين، واجتمع بها قوم أردياء واستمالوا قلبها إلى الخطية، حتى جعلت بيتها ماخوراً تقبل فيه كل الأثمة.
فوصل خبرها إلى شيوخ شيهيت القديسين فحزنوا حزناً عميقاً، وطلبوا من القديس يؤانس القصير أن يمضى إليها ويساعدها على خلاص نفسها، فذهب القديس حالاً بعد أن طلب منهم أن يُصلُّوا لأجله. ولما وصل إلى بيتها قال للبوابة: "أعلمى سيدتك بقدومى". فلما أعلمتها تزينت واستدعته، فدخل وهو يرتل قائلاً: "إذا سرت في وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي" (مز4:23).
ولما جلس نظر إليها وقال: "لماذا استهنتِ بالمسيح فاديك وأتيتِ هذا المنكر؟" فارتعدت وذاب قلبها من تأثير كلام القديس، ثم أحنى رأسه إلى الأرض وبكى، فسألته: "ما الذى يبكيك؟" فأجابها: "لأنى أعاين الشياطين تلعب على وجهِك، ولهذا أنا أبكي عليك". فقالت: "وهل لى توبة؟" أجابها: "نعم، ولكن ليس في هذا المكان".
فأخذها إلى البرية، ولما أمسى النهار نامت، والقديس نام بعيداً عنها. ثم وقف القديس ليُصلي صلاة نصف الليل، فرأى عامود نور نازلاً من السماء وملائكة الله يحملون روحها، فاقترب منها فوجدها قد ماتت، فسجد إلى الأرض وصلى صلاةً طويلة من أجلها، فسمع صوتاً يقول: "إن توبة بائيسة قد قُبِلَتْ وقت توبتها، لأنها تابت بقلبها توبة خالصة".
وبعد أن دفن جسدها وصل إلى ديره وأَعْلَمَ الشيوخ، فمجَّدوا الله الذى لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع وتحيا نفسه.
نياحة القديس يؤانس
+ ولما أراد الرب نياحته وإنهاء غُربته في هذا العالم، أرسل إليه قديسَيْه البارين أنبا مقار وأنبا أنطونيوس ليُعزِّياه بانتقاله. فمرض مرضاً بسيطاً وأرسل الخادم ليأتي له بشيء من القرية، وكان ذلك ليلة الأحد. فحضرت الملائكة وجماعة القديسين وتسلموا نفسه الطاهرة وصعدوا بها إلى السماء. وكان ذلك في يوم 20 بابة (أو 30 أكتوبر). وعندما عاد الخادم رأى نفس القديس وجماعة القديسين يحيطون بها، والملائكة يرتلون أمامها، وفي مقدمة الكل واحد منظره مثل الشمس يرتل. ودهش الخادم لهذا المنظر الرائع. فأتاه ملاك وعرَّفه عن اسم كل واحد من القديسين بقوله له: "هذا أنبا باخوم، وهذا أنبا مقار"، إلى آخره. فسأله الخادم: "ومن هذا المتقدم المنير كالشمس؟" فأجابه: "هذا أنطونيوس أبو جميع الرهبان."
ولما وصل الخادم إلى المغارة وجد جسد القديس ساجداً على الأرض، لأنه أسلم روحه في حال سجوده. فبكى بكاءً عظيماً. وأسرع إلى أهل القرية وأعلمهم بما حدث. فحضروا وحملوا جسده المقدس بكرامة عظيمة. وفي دخوله المدينة أجرى الله من جسده عجائب كثيرة.
من أقوال القديس يؤانس القصير
محاسبة النفس:
+ مثل التاجر الذي يطلب الأرباح، هكذا حاسب نفسك كل يوم وانظر ربحك وخسارتك في كل عشية، واجمع عقلك وانظر ما الذي عملته في نهارك، وانظر إلى صنيع الله ربك. وافهم بماذا أنعم عليك في يومك من إشراق النور وطيب النهار وبهاء الجبال وحسن الألوان وزينة الخليقة وزينة قامتك وحفظ حياتك، مع بقية إنعاماته. فإذا تفكَّرتَ في هذه كلها يتنبَّه قلبك وتتعجب من حب الله لك، وتدخل فيك الحرارة، وتشكر الله على ما أنعم به عليك.
+ ثم تفكَّر لعلك فعلت شيئاً يخالف هذه النعم، وقُلْ فيما بينك وبين نفسك: "لعلي فعلت في هذا اليوم أمراً يُغضِب الله، لعلي فعلت شيئاً يخالف مشيئة خالقي"، فإن أحسستَ في نفسك أنك فعلت شيئاً يخالفه، قم حالاً في الصلاة واشكر الله أولاً على النعمة التي قَبِلْتها في يومك ثم تضرع من أجل ما أخطأت، وهكذا تنام بخوف ورعدة. إننا إذا أغضبنا من هو أعظم منا، فبمخافة ورعدة نبيت، وهوذا نحن نُغضِبُ الله وننام بلا مخافة.
احتمال الشتيمة والإهانات:
+ احتمال الشتيمة والهوان، بمعرفة، يطهران القلب ويأتيان بالاتضاع الحقيقى حتى تنمو النفس في الله، أما مديح العالم وكرامته فإنهما يهدمان الفضائل.
قانون صلاة المزامير :
+ سأل إخوةٌ قائلين: "يا أبانا، أجيد أن نقول مزامير كثيرة؟" فقال لهم: [غِنَى الروح القدس يكون في النفس أسبق من حفظ العقل، سواء قرأ الإنسان كثيراً أو قليلاً، ولاسيما أن جميع ما يصنعه الراهب إذا لم يكن معه الاتضاع والتحفُّظ؛ فلا يُقبَل قدام الله].
خدمة الآخرين:
+ وسألوه قائلين: "هل جيد لنا أن نتمسك بالجهاد الصالح مع الناس؟" فقال القديس: [جيد أن نصنع الجهاد لأخينا، هذا الذى مات الإله عنه وعنا جميعاً. وبهذه المساواة الواحدة وبوداعة المسيح نربح أخانا بكل طهارة الروح القدس. ولنصنع الجهاد بقوة قبالة الأعداء الذين يبعدوننا عن الله].
تدبير الفضائل:
+ وسأل الإخوة أنبا بيمن قائلين: "هل يمكن للإنسان أن يعتمد على فضيلة واحدة لأجل خلاصه؟" فقال القديس: "إن يؤانس القصير قال: [إنني أُفضِّل أن يأخذ الإنسان لنفسه القليل من كل فضيلة]".
مثل الأسد حينما يقع:
+ وقال: [إن الأسد شجاع ومهاب، ولكن من أجل شهوته ورغبته يقع في الفخ فتبطل قوته ويصير هزءاً للناس. وكذلك الراهب، إذا ضيع قانونه وتبع شهوته أهلك وقاره وصار هزءاً لكل أحد].
مَنْ هو الراهب:
+ سأل آباؤنا القديس: "مَنْ هو الراهب؟" فقال: [الراهب هو الذى يتعب ويكد ويغصب نفسه في كل شىء، ولا يعمل حسب هواه، ولا يتمسك بكلمته في أى شىء، وأيضاً ينبغي على الراهب ألا يقول شيئاً من الكذب، ولا يحلف إطلاقاً، ولا يكون سمَّاعاً؛ ولا ثرثاراً، ولا يتذمر، ولا يدين أحداً].
نموذج لرهبان نشطين:
+ سأل أخ القديس يؤانس القصير قائلاً: "عندما كنت في كريت مع الآباء، كيف وجدت عملهم؟" فأجاب القديس: [لقد كانوا ليلاً ونهاراً يعملون على قدر طاقتهم عمل الله، كانوا يخدمون ويصلُّون ويقرأون ولا يعرفون الكسل، بل كانوا يعملون بأيديهم، وكان كل انشغالهم في الإلـهيات].
توجيهات للرهبان في حياتهم اليومية:
اهتم بقراءة الكتب، لكى تتعلم كيف تكون مع الله.
لا تختر أن تكون متعب الجسد فقط بينما يكون فكرك بطالاً، لأن ليس هذا وحده هو المطلوب منك، ولكن امزج معاً وبقَدْر: ساعة قراءة، وساعة صلاة، وساعة عمل لكى من القراءة تضئ في صلاتك.
ليس القيام الظاهرى فقط هو ما يريده الرب منك، ولكن الفكر الحكيم الذى يعرف كيف يدنو من الكمال.
كُنْ عبداً وحرّاً: عبداً مملوكاً لإرادة سيدك (المسيح)، وحُراً غير متعبِّد لشىء من تمجيد الذات الباطل. حِل نفسك من رباط الحميَّة (الغيرة الكاذبة) والزم الحرية التى حررك بها المسيح، واقتنِ حرية العالم الجديد.
ولا تقطع في أمر ما بطريقة مطلقة، لأنك مخلوق كائن تحت التغيير.
لا تستعبد نفسك لشىء ولا ترتبط بشىء. كُنْ حُراً واعتق نفسك من عبودية المُحتال (أى الشيطان).
إن لم تكن حُراً لا تقدر أن تكون عمَّالاً (خادماً) للمسيح.
كُنْ عاملاً بتدبيرك. إذا مشيت لا تدع عقلك يدور، ولكن ليكن مجتمعاً قدامك.
كُنْ طاهراً، مرتباً في لباسك، ونظرك فليكن مطرقاً إلى أسفل وفكرك فوق عند ربك.
لا تملأ عينيك من وجه إنسان، لكن بتهيب وخوف تبسط نظرك.
كُنْ شبه عذراء ذكية، واحفظ نفسك للمسيح.
كُنْ مُحباً لكل أحد وابتعد من كل أحد. اعلم أنك راهب ولا ينبغى لك أن ترتبط بشىء.
أحبب بفكرك حُباً فاضلاً ذاك الذى يقول لك كلمة منفعة، أما الذى يُبكِّتك فلا تحزن منه، لئلا تكون عدواً لكلمة الله.
فلتكن نفسك مستيقظة لخدمة الله وعقلك مُجتمعاً عند ربك.
ليس لك أن تفحص عن كل الأمور، لأنك لم تصر مُدبِّراً ولا رئيساً، ولكنك مأمور وليس لك سلطان حتى ولا على نفسك.
لا تَصِرْ من فئة الذين ينظرون إلى أصحابهم (أي تغير مما لهم أو مما يعملون أو مما يُعطَى لهم) لئلا يتسجَّس عقلك بالحسد وتكون خدمتك بلا منفعة.
لا تطلب حاجتك في كل أمر، لأنك لست لهذه التلمذة تتلمذت: أن تكون تُلبىَّ طلباتك في كل أمر.
داوم قراءة كتب الأنبياء، لأنك منها تعلم عظمة الله وأفعاله وعدله وقوَّته، وادرس أسفار المُبشِّرين بالعهد الجديد (الأناجيل)، لأنك منها تعلم رحمة المسيح وخيريَّته ونعمته. وتَهَجَّأ كلَّ حينٍ بآلام الشهداء لتقتني شجاعة النفس، ولا تشتهِ الأغاني مثل الشباب، واحذر من الحسِّيات التي يحبها هواك.
الزم القراءة أفضل من كل عمل، لأنه ربما يتشتت العقل في الصلاة، لكن القراءة تجمعه. إذا قمت في الصلاة قدام الله فاحرص أن تجمع عقلك وتطرح عنك الحسِّيات المبلبلة. خُذ في نفسك كرامة الله ونقِّ حركاتك من الحسِّيات السوء، فإن أحسست بالنعمة فداوم ولا تسترخِ، فإذا أبصر الله صبرك فهو بسرعة يحل فيك ويتقوى عقلك ويشتعل بالحرارة الروحية، وأحاسيس نفسك تُضئ، وتأخذك حركات العَجَب (أي تنال موهبة التأمل والدَهْش) على عظمة الله التي تنبع فيك. وهذه تكون من طلبات كثيرة وفكر نقي، لأنه كما أنه لا يوضع البخور الطيب في إناء منتن، هكذا الله لا يظهر عظمته في فكر ردئ.
الذى يظن في نفسه أن حياته في الدنيا إنما هي يومه الذى هو فيه، فإنه لا يكاد يخطئ.
+ وقال أيضاً:
ابتداء التدبير الجيد أن يبتعد الراهب من أحبائه ومعارفه وأقربائه بالجسد، ثم يتمسكن بتخلِّيه عن كل شىء يشغل العقل، ليس من المقتنيات فقط بل وأيضاً من النظر والسمع والكلام، وذلك بقدر قوَّته، لأن الحواس هي رباطات الإنسان الباطني وبها يسوس حياته.
لهذا فالسكون هو أفضل جميع الأعمال، لأنه بمداومة الصمت تسكت الأفكار، وتموت المشيئة الذاتية، وينقطع تذكار الأمور الباطلة، وحركة الشهوات القاتلة الجسمانية والنفسانية. أما الجسمانية فهى لذة الفم، وشره البطن، وشهوة الطبيعة، وتنزُّه الحواس، والاسترخاء، والنوم، والزنا؛ أما النفسانية فهى الجهل، والنسيان، والبلادة، وقلة الإيمان، والحسد، والشر، والمجد الباطل، والعُجْب، والعظمة، وقلة القناعة.
سكوت الجسد هو حبسه عن الدوران (أي كثرة التنقل والتنـزُّه)، وسكوت النفس هو الابتعاد عن الجهلة ومن النظر إلى الوجوه، فإن الجهلة يشغلوننا بباطلهم ويجرُّوننا إلى عاداتهم ويستخدموننا لمناهج حياتهم التي يستحسنوها، وهى تقطعنا عن حياتنا الروحية. فلذلك ليس شىء أفضل من التباعد عن هؤلاء والانصراف عنهم، لأن بدون ذلك لا يستطيع الإنسان أن ينظر نفسه.
وعمل السكوت هو: الصوم، والسهر، والهذيذ الصالح، وإتعاب الجسد بقانون حكيم في المقدار والترتيب، وبدوام ذلك يجتمع العقل إلى نفسه ويرجع من التشتت فيما هو خارج عنه، و لكن بعد قليل يبتدئ أن يصحو لنفسه، ويتصور حُسنه، ويشرق عليه نور الرب، وينظر الإله خالقه، ويعرف الله رازقه، ويفرح بوالده، ويرجع من سبيه، ويحيا من موته، ويستريح من الشهوات، ويُعتَق من الظلمة، ويتخلَّص من الشرير عدوه.
ولابد للإنسان من الإيمان الخاص الحقيقى. فالإيمان العام هو لكل الناس. ومن نعمة ربنا علينا أننا وُلِدنا في الإيمان. أما الإيمان الخاص فهو الذى يُقربنا من الله، وذلك بأن نسأل ونطلب منه العظائم التي ليس مجرد التصديق بكونها موجودة يجعلنا نقدر على الإيمان، بل أن نعتصم به (بالإيمان وبالله) ونتقوَّى، ولا نخاف من شىء، إذ نتيقَّن أن الذى نتقوَّى به هو أقوى من كل شىء.
والثبات في الجهاد والصبر على البلايا هو أيضاً من أفضل الأمور، وكلما استمر السكون ضعفت الشهوات، وكلما ضعفت الشهوات تقوَّى العقل قليلاً إلى أن يصح ويستريح، وحينئذ لا يذكر الإنسان شهواته وأحزانه السابقة، كما قال ربنا عن التي تلد (يو 21:16). وإذا انعتق الإنسان من الشهوات الشريرة التي ندم عليها، انعتق من الأحزان والآلام والأمراض العارضة كلها التي تؤدِّب الخطاة. وبدوام السكون يُعتق من الشهوات الذميمة.
أما الذين يعوقوننا عن معرفة الله ويبطلوننا عن عمل الفضيلة فلا يُلامون لأنهم لا يعرفون، أما نحن فإذ قد عرفنا رِِبحنا وخسارتنا فينبغى لنا أن نبتعد عنهم ونسكت لكى تحيا نفوسنا.
وهاهنا شئ آخر ردئ جداً ويفسد علينا النقاوة بالكلية، وهو حب الرئاسة والكرامة والمديح من الناس، فإن هذه شهوات مميتة ورجاء كاذب، وقليل مَنْ يعتق هواه منها، وهو شديد عند ذوي اللذات وشره البطن. وعسير هو التحرر من حب الرئاسة والكرامة والمجد الباطل. والارتباط به يعسر الانحلال من العالم، لأن هذه الشهوات تلبس الإنسان بلا نهاية. فلا نطلب نحن الرئاسة في هذا العالم الزائل المظلم، فإن رئاستنا نحن وكرامتنا هما في العالم المضئ السمائى. وحب المسيح ربنا وحده يخلصنا من هذه الأوجاع، آمين].
+ سأل آباؤنا مرة القديس يؤانس القصير عن الجلوس في القلاية. فقال لهم:
"مَنْ كان خالياً من مقتنيات الدنيا، وفيه فضيلة الله فهو بحق جالس في القلاية بالبرية، لأن الذى ليس له شئ من مقتنيات العالم فهو غنيٌّ بالفضيلة، أما صبره على الوحدة فهو لأجل الخيرات الأبدية. فإذا لم تكن فضيلة الله في نفس الإنسان ولديه مقتنيات العالم، فإن هذا الإنسان يقيم في القلاية أو في البرية لأجل الأمور الفانية. وإذا لم يكن للراهب اهتمام لا في أمور الله ولا في منافع الدنيا الفانية، فمن المستحيل أن يبقى في قلايته، لأنه يكون مثل سفينة بلا حمولة في لُجَّة البحر بعيدة عن الميناء بلا ملاَّحين أو مُدبِّرين، ولذلك فبسبب الرياح العاصفة تغرق".
صلاة للقديس أنبا يؤانس
+ إذا وقفت للصلاة قدام الله فقل أولاً:
"قدوس قدوس قدوس الله القوي، السماء والأرض مملوءتان من أمجادك".
وبعد ذلك قل:
"اللهم أهِّلني بنعمتك لذلك الشرف الذي هيأَّته في العالم الجديد، ولا يدينني عدلك في مجيئك العظيم، اللهم أهِّلني لمعرفتك الحقيقية والاتحاد بحبك الكامل".
وحينئذ أكمِِِلْ بالصلاة التي علمها الرب لتلاميذه، وداوم عليها، وفيها تأمل. الذي يظن في نفسه أن حياته في الدنيا إنما هي يومه الذي هو فيه فهو لا يكاد يخطىء.
دير القديس يؤانس القصير
موقعه: يقع جنوب غرب ديرىِّ أنبا بيشوى والسريان مسافة ثلاثة أرباع ساعة (45 دقيقة) إلى الجنوب الغربي.
المراجع التاريخية: ذكره المقريزى في وجه 508 من كتابه "الخطط المقريزية". وقال إنه عُمِّرَ في أيام قسطنطين ابن هيلانه، وكانت لهذا الدير حالات شُهرة وبه طوائف من الرهبان. وهذا الدير كان يحيط به سور دائري، وبه بيعة على اسم القديس (وذلك بعد نياحته) ، وفيه جسده الطاهر، وفيه بيعة للشهيد مار جرجس الجليل، وفيه مغطس كبير. ويجاور هذا الدير جوسق (حصن) كبير، وقلالي الرهبان حوله، وفي أراضيهم شجر ونخل، ومهما زُرِع فيه طلع وأثمر. وعدد الرهبان فيه إلى آخر برمهات لسنة 804 للشهداء الأطهار مائة وخمسة وستون (165) راهباً. وبإحدى القلالى بيعة على اسم إيليا النبي، اهتمَّ بتجديدها رهبان القلاية بما جمعوه من المسيحيين، وكرَّسها أنبا يوحنا البطريرك وهو الرابع والسبعون (74) في سنة 903 للشهداء الأبرار.
وشهدت سيرة البابا ألكسندروس البطريرك وهو الثالث والأربعون (43)، أنه كان بهذه الأديرة رهبان قديسون.
وشهدت سيرة البيعة وأخبار البابا بنيامين وهو الثامن والثلاثون (38) على تجديد عمارة الأديرة بوادى هبيب، وذلك بعد عودته من الاختفاء من هرقل ملك الروم بعد فتح مصر والإسكندرية بيد المسلمين. وذكرت أن جميع ماء العيون والآبار التي بهذه الأديرة مالح، وهم يشربون منه. وعادة الرهبان بهذه الأديرة عمل الحُصر من البَردى الذي ينبت في الوادى بهذه البرية.
تاريخ تأسيس هذا الدير، يمكن أن يُعرف من حساب التسلسل الآتى: وُلِدَ القديس يؤانس القصير سنة 339م، وترهَّب على يد القديس أنبا بامو سنة 357م وهو شاب له 18 عاماً، وظل تحت إرشاد أبيه وخدمته 17 عاماً. وبعد أن تنيَّح أبوه أنبا بامويه، وحسب وصيته له أن يسكن بجوار شجرة الطاعة التي كانت رمزاً له بأنه سيكون أباً لرهبان كثيرين بدأ توحُّده سنة 374م والتفَّ حوله تلاميذ كثيرون ما بين سنة 374م وسنة 380م. وبذلك يمكن تحديد بدء ظهور هذا الدير سنة 380م - 385م تقريباً.
وصف دير أنبا يؤانس القصير:
من المتفق عليه أن مبانى الأديرة الأربعة وهى: دير العذراء براموس، دير أنبا مقار، دير أنبا بيشوى، دير يؤانس القصير نشأت في زمن واحد وهو القرن الرابع الميلادى.
ويوجد تشابه كبير بين مبانيها مثل: الكنائس الرئيسية، ومائدة كانت مُلحقة بالخورس الثالث لكل كنيسة لاستخدامها في وليمة الأغابى بعد قداس الأحد، ثم مبانى الدياكونية (خدمة الطعام)، وأخيراً حصن كبير بجوار كل كنيسة، وبئر ماء.
ومن هذا الوصف العام يمكن لنا أن نتخيل الشكل المعمارى لدير القديس يؤانس القصير، فالدير في عهده الأول كان عبارة عن:
+ كنيسة باسم القديس (بعد نياحته)، وبها مائدة في الخورس الثالث، وحول الكنيسة قلالى للرهبان.
+ وبعدما كثر عدد الرهبان، حفر القديس مع تلاميذه بئر ماء بالقرب من الكنيسة، وقيل أنها لم تأت بماء بعد أن حفروها إلى عمقٍ كبير استغرق خمسة أيام من الحفر، فوقف القديس بجوارها الليل كله في الصلاة حتى استجاب الله وتفجرت منها المياه.
+ وذكر أبو المكارم(4) أنه كان بجوار الدير جوسق كبير أى حصن كبير. فمن المؤكد أن هذا الحصن تم بناؤه بعد رحيل القديس إلى القلزم، وذلك لأن القديس ترك هذا المكان بعد غارة البربر الأولى سنة 407م. وحتى هذا الوقت لم تكن هناك حصون بعد في الأديرة، لأن بناء الحصون يُنسَب إلى الملك زينون والد القديسة إيلارية الذى تنيح سنة 491م. وأيضاً لم يُذكر أى اسم للحصون في الإسقيط إلاَّ في قصة الـ 49 شهيداً، وكان ذلك سنة 444م.
+ شجرة الطاعة، وكانت بالقرب من الكنيسة، وهى التي غرسها القديس. ويُقال أنه كان يوجد إعرابى يُدعى عبود سكن عدة أيام في خرائب دير يؤانس القصير، وكان كل يوم يقطع من فروع الشجرة ويحرقها للوقيد حتى أنهى على معظم فروعها وقطعها أخيراً.
+ وقد تم بناء سور للدير في القرن التاسع.
+ وبناء صغير للدياكونية (خدمة الطعام؛ مخازن؛ وفرن للخبيز؛ وطاحونة).
+ ومكان للضيافة، وقد تكون قلاية، تستخدم لهذا الغرض.
+ حديقة للدير بها شجر ونخل، ومهما زرع فيه طلع وأثمر.
+ تم بناء مغطس في القرن الثانى عشر.
+ ظهور كنيستين أخريين بإحدى القلالى: واحدة باسم الشهيد مار جرجس، والأخرى باسم إيليا النبي.
+ ظهور مكتبة بالدير، ويُعتقد أنها تأسست في زمن الراهب العلامة والمؤرخ سمعان بن كليل الذى ترك الخدمة في الدولة العادلية وترهب في دير أنبا يؤانس القصير ببرية الإسقيط بوادى هبيب سنة 1200م، وحبس نفسه في صومعة بناها في وسط الدير مدة تزيد عن 30 سنة، وكانت سيرته فاضلة وأمره مشهوراً.
وقد ذكر الأمير عُمر طوسون في كتابه عن تاريخ أديرة وادى النطرون سنة 1936م أن مساحة الدير حوالى ثلاثة أفدنة وتسعة عشر قيراطاً وستة أسهم، أى ما يُعادل 16000م2. وكان الدير في ذلك الوقت أطلالاً، لأن الدير ظل عامراً بالرهبان حتى القرن الخامس عشر كما ذكر المقريزى قبل وفاته سنة 1442م، حيث قال: [دير أنبا يؤانس القصير: كان لهذا الدير حالات شهيرة وبه طوائف من الرهبان، ولم يبقَ به الآن إلا ثلاثة رهبان].
توقُّف الحياة الرهبانية ودمار مبانيه:
وفي ذلك الوقت كان قد تم نقل جسد القديس يؤانس القصير إلى دير أنبا مقار، بالتحديد في سنة 1413م. حيث توقفت الحياة الرهبانية في هذا الدير (دير أنبا يؤانس القصير) في ذلك القرن، ويرجع ذلك إلى سقوط سقف الدير المصنوع من الخشب وتهدمه بسبب هجوم حشرة النمل الأبيض القارضة. ويذكر المقريزى أن دير أنبا يؤانس كاما ودير إلياس الحبشى تعرضا أيضاً لهذا الهجوم وسقطا.
بدء التنقيب عنه في العصر الحديث:
ومنذ فترة قريبة، سنة 1994م، قامت جامعة ميتشجان بأمريكا بمشروع المسح الأثرى بهذه المنطقة وكشفت عن آثار كنيسة هذا الدير، ووجدوا بها مغارة مبنية تحت الأرض بالطوب الأحمر أمام مذبح الكنيسة، وظهرت أيضاً منشوبية واضحة التقسيم بجوار الدير. وليت يتمم الله عمله ويكشف لنا عن آثار هذا الدير العريق الذي طالما ارتفعت فيه أصوات التسبيح والصلوات لله.
نقل جسد القديس أنبا يؤانس القصير
إلى برية شيهيت
بعد أن تنيح القديس يؤانس في القلزم، وكان ذلك في 17 أكتوبر سنة 409م، أراد البابا يوحنا الرابع، وهو البطريرك الثامن والأربعون؛ الذى جلس على الكرسى المرقسى في الفترة (790 - 799م)؛ إرجاع جسده، حيث كان قد استولى على جسده جماعة من الخلقيدونيين، فبتوسط البطريرك وأسقف القلزم في هذا الوقت الأنبا ميخائيل الذى كان صديقاً للأمير في ذلك الزمان، توجه الرهبان إلى الدير وقد لبسوا ثياب العرب فوق ملابسهم الرهبانية ودخلوا مع العرب وحملوا الجسد المقدس، وأتوا به إلى دير أنبا مقار، حيث استودع مدة ثم انتقل إلى ديره، ولكن بعد أن خرب دير يؤانس القصير عاد الجسد إلى دير أنبا مقار حيث ظل مع أجساد المقارات الثلاثة إلى الآن ولحين إعادة تعمير الدير.
+ وقد حاول أحد البطاركة - البابا أنبا مرقس خليفة البابا يوحنا الرابع البطريرك التاسع والأربعون - أن يتبارك منه وينزع من عليه ثوب الليف الذى كان ملفوفاً به ثم يكسو جسده بأكفانٍ جديدة من حرير تكريماً لهذا القديس المحبوب، ولكن حالما تقدم منه لكى يخلع عنه الكفن حدثت زلزلة في الكنيسة، فأعاد البطريرك كَفَنَه الليف كما كان. وذُكرت هذه الحادثة المشهورة في السنكسار الأثيوبى تحت يوم 5 سبتمبر:
[من أجل أعمالك العظيمة يا يؤانس القصير، أراد أولادك أن يكفنوك بلفائف من حرير، فمنعهم الرعد الذى دوى في الكنيسة، فبقيت عليك ثياب الفقر من الليف كما أردت].
إن التكريم الحقيقي للقديس لا يكون بإلباس رفاته بما لم يلبسه في حياته على الأرض، بل بالاقتداء بسيرته والتمثُّل بفضائله وحياته الباطنية التي في المسيح والتي تمُجد الله تحقيقاً للقول: "ليتمجد (المسيح) في قديسيه" (2تس 10:1؛ الهوس الأول من التسبحة اليومية)، وحسب وصية الرسول بولس: "كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح" (1 كو 1:11).
لقد قيل عن أنبا يؤانس إنه كان يحمل شيهيت كلها باتضاعه كما يحمل الإنسان نقطة ماء على كفِّه.
**
هذا هو مصباح البرية الإيغومانس يؤانس القصير.
بركة صلاته فلتكن معنا. آمين
(1) كلمة "كولوبوس" بالقبطية تعني "قصير"، ورفاته محفوظة بدير القديس أنبا مقار بعد تخرُّب ديره في القرن الخامس عشر.
(2) "أنبا" أو "أبَّا" كلمة قبطية تعني "أب" وهي تُطلَق على الراهب المتقدم في الرهبنة والحياة النسكية.
(3) قصة هذا المنع لنقل رفات القديسين من أماكن حياتهم أو استشهادهم تكررت في محاولات نقل رفات كثير من القديسين. وهي توضح أن أساس طقس الاحتفاظ برفات القديسين هو أنها تُحفظ فقط في الموضع حيث تنيح أو استشهد القديس، من أجل منفعة سكان الدير الذي عاش فيه أو شعب الكنيسة التي كان عضواً بينهم، حيث يتذاكرون دائماً سيرته وفضائله واستشهاده (إن كان شهيداُ)، وليس بنقلها إلى أماكن غير المكان الذي وُجد فيه صاحبها أصلاً فتضيع الحكمة من الإحتفاظ بها. كما حذّرت القوانين الكنسية من الإتجار في رفات القديسين والتربُّح من وراء عرضهم في غير أماكنهم خلافاً للأصول الكنسية.
(4) هو سعد الله بن جرجس مسعود. عاش في القرن العاشر. وضع سنة 925م. كتاباً في تاريخ الأديرة والكنائس القبطية. عثر على جزء منه راهب غربي يُدعى فانسليب في القرن 17. ثم وجد الإيغومانس فيلوثاوس إبراهيم في القرن 19بقية الكتاب.
(2) "أنبا" أو "أبَّا" كلمة قبطية تعني "أب" وهي تُطلَق على الراهب المتقدم في الرهبنة والحياة النسكية.
(3) قصة هذا المنع لنقل رفات القديسين من أماكن حياتهم أو استشهادهم تكررت في محاولات نقل رفات كثير من القديسين. وهي توضح أن أساس طقس الاحتفاظ برفات القديسين هو أنها تُحفظ فقط في الموضع حيث تنيح أو استشهد القديس، من أجل منفعة سكان الدير الذي عاش فيه أو شعب الكنيسة التي كان عضواً بينهم، حيث يتذاكرون دائماً سيرته وفضائله واستشهاده (إن كان شهيداُ)، وليس بنقلها إلى أماكن غير المكان الذي وُجد فيه صاحبها أصلاً فتضيع الحكمة من الإحتفاظ بها. كما حذّرت القوانين الكنسية من الإتجار في رفات القديسين والتربُّح من وراء عرضهم في غير أماكنهم خلافاً للأصول الكنسية.
(4) هو سعد الله بن جرجس مسعود. عاش في القرن العاشر. وضع سنة 925م. كتاباً في تاريخ الأديرة والكنائس القبطية. عثر على جزء منه راهب غربي يُدعى فانسليب في القرن 17. ثم وجد الإيغومانس فيلوثاوس إبراهيم في القرن 19بقية الكتاب.