ترجمة كتاب "من سيناء إلى الجلجثة" للكاتبة كاتيا ريفز
مقدمة الكاتبة
حَثَّني الرب أن أكِتبَ هذا الكتابِ الجديدِ، الذى يستند محتواه على كُلّ ما كُشِفَ لي خلال شهران ونِصْف تقريباً.
منذ وقت طويل لَمْ أكن أَعْرفْ متي أَو كَيفَ أَبْدأُ بكِتابَة هذه الشهادةِ، على الرغم من أنَّي كُنْتُ مُتَأَكِّدة إِنَّها سَتكون ذات يوم ذات أهمية كبيرةَ لتاريخِ خلاصنا. وظهر أنه بالضبط اليوم، عندما تُحيي الكنيسةَ تذكار تلك المرأةِ، التي يسّرتْ بقبولها إنجازَ أعظم عمل رحمةِ لله للبشر ألا وهو مجيء فادينا إلى العالمِ.
يَتضمّنُ هذا الكتابِ الصغيرِ تعليم جديد يتعلّقُ بكلماتِ الحبِّ والحكمةِ، يتعلّقُ بكلماتِ الاستسلام لإرادة الأبِّ وسط أكثر الآلام بشاعة, يتعلّقُ بكلماتِ الشفقةِ والرحمةِ تجاه الإنسانيةِ، يتعلّقُ بكلماتِ القوّةِ والعْطاء الذاتيِ للإنسان .
هذه هى الساعات الأخيرة للسيد المسيح على الصليبِ، واليوم، ها هي تتجدد كي تَتأمّلُوا فيها بعمّق وتَعِيشُوا مَع مٌخلصنا فى لحظات حياته الأخيرة كإنسان، قبل العَودة إلى الأبِّ وإرسالْه الروحَ القدس لنا.
أَتضرّعُ أَنَّ يُرشدُنا روحِ الرب من خلال هذه الصفحاتِ، أتوسل لأجل معونتَه وأكرّسَ له عملي المتواضع، لكي يكون بطريقةٍ ما قادر على المُسَاعَدَة في خلاص النفوس.
قال الرب لي في بدايةِ تأملِي " عندما وَصلتُ إلى الجلجثة، وَجدتُ اللصان اللذان كانا سيصُلِبان، كَانا يَصْرخان وشْعرُت بالشفقة تجاههم، بينما كُنْتُ أنا في حالةٍ جسدية أسوأ مِنْ حالتهم …"
لقد استطعت أَنْ أَرى مِئاتَ الأشخاصِ، مئات الرجال فى طريقهم ليَصْلُبوا، يسيرون ببطيء لكن في يأسِ، يصُرخون، يسبون، أعينهم ممتلئة بالذعرِ والكراهيةِ، مَع رغبة عمياء للثأرِ. أنهم لم يكَونوا سويةً. أدركتُ بِأَنَّ هذه كَانتْ مشاهدَ مِنْ أيامِ وساعاتِ مختلفةِ. لَكنَّهم يشتركون في قاسم مشترك: كُلّهم مُدانين بالصلبِ ويتَكلّمون كلّهم تقريباً نفس الكلماتِ وينَطقون بإهانات وتهديداتَ مماثلةَ إلى جلاديهم.
في أكثر مِنْ ثلاث مناسباتِ رَأيتُ جندي أَو عِدّة جنود يَقتربونَ من أحد هؤلاء السجناءِ ويَجذبون سكين أَو سيف ويقَطعَون لسان الرجل لإسْكاته، وبذلك يُصبحُ الطريقِ نحو الموتِ فظيع وحزين لدرجة أكبر.
ظَهرَ هناك أمام عيناي مشهد يوم الجمعة العظيمةِ. هذا الإنسانِ المحَكومَ عليه بالموت كَانَ يختلفَ. كان ظاهريا مهزوماً … مجروح ألاف المرات أكثر مِنْ الآخرين، مُكلّلَ بإكليل من الأشواكِ التي جرحت جلدَه ونفذت إلى لحمِه، مغطى بالدمِّ والترابِ، مرتجف ومحموم وبعينين متألمة للغاية بسبب العرقِ والجروحِ. لكن نظرتَه كَانتْ ممتلئة بالسلامِ، بالرحمةِ، بالحزنِ، وفي لحظات معيَّنةِ يستطيع المرء أَنْ يعي حتى السعادةَ، عندما علم يقيناً بِأَنَّ هذا الآلام ستنقذُ الإنسانيةَ مِنْ الموتِ الأبديِ.
الآخرونُ لفظوا الإهاناتَ، لْعنوا وشوحوا. لكنه ظْلُّ صامتَاً، ولا شكوى واحدة فْلتُت مِنْ فَمِّه، فقط البركات وكلمات المغفرةِ. على نقيض ما تُعلمنا قِيَم هذا العالمِ، كان ممْكِنُ أَنْ يُرى بشكل واضح بأنّه المُنتصر العظيم، قاهر الموتِ. إن جلادينه هم الأداة المسكينة للشيطانِ، الشيطان مع يهوذا كانا هما أعظم الخاسرُين.
الكلمة الأولى
أَبِتاه، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا يَفْعَلُونَ!»
عندما مزّقوا ملابسِه، أنتظر الجميع في صمتِ مُطلقِ أن يثور الرجلِ أَو أن يسُأل الصفحِ والرحمةِ مِنْ خصومِه. توقع البعض ذلك، لابد أَنْه سيَثُورَ أَو أن يُنشدَ الصفح مِنْ تلك العقوبةِ. أنتظر الآخرين منه, كابن الرب، كما أدعي، أن يُناشدُ أبّاه أَنْ يرسل أمطار من نارُ مِنْ السماءِ لمُعَاقَبَة أولئك الذين أساءوا معاملته كثيراً. بْدا لهم إن الزمن قد توَقفَ؛ على الرغم من هذا، حرّكُ هذا الرجلِ شفاهِه بالكاد وصلى بشكل صامت …
لكن هناك أربعة أشخاصِ توقّعواَ شيئا آخر: يوحنا ومريم المجدلية ومريم التى لكلوبا والعذراء مريم.
لقد توقّعوا رؤية أولئك الأشخاص الذين برئوا بتلك الأيادي، تلك الأيادي التي تُثْقَبَ الآن. أين أولئك الذين سْمعوا تعاليمه على جبلِ التطويبات ؟ أين أولئك الذين تلقّوا المغفرة مِنْ شفاهِه؟ أين الرجال الذين عِاشوا معه ثلاث سَنَواتِ تقريباً؟ … أين أولئك الذين أقامهم من الموت, سواء بالجسدِ أو بالروحِ؟
ما رأيته جرحني وعْرفَت بأنّ عينَاي تنظران لأعلى. بعد ذلك سَمعتُ صوتَ السيد المسيح الذي تَكلّمَ وأخبرَني أنّه فكر ليس فيهم فقط بل فى كُلّ البشر أيضاً، فكر فينا جميعاً، على مدار كل الزمن, أولئك الذين سيديرون له ظهورهم ذات يومُ، على الرغم مِنْ كونهم عَرفَوه وكونهم تلقوا منه عديد من المنافعِ، البعض سيَفعل ذلك بسبب الجبنِ، للخوفِ من الاضطهاد، آخرون خوفاً من أَنْ يهزئ بهم للاعتراف بمسيحيتِهم، آخرون بسبب راحتِهم، آخرون لأنهم يَعتقدونَ بأنّهم يَستحقّونَ كُلّ خير وأنانيتهم لا تسْمح لهم سوي بالتَفكير فى أنفسهم. الأغلبية ستَفعَلُ ذلك بسبب اللامبالاةِ، بسبب الإهمال أَو بسبب الشكِّ وقلةِ الإيمانِ.
بعد ذلك كرّرَ لي السيد المسيح كلمات الإنجيلِ "لا تَخَافي، لأنه ليس هناك شيء أخفىَ لَنْ يُعْرَفُ. الذي أَقُولُه لك في الليل، قُولُيه في وضح النهار والذي أَقُوله لك في أذنيك، بشّري به مِنْ على الأسطح …"
لِهذا ها أنا أُدوّنُ ذلك، مُعانة من قبله، لكي لا تكونوا من بين أولئك الذين يٌشير إليهم السيد المسيح بمثل هذا الألمِ.
أتمَّ الجنود وَضْع السيد المسيح على الصليبِ. حتى قبل دقائق قليلة، كان ممْكِنُ أَنْ تَستمعَوا لصوت الطرق على المساميرِ أولاً فى جسده البتول، وبعد ذلك، فى الخشبِ. أنه لَمْ يُجاوبْ. لقد صَفحَ, لقد صَلّى, ونَما الصمت في حناجرِ أولئك الذين انتظروا أمّا الكلماتَ الأولى أَو الأنين الحزينَ للمَصْلُوبينِ.
عندما رَفعوا الصليبَ عاليا، كسرَ بُكاء النِساءِ القديسات حالةَ الصمت، وبعد ذلك، بَدأَ الرعبَ من جديد: الصُراخ، الإهانات، الهَزْء، البَصْق. تحدّي الرب في تلك اللحظةِ الدقيقةِ مِنْ المجابهةِ بين الكراهيةِ والحبِّ, بين التكبّرِ والتواضعِ، بين الشيطان والإله, بين التمرّد وطاعة إرادة الرب!
نظر يسوع إلىّ وكما لو أن عينَيه رَفعتْني لأعلى، أُيقظُتني مِنْ نفسِي لأنى شَعرتُ بأنّني كُنْتُ أَفْقدُ نفسي في عمقِ ذلك الألمِ … بَدأَ يتكلم معي ثانيةً. ترددت كلماته في قلبِي، كما لو أنَّ هاوية هائلة فُتحت فيه. وقال بحزنِ " لقد خضعتُ لمحاكمة لم يجدوا فيها شيء ليتِّهموني به، لكوني لم أفعل شيءَ خطأ. لم يكن هناك أَبَداً غش في فَمِّي وحتى الشهود الكذبة، الذين دُعِوا أمام هذه المحاكمةِ المُشينة للتَحَدُّث ضدّي، افتقروا لأيّ تماسك في كُلّ شهاداتِهم. جريمتي الوحيدة وسبب عقوبتِي بالموتِ كَانَ إقرارَي بشّيء لا أَستطيعُ أَنْ أَتبرّأَ مِنْه أمام أي شخص, بأنّني ابن الأله."
لقد تَوقّفَ عن الكَلام وشعرت بأنى أتحطم بسبب ذلك العذابِ المعنويِ والجسديِ. كم عديد من الأشياء عَبرتْ فكري في ثواني! كم من مشاعر قد لَنْ أكُونَ قادرة على تَفسيرها! بعد ذلك، بنغمة مذكرة وهادئة وبكلماتِ أيقظْني صوته مِنْ الزمن الحاليِ واستمعت لما لم يتوقع أحد ممن كَانوا هناك سماعه مِنْ شفاهِ هذا المُدانِ المحَكومَ عليه بالموت.
أستسلم الجميع للصمت أمام هذه الكلماتِ، كثيرين مِنْهم صُدِموا كما لو أنهم أدركوا الآن فقط في حضرِة من هم يكَونوا.
يا لها من سخرية ظالمة! أنه يُعاقب لكونه يُعْلن نفسه ابن الربِ. لأنه تَجاسرَ أن يدَعوا الرب: "أبّ"، "آبا"، أَو أبّ محبوب أو " دادى "، كما يَقُول كثيرين مِنّا اليوم. لذلك السببِ عاقبوه … ورغم ذلك ها هو يَسْألُ أبِيه أن يرحم جلادينه.
أنه يَطلُب بألا تؤخذ تلك الخطيةِ الخطيرةِ في الحسبان من قبل الرب، أبوه. وبهذا العملِ، يَتْركُ أفضل مثالِ عن كُلّ ما أوصي به في سَنَواتِ خدمته. في هذا العْملِ يَعطي شهادة حيّة عن ما علّمَه لنا: أن نحَبَّ ونصَلي من أجل الأعداء، من أجل أولئك الذين جَرحونا.
الكلمات التي سُمِعتْ مِنْ شفاهِه ذات يوم على جبلِ التطويبات، كَانَ يُحوّلُها الآن إلى تصرّفِ على جبلِ يُدَعي جبل الجلجثة أَو الجمجمةِ …
كَمْ تمتع إبليس بآلامِ أبن الربِ! على أية حال، إن كان قد سَخرَ مِنْ ألامِ السيد المسيح، فهو بَعْدَ أَنْ سمع هذه الكلماتِ أنفجر غضباً وذَهبَ رّاكضاً نحو تلك الوحوشِ التي كَانتْ تُعذّبُ أبن الإنسانِ، ذلك الإنسانِ الذي كان على عاتقه إلقاء "الملاك الشرير" أَو" الشيطان " مِنْ السماءِ.
بهذه الطريقة، أرادَ زيَاْدَة قسوةِ المعذّبين ضدّ السيد المسيح، إلى حدّ تحديه ودْعوته للنُزُول مِنْ على الصليبِ. ذلك كَانَ ممكنُ أَنْ يَكُونَ نصرَ الشيطانِ، لو وافق السيد المسيح على ذلك التحدي وبذلك، يسقط فى تجربة العصيانِ والكبرياءِ.
تلوّي عدو النفوس من الغضبِ لأن العقوبةَ نُفّذتْ: فها هو أبن المرأةِ يَسْحقُ رأسهَ على الأرضِ، بينما يَرْبحُ لنا دخول السماءِ. ولَيسَ بسيوفِ أَو بأسلحةِ، لا بدباباتِ أَو بطائرات حربيةِ، كما يكون رْبحُ المعارك هنا على الأرضِ لتَبرير تعاستِنا، بل بالأحرى بإنسانِ واحد، مُحطّمَ على ذلك الصليبِ. ذلك الإنسانِ الذي كما غَفرَ لبطرس والمرأة الزانية والمجدلية ولعديد من الآخرين … يَطْلبُ بتواضع من الأبِّ المغفرة ليعلمنا أن العذوبة والمحبّة ممْكِنُ أَنْ يَفعلا أكثر مِنْ الكبرياء، أكثر من إذلال الآخرين، من السوط ومن الاكتفاء بالذات والغطرسة.
ليعلمنا أن الشخصِ النبيلُ والحكيم والمقدّسُ يُعرف من قبل بساطتِه وتواضعِه ولَيسَ بالصُراخ أَو بالممتلكاتِ الدنيويةِ، وأيضاً بنوعيةِ قبولِه للألم ولَيسَ بجَعْل الآخرين يَقاسون.
كلا، ليس هناك رحمة لَهُ. لَكنَّه يَطْلبُ الرحمةَ من أجلهم، لنا جميعاً، رجال ونِساء، مِنْ آدم وحواء حتى الإنسانِ الأخيرِ الذي سَيَولد قبل نهايةِ العالمِ.
أنه يَعْرفُ بأنّه ستولد كنيسة مِنْ هذا الألمِ العميقِ. هذه هى الثمرةُ العظيمةُ واللذيذةُ، النتيجة السعيدة لمزيجِ الماءِ والدمِّ اللذان سيَتدفّقانِ حالا مِنْ جنبِه المفتوحِ, ثمرة حبِّ من يَتْركُ وصيتان تُلخّصانِ الوصايا العشَر المُعطاة مِن قِبل أبّيه إلى موسى على الجبلِ الآخرِ، جبل طور سيناء.
إن حفظتم هاتين الوصيتين, سَيَسْكبُ نهر الرحمةِ عليكم بالكامل وستنجون. هناك شرط وحيد لنَيْل تلك الرحمةِ " أن تُحَبَّ الرب فوق كل شيء وأن تحب جارِكَ كنفسك". أنه لم يجئ لإلْغاء شريعة الأنبياء بل بالأحرى لإتْماْمها. حياته بالكامل لم تكن سوي إنجازِ النبوءاتِ التى كَُتبَت عنه في الأزمنةِ الماضية، قبل الحبل به في الرحمِ الطاهر لعذراء صغيرة …
نحن كبشر كان عِنْدَنا مثل هذه الصعوبةِ لتَقْبلُ عشْرة قواعدَ كبديل لكثير من الحبّ، لعديد من البركاتِ، لموهبة الحياةِ، لحريةِ الاختيار … حتى أن الرب بنفسه قرّرَ أَنْ يُتجسّدَ مِنْ رحم بشري ليُرينا ذلك، نعم، أنه بالإمكان حفظ تلك الوصايا.
لكن لكون بؤسِنا وأنانيتِنا عظيمان جداً، فأنه أَخذَ خطوةَ واحدة على نحو إضافي لصالحنا. لقد قرّرَ تَسهيل الأمور لنا أكثر. أنه يَقُولُ لك " أقرُّ بأنّك لك أبُّ واحد، هو من يَجِبُ أَنْ تَحبَّه قبل كل راحتكَ، قبل كل شيء, قبل كل أحبائكَ، قبل كل سلطة وكرامة وملذّات قد يقدمها لك العالم، وعامل الآخرين كما لو أنَّهم هم أنت نفسك. أحبهم بنفس قدر الحبِّ الذي تَحبُّ به نفسك وليس أقل. أعطِ الرجالَ والنِساءَ الاحترام والاعتبار الذي تَطْلبه مِنْ الآخرين. كنُ قادر على إعْطاء كُلّ ما تَطْلبُه لنفسك ولا تفعل للآخرين ما لا تريدَه أَنْ يفعلوه لك …"
أنّ ذلك سهلِ، بسيطِ، لدرجة أنه حتى الأطفال والجُهلاء بإمكانهم أن يَفْهمونَه.
أَعْرفُ يا أخوتي وأخواتي بأنّ عند هذه النقطةِ فى قراءتكِم، لَنْ يكُونَ هذا سهلَ. أنه ليس مشروعَ صغيرَ أن تُفصل النفس عن كُلّ شيءِ لمصلحة الآخرين. أن ذلك لأمر بطوليُ! ذلك كل ما يدور حوله الباحثُون عن القداسةِ وكل المُعَمَّدون يَجِبُ أَنْ يُجاهدوا كي يَكُونوا قدّيسَين.
إذا كَانَ لديكم الشجاعةُ للمُوَافَقَة علي ذلك، لا تسْمحُوا لأيّ شئِ أن يُعيق طريقِكَم. أنكم سَتُواجهُون لحظاتَ فيها الكثيرَ من الظروف وكثير مِنْ الأشخاصِ, أحباء وغير أحباء، معروفين ومجهولين، من نفس ديانتكم ومِنْ ديانات أخرى، من بَلَدِكَم ومِنْ أراضي أخرى, سَيُحاولونَ إيقاْفكم. فى هذه اللحظةُ تكون فضيلةُ المثابرةِ ضروريةُ جداً.
كيف ستَفعلون ذلك…؟ لديكم الضمانُ أن السيد المسيح تَركَ لكم كنيسة لترْشدكم عندما لا تَعْرفُون فى أَيّ طريقَ ينبغي أن تسلكوا، لترَفْعكم عندما تَسقطون، لتغُفْر لكم في اسمِه، لترحب بكم عندما تَنْشدُون ملجئاً لنفوسكم، لتَشكلكم بكلمتِه ولتَغْذِيكم بجسدِه ودمِّه … لكي تستطيعوا أَنْ تُكونوا امتداد له, علامة ظاهرة عنْ حضورِه الحيِّ لكي تستطيعوا أَنْ تُشعوا بتلك النقاوةِ والتألقِ. ذلك هو طابعُ شهودَه، أولئك الذين تَلقّوا شرارة نوره ومحبِّته.
إن استحقاقاتنا لا تَستطيعُ إنْقاذنا لأننا ليس لدينا أيّ استحقاقات مقابل ضخامةِ القدرة الإلهية. نحن لَنْ نُنقَذَ لأننا كُنّا أباءَ وإخوةَ وأخواتَ وأبناءَ وبناتَ أَو أصدقاءَ صالحين. إن ذلك هو التزامُنا. نحن سَنُنقذُ لأن المسيح أحبنا وسَيحبنا ويَنتظرُنا أن نقبله في حد ذاته. إن هذا الحبِّ باستحقاقاتِه اللانهائيةِ فاز لنا بالمغفرة. لقد طَلبَ هذا مِنْ أبّيه من على الصليبِ.
كثير من المرات يكون لومَ ضميرِنا عظيمُ جداً لكوننا اقترفنا إثماً أَو لكُلّ العمر الذى عبر فى الخطيئةِ، بأنّنا لا نَستطيعُ تَصْديق أن الرب يُمْكِنُ أَنْ يَغْفرَ لنا، بأنّه فازَ لنا بالفعل بالمغفرة، مُسمّراًَ على صليبِ الحبِّ …
قالَ السيد المسيح بأنّنا عندما نَطْلبُ المغفرةَ عن آثامِنا بينما نصلّي أبانا الذى فى السموات .... فلنَتذكّرُ أنّه كَانَ قادر على طَلَب المغفرةِ لنا لأنه لمَ يشَعرَ بالمرارةَ ضدّ أي شخص …
النفس البسيطة والمتواضعة هى فقط القادرة على طَلَب المغفرة عن إهاناتِ الأعداء. إن ذلك يَستلزمُ مزيد من القوّةً والاستسلام، يستلزم ذلك نَزْع الغرائزِ الأساسيةِ التي تَنْشدُ ما هو معتاد ألا هو الثأر واقتلاع الآخرين لمحاولَة البُرُوز، أَو حتى كي تبقي النفس فوق الماءِ …لكننا بالتأكيد مُلزَمون جميعاً أن نصفح عن الإهانات التى اُُقترفت ضدّنا بنفس القدرِ الذي نُريدُه من الرب أن يغُفْر لنا به.
إن قُلُنا أنّنا نَغْفرُ لهم، لكن لا ننْسي، فنحن نَطْلبُ من الأبّ أن يفعل نفس الشئ مَعنا. إن كنا نَغْفرُ من القلب لأولئك الذين أهانونا، وعندما نَصلّي، نَسْألُ الرب لأجل الغُفْران لنا كما نَغْفرُ لهم، فأننا في تلك الحالةِ، نستطيع أَنْ نَلتمسَ أن يَمْنحُنا الرب رحمتَه لكوننا تَصرّفنَا برحمةِ.
بعد ذلك قال لى السيد المسيح: " إن قلبي مُعذّبَ بالألم، أنني أشَعرَ بالشفقةِ على الإنسان الأخر الذى كان يَقاسي بجانبي. لقد أستمر الإنسان المَصْلُوب علي يمينِي، ديماس، المُسمّي اللصِّ البار" بمُرَاقَبَتي بشفقةِ، هو الذي كَانَ يَقاسي أيضاً.
بنظرةِ واحدة، زِدتُ الحبَّ في ذلك القلبِ. آثم، نعم، لكنه قادر على الإحساس بالشفقةِ الحنونةِ على إنسانِ آخرِ. ذلك الخاطئِ، قاطعِ الطريق الذي علّقَ على صليب، كَانَ مجدلية أخرى، متي آخر، زكا آخر … خاطئ آخر كَانَ يَقرُّ بى كابن الرب, ولِهذا أردتُ أَنْ يُرافقَني نحو الفردوسِ فى ذات نفس المساء، ليكون مَعي عندما أَفْتحُ أبوابَ السماءِ لدخولِ الأبرار.
تلك كَانتْ مهمّتَي وتلك هى مهمّتُكِم: أن تفَتْحوا أبوابِ السماءِ أمام الخطاة، أمام التائبين، أمام الرجالِ والنِساءِ القادرين على طَلَب المغفرةِ، كي يَضْعون رجائهم على وجودِ الحياةِ الأبديّةِ ويَضِعونَ ذلك الرجاء بجانب صليبِي …
ديماس، اللصّ البار علي يمينِي وجيستاس، اللصّ الشرير علي يساري. الذي على يساري ممتلئ بالكراهيةِ؛ الذى على يمينِي، تَغيّرَ في لحظةِ بسماعي أَقُولُ تلك الكلماتِ: أبّتاه، اغْفرُ لهم، لأنهم لا يَعْرفونَ ما يَفعلونَ .
ذلك الرجل أمام حضورِي الهادئِ، أمام ألمي، لكنه لَيسَ يائسَ, وجودي كحاملِ السلامِ أشَعرهَ بعديد مِنْ الأشياءِ تَنكسرُ داخله. لم يعد هناك أي موضع للكراهيةِ بعد. لم يكن هناك موضع للخطيئةِ ولا للعنفِ ولا للمرارةِ.
فقط القلب الصالح هو القادر على تمييز ما يَجيءُ مِنْ السماءِ. ديماس ميز ذلك. لقد كُنْتُ أَطْلبُ المغفرةَ لأولئك الذين كَانوا يَصْلبونَني. كُنْتُ أَطْلبُ الرحمةَ لخطاة مثله. وانفتحتْ نفسه الصَغيرةَ لتقبل تلك الرحمةِ.
لِهذا، عندما سْمعُ جيستاس، اللصّ الشرير، يَقُولُ بشكل هازئ لي إن كُنْتُ ابن الربَ فلأنقذ نفسي وأنقذهم. شْعرُ ديماس بمخافَة الرب. أنه يَعْرفُ أنّ حياتَهم كَانتْ بائسةَ، رديئة للغاية، يعرف أنّهم قد يستحقّون ألم أعظم مِما كَانوا يَجتازونه.
ذلك الخوفِ، ذلك التمييز للنور الذي كَانَ يَُشرق أمامه، جْعلُه يُجاوبُ "ألا تَخَاف الرب، أنت الذى تَقاسي تحت نفس العقوبةِ؟ وها نحن نقاسى بعدل، نَحن نستحقُّ ذلك بسبب أعمالِنا، لكن هذا لم يفعل شيءَ خطأ . "
عند هذه النقطةِ، سَمحَ لى الرب أن أشَهدَ النظرةِ التي تَبادلَها مَع اللصِّ البار, لقد كانت نظرة امتنان، نظرة مغفرةِ , نظرة أبّ مسرور مِنْ الرَدِّ المُعطىَ مِن قِبل ابنه. هناك الآن مشهد جديد أمام عيناي وفْهمُت أنّ السيد المسيح يَسْمحُ لي أن أشَهدَ ما كَانَ يَتذكّرُه، الذي حَدثَ ليس منذ عهد قريب، عندما بَدأَ يعَيْش بين تلاميذه … رأيت السيد المسيح يختارُ أتباعَه. واحداً بعد الآخر، يَنْظرُ إليهم بعمق، بمحبّة لكن بِحزم، بسلطة لطيفة، تلك السلطةِ الغير نابعة من أهمية الذات، وكان من ثمار هذه النظرة هذا الاقتناع أمام من لا يُستطيع أحد أَنْ يرْفضَه. ومن يَدْعوهم أن يتّبعونه.
عن تلك الأيامِ، قال لى السيد المسيح : " لقد أردتُ أنّ يَكُونوا تلاميذي، إخوتي، أصدقائي. أن المرء يَختارُ أصدقائَه وأنا اخترتُ خاصتي … كَمْ عديد من المرات يَجِبُ أَنْ أَجْلبَ السلامَ بينهم لأعلّمَهم قيمةَ الصداقةِ! أنى أُحاولُ حتى اليوم تَعليم البشر معنى الجماعةِ والحبِّ المنشود في هذه العلاقةِ مِنْ الصداقةِ مَعي ومَع كُلّ الآخرين.
لقد أحببتُهم ليس فقط كإله ولكن كإنسان أيضاً. استطعت أَنْ أَتحدّثَ مَعهم، استطعت أَنْ أَمْزحَ مَعهم، وفي الواقع، فعَلتُ ذلك … عندما كُنّا نَنزل النهرِ للسباحة، مَزحنَا ورَششنَا كُلّ منا الآخر بالماءِ كالأطفالِ الصِغارِ. كُنّا نَلقي بالحصى، كأننا في مسابقة، وكنا نحتفل بالتصفيقِ والضحكِ بالحصاة التى تبتعد أكثر .
كنا نتسلق الأشجارَ، كأيّ شبابّ. كنا نَتسابقُ، نتسلّقُ التلالَ للصَلاة أَو لنتناول وجباتنا الخفيفةِ والبسيطةِ. اشتركنا في الحكاياتِ والضحكِ، كما يفعل كُلّ الرجال عندما يحيون في جماعةِ. لَكنَّنا كنا ننهي دائما تلك الاجتماعات بصلاة الشكر للأبِّ لأجل السَماح لنا أَنْ يَكُونَ لدينا تلك اللحظاتِ. رغم ذلك، كانت هناك أيام لم يكن لدينا فيها وقتُ حتى للأَكْل، وهي لم تكَن قليلة، لَكنِّي حاولتُ دائماً أَنْ أعْمَلُ عملُهم كي يستطيعوا أَنْ يُقدّروا مثالَي. طعامي كَانَ أَنْ أعمَلُ إرادة أبي. ذلك كَانَ هدفَي، راحتي، سعادتي … لقد استطعت أن أعلمهم وأن أَستمعَ لاهتماماتهم وأسرارهم. وعلى الرغم من أنَّي فَحصتُ أعمق أفكارَهم، إلا أني أحسست بالسعادة لكونهم أرادوا جعلي جزء من صداقتهم. من ناحيتي، أعطيتُهم الكثير من الحبّ والصبر والتعاليم والالتزامات … كُلّ ما يُمْكِنُ أَنْ يُعطي إلى صديق … لكن، لم يكن ذلك كافيا، كان لا بُدَّ أنْ أبذل حياتَي من أجلهم ولَمْ أُتردّدْ أن أفعَل ذلك, لِهذا ها أَنا مُسَمَّرُ ومُعذب على هذا الصليبِ، من أجلهم، من أجلكم جميعاً …"
إلهي، كَمْ من ألم وكَمْ من حبّ! لقد رَأيتُ دمعتان تَنْزلانِ مِنْ عيني السيد المسيح وأنى لكُنْتُ أَهِبُ حياتَي لأن أجففهم بشفاهِي. تلك الدموعِ مليئة للغاية بالألمِ وبالحبِّ! ذلك عندما فَهمتُ بأنّ لا أحد يستحقُّ مكافأة السيد المسيح. ولا حتي تلاميذه وأصدقائه فى تلك الأيامِ كانوا يستحقّْونها، ولا حتي نحن اليوم نَستحقُّها.
الكلمة الثانية
الحقً أَقُولُ لك، اليوم َتَكُونُ مَعي في الفردوسِ.
كان يسوع وحيداً في تلك اللحظة ووَجدَ في ديماس كُلّ الحبّ الذي رَغبَ أن يجده في حوارييه. لقد تَجاسرَ ذلك الرجلِ أن يداِفَع عنه بينما الآخرين، أولئك الذين أحبَّهم، هَربَوا بجبن باستثناء يوحنا، لِكي لا يُعرّضَون أنفسهم للخطر ويَسْقطُون مَعه.
لقد بدا أنّه لأكثر مِنْ سنتان، لم تكن خاصته قادرة على أن تؤمن بكلماتِه حقاً. وإلا لكانوا بجانبه الآن.
هذا الرجلِ، ديماس، كَانَ عِنْدَهُ في بضع دقائق إيمان بلاهوتِه, بكونه سمع مِنْ شفاهِه كلماتِ التضرّعِ إلى الأبِّ. لقد اكتشف ديماس الحقَّ والطريقَ إلى الحياةِ …
لقد كَانَ يَرى يسوع يموت بسلامِ أولئك الذين لَيْسَ لهُمْ شيء ليخَافوه، برجاء أولئك الذين يَعْرفونَ أنّه هناك شيء ما يترجونه. ديماس أراد أَنْ يُؤمنّ بذلك الشيءِ لأنه كَانَ أمام الرجاء نفسه.
تحت إعياءِ عظيمِ بسبب الجُهدِ والألمِ، لكن بكُلّ عاطفة لكونه رَأي النور، يَقُولُ الكلماتَ التي ستَأْخذُه إلى القداسةِ: " يسوع، تذكّرُني عندما تجيء إلى ملكوتِكَ …! "
تلك الكلماتِ تعادل الكلمات التى نَقُولها اليوم عند الاعتراف. " أغفر لي يا أبّتاه، لأني أخطأتُ ".
الليلة السابقة، بَدأَ السيد المسيح بتَحَمُّل آلامِه لإنْقاذ الخطاة الذين مثل كل واحد مِنْا ومثل ديماس. في هذه الأثناء، لَمْ يكن يخطر ببال "اللصّ البار" ولو للحظة بأنّهَ سيَتْركُ سجنَه مُهانَ، مبصوق عليه، ومرَفوضَ لكونه مجرد رجل شرير آخر، كي يجد نفسه أمام ينبوع الحبِّ الرحيمِ. أنه لم يكَنَ عِنْدَهُ فكرةُ أنه فى المساءِ، سيَجيءُ إلى قصرِ ملكِ الملوكِ ممسكاً بذراعِ ملك السلامِ.
ويسوع رَأى صديقا في ذلك المجرمِ, لأن الصديق هو الذي يَثِقُ بك، هو الذي يَعطيك ثقتَه بدون خوف. الصديق هو الذي يُتحرّكُ كي يشْفق عليك في لحظاتِ ألامك ولا يُضيفُ الملحَ إلى جراحِكَ …
الصديق هو الذي يُريدُ البَقاء بجانبِكَ والذي يمكث مَعك حتى النهايةِ، بدون الإصغاء إلى صيحاتِ الديانين، أولئك الذين يَتّهمُونك، يُهينُونك، يُسبونك ويُريدون رُؤيتك تَمُوتُ بأسوأ طريقةِ مُمكنةِ لأن قلوبَهم مليئة بالقسوةِ.
حَلّتْ نظرةِ يسوع تلك محل العناقَ، الذي أشتاق أن يعطيه لديماس، بنفس الطريقةِ يُعانقُ يسوع اليوم كُلّ الذين يُودّعُون ويُكرّسُون أنفسهم إليه. وفي وسطِ دموعِه وآلامه أبتسم وبصوّتُ ممتلئ بالرقةِ وَعدَه قائلاً
الحق أَقُولُ لك، اليوم تَكُونُ مَعي في الفردوسِ.
مرةً أخرى يمد يسوع ذراعيه المحبّةَ إلى الخاطئ، الخاطئ الذي يَتُوبُ ويُحقّرُ نفسه، يَرفعه، حتى فوق الأبرار.
أنه لم يَكنُ حقاً الأقدسَ بين أولئك الذين ماتوا حتى ذلك اليوم الذي سيَكُون اليوم الأول لدُخُول السماءِ … أنه لَيسَ من الأنبياء ولا من الشهداءُ الذين يُسبّبُون فرح في السماء. أنه لصّ، ربما يكون قاتل, أنه رجل مرَفوضَ من المجتمعِ الذي سَيَكُونُ القدّيس الأول الّذي سَيُجازُ له دخول الحياةِ الأبدية ومِن قِبل المسيح نفسه, أنه القدّيسِ ديماس.
إن المسكنة تَسْبي إلهنا. البؤس يَجْذبُه، الأثيم هو تحديه الأعظمُ. لذلك السببِ خفّضَ نفسه لمُوَاجَهَة حالتِنا الإنسانيةِ لكي في الإتحادِ مَعه، نُحرّرُ أنفسنا من كُلّ الربطات. وهكذا تلاقي الخالق مع المخلوق, من جهة، أيادي فارغة لإنسانِ, من جهة آخري، حبّ غير محدود لإله. خالق ومخلوق اتحدا بأحساسين، بسلوكين: التواضع والرحمة، اللذان يُشيّدانِ معاُ دائما جسرَ النجاة .
طوباك يا ديماس، يا من استحققت نقطة الدمِّ اللخلاصية الأولى للفادي، فقط بقوّةِ إيمانِكِ وبرحمتِه اللانهائيةِ. طوباك يا أَخّي، لأنك لَمْ تسبّبْ ليسوع الإحباط الذي يُسبّبه له كثيرين اليوم، أولئك الذين يَجِبُ أَنْ يُميّزَون صوتَه ويَحبُّونه أكثر.
طوباك أيها اللصّ البار، لكونك كنت قادر على نِسيان آلامِكَ وأشفقت على الآخرين, وهكذا أصبحتَ مستحق لنعمة أن يَمْنحُك الرب بنفسه الغفرانَ، يُغيّرُ خطيئتَكَ إلى نارِ متألقةِ مِنْ الحبِّ الإلهي. ذلك لأنك كُنْتَ شجاع أن تزود رفيقِكَ جيستاس بالتعليم، لِذلك، كُنْتَ تُبشّرُ بالإنجيل مِنْ على صليبِكَ، محْتذيا به، بمن التقيت به توا .
هكذا، كان ديماس يعطي كُلّ ما ميزه في ساعةِ موتِه. قدّمَ كُلّ ما أمتلكه: الإيمان, الإيمان الجديد لكنه إيمان ثابت؛ قدم الرجاء في رحمةِ الرب لنَيْل الحياةِ الأبديّةِ؛ قدم المحبة، بدعوة زميله أن يُشفق على من يُعانيِ.
الآن أَسْألُ نفسي وكُلّ إخوتِي وأخواتِي: وماذا بالنسبة لنا؟ ما الذى نريد مَنْحه لهذا الحبِّ، لمن يَمْنحُ نفسه كي يُخلّصَنا؟
ونحن قد نَبْدو كرماءَ عندما نَمْنحُ بَعْض الطعام أَو اللباسِ أَو أى نوعِ آخرِ مِنْ المعونات الماديةِ لمن فى احتياج إليها. لكن … كَمْ مرّة ندرك أنّ التزامُنا هو أن نمَنْح إخوتِنا شئ ما أكثر مِنْ الخبز أَو اللباس؟
ليس عِنْدي أدنى شَكِّ بِأَنَّ هذه الأشياءِ ضرورية وضروريتها تزداد أكثر في أزمنةِ الاحتياج، فى أزمنة الجوعِ َوالضيقاتِ. لَكنَّنا يَجِبُ أَنْ نَتذكّرَ أنه " ليس بالخبزِ وحده يحيا الإنسان …"
ولو كنا مدركين بأنّ الغني المادي أَو لكونُ الإنسان لديه ما يأكله ويشربه فإن ذلك لا يُولّدُ السعادةَ الحقيقيةَ له، وبأنّ هناك استياء دائم في أولئك الذين يَعِيشونَ في الشهوةِ وفي الجشعِ وفى رغبات الجسد الملحَّة …
وإن تَعلّمنَا بأنّ الشهرةِ والكرامة لَنْ يَقُودانا إلى السعادةِ الحقيقيةِ لأنها أمجادَ عابرةَ وزائلة ….
ولو استطعنا أَنْ نَشْهدَ على حقيقة أنّ لا صحة جسدية ولا ضحك ولا أنشطة الحياةِ، أَو لكوننا لدينا صداقاتُ دنيويةُ نكون ذو قيمة كي نحيا حياة سعيدة حقيقية …
لماذا بعد ذلك لا نَأْخذُ الرب إلى إخوتِنا؟ لماذا لا نَأخذ إليهم كلامَه والحبّ الذي عَرفنَاه والإيمان الذي يَجْعلُنا شهودَ ؟ أننا لا نُدركُ خطورة تقصيرِنا!
الرب يحب من يَعطي بِفرح. الرب يمدنا باحتياجاتنا. عندما نَعطي إيمانَنا وحبَّنا بسعادة وبفرح، حينئذ نحن كممتلئين مثل أجران قمح هائلة يستطيع أن يأتي الآخرين ويأخذون َالحبوبَ الجيدةَ منا ليعطونها بدورهم لمزيد من المحتاجِين, وهكذا يشبع الجميع من المسيح.
أثناء أحد اللقاءاتِ في الأيام القليلة الماضية، عند الوُصُول إلى هذه النقطةِ، قال لى السيد المسيح : " أساس رسالتِي كَان ذلك الفرحِ، فرحي، الذى كَانَ ثمرَة الحبِّ والاستسلام إلى أبي وإليكم أيها البشر. كُلّ ما قُلته وفعلته كُان لكي تُعدي بهجتي العميقة الآخرين أيضاً، كي يكون فرح تلاميذي حقيقيَ، وأن يصِلُ لكماله.
ابنتي، هذه كانت المعركةِ القاسيةِ التي كنت أحياها، جسدي كان مجروح ويطْالبُ بحقوقَه، الظلمة كانت تَتسرّبُ حولي, ولكُونَي كنت بعيد عنْ أولئك الذين أَمْنحهم حياتَي، فذلك جْعلُني أَشْعرُ بألم مُميت. هذا لأني أَحْملُ في كياني كُلّ الحبّ الذي أشعر به نحو الخليقة التي تنتظرُ الفداء. الكرب والحُزنُ أزادا الألمَ في جسدي الذي أصبحُ أضعف وأضعف بسبب كُلّ هذا الدمِّ الذي نزف من جلدِي، كنتيجة لأقسى المحن.
طوباك يا من تُوافقُ على أن تُشَارَكني آلامِي ومَحَبَّتي. طوباهم الذين يَقْبلونَ هذا العشاء الرباني طوعاً مع أعمق مشاعرِي، طوباهم من يقبلون هذا الإتحادِ مع أكثر رغباتِي للاستسلام عمقاً، طوباهم من يقبلون أن يعيشوا حالتِي نفسهاِ كمَصْلُوبين، في درسِ منقطع النظيرِ لا ينتهي أَبَداً "
الكلمة الثالثة
يا أْمَرْآَةُ، هَو ذَا ابْنُكِ! بني ها هي ذي أُمُّكَ
رَفعَ إلهي رأسهَ قليلاً، كما لو أنَّه يريد تَخليص عينِيه مِنْ الدمِّ الذي دَخلهم كي يستطيع أَنْ يَرى مرةً أخرى هذان الشخصان اللذان أحبَّهم كثيراً. الشخصان اللذان مكثوا كشهود له: أمّه ويوحنا، الأَخّ، الصديق، الأبن … الذي، ربما لأنه كَانَ الأصغرَ والأنقى بين الحواريين، فأنه مُيز أفضل من قبل يسوع .
في الحقيقة يوحنا كان سيَكْتبُ إنجيلَ محبِّة الرب لاحقاً ويَتكلّمُ عن مريم، امرأة كتابِ التكوينِ: أمّ ابن الربِ " الممتلئة نعمة " المعاونة المثالية، التلميذة، مريم، أمّنا الحبيبة العذبة.
قال لى يسوع في تلك اللحظة: " فى اليوم الذى تَكلّمتُ فيه على الجبلِ عن التطويبات، كَانتْ أمّي أمامي، تستِمع بانتباه، تتعلّمُ … ' طوبى للمساكين في الروحِ … طوبى لأنقياء القلبِ … طوبى للمتواضعين والبسطاء … طوبى لمن يَقاسونَ ويَبْكونَ … طوبى لمن يُبْغضون ويُضطهدُون من أجلي … ' وكنت أفكّر فى كُلّ أولئك الذين سَيدْعَون مطوبون أَو سعداء، آخذُين مريم كنموذج لهم."
في تلك اللحظة، اقتربت العذراء أكثر إلى الصليبِ، حيث كان ذلك الجسدِ، ذلك اللحم الذى من لحمِها، مُسُمّرَاً. عالمة بأن وقتِ قليل متبق، قالت له مريم بشكل داخلي "أبني وربي، خذُني مَعك …! "
نَظرَ إليها بحنان لا يدركِ وبألم. هناك هي كَانتْ، امرأة سفر التكوينِ، امرأة عرس قانا الجليل، امرأة سفر الرؤيا، المرأة التي قَدْ قُدّرتْ، التى اختيرت وكَوّنَت كي تكُونَ أمَّه على الأرضِ …
تلك النظرةِ مِنْ يسوع طلبتِ من كُلّ شخصِ احترام عميق وشفقة صادقة لمن تعيش الآن الآلامِ التى تنبأ بها سمعان الشيخ في الهيكلِ فى يوم تقديمِه …ها السيف قد طُعِن نفسها!
بعد رؤيةُ تلك اللحظةِ، قال لى الرب : " أمّي قُدّرتْ دائماً أن تَكُونَ المرأةَ التي تُساعدني آلامَها في فداء الإنسانِ … يَجِبُ أَنْ تَعْرفَي بأنّ في يومِ العرس في قانا، عندما أخبرتُها بأنّ ساعتَي لم تحين بعد، كُنْتُ أُحيلُ بالضبط إلى هذه اللحظةِ. ساعة عندما أَرحل لكي تُواصلُ هى عملَي في الكنيسةِ المولودِة مِنْ جنبِي.
لقد أرادها الأبّ أنّ تُصبحُ أمَّ ثمرةِ حبِّه. أردت أنا أنّ تُصبحُ أمَّ آلامِي وصليبِي: أم كنيستي وأمّ أولئك الذين يُؤمنونَ باسمِي ويُصبحونَ أبناء الرب.
بَعْدَ أَنْ أبدت قبولها لإرادة الأبِّ عندما أعلنَ تجسدِي لها، لم تكن حياتها سوي قبول للإرادة الإلهية، هذه المرأةِ سَتكون الآن الحاصدةَ الأولى للثمرةِ، لحبة الحنطةِ التي تموت. ولهذا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مساويةَ لي في الرحمةِ نحو العالمِ.
ها أنت تَرى أيها العَدَم، بينما تُقدّرُ هذه اللحظةِ الآن، أنك تستطيع أَنْ تَرى وتَفْهمَ بكل سهولةِ، لماذا تصير المعاناة الإنسانية مفهومة عندما تقاسي من أجلِ الحبِّ، لكونك ترْغبُ إنْجاز الإرادة الإلهية. وبأن أعظمِ ألم، مهما كان شديدا، إلا أنه لا يُقلّلُ من الفرح في قلوبِ أولئك الذين يَستعذبونه لأنفسهم بأعظم حبِّ.
تَكْمنُ السعادةُ الحقيقية في أن تحبوا الرب، ونتيجة لذلك الحب، تحبون البشر, حبّ ليس سوي استسلام سخي، قادر على أن تَهِبوا حتي حياتَكم كي تُسّروا الأبِّ.
لقد حانت ساعتي وساعتها. ها أنا أَعُودُ إلى الأبِّ، لَكنَّها يَجِبُ أَنْ تَبْقى وتُتوسل، كما تَوسّلتُ أنا إليه، لكي لا تُفقد خاصتي. لقد احتجتُ أن أخْبرها، احتجتُ أن أذكرها بأنّها هي امرأة سفر التكوينِ. أنه بالرغم من أن قلبِينا قَدْ تمزّقا بالألمِ، فأنا يَجِبُ أَنْ أَذْهبَ وهي يَجِبُ أَنْ تَبْقى، لكي تتحقق عقوبة الرب على الحية : "أنا سَأَضِعُ عداوة بينك وبين المرأة، بين نسلك ونسلها: هي سَتَسْحقُ رأسَك، وأنت سَتَكْمنُ لكعبِها."
قولي لكُلّ أبنائي، أن يطرحوا قلوبِهم أمام هذا التأملِ لأنه أحد لحظاتِ التَتْويج في تاريخِ خلاص البشر. أنا سأئتمن البشرية إلى من سَتَكُونُ الوسيطَ بين نفسي والإنسانِ.
لقد حانت ساعة سفر التكوينِ؛ ساعة إتْماْم المعجزةِ التى بَدأتْ في قانا الجليل. أنها اللحظةُ التى يَجِبُ أَطْلبَ مِنْها أن تتَبنّي يوحنا وفيه، تَتبنّى كُلّ أبناء الرب، كأبنائها, كُلّ إخوتي وأخواتي. إن طريقُي قد صار طريقُها وهي يَجِبُ أَنْ تَشْربَ حتى النقطة الأخيرِة من كأسِ الآلام المرِّ. ها هي تَستسلمُ لأبنها لإتْماْم الإرادة الإلهية ويَجِبُ أَنْ تصير أمَّ الإنسانيةِ. الإنسانية التالية، المُمثّلَة فى كنيستِي، سَتنشدُ مدائحَها ومجدَها سَيُشرقُ، عندما يَنحني الكون أمام ملكةَ كُلّ الفضائل.
من الضروريُ أن يُفتح قلبها الذى بلا دنس مرة أخري للإرادة الإلهية وأن يكون حبُّها أقوى مِنْ ألمِها…يَجِبُ أَنْ تَتذكّرَ أنّها امرأة أمس واليوم وغداً: امرأة العهد القديم والجديد والرؤية … من الضروريُ أن تَلِدُ ثانيةً
يا أْمَرْآَةُ، هَو ذَا ابْنُكِ! بني ها هي ذي أُمُّكَ
مرةً أخرى، أطاعتْ العذراء القديّسة. وقِعُ يوحنا فى ذراعيها بُاكيا. وهي مُنهَكةُ بالحزنِ، لكنها مازالَت ممتلئة بالكرامةِ, سيدة كما هي دائماً، عظيمة في بساطتِها، ليست بحاجة لحيلَ لتَحسين جمالِها … بهدوء وبشكل حلوّ، تُحتضن يوحنا.
أنها تَعْرفُ بأنّ آلامَ العملَ قد وَصلت إليها مرةً أخرى. أنها تَعْرفُ ِأَنَّ هذه الولادةِ مؤلمة أكثر بكثير مِنْ الولادة الأولى. في الولادة الأولى اؤتمنت على أبن الربِ، القدّوس, طفل نقي مثلها. هو سيَجْلبُ بهجتَها وحكمتَها وضحكَها وبركاتَها بكل قبله مِنْ قُبَلاته.
في هذه الولادةِ الثانية، سَتُصبحُ أمَّ كُلّ الإنسانية. كثيرين لَنْ يَكُونوا فقط غير موافقون على الإقرار بها كوالدة الإله، بل سَيَجْرحونَها أيضاً. آخرون، في مُهَاجَمَة كنيسةِ أبنها، سَيَدعونها "شيطانَا" عندما تَجيءُ مراراً وتكراراً إلى الأرضِ بْحثاً عن الخِرافِ المفقودةِ التي يَحبّها الراعي.
في الولادةِ الأولى، احتضنت ذراعيها طفلا جميلا، طفلاً تلقي جسدَه الرقيق القُبَلات البهيجةَ من أمّ صغيرة. بينما سَتَتلقّى الآن فى ذراعيها أبنها، مدمّماً ومُعَذَّباً ومَيتاً لإنْقاذ بشر بؤساءِ. بسبب آثامِهم، جُعِلَ مستحيل التمييز، كما تَنبّأَ أشعياء .
رغم أنها تعرف كُلّ هذا وترى أبنها في تلك الحالةِ، في مرحلة تنفيذ الموتِ، إلا أنها بسماعه، تَطِيعُ وتُوافقُ على تَبنّي كل البشر، كأبنائها، حتى فاعلي الشر، الزناة، المُلحدين، القتلة، اللصوص، الكذبة، كُلّ أولئك الذين سيواصلون من الآنَ فَصَاعِدَاً وعلى مدى الزمن الذى قد تدومه تلك الحياةِ على الأرضِ فى أهانة ومُقَاوَمَة ورفض الرب.
لقد تسلمت كُلّ هؤلاء من ذلك الوقت وحتي اليوم، وبهذا يَأْتي عملَ الولادةَ. أنها تَعطي النور إلى كنيسةِ أبنها. كما وَضعَ الروح القدس ذات يوم الكلمة في رحمِها الكلى النقاوة كي يَجْلبَ الخلاص إلى العالمِ, ها هو الابن يُودعُ الآن كُلّ الإنسانيةِ في قلبِها الذى بلا دنس، لكي يستطيع الأثيم الذي يُريدُ أَنْ يُنجو أَنْ يَجدَ مأوى في ذلك الموضعِ المقدّسِ.
إن ما أتمنُها عليه الرب لم يكن بالشئ السهلَ وهي تَعْرفُ ذلك لأن الرب مَلأها بالعطايا. لقد أعطاَها عطية أن تكون الشفيعة الكلية القدرة. تلك العطية التي تَستلزمُ التضرّعَ الدائمَ، لقد كَانتْ ومازالت حتي اليوم المفتاحُ السريُ لفَتْح قلبِ يسوع.
قالَ لي الرب: " لقد عَرفتْ أنَّها يَجِبُ أَنْ تَتوسّلَ من أجل كل واحد مِنْكم وأنتم يَجِبُ أَنْ تَتعلّمَوا مِنْ مريم … أنا كطفل، تَبعتُ خطاها، لكي تتبع هي فيما بعد خطاي. إتحادنا كَانَ بغاية العمقَ، بغاية الكمال، حتي أنّها أحسّتْ بكُلّ مشاعري وعُرِفتْ كُلّ أفكاري, لأن بروحِي القدوس، الذي كَانتْ ممتلئة منه، كُلّ شئ كان معُرِوفَ لها. هكذا كَانتْ في الرب والرب كان فيها. لِهذا كانت حياتها صامتةَ ومصلّيةَ.
إنسان اليوم، عندما يُصادفُ صعوباتَ الحياةِ، بدلاً مِنْ أنْ يَصلّي, يُفكّرُ ويَشْكُّ أَو يُجادلُ، مراتِ عديدة بالتفكير كثيراً فى المشاكلِ يهرب إلى الخيال، بينما الصلاة الصادقة تكون دائماً العودة إلى الحق.
عندما كانت أمّي تواجه مواقفِ صعبةِ، لَمْ تكن تَبْدأْ فى التَفكير أَو التَخطيط بل كانت بالأحرى تصَلّي. لِهذا استطاعت أَنْ تَبذل نفسها بالكامل، لأن الصَلاة والبذل يَتّحدانِ بقوة.
إن تضرّع مريم له قيمةُ العطية التي يَتوقّعُها الرب مِنْها. أنه أعظمُ هبة، أنه الطريق الكلى العْطاء. إن الصلاة لا تكون صادقةَ ونقيةَ وصلاة مسيحية ما لَم تكن بطريقة بذل المرء لذاته ."
أنى أَتأمّلُ السيد المسيح ثانيةً ويَجئ فى فكري المزمور 22 : 15 - 16 : " كَقِطْعَةِ فَخَّارِ جَفَّ حلقي، وَالْتَصَقَ لِسَانِي بِحَنَكِي. وأنت تَضَعُنِي فى تُرَابِ الأَرْضِ, لقد أَحَاطَ بِي الأَدْنِيَاءُ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ طَوَّقَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ "
أيتها أمّ تواجهُ شيئا بغاية البشاعة مثل رُؤية أبنها مصَلوبا وتكُونَ قادرة على إيقاْف مثل هذه المعاناة؟ لقد تَأمّلتُ العذراءَ المقدّسةَ وأحسستُ بمثل هذه الشفقةِ حتي أن محبِّتي لها استمرت فى النَمُو في الشدّةِ، في الاحترام، في الإعجابِ. لقد افترضت بأنّ روحَها، على الرغم مِنْ كثرة الألم، كان يَخفي الرجاء في القدير, لكن إنسانيتَها كَانتْ تَعاني بعمق تلك التجربةِ الهائلةِ.
لقد تَذكّرتُ تأمل مِنْ " طريق الصليبِ " الذي يَتْلي فيه هذا الجزء من نشيد الأنشاد : " لقد طَلَبْتُ بِشَوْقٍ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، فَمَا وَجَدْتُهُ. َنْهَضُت أَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ وَتَجَوَّلُت فِي شَوَارِعِهَا وَسَاحَاتِهَا، أَلْتَمِسُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. وَهَكَذَا رُحْتُ أَلْتَمِسُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. وَعَثَرَ عَلَيَّ الْحُرَّاسُ الْمُتَجَوِّلُونَ فِي الْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ: أَشَاهَدْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟ وَمَا كِدْتُ أَتَجَاوَزُهُمْ حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي"
تَذكّرتُ أيضاً النبي أرميا الذي قالَ فى مراثيه 1 : 12 : " ...... يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَأَمَّلُوا وَانْظُرُوا، هَلْ مِنْ أَلَمٍ كَأَلَمِي الَّذِي ابْتَلاَنِي بِهِ الرَّبُّ ........؟ "
قبل سنوات بينما كان الرب يُوضحُ لي ما يَحْدثُ خلال القداس، قالَ لى يسوع إنه لم توجد أمَّ غَذّتْ طفلَها من ذات لحمِها وبأنّه ذَهبَ إلى مثل هذه النهايةِ من أجل الحبِّ، مُعطيا جسدَه ودمَّه كطعام.
الآن، بينما أتأمّلُ فى هذا الجسدِ الذي تدلت منه شرائح مِنْ الجلد واللحمِ، فَهمتُ بالضبط ما أرادَ أن يقوله لنا. أحسَّ قلبي بالذنب لكونه أرادَ التَوَقُّف عن الخفقان فى تلك اللحظةِ حتي لا أقاسي ما كُنْتُ أَعانيه. تخيّلْت ما كانت تَشْعرُ به العذراءِ المقدّسةِ في تلك اللحظة!
اليوم، عندما نُدركُ كَمْ من نِساءَ يذللنَ أنفسهم، يطأن عفتَهن، يُسلّمُن أنفسهم بوقاحة إلى النظرةِ المدنسة لعديد من الرجالِ ….
عندما نَرى كُلّ أولئك الشابّاتِ اللواتي يَعْرضنَ أنفسهن بتبجّح في الصورِ العاريةِ أو بارتدائهن ملابس غير لائقة لأنهن فخورين بأنّ أجسادَهن كاملة الجمالِ، لقد اختاروا عرض أنفسهن كبضاعة رخيصة أَو كلحمَ يُُعرض في الأسواقِ …
ألا يَخْطرُ بفكرك أيتها الفتاة، أو ألا تُُريدي أَنْ تُُصدّقيَ بأنّ جسدِك هو هيكل ومسكن الروحِ القدس …؟
إن حبّنا يَجِبُ أَنْ يُمجد بالأكثرِ نقاوةِ مريم. أنه لا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا أَو ذلك النموذج الذي يُلهمُ بناتَنا لأن الجسد مثل الجيفة التي تَفْسدُ، وحتى أعظم جمال يَشِيخُ في النهاية ويُتحوّلُ إلى ترابِ.
كلّ النِساء يَجِبُ أَنْ تكونَ عِنْدَهُنّ مريم كنموذج كي يشبهونها فى نقاوتِها وحركاتها الرقيقة. يَجِبُ أَنْ يُدركَن دائماً أنّهن يستطعن بجمالهن ورزانتهن أن يعطوا الرب الخالق أعظم مجد ولا يُحزنوا الروحَ القدس.
نحن لا نَستطيعُ أن نحول أنفسنا إلى حجارِة عثرة، لأننا سَنَعطي ذات يومِ حسابَ إلى الرب عن كل رجل مِنْ الرجالِ الذين أخطئوا بسبب وقاحتِنا. هذا لأن الذى يخطئ بنَظْرة، لا يستحق اللوم مثل التى تَعرض نفسها كمُحرضة على الخطيئةِ, ليرحم الرب النِساء اللواتي لم يهتممن برُؤية مريم، الممتلئة بالنعمة، كنموذج مُمكن تَقليده.
لقد قال الرب لي ذات مرة " يا من بذلت من أجلكم حياتَي, ها أنتم لديكم الآن الأمّ التى ينبغي أن تلتفتوا إليها من أجل كُلّ احتياجاتكَم. لقد وحدتُكم جميعاً بأشدِّ الأربطة بإعْطائكم أمِّي" .
تَضمّنَت تعاليم السيد المسيح أظهار وجهِه لى في هذه اللحظة وَسْمحُ لي أن أرى أنّه كَانَ شاحبَ جداً خلف ذلك الحمّامِ الدمِّوي. في تلك اللحظة، أظلّمتْ السماء حتى بدت كأنها ليل؛ كما لو أنّ هناك كسوفُ.
كَانتْ الغيوم المُظلمة تُنبئ عن عاصفة. كانت هناك عشراتُ من الصواعقِ في الأفق ودمدمةِ عاليةِ جداً مِنْ الرعدِ كَانتْ مصاحبة لزلزالَ.
ظَهر فجأة المِئات من الملائكةِ حول المشهدِ. في إتّحادَ وتَزامنَ حركي مثالي، طرحوا أنفسهم جميعاً ليمجدوا يسوع، الجميع بأيديهم متشابكة معا وفي صمتِ، بينما أظهرتْ وجوههم المتألّقة حُزن عميق.
لسانه وشفتاه يبسا وصار شاحِباً. اكتسي صوته مرةً أخرى بالتعبَ، وبدا وكأنه من الصعب أن يتكَلم معي. وقالَ: " تأمّلُي هذا المشهدِ يا حبيبتي، واعلّمُي بأنّ خاصتي لا يَستطيعُون المضي عبر الحياةِ بدون صليب.
اذهبْي وأخبرْي العالمَ بما تعلّمتيه، وإن أرادوا إسْكاتك، صِيحُي أعلى. افعلُي هذا من أجل قوَّة الحبِّ الذي من خلاله وحّدُتكم بى، الذي وحد مثل هاتين القطعتين من الخشبِ اللتان تُشكّلانِ أداة خلاص كُلّ البشر, آلا وهو الصليب.
أخبرْي النفوس المُكَرَّسةَ بأنّ الصليبَ الذي يَرتدونَه، ليس فقط لتَزيين صدورِهم أَو ليَرْبطُهم بشكل سطحي بى. أنهم يَجِبُ أَنْ يُثبّتوا أنفسهم أولاً بالصليبِ ويَتعلّمونَ أَنْ يَجْعلُوا أنفسهم مستقرين عليه بدلاً مِنْ الهْربَ منه. أخبرْيهم أنهم لا يَستطيعونَ الاشتياق إلى جبل طابور ما لم يمَرّوا أولا بجبل الجلجثة. أنه هنا, على الصليبِ, سَيَتعلّمونَ المحبة والتواضع ومسكنة الروحِ والاعتدالِ في كُلّ أَعْمالِ حياتِهم.
أكدي عليهم بأنّني أَعطيت برهان وشهادةَ بأنّ الشيطان مُمْكِنُ أَنْ يُهْزَم بسهولة مِنْ خلال تجربةِ الصليبِ. تأمّلْيني: أَنا إنسان حقيقي، الذي في الجسد يُظهرُ حدوده، وإله حقيقي، في أظهار القوةِ العنيدة للحبِّ العجيب.
صلي من أجل أولئك الذين لا يَعْرفونَ شئ عن الآلامِ، لأنهم بالتَأَكِّيد لَيسوا من خاصتي… لاحظي هذين المُدانين الذين يحيطانِني وتأمّلي الطريقِة التى يصرخ بها الرجالِ الذين يَحْملونَ صلبانَهم.
البعض يَحْملونَه بغضبِ، بمرارةِ، وسط أحزان كثيرةِ. كل من يَحْملُ صليب في ظروفِ مماثلةِ وبتلك المشاعرِ، يَحْملُ بالتأكيد صليب، لكنه صليب لَيْسَ لهُ مشاعر لأنه بدلاً مِنْ أنْ يَجذبَه بقربي، فأنه يَدْفعُه بعيدا عنّي. عادة يكون ذلك صليبُ أولئك الذين يَرْفضونَ فَهْم معنى الألم، الذين يَدْخلون في أبعاد خارقةِ. ذلك هو صليبُ اللصِّ الذى على يسارِي، أنه الصليبُ الذي سَيَكُونُ دائما ثقيلَ ولكن لَنْ يَكُونَ قادر على الافتداء.
ديماس، على يمينِي، قْبلُ صليبَه باستسلام وبكرامةِ؛ لقد تظاهر بذلك في بادئ الأمر لأنه لَيْسَ لهُ ملجئُ أخر. لكن فجأة، عندما ميّزُني وَعْرفُ بأنى أَنا ابن الربُ، َقْبلُ ذلك الصليبِ، مُقرُّ بنفسه كأثيم، وَسْألُ أن تتذكره الرحمة من خلاله.
أخيراً، ها أنا هنا أمامكم، مُحتضناً صليبي, صليب الفداء, لأعلّمُكم جميعاً أن تحَمْلوا صلبانكم. ها أنا أَدْعوكم أن تَكُونَوا شركاء فداء مَعي، صانعين كفارة عن ذنوبِكَم وعن ذنوب كل البشر. اعلموا بِأَنَّ حَمْل الصليبِ بهذه الطريقِة ينعكسُ علي سلوككم، عندما تكون أمامكم صعوباتَ وآلامَ فأنكم تَقتربون مني أكثر من خلالها وتنتفعون منها لإعْطاء شهادةِ أمام البشر. عندما تَحتضنون صليبَكَم، تستطيعوا أَنْ تَشعروا بأنّ الشيءَ الوحيدَ الذي تَرْغبُوه هو القوّةُ، لأن العطشَ للنفوس يلتهمكم
أَنَا عَطْشَانُ
نعم، كَانَ فمي ولسانَي جافان. لقد يبسا واشتعلتُ بالحُمَّى. لِهذا أَخذوا رمح، وبخرقة، وَضعوا مر وخلّ على شفاهي، كي يَسْخرَوا مِني أكثر عندما يتقرح فَمَّي.
عندما قُلتُ، أنا عطشان، كان نظري مازِال مثبّتاً على أمِّي، على يوحنا، وقليلاً أبعد للخلف، على المرأةِ الخاطئة التي أمام مثل هذا المشهدِ، لَمْ تَشعر حتى أنها مستحقة أن تدنوا مني بما يكفي كي تلمسني بحنو. عظيما جداً كَانَ شعورها بالذنبِ الذى غَمرَها، حتي أنّها حَصرتْ نفسها فى البُكاء، نْاظرُة إلّي بعجزِ. طوباك يا مجدلية، يا من مكثت عند صليبِي، سْامحُة لدموعِكَ أن تمتزج بالدمِّ الفادى الذي واصل السُقُوط على الأرضِ!
بحبِّكَ وحُزنِكَ، افتديت وكوفئت بظهورِي الأولِ أمام البشر. لكونك أحببت كثيراً، آثامكَ مُسِحتْ وأراد الأبَ مُكافئة توبتك وتضحيتِكَ، وضِعُك على المذابحِ بجانب أمِّي ويوحنا لكي ينحني كُلّ من يعتقد أنه بار وحكيم أمام مَنْ كَانت مُدانة، وهكذا، تتمُّ تسبحةَ العذراء مريم التي تَقُولُ بأنّ الرب رْفعُ المتواضعين وأشبع الجياعَ بالخيرات
بعد ذلك بَدأَ السيد المسيح يوضح لي الأسباب والمشاعر التي غمرته عندما قالَ: "أنا عطشان". وكُلّ هذا يعنى أبعد كثيراً مِما يستطيع أى أحد أَنْ يَتخيّلَ. لَمْ يَقُلْ يسوع "ماءَ"، الذي كَانَ يمكنُ أَنْ يَكُونَ أسهلَ وعمليَ أكثر، إن كان أرادَ حقاً أن يشُرْب. أنه في الحقيقة لَمْ يُفكّرْ فى الماء؛ لأنه كَانَ يَقُولُ لنا أنّه عطشان لنا، عطشان للنفوس, عطشان أن نفَهْم جميعاً القيمةِ الغير محدودة لما كَان يحْدثُ.
أي شخص أختبر العطشَ الحقيقيَ … العطش لشرب الماء، يَعْرفُ ماذا يعنى ذلك… أنى أَدْعو القارئَ لاختبار ذلك بعض الوقت بتعقلِ ويُقدّمُ ذلك إلى الرب …
ضمن الاحتياجات الإنسانيةِ، ربما يكون العطش هو الأكثر ضَغْطا، ولدرجة أكبر في مواقفِ الإعياءِ الشديد …أعتقد أنّ ذلك كَانَ بالضبط السبّبُ الذى قالَه الرب, أيّا كان العطش لا يَستطيعُ المرء الانتظار كي يُروي ذلك العطشِ، أنه لهفة عارمة.
كَانَ المسيح عطشانَ لرُؤيتنا متّحدينَ حول تعاليمه. كَانَ عطشانَ لرُؤية كنيسة متحدَة ولَيسَت منقسمة، لأن في هذه المجموعةِ هناك منشدون أفضل أَو وعّاظ يَعظونَ أفضلَ، يتكلّمُون أفضل وبلغات أكثرِ مِنْ الآخرين … أَو لأن هذا يعملِ مَع هذا الكاهنِ وذلك مع آخرِ … أَو لأن في هذه الجماعةِ تقوى كاذبة أكثر من اللازم، بينما الآخرين يُميّزونَ الفقراء أكثر … أَو لأن هنا لا يَعطونَني المساحة التي أَستحقّها وهناك يعطونني …
لقد كَانَ عطشانَ للرُؤية كُلّ منا يُعلنُ المسيح كمُخلّص، متّحدَين بحبِّ ولَيسَ منفصلَين بسبب منافعِ ماديةِ وأنانية وضيِّق أُفُق. لقد أرادَ أن تصبح التطويبات التي أعلنَها من قلبِه ذات يوم بكُلّ قوّة وعذوبة هي الطريق الوحيد لنجاة كُلّ البشر, أن تصبح جزءَ من لحمِ قلوبِنا. باختصار، لقد كَانَ عطشانَ لرُؤيتنا نُساعدُ بعضنا البعض: إنسان لإنسان، جماعة لجماعةِ، أبرشية لأبرشيةِ, مُبشر لمُبشر، لا نتنافسُ ولا ندمّرُ بعضنا البعض كما لو أنَّنا أعداء نبحث عن الغنائمِ.
لقد كَانَ عطشانَ لرُؤية أساقفتِه وكهنتِه متّحدينَ، يؤسسون ويَسْكبُون رحمته، يسَاعَدَون ويسندون ويُشيرون ويُشجّعونَ الخطاة. نحن لا نعرف عديد مِنْ المراتِ من أين نبْدأُ العملَ، لأنهم يُحمّلونَنا بمثل هذه الأعباءِ الثقيلةِ. وعديد مِنْهم لا يَستطيع حَمْلها، بالرغم مِنْ أنهم على الطريقِ الروحيِ منذ وقت طويل وبافتراض أنهم يُحاولونَ الازدياد في الإيمانِ.
" لقد أردتُ أن أصرخ للإنسان أن يأتي كما هو كي يشربِ من عطشِي، مِنْ ذلك الينبوعِ, ينبوع الألمِ, الذي كَانَ يولدَ مِنْ الحبِّ نفسه. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أرُي أن كُلّ الأطفال لديهم بيوت سعيدة بدون أباء وأمهات بلا مبادئ. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أرُي أطفالِ متمتعين بالصحّة، بدون إهانات لكونهم يرون انتهاكَ محبتهم وبراءتِهم. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أري هؤلاء الصغار الذين أَحبُّهم كثيراً، ممتلئين برغباتِ بناء عالم أفضل، ويعْرفُون القِيَمَ الإنجيليةَ …"
يسوع كَانَ عطشانَ للشبَّاب الذين يَعطونَه حياتَهم، تاْركينَ العالمَ، ولأولئك الذين يعيشون في العالمِ، الذين يبشرون ببشارة الملكوت مِنْ المكانِ الذى اختاروه بحرية.
كَانَ يسوع عطشانَ للنِساء اللواتي يتخذن من النِساءَ القدّيساتَ كنموذج ويبدأن مع الكنيسةِ فى بناء مجتمع عادل ذو قِيَمِ أخلاقيةِ، يُعلّمُن أطفالَهم وأطفال الآخرين أَنْ يَتخذوا من الرب بِداية ونهاية لمسيرتنا عبر هذا العالمِ.
كَانَ يسوع عطشانَ للنفوس، لكُلّ النفوس, عطشان لمَنْ كَانَ يَسْكبُ دمه من أجلهم حتي القطرةِ الأخيرةِ. لقد رأي مِنْ علو الصليب آثامَكَم وآثامي وصُرِخَ إلى البشر : " أنا عطشان لهذه النفس …هذه هى النفس التي من أجلها أَعاني كثيراً. أنا عطشان، أَنا جائعُ، أنا لفي احتياج لهذه النفس لأهدأ هذه الحرارةِ التى سببتها الحُمَّى مِنْ هذه الجراحِ، التي جَرح تَلَوُّثها إنسانيتَي …
أنا عطشان للصلاةِ، للسلامِ في العائلات، في الجماعات، في كُلّ العالم. أنا عطشان لمعْرِفة أنّ كُلّ شخصِ سَيَستجيب لندائِي ذات يوم. أنا عطشان للنفوس الكريمةِ التي تَمْنحُ نفسها كمانعات صواعق أمام العدالةِ الإلهية، كي ينقذَون نفوس أخرى.
أنا عطشان لَك يا ابنتي، عطشان لمساعدتِكَ، لمثابرتِكَ. لكن احْذري مِنْ الذئابِ التى في ملابسِ الحملان. إن رأيت شخصا ما يُحاولُ إيقاْف رحلتِكَ, شخص ما يَصْنعُ صفقاتَ، كُونُي حذرةَ جداً. لا تدعْيه يغريك بمُبَادَلَة الصليب الذي أعطيتُه لك بصليب فاسدُ، زْاعماً أنّه اختيار أفضل.
واصلُي رحلتَكَ يا بُنيتي بصمت، ومع ذلك بيقظةِ كثيرةِ، محتضنة الخشبَة التي تُثقل كاهلك بأعظم تأجّجِ. واتْبعُي آثارَ دمِّي كي يَقُودك دائماً تجاهي … وإن بدأ أحد معذّبيكَ بصفع وجهِكَ، لا تغطّي وجهَكَ ضدّ الأهانة أَو الصفعة، ولا تحاولي حتي أن تدِافَعي عن نفسك … بل قدمي له ظهرَكَ أيضاً لكي يستطيع العالم أَنْ يَرى من جراحِكَ أَنْك من خاصتى. لأني أؤكد لك بأنّ الذين يضَربونك هم نفس الذين ضَربوني. أفرحي لكونك أحد الذين يَنتمون إلى يسوع ! "
ذلك العطشِ، الذي عاناه يسوع، كَانَ شهادة منه أنه َتْركُ لنا، نحن الخطاة، استحقاقاته لكي َنُخلص استناداً عليها. يسوع كَانَ عطشانَ حتى لأولئك المُلحدين وللذين لا يؤمنون بأنه الإله, اقنوم الابن الذى نزل من السماء كي يستردهم لنفسه, عطشان للمُرتدين الذين، بعد عشرون قرن، يَقُولُون إن الشيطان والجحيم لا يَوجِدانِ؛ إن العشاء الربانى المقدس ليس سوى رمز وتذكار؛ يقولون أنّه، بكُونَه إله، لَمْ يُشعر بآلامِه ولِهذا لَمْ يُعاني ما يُعانيه أيّ إنسان آخر؛ يقولون أنّها مبالغةُ عندما تصور الإيقونات يسوع يتألم كثيرا؛ يقولون أن يسوع التاريخي يختلف عن يسوع المثّالَي الذى يتخيله الوفاء الشعبيِ؛ يقولون أن يسوع لا يَستطيعُ أن يتكلم فيما بعد للبشر لأنه قال كُلّ شئ أثناء رحلتِه على الأرضِ … الذين يتساءلون ماذا لو كانوا لا يَعْرفون كَيفَ يَستمعون إليه، إن كانوا فَقدوا إمكانيةَ أن يندهشوا بتعاليم الإنجيل وباكتشاف التمسك بيسوع المُتألم وبتعلم مَحَبَّة أخوتهم ؟
كَانَ يسوع عطشانَ لرُؤية المسيحيين الذين يُلزمُون أنفسهم بالعملِ على انتشار ملكوت السموات في قلوبِ البشر. أنه لَمْ يُردْ قدرتنا المتوسّطَة المريحة كحاضرين لقدّاسِ الأحد وبعضويتنا في بعضِ أعمال التبشير كما لو أنَّها انضمام إلى نادي لخَلْق عِلاقاتِ اجتماعية أفضلِ في محاولة عابرة لتَخفيف ثقلِ ضمائرِنا.
يسوع رآنا مِنْ أبديته وشَعر بالعطش. شَعرَ بحاجة حقيقية وملحّة لتَغييرنا، لإيْقاظنا مِنْ نُعاسنا المتواصل, من فتورِنا الروحيِ الذي يقع فيه الجزءِ الأعظمِ منّا لكوننا لدينا إحساس كاذب بأننا مسيحيين صالحين, بأننا أبرار .
بتلك الأسباب وبآلاف من الأسباب الأخرى التي من الممْكِنُ أَنْ تملئَ مِئاتَ الصفحاتِ، كَانت سَبَّب أن يقول يسوع " أنا عطشان."
كَانَ وجه يسوع شاحبَا جداً، الناحية أليسري مشوّهة بالكامل بعينِ مُغلقةِ بالكامل بسبب ورمِ صدغه وجفنِه, لقد كان الضرب الذي تَلقّاه بغاية القسوة، حتى أنه فَتحَ عظامَ خدّه. لقد بَدا جرح وجهه مثل فَمّ مفتوح لدرجة أنه سَمحَ برؤية لحمِ ابن الربِ!
لَمْ يَفْتحْ يسوع شفاهَه، لَكنِّي استطعت أَنْ أَسْمعَه. سَمعتُ كلماتَه الموجّهة إلى الأبِّ. أنها كَانت خليط من الحبِّ والشكر، خليط من الاستسلام والضعف، خليط من الألم والوداعة … شَعرتُ بأنّ قلبَي قد سُحِقَ بالحزنِ.
"أبتاه، أنْظرُ إلي … كشمس كَُسفَت باختيارها! لقد سَمحتَ لي أن أشُرْب الكأسِ المرِّ لليلِ الروحِ المُثلج وها أنا أَعطيك الشكرً لأجل هذا."
بعد ذلك خاطبَني قائلاً: " في هذا الألمِ العميقِ الذي يُسبّبُ ازْدياَد ظلمة بصري لدرجة أنّني لَمْ أعُدْ أَستطيعُ رُؤية تلك الكائناتِ التي أَحبُّها بوضوح, أولئك الذين مكثوا عند قدمِي مُتألمين، أَعْرفُ بأنّ الحبِّ غلب، أعرف أنّه سَيَغلب إلى الأبد.
كما ترين، يَبْدو أنه لم يكن كافيا أن أعُبُر هذا العالمِ فْاعلا الخير لكُلّ شخصِ. لقد سلكت كل الطّرق حتي نهايةِ الحبِّ. لقد بذلت الحياةَ حتى النقطة التى أوصيتُ بها سابقاً: ' ليس لأحد حبُّ أعظمُ مِنْ أن يبذل أحد حياتَه من أجل أصدقائِه. ' ولقد بذلت حياتي أيضاً حتى من أجل أعدائي، من أجل أولئك الذين كَانوا يَصْلبونَني …
بالتأكيد أنا لَمْ أُفقد الثقةَ في أبي بسبب ذلك الحبِّ الغير محدودِ الذى أكنه له, بالتأكيد أنني في وسطِ معاناتي التى لا تدركِ، غمرني فرحِ هائلِ لكوني كُنْتُ أُنفّذُ إرادتهَ، وهكذا، برهنت على محبَّتي لَهُ ولكُلّ البشرية.
إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟
أعطاَني الرب نعمةَ هائلةَ أنْ أكُونَ قادرة على تَأَمُّل تلك اللحظةِ. حَدثَ ذلك بهذه الطريقة:
كُنْتُ في الصلاةِ وعينِاي مغَلقة أمام مذبحِ بسيطِ في غرفتي حيث عِنْدي صورة المسيح المصلوب، صورة العذراءِ المقدّسةِ وعلبة بسيطة بها رفات بعض القديسين. فَتحتُ عينَاي وأمامي كَانَ شيء آخر. ذلك المكانِ لَمْ يَعُدْ هناك بعد، لكن بدلاً مِن ذلك، كُنْتُ أَنْظرُ إلى سماء مُظلمة، برق يدوي برعدِ قوى وثلاث رجالِ مَصْلُوبينِ.
اقتربَ المشهدُ أكثر حتى بدا أنه على مسافة مترينِ تقريبا مِنْ حيث كُنْتُ أقف، والمشهد شَملَ السيد المسيح المُتألم فقط أمامي. لقد كَانَ بغاية القُرْب لدرجة أنني مُدِدتُ يَدَّي. لكن عندما أدركتُ أنّني لا أَستطيعُ أَنْ أَصِلَه، فَهمتُ أنّها كَانَت مجرد رؤيةً.
لَهثَ يسوع واستطعت أَنْ أَرى أنّه كَانَ يَبذل مجهودَ ليتنفس. هذا أَعْلمه جيداً، لكوني عشَت ذلك عديد من المراتِ … عينيه جاحظة ومفتوحة على أتساعها، الفَمّ جاف جداً بِحيث أصبح كُلّ مرة يجد المزيد من الصعوبةً ليصوغ الكلماتِ.
بَدأَ يتنهّد بأنفاس سريعة والدموعِ الداميةِ كَانتْ تسيل على خديه المجروحين عندما قالَ ناظرا نحو السماءِ، "أيلي، أيلي … لما شبقتني …؟ "
لم أَستطعُ أَنْ أَتحمّلَ ذلك وواكب تَنهُّدي سْكبُ مثل هذه الدموعِ التى سكبتها نادراً جداً في حياتِي. بعد ذلك سَمعتُ صوتَه داخلياً: " ابنتي العزيزة، هناك عديد مِنْ الصفحاتِ كَتبتْ عن هذه الكلماتِ التي تَبْدو أنها تعْطي فكرةِ بأنني شَعرتُ في تلك اللحظة، كإنسان، بأنّني تُرِكتُ مِن قِبل أبي. أن تلك الكلمات تعني أكثر مِنْ ذلك بكثير. تذكّرْي بأنّني مِنْ الصليبِ، كُنْتُ أَنْظرُ على مدى الأزمنة العتيدة أن تجئ وعلي كل الرجالِ والنِساءِ الذي سيَعانونَ: البعض لأنهم اختلقوا صلبانَهم وآخرين بسبب صلبانَ فُرضت عليهم مِن قِبل إخوتِهم، وهم لا يستطيعون حَمْلها…
في ذلك النداءِ، تَذمَّرت على تركِ كُلّ الإنسانية على طريق الصليبِ. لقد شَعرتُ في جْراحُي بالجراحَ الغير محدودة لكُلّ الأجساد التي سَتتعذّبُ بالجوعِ والبؤسِ. ملايينُ من الأصواتِ أتحدت بصوتي قائلة ' إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ ها أنا أَمُوتُ جوعِا، بينما هناك أشخاص يموتون من التخمة… إن حياتي صوم مستمر وإجباري بينما هناك أشخاص لا يَعْرفونَ ماذا يعني الصومِ مع أنهم يَدْعونَ أنفسهم مسيحيين …!
لقد شَعرتُ بالجراحَ التي يعانيها المَصْلُوبينِ نتيجةَ الظلمِ والقسوةِ على مدى الأزمنة بعيدا عن أوطانهم، الذين يُبعدون إلى أماكن الإيواء. لقد شَعرتُ بألأم جراحِ أولئك المُزدَرى بهم والمَرْفُوضِين والمحتقَرين من قبل ذويهم الذين أَرسلوهم إلى تلك الأماكنِ تحت تأثير أنانيتِهم … وتلك الأصواتِ الصامتة وحّدتْ نفسها بصوتي, قائلة : إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ أنك لَمْ تَخْلقْ الحدودَ. أنت لَمْ تَصْنعْ السجونَ. أنت لَمْ تُردْ مجتمع من قلة غنية وآخرين بكثير من التهمّيشِ …
في ذراعي ورجلِي أحسستُ بالألمَ الذي يشَعرَ به المُعاقينِ. في رأسي، أشعرتني الأشواك بما يعانيه ناقصي العقل أَو المرضَي الذين يُهانون عديد مِنْ المرات من قبل رفضِ حتى عائلاتهم. إن صراخ هؤلاء الناسِ اتحد بصراخي قائلين ' لماذا تَسْمحُ لهم يا أبّي أن يسُخْرِوا مِني، أن يهمشوني، أن يغلقوا علي الأبواب، إنه لم يكن خطأي أَن أكون في هذه الحالةِ …؟ ألا يَعتقدون بأنّهم كان ممكنُ أَنْ يَكُونوا مثلي ويَحسّون بنفس شعوري؟
لقد شَعرتُ في قلبِي بالألم الذى يَشْعرُ به شخصَ مسنَ عندما يُهمَل من قبل ذويه وكذلك من قبل الآخرون عندما يُتركُ في بيوت المسنين تحت رحمة المشرفين وأيدي الغرباءِ. متروك لأن يديه لم تعد قادرة الآن على العَمَل كي يَطعم عائلتَه أَو لأن أصدقاءَ أولاده وأحفادِه لا يَستطيعونَ أَنْ يَفْهموا إمكانيات الشخصِ المسنِ.
أنهم متعبين بالفعل من عدم منعه من الكَلام، لأنه قد يَقُولَ أشياءَ غير ملائمةَ، لأن ذاكرتَه لَمْ تعد تعملَ … في بَعْض الحالاتِ، يقتلهم أشخاص "رحماء" يشفقون عليهم كي يَوقّفوا مُعَاناتهم. وحينئذ تتحد أصواتهم مع صوتي قائلين ' إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تَسْمحُ لمن علّمتهم يداي ذات يومٍ أن يمَشوا، أن يلْقوني في الشارعِ؟ لماذا تَسْمحُ للآخرين الذين كنت سبب مكانتهم الحالية أن يشُعُروا بالاشمئزاز من فقرِي ومن ملابسي القذرة؟ أنهم يُذلونني، يَتباهون بشبابِهم وبغناهم. لماذا يريد ابنِي أنْ يطبق على موت الرحمةَ ليقصر أيامِي ويَزِيد من دينونته في الجحيم؟
لقد أحسستُ في بَشَرَيتِي بالإحساس الحْارِق لكُلّ أولئك الذين سَيُحجّمونَ لأنهم ينتمون إلى جنس مُعين وأنه لنفس السببِ، سَيُجبَرون أن يضْعوا أنفسهم في نفس شروطِ الكلاب, حيث التجوال مقيّدُ لأجزاء معيَّنِة فقط من البيتِ. إن أصواتهم، ممتلئة بالعجزِ والألمِ، تصْرخُ بجانب صوتي : إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تَسْمحُ لإنسانِ آخرِ، َرُبَّمَا يكون أكثر شرّاً مِنْي، رُبَّمَا يكون غير مخلص أكثر، رُبَّمَا يكون أقل ذكاء، بغرائز أكثر شبها بغرائز الحيوانات أكثر من كنوها تشبه غرائزنا، أن ينزل نفسه مِنْ حالتِه الإنسانيةِ وأن ينزلني مِنْ حالتِي كإنسان لأنني ليس لدي بَشَرَةُ مثل بشرته؟
لقد أحسستُ بحزنَ كُلّ أولئك الرجالِ والنِساءِ، الذين عند لحظة موتِهم، يَجِدون أنّهم كَانوا مخطئينَ. بأنّ حياتهم كَانتْ ضياع مستمر في الخطيةِ، في الملذّاتِ وفي رفضِ الرب وبأنّ دينونتهم وشيكةُ … لأنهم خسروا الأبدية، قايضوا بها لكونهم عاشَوا بطريقَتهم الخاصَة عدد من السَنَين! يا له من ألم! …
بيد أنّي أحسستُ بألمَ أولئك المسيحيين الذين يكتشفون أيضاً، عند لحظة موتِهم، أنّهم كَانوا غير محقّينَ: لكونهم صدّقوا وأرضوا أنفسهم وعِاشوا بافتراض أنهم مسيحيين صالحين، بمعنى آخر، أنهم مارسوا عديد مِنْ الأمور لكن أهملُوا أمور عديدة آخري. إهمال نقل معرفتِهم إلى الآخرين، معتقدُين بشكل أناني أنهم يُنقذَون أنفسهم، متجاهلُين ما يَحْدثُ لجيرانهم الذين يَعِيشُون بدون أي معْرِفة عن الرب. وكلتا المجموعتين مدانة, أولئك الذين لَمْ يُريدوا معْرِفة الرب, وللذين امتنعوا عَنْ إشراكهم في إيمانِهم، لكونهم لم يكونوا من حاملي الرجاء للباقين!
لقد أحسستُ في كُلّ سنتيمتر فى جسدِي، بألم كُلّ طفل قَتلَ داخل جسدِ أمِّه. وبراءتهم انضمّتْ إلى صيحتِي مِنْ انعدامِ قوّتي البشريِة صارخا: إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تُجيزُ لهذه المرأةِ، التي تستطيع أَنْ تَحْتضنَي في ذراعيها، أن تدفّئُ جسدَي الصغيرَ، أن تحُكْم علي بألا أري نور النهار وتحُكْم على نفسها بألا ترى نور السماءِ؟
هكذا، متأمّلا جراحَي وجراحَ الإنسانيةِ، فكّرتُ فى يهوذا وفى كُلّ الخونة، وأيضاً، فى كُلّ الذي سَيُخانوا من قبل أصدقائَهم، مُباعين بثلاثين قطعة نقود من جهنم : من أجل موقف اقتصادي أفضل؛ من أجل مقايضة لسلطةِ أكثرِ، لكي يَسْمحَوا لكبّرِيائهم بالظُهُور على السطح؛ من أجل الحسدِ الذي ممْكِنُ أنْ يُرْوَى فقط بتَكذيب الشخصِ المحَسودَ؛ من أجل الطموحِ لامتلاك ما لا يُمْكن أنْ يُمتَلكَ …
بعد ذلك أحسستُ بنداءَ أولئك الذين يَشْعرونَ بقبلةَ الخيانة على خدِّهم، كرائحة كريهة، كما أحسستُ بقبلةَ من كان ذات يومِ أَخَّي الحبيبَ. في تلك اللحظة صَرختُ بكُلّ قوّتِي " إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني " ؟
إن الرمز الأكثر جدارة بالإعجاب في الإنسان فيما يتعلق بإنسانَ آخرَ، هو ألقدره على الإحساس بأنّ ذلك الأخر لهو صديق قَريبِ بما يكفي أن يَتلقّى مِنْه النصح أَو التحذير بحبِّ، عالما بأنَّ المرء يعطي ذلك بحبِّ إلى الصديقِ إلى حدّ القدرة على تَقويمه بإخْباره، ' لَيسَ ذلك الطريقِ يا أخي، لأنك فى طريقك لارتكاب خطأ ' وإلى حدّ القدرة على فَهْم أحدكم الآخر بنظرةِ واحدة، بابتسامة وأنْ يَكُونَ كل منكم قادر على دَعْم الآخر من خلال المصافحة التي تعْني، ' ها أَنا هنا، يُمْكِنُك أَنْ تَعتمدَ علي دائماً '.
الصديق هو الذي يُزعجُ نفسه، الذي يَحْرمُ نفسه مِنْ شيءِ أَو من عديد مِنْ الأشياءِ ليقدمها لك. الصديق هو الذي يَتخلّى عن وقتَ راحته من العَمَل من أجلَك. الصديق هو مَنْ يَسْتَطيع فى لحظة أن يَتخلّى عن راحةَ بيتِه لِكي يَجْعلَك تَبْدو مرتاحَ ومحبَّوب ويقدّرَك حق قدرك. الصديق هو ذلك الذي يَتْركُ أرضَه ليسَاعَدَك فى إنقاذ أرضك. الصديق هو الذي تعْهدُ إليه بحُزنَك وبفرحك، أنه صريح دائماً مَعك ويأْخذك دائماً نحو النمو في الإيمانِ وفي محبِّة الرب. الصديق هو الذي يَبْني، الذي يَوحدُ، الذي يَجمّعُ … لَيسَ الذي يُمزّقُ، الذي يُحطّمُ، الذي يُسقطُ، لكي يستطيع أَنْ يَجْلسَ على قمةِ الأنقاضِ. الصديق هو الذي يَبذل حياتَه من أجل أن ينْقذك … كما فعلت أنا .
ولأني أَنا صديقُ البشر، كل جرح مِنْ هذه الجروحِ هى جراحي التى نلتها، أنها تثيرُ شفقتَي وتدْفعَني للبَحْث عن الدواءِ المناسبِ. أَقْصدُ أن أقول بأنّني لدى ذاكرة جديدة وواضحة جداً عن كُلّ ظلم، عن كُلّ إهانة، عن كُلّ ' قبلة زائفة '، عن كُلّ إذلال …
كلا، أنى لا أَنْسي الذين تنسونهم أيها البشر! أن أصغي لمن لا تصغون إليهم لأن ضجيجَ نفوسكم يَمْنعُكم من امتلاك السلامِ للإصغاء للآخرين ولفَهْم ما تُعنيه تصرفاتِهم، بغض النظر عن كَمْ غيْر منطقيين قَدْ يَبْدونَ لكم!
أنى أَضِعُ بشكل حلوّ في قلبِي القدّوسِ، أولئك الذي تَتْركُونهم متروكَين بقسوة على الطريقِ، أولئك الذين تَفترون عليهم، أولئك الذين تُدمّرُونهم مُحَاوَلَين بُلُوغ ما يمتلكونه، ألا وهي التطويبات ! "
وضّحَ لي السيد المسيح في يومِ آخرِ أننا لا نرتقي جميعا نحو القداسةِ من نفس الطريقِ، أنه بينما يكون على البَعْض أَنْ يَكْدّوا للقداسة من خلال مذلِتهم، إلا أن آخرون يَجِبُ أَنْ يَكْدّوا لها من خلال فرحهم. مع أن البعض يَجِبُ أَنْ يَكْدّوا للقداسة من خلال فاقتهم للأملِ، وآخرون من خلال مقاومتهم لطباعِهم وآخرون بمقاومة خُيلائِهم، إلا أن آخرون ينبغي أن يكدوا من خلال قوّتِهم كي تَنكسرَ القيودَ التي تَرْبطُهم ببَعْض الرذائل . . . بكلمة أخرى، علي الإنسان أن يسعي للقداسة من خلال مَنْفَذه الخاص.
قال الرب لى أنه فى كُلَّ مَرَّةٍ نَبْدو متورّطينَ فى طريقِ ما، يَجِبُ أَنْ يكون لدينا تحليلُ يُساعدُنا أن نَرى بوضوح الموضع الذى وَضعتنَا رغباتَنا فيه. أي أشياء تُزعجُنا أكثر، أَو تُبعد سلامَنا، فرحنا. في أي أشياءِ، وفي أي لحظاتِ، نٌَصْدمُ بأعظم التجارب …
لقد تَكلّمَ معي حول التجارب التى أختبرها بعْض الأشخاصَ الذين كُانوا قريبين منه. تَحدّثَ عن تجربة الشك الذى عَانى منه الحواريين عندما اختبروا لحظة الخطرِ عندما كانوا فى القارب. لقد اعتقدوا أنَّهم يَغْرقونَ وغير قادرين على إنْقاذ أنفسهم لأن من يستطيع أَنْ يُنقذَهم، كَانَ نائمَا.
تَكلّمَ معي عن تجربة بطرس لقلةِ إيمانه عندما بَدأَ يغَرَق في الماءِ في اللحظة التى شك فيها بقدرته على المَشي علي الماء ليجيء إلى سيدِه.
تَكلّمَ معي عن تجربة يعقوب ويوحنا، عندما كَانوا يَناقشون، مُتَلَهِّفين لمعْرِفة، من سيَجْلسُ على يمينه، هكذا سْمحُوا لتجارب الحسدِ والخُيلاء والرغبة للسلطةِ أن تجعلهم فريستهم.
لقد تكلم عن التجارب التى عَانى منها الكتّبِة والفريسيين: الحسد والخوف والكراهية التى أحسوا بها ضدّه. المشاعر التي وجّهتْهم لوَضْع الأحجارِ في طريقِه، لكي يَتعثّرُ ويَسْقطُ، لكي يستطيعوا جميعا أَنْ يَنهالوا عليه ويضَربَونه. أخبرَني كيف أنهم كانوا يَطْلبونَ مِنْه إجابة الأسئلةِ لاصْطياَده في خطأ كي يحُكْمون عليه من أجوبته.
تَكلّمَ معي عن تجاربه الخاصةِ أثناء الأربعون يوما التى صامَها في البريّةِ. وكَيف بصلاتِه ورفضِه للشيطانِ كَانَ قادرا على التَغَلُّب عليها.
أني أستطيع أَنْ أُدوّنَ بِضْعَ صفحات تَتعلّقُ بكُلّ ما استمرَّ بإخْباري به عن ذلك, لكن في كُلّ الحالاتِ، الرسالة الأساسية كَانتْ واحدة وهي أنّنا نستطيع التغلّبَ على التجارب فقط من خلال الصلاةِ وبمناشدة أن نفعل إرادة الأبِّ حقاً.
قَدْ أُكْمِلَ
تَكلّمَ يسوع بمثل هذا عندما نَطقَ بكلمتَه السادسةَ.
عندما قُلتُ قد أكمل، لخّصتُ بهذه الكلماتِ كُلّ ما كانت أفكاري تَقُوله إلى الأبِّ. إن تحقيق إرادتكِ قد اكتمل، أبتاه … لقد جِئتُ إلى العالمِ من قبل رحمِ العذراء، في جسدِ طفل صغير. صرت إنسانا مثل كُلّ الهالكين الآخرين كي أنقذهم …
إن كُلّ النبوات قد تحُقّقَت فيّ: لقد ولدَت في بيت لحم؛ عِشتُ كالفقراءِ؛ كَانَ عِنْدي إنسان عمّدُني؛ بشّرتُ باسمِكَ. أنك أرسلتَني وأعلنتُك كمَحَبَّ وشفوق كما أنت حقا. عَانيتُ الاضطهاد. لقد أتيتُ كطبيب للجسدِ والنفس، وشفيت كثيرَين كَانوا مرضى. كنت مُخان من قبل صديق مقرّب جداً، وخُنتُ مقابل ثلاثون عملة معدنيةِ عديمة القيمةِ … لقد أتيتُ لأبَرْهَنَ لهم بأنّ من يؤمنُون بك وبيّ لَن يموتوا، وأقمت كثيرَين كَانوا مَوتى.
" قد أكمل " لقد أتيتُ لأنقذ الخطاة، وها هى واحدة منهم مُقيدةَ إلى صليبِي. أنها بجانب أمَي، وتَبْكي بدافع الحب لَك وبدافع الحُزنِ لي. لقد أحضرت لك لصّ، كي يَفْتحُ أبوابَ الفردوسِ لكُلّ الخطاة الذين يُريدونَ النجاة … قد أُكمل …!
كُلّ النبوءات قد تحُقّقتْ فيّ. أنها تبْلغ أكثر مِنْ عشرون نبوة عن فترةِ آلامِي ومعاناتِي… ها أنا أَتْركُ أمَّي كأمّ لكُلّ البشر، حتى لا يَشعرون أنهم أيتام، وها أنا أَتْركُ التلميذ الكاملَ الذي أعطيتَني إياه لأمّي، في أيدي أولئك الذين سَيَحبّونَني على مدار القرون.
قد أكمل يا أبتاه …! كُلّ شئ قد تم على أكمل وجه, لقد حقّقتُ إرادتكَ! ها هم البشر قد رأوا النور. وعلى الرغم من أنّهم لمَ يميزوه، إلا أنه سَيُنيرُهم على مدى كُلّ تاريخِ الأرضِ. لقد أديت واجبَي نحوك يا أبّتاه؛ بقهر الحية، فَتحتُ الأبواب إلى السماءِ.
تذكّرْي يا بنيتي أيوب عندما يَقُولُ " يَرْتَعِدُ قَلْبِي وَيَثِبُ فِي مَوْضِعِهِ. فَأَنْصِتْ وَأصْغَ إِلَى زَئِيرِ صَوْتِهِ، وَإِلَى زَمْجَرَةِ فَمِهِ. يَسْتَلُّ بُرُوقَهُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ السَّمَاوَاتِ وَيُرْسِلُهَا إِلَى جَمِيعِ أَقَاصِي الأَرْضِ "
لقد أكمل على نحو مثالي. لن يحدث مرة أخرى مطلقاً أن يكون على الإنسان أَنْ يَخْشي إله العدل، الذى صوّرَ بإصرار أنه هكذا بسبب ثقافةِ بعض الناسِ، مِن قِبل أشخاصِ عاشوا أثناء أزمنة التحذيراتِ … لقد أتم الأبن واجبَه أيها الأب, وعلى الرغم من أنَّي يَجِبُ أَنْ أَرجع إليك الآن، إلا أن الكنيسة سَتَكُونُ ولدت مِنْ جنبِي المفتوحِ، وأبواب الجحيمِ لَنْ تَقوي عليها
أنها سَتكُونُ كنيسة مقدّسة، مؤلفة مِنْ أناس قديسين وخطاة. لكن، وسط القذارةِ، نتيجة البؤسِ الإنسانيِ، عديد مِنْ الرجالِ والنِساءِ سَيَحفظون نذورَهم ووعودَهم، وسَيُشرقُون كالنجومِ … أيضاً، لَنْ تَفتقد هذه الكنيسةِ للحُزنِ، للخيانة، للخطيئة … تَعْرفُين بأنّ الكُلّ تلوثُ، والكُلّ يَجِبُ أَنْ يسلكوا من خلال جثسيماني والجلجثة. لكن المخلصين سيبقون، ذلك الجزء من قطيعِ هذه الكنيسةِ، الذى أُطهّرُه من الآنَ فَصَاعِدَاً بكُلّ قطرة من دمِّي، سَيصِلُ إلى جبل تابور لكي يُتجلي.
لقد أكمَلُ يا أبّتاه كُلّ ما كَانَ لابد أَنْ يُتمََّ، وكُلّ ما يجب أنْ يُتمََّ، بما فى ذلك ساعاتِ الظلمةِ التي سَتُخيفُ إنسانَ كثيراً؛ لأنه ضروريُ أن يدخل إنسانَ الظلمِة العالمِ ويشن حربا ضدّنا: ضدك وضدي. لكن ستَظْلُّ مريم يا أبي معاونتكَ الكاملة، وهي سَتَحفظ كلمتَكِ.
لقد عَانيتُ كُلّ شيءَ في جسدِي. لقد تَحمّلتُ كُلّ شيءَ بحرية. ليس كفرضِ من جهتك، بل لأني أردتُ أَنْ أفعْلُ ذلك، من أجل حبِّي لك وللإنسانِ.
قد أكمل، والآن يَجِبُ أَنْ أُرجعَ إليك يا أبتاه. لكن تذكّرُ بأنّني ائتمنتُك على أولئك الذين لي، لكي لا يُفقد واحد منهم …
أَعْرفُ بأنّ أولئك الذين بعد أن أقسموا لى بيمينَ الوفاءِ، سيَذْهبُون خلف ملذّاتَ العالمِ وسَيَفقدون، أولئك الذين، بَعْدَ أَنْ كرّسَوا أيديهم ليقدموني ويعطوني كطعام للرجالِ والنِساءِ، سَيُلوّثُون تلك الأيادي بإحْزان الأبرياءِ وسَيَفقدون، سَيكون عِنْدَهُمْ حينئذ بالتأكيد حبل مَع حجر رحّى مقيّدَ حول رِقابِهم، لإلْقاء أنفسهم في أعماقِ نهر الحممِ.
سَيَُفقد، أولئك الذين، لكونهم غير قادرين على حَمْل الأعباءِ الثقيلةِ، سَيُزيلونَها ويضعونها علي ظهورِ الضعفاءِ، كي يَسْحقَونهم. سَيَفقد، أولئك الذين كونهم عميان بسبب كبريائِهم، لَنْ يَروني بعد في الشعبِ المتواضعِ والبسيطِ. سَيَفقد، أولئك الذين، بَعْدَ أَنْ تَلقّوا المزيد، سَيَكُونوا مسئولين عن المزيد .
لكن أولئك القادرين على البُكاء بالتَأَمُّل على الألمِ الذي يَغْمرُني الآن، أولئك الذين برُؤية امرأة مسنّة ترتدي الأسمال، يَعطونها قبلة على الخدِّ كعلامة الإخوّةِ والمساواةِ، أولئك الذين مع كونهم قادرين على النَوْم على فراش، يَنَامُون على الأرضِ، كي يَكْبحَون جسدهم كعلامة إصلاح من أجل حبِّنا …, أولئك الذين يميزون نظرتَي في أعين المهمّشينِ، يميزون ابتسامتي النقية في ابتسامة الأطفالِ، يميزون صوتي وسط ضوضاءِ وقلق العالمِ، يميزون دموعي في دموع الخطاة التائبينِ …
أولئك الذين يَعْكسونَ يداي في العفو، أولئك الذين سَيسِيرُون على خطاي كمبشّرين، يفتحون نوافذ الأملِ لزرع بذرتِي، غير واثِقُين فى قدراتهم بل في عنايتي الإلهيّة فقط …, أولئك الذين يَجْعلون أنفسهم كأطفالَ صِغارَ، إلى درجة أنّ براءتهم ونقاوتهم تَقُودهم أن يؤمْنوا ويثُقون بالكامل فى حضورِي القويِ …
أولئك الذين ترغب شفاهِهم أن تقدم دائماً ابتسامة, عفو, بركة , لوم لطيف أَو تصحيح أخوي … أولئك الذين لَنْ يَتردّدَون في إعْلان رسائلي, رسائل النجاة, بقوّةِ، بدون أَنْ يُخْشَوا أَنْ يَكُونَوا صامتين، وقادرين على تحمل الضرب، الشرّ، الافتراء، الإهانات بدون أن يدافعوا عن أنفسهم أَو بدون أن يُضمرُوا رغباتَ حقودةَ …, أولئك سَيُنقذُون لأنهم بين أولئك الذين دْعوتهم خاصتي، والذين ائتمنتك عليهم، الذين على الرغم من كونهم في العالمِ إلا أنهم ليسوا مِنْ العالمِ … كي لا يُفقدون …"
الكلمة السابعة
أَبتاه، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي!
بعد أن تَأمّلَت فى كلمةِ يسوع السابقةِ على الصليبِ، فْهمُت بأنّ الصليب سَيَتْبعنا جميعاً كمسيحيين، كما لو أنَّه جزء من وجودِنا. لَكنِّي حُذرت أيضاً بأننا لَسَنا جميعا قادرون على اليقظة، على دَفْن يسوع الذي سيَظْلُّ نائماً داخلنا.
يَعِيشُ العديد مِنّا معتِرضاً على الصليب سواء كان صغيراً أَو كبير، معتقدُين بأنّ نصيبنا من الحياةِ هو النصيب الأكثر حزناً، الأكثر ألماً، أنه ليس أحد سوانا قادر على حمله … وأسوأ شيءِ أننا نعتقد أنّ الرب قد تَخلّى عنا وأنّه لا يَسْمعُنا، أَو أنّه غاضبُ مَنا.
لَكن الأمر لَيسَ كذلك. يَقُولُ السيد المسيح بأنّ المعرفةَ التي لديه عنّا، خصوصاً عن الأكثر حزناً منا، أولئك الذين يتحمّلُون أكثر، الأضعف، تجْعلُه يَحبُّ بالأكثر الأفقر وأولئك الذين يَحتاجونَ إليه أكثر.
لو أدركنا حقيقة أنّ الأشخاصِ الأكثر احتياجاً ليسوا بالضرورة هم أولئك الذين في فقرِ، بل هم عُموماً أولئك الذين لديَهُم كُلّ شيء ماعدا الرب؛ حينئذ، ستقودنا طرقنا إلى أولئك الأشخاصِ الذين، بالرغم من غناهم، إلا أنهم في الحقيقة في عديد مِنْ الحالاتِ، أفقر.
ليس من الصّعبِ الوصول للفقراء ولا نُصْحهم بأن يضْعوا ثقتهم في الرب، فأن هؤلاء الأشخاصِ عادة ما يكون لديهم قلبَ مفتوح جداً نحو الإيمان. وببضع كلمات أَو بأي بادرة بسيطة مِنْ الحبِّ يكون فيها ما يكفي فى أغلب الأحيان لإظْهار الطريقِ لهم إلى الأبِّ. الذين من الصعبُ عليهم أَنْ يتغيّروا َهم أولئك الأشخاصِ الذين عِنْدَهُمْ كُلّ شيءُ، أَو الذين جعلوا من الخطيةِ سببَ لحياتِهم واقتنعوا بشكل مباشر بأنّهم لَيْسَوا بحاجةُ لأي شئ آخر.
هذا العملِ هو الأصعب للمبشرين. عندما يُواجهونَ الكبرياءِ، أنه مثل التعامل مباشرة مَع رئيس هذا العالم الذى يختبّئُ بمكر داخل بَعْض الناس الفقرِاء على الرغم من كونهم أغنيُاء، لكنهم في حاجةِ أن يحبوا الرب.
كم هو مفيد لنا أن نتأمّلُ من وَقتٍ لآخَرَ، على آلامِ السيد المسيح، على حُزنِ العذراءِ الكلية القدّاسةِ، التي قَاست بجانبِه استشهادَ الشهدِاء، برؤية ربها وابنَها مسمّراً على الصليبِ فى الجلجثةِ من أجل البشر.
وعلى الرغم من ذلك، فهي تَستطيعُ أَنْ تَتْركُ لنا أعظم الشهاداتِ، لأن بحبِّها اللانهائيِ وطاعتِها المُطلقةِ للأبِّ، تَحمّلتْ بتواضعِ الألمُ القاتل, برُؤية ابنِها يموت وسط الآلامِ المروّعةِ. علاوة على ذلك، تَرأّستْ البشرية، وصارت أمَّنا. بكلمة أخرى، اختارتْ طوعاً أَنْ تُظهرَ فينا حبِّها لأبنِها. لقد كَان عليها أَنْ تَعاني كخاطئة بجانب ابنِها، مع كونها بريئة مثله وكُلّ هذا، كي تتحقق فيها إرادة الأبِّ أيضاً.
قال السيد المسيح أنّه بسبب هذه اللحظةِ المأساويةِ اعتبر القلبان متّحدان كُلّ منهما بالآخر. لأنهم اتّحدا مع بعضهم البعض من خلال الألمِ, لقد كانا قلباً مجروحاً واحد في الجلجثة؛ كانا قلبان اندمجا معا لكي يحوّلا أنفسهم إلى قلب واحد؛ يشعر كل منهم بمعاناة الآخر، قلبِ واحدِ يحس بالحب لأجل طَاعَة الأبِّ، ومن أجل خلاص البشر.
أنى أَرى نفسي مرغمة أن أَوضح شيئاً للقارئَ، قَدْ يَبْدو في بادئ الأمر ذو أهميَّة قليلةَ، لكنه مع ذلك، يَتضمّنُ تعليم حاسم مِنْ الرب لنا جميعاً.
عديد مِنْكم يا إخوتي وأخواتي الأعزاء، لا بدَّ وأنْ يتَعجّبَ لماذا تظهر قائمة الوصايا العشرةِ المُعطاة إلى موسى على الغلافِ الأماميِ لهذا الكتابِ. لكي أقربَ الموضوعَ، يجب أولاً أَنْ أَجْعلَ الأمر واضحاً لكم أنّني لم أختار عنوانَ أيّ من هذه الكُتُبِ. وكي اختارَ الغلاف الأمامي، تنَشْغلُ مجموعة الصلاة في صلاةِ حارة، نطْلبُ مِنْ الرب مُسَاعَدَتنا في الاختيارِ.
قال لى السيد المسيح ذات مرة " إن ظلمة العالمِ تقتربُ، لَكنَّ من يعيش مُحتضناً الصليبَ لَيْسَ لديه ما يخشاه. لذا، لا يَجِبُ على الإنسان أنْ يُقتَنعَ بالنظر فقط إلى صورةِ لي، أَو أن يذْهبُ إلى موكب الجمعة العظيمةِ. لَكنَّه يَجِبُ أَنْ يُحاولَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نفس مشاعرُي, أن يغُفْر كما غَفرتُ أنا له وأن يسُأل الصفحِ كما فعَِلتُ أنا له؛ أن يظل صامتِا تجاه التعليقاتِ الشائنة، كما فعلت أنا أمام بيلاطس، ومع ذلك، ينبغي أن يشعر بمثل هذا الحماسِ والشجاعةِ وأن يصبح قادراً على طَرَدَ الصرّافين خارج هيكلِ الرب بسوط؛ أن يحيا ليَعمَلُ إرادة الأبِّ كما فعَلتُ أنا؛ أن يُحب كثيراً لدرجة أن يَبذل حتى حياتَه من أجل الآخرين؛ وأن يسَمح لجسدِه أن يُسْحَقَ، وبفرحِ، أن يهْب نفسه كطعام، لكي يستطيع الآخرون أَنْ يَتغذّوا على ذلك الخبزِ."
مباشرةً بعد صلاتِي بينما كنت أتأمّلُ، كُنْتُ أُفكّرُ فى موسى. أنى مُعجبة دائماً بمهمّتِه وبحياته … فجأة ذلك الفضاءِ, الذي ينفْتحُ عديد مِنْ الأحيانِ لكي يسْمحَ لي بمُشَاهَدَة مشهد بعيد، فَُتحَ أمام عينيي. كان أمامي مشهدَ التجلي، وبرؤيته تَسائلتُ: لماذا موسى وإيليا؟ اعتقدتُ بأنّ إيليا كان هناك لأجل قوّةِ "النبي الناريِ" التي يحتاجها يسوع كإنسان، لمُوَاجَهَة ما كان عليه أن يَحياه .
لكن رؤية موسى، أنا لم أَستطعُ أَنْ أَكتشفَ بمعرفتِي المحدودةِ، ما كان يَفعْله هناك. أحسستُ كما لو أنَّ النور التفَ داخلي، وضمن ما اعتبرُته بضع دقائق، تَحرّكَت أمامي عشرات من الصورِ، في مجموعاتِ, كل مجموعة تتكون مِنْ صورتان.
موسى يَخْرجُ مِنْ مصر وحده … وبعد ذلك السيد المسيح يعتمّدَ في الأردن.
موسى يَهْبطُ الجبلَ بعد أن تَلقّى مسؤوليةَ أَخراج شعبِ الرب من عبوديةِ فرعونِ … وبعد ذلك السيد المسيح يختارُ رسلَه الأثنى عشرَ، يعلم ويُشفي ويُسامح ويعيش بين شعبهِ.
موسى يُخرجُ شعبه من مصر … وبعد ذلك السيد المسيح يَعِظُ ويدعو إلى التوبة وإعلانِ ملكوت الرب على جبلِ التطويبات.
موسى يعبر البحر الأحمرِ … وبعد ذلك السيد المسيح يهب النظر للأعمى والنطق للأخرسِ والمشي للكسيح ويقيم المَوتى.
موسى يَأْكلُ مع شعبهِ المنّ الذي يرسله الرب مِنْ السماءِ ليحفظهم مِنْ المَوت جوعاً فى مسيرتهم نحو أرضِ المَوْعُد … وبعد ذلك السيد المسيح مَع تلاميذه، يتَعشّى لآخر مَرّة مَعهم ويَؤسس العشاء الربانى كي يَبْقى مَعنا، يَعطينا جسده ودمَّه كي يَغذّيانا ويُنقذنا مِنْ الموتِ الأبديِ.
لَكنِّي لاحظتُ بأنّ السيد المسيح، في تلك اللحظة، لم يكَنَ بمفرده مَع رسلِه، فَجْأة أصبحت الغرفة ضخمةً. لقد شملت كُلّ ما تستطيع عيناي أن تراه. لقد رَأيتُ مَعه بَعْض الأشخاص الذين يَجْلسُون علي كراسيِ المعوّقين بجانب الرسلِ، والباقين كَانوا يقِفون خلف السيد المسيح وتلاميذه, مِئات بل آلاف من الكهنةِ، يرتدون التونيات البيضاءِ والشالاتِ الحمراءِ. يمدّون أيادّيهم اليمنى تجاه المكانِ حيث كان السيد المسيح يَرْفعُ الخبزَ. لقد كَانوا يُرددون مَع الرب كلمات التكريسِ.
قال لى السيد المسيح : " اعتنوا بإخوتِي، لأن من خلالهم سَأَبْقى مَعكم إلى الأبدِ."
بعد ذلك رَأيتُ موسى ثانيةً على جبلِ سيناء، حافيا، كما طُب مِنه الرب. لقد كَانَ على رُكَبتيه، مرتِعدا بتَأَمُّل إصبعِ الرب يُدوّنُ الوصايا العشرةَ للبشر… وبعد ذلك، رَأيتُ السيد المسيح ثانيةً في بستان جثسيماني، على رُكبَتيه، ينَظْر آثامنا ويأخذها على عاتقه، يَتأمّلُ الألم الذي كَانَ عليه أَنْ يَتحمّلَه من أجلنا، رجالا ونِساءاً، مرتجفا بعرِّق دموي.
مرةً أخرى كَانَ العشاء الأخير أمام عيناي، السيد المسيح مَع رسلِه وكُلّ الكهنة الذين كانوا يُكرّرونَ معه كلماتَ التكريسِ. نظر نحوي يسوع للحظة وقُال لي: " أَنا هو خبزُ الحياةِ، وهؤلاء سَيَكُونُوا من يَعطونَني للإنسان، كطعام للحياةِ الأبديّةِ."
كَانَ جسدي يَرتعدُ بالكامل في تلك اللحظة، بسبب عظمة ما كُنْتُ أَراه وأَفْهمه. غَطّيتُ وجهَي بيدي وبكيت … وبعد بَعْض الوقتِ، ربما دقائق، التي بَدتْ لي كساعاتَ، رَفعتُ رأسي ورَأيتُ المشهدَ السابقَ ثانيةً.
رَأيتُ موسى يَرْفعُ راية عاليا بحية ملتفة، لكي يَشفي بها أولئك الذين لُدِغوا من قبل الحيّاتِ … وبعد ذلك رَأيتُ السيد المسيح، مرَفوعَ هناك أمامي على الصليبِ، لكي يَشفي نفوس أولئك الذين سَيُلْدَغونَ من قبل الشيطانِ ويتسمّموا بالخطيئةِ.
قال الرب لى : " تذكّري ما أخبرتُك به في البِداية بأن أزمنةِ الظلمةِ تَقتربُ مِنْ البشريةِ، أزمنة سَتَهتز فيها المؤسساتَ ومَعها الشعب, كنيستي يَجِبُ أَنْ تعبر هذا الطريقِ المؤلمِ أيضاً، ولقد بَدأتْ عبوره بالفعل لأنه مكتوبُ: ' سَيَُضْربُ الراعي وستتشتت الخِرافُ ' … لكن تذكّري أنّني غلبت العالمَ."
تَأمّلتُ العشاء الأخيرَ ثانيةً أمامي. تجلى وجه كُلّ أولئك الكهنةِ كوجهِ السيد المسيح. بعد ذلك كانت هناك ظلمةُ شاملةُ أمامي، وسَمعتُ صوتَ إلهنا حَزينَ جداً بينما يقول : "يهوذا، ما أنت فاعله، أفعله الآن …! "
عادتْ الصورة، لكن الآن مَع صورة أحد التلاميذ، أنصرف عديد مِنْ أولئك الكهنةِ، يُدفعون أحدهم الآخر، يركضون، لَمْ يَعُودوا بوجهِ السيد المسيح المضيء والهادئِ، بل بوجوهِهم الخاصةِ، ممتلئين بالحزنِ والألمِ.
مِنْ بعيد استطعت سماع الضوضاءَ الصَارِخةَ لآلاف الأصوات المجتمعة، كما لو أنَّهم كَانوا يَرْكضونَ نحو منحدر ويَسْقطونَ. بخوف حولت نظرَي إلى أولئك الذين كَانوا مَع الرب. بدوا كأنهم لا يسمعَون ولا يرون أيّ شئَ، هكذا كَانَ انغمارَهم فى صلواتِهم، انغمارَهم فى اللحظةِ التى كَانوا يَعِيشونَ فيها، أن سلام المسيح مَنحَهم علاقة ملوكية، مثل علاقة الأمراءِ.
فْهمُت بِأَنَّ هؤلاء الرجالِ المُكَرَّسينِ، الذين مكثوا مَع الرب، كَانوا أولئك الذين سَيَكُونونَ مخلصون للاختيار الذي جَعلوا لَهُ. وهم أولئك الذين سَيَدْخلونَ إلى تلك المرتبةِ الإلهية لأنهم استحقوا ذلك الحقِّ. هذا لأن هذا الحقَّ من ثمارُ الوفاءِ، والوفاء من ثمارُ العلاقة الوثيقة، من ثمار المودّةِ. المودّة هى من ثمارُ بذل الذات، وبذل الذات هو من ثمارُ المحبّة الباذلةِ، التي تُعطي دون أن تسأل عن أيّ شئِ بالمقابل، لسببِ بسيطِ أنها تنشد سعادةِ المحبوبِ.
أخيراً ذلك النوع من المحبةّ هو من ثمارُ معْرِفة ذلك الذي سَتَكُونُ مخلصا له بقيّة أيامك، بدون السَماح لأن تتَلاشي رغبةِ استنساخه داخل نفسك، أنها عطية بالكامل منه، من الذى استسلمت له.
تُوقّفتْ تأملاتي فجأة عندما سَمعتُ الرب يُطلق صرخته الأخيرةَ مِنْ على الصليبِ، بين أنفاس مرهقة، كُلّ مرة تكُونَ بعد فترة أبعد:
أَبتاه، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي!
في كتابِ "العناية الإلهية "، الذي نُشِرَ منذ فترة، كَتبتُ عن موتِ أمِّي والتعزيات العميقة التى تَلقّيناها جميعاُ نحن الذين كُنّا حولها أثناء مُوتها.
لأولئك الأشخاصِ الذين لمَ يقرئوا الكتابَ، أَذْكرُ بأنّه كَانَ موت سالم وهادئ وسعيد، لشخص يحْتَضر له ثقة تامّةُ في محبِّة الرب، لشخص مُتَلَهِّف للرحيل ومُلاقاة الرحمةِ، الذي كَانَ يَنتظرُها على الجانبِ الآخرِ مِنْ فراشِ موتها. لقد استمرّتْ فى سُؤالنا عن الصلواتِ والترانيم، بينما هي، بعينيها الزرقِاء الكبيرِة المفتوحة تكرّر مراراً وتكراراً طلب يسوع : "أبّتاه, فى أيديكَ أُستودعُ روحَي! "
بينما كَانتْ تَمُوتُ، واصلت التَفكير فى موتَ السيد المسيح. . . الآن يَسْمحُ الرب لي, أنا الخاطئة، أن أشَهدَ لحظةِ موت السيد المسيح وبوسائلِه أستعيدُ لحظة موت أمي. كلتا اللحظتين كانتا متحدتْين بقدرته الكليةِ، وفي محبِّته. بِضْع لحظاتِ مِنْ حياتِي سَتُكون دوما بغاية التأثير، وصعبة جداً للوَصْف. . .
في الجلجثة، كانت السماء سوداءَ تقريباً، الأرض كَانتْ تَرتعدُ وكُلّ الناس بْدئوا يرَكْضون، يهُرُبون. البَعْض يصُرخ في خوفِ برُؤية الطبيعةِ تتزلزلُ، وآخرون يَبْكونَ، يستجدون المغفرةِ قائلين حقاً كَانَ هذا الإنسانِ أبن الربَ.
قال لى السيد المسيح " ها أنا أَرْجعُ إلى الأبِّ، وذات يوم, أولئك الإخوةِ الأشرار، الذين اتخذوا من مهمتهم عملا، سَيَفْهمونَ، المعنى الحقيقي لميلي لهم بمَنْحهم نعمةِ أن يَكُونوا قادرين على جَعْلي حاضراً في العشاء الربانى المقدسِ. . .
حينئذ، لَنْ يَستفيدوا من المذبحَ لكونهم يَعظون عِظة دينيّة سَُتربك بدلاً مِنْ أنْ تساعدَ الإنسان، عندما يعظون لأجل صنع سياسةِ أو لتَبرير الراتب, أَو ببساطة بكونهم " يُؤدّون خدمتَهم " عندما لا يكون بإمكانهم تَفادي ذلك. ويفعلون ذلك بينما يُراقبون الساعةَ كي يرحلوا بسرعة لأداء واجباتِهم الأخرى.
يَجِبُ أَنْ يوقّفوا انحدارهم إلى الهاويةِ ويُعترفْون بأنّ حبَّهم لأنفسهم أعظمُ مِنْ حبِّهم لى ولرْغبُتهم فى خِدْمَة الرب والإنسان. لأنهم بموقفِهم هذا يَطْرحونَ الثقةَ ويُثبّطوا عزيمة أولئك الذين، يُقرّرون الذِهاب ليلتقوا مَعي, على الأقل مرة كل أسبوع
مِنْ على صليبِي أَقُولُ لهم ولكم: لا تُعترضْوا على الطوائفِ لكونها تغلغلت بدون أن تسُألوا أنفسكم إن كان هذا عاقبة سلوكياتكم."
سَمعتُ تلك الكلماتِ ثانيةً، التي تُمثّلُ نهايةَ وبِداية كُلّ الأشياء: " أبّتاه، فى يديكَ أُستودعُ روحَي! "ورأس مُخلّص كُلّ البشرية تستندْ على كتفِه وصدرِه. ومَكثَ هكذا للحظة، قَبْلَ أَنْ تنَزلَ لتستِند بالكامل على صدرِه. فى تلك اللحظةِ، التي كَانَت ممكنُ أَنْ تَكُونَ لانهائية والتي أَعتقدُ أحياناً أنّها سَتعِيشُ معي إلى الأبد، كُانْتُ بالتأكيد حاضرِة إلى عينِاي وآذانِي عندما قالَ لي:
" إن جسدي تحطم بالكامل. لكن فرحَي كَانَ عظيما جداً بِحيث أنني، مِنْ على تَلِّ آلامِي، نَظرتُ إلى السماء وصَرختُ أن كُلّ شئ قَدْ تم على أكمل وجه، واستودعتُ روحَي ليدي الأبِّ المحبِّ.
تلك الروحِ، التي أُظهرتْ للإنسان فى يومِ معموديتِي في الأردن، تُرجعُ إلى الأبِّ مَعي لكي يكتمل الثالوث القدوس ثانيةً في المجد، وكما انفتحت السماوات ذلك اليوم لكي يُشع نور حبَّ الأقنوم الثالثِ الذي كان، كما يقول الإنجيل، علي شكلِ حمامة؛ الآن حجاب الهيكلِ، الذى غَطّي تابوت العهدِ، تمُزّق لكي تجوز الدينونة على أولئك الذين أدانوني. وذلك، حقاً، كَانَ مُرعِبَا لهم بسبب تراثِ ونوعيةِ أولئك الأشخاص.
إن مهمّة الكلمةِ انتهت، وَصلتْ المعركةَ الهائلةَ لنهايتها. أبن الإنسانِ كَانَ يَمُوتُ، بَعْدَ أَنْ اسْتَسْلم بحرية للحبِّ. لقد كُنْتُ أَضِعُ نفسي بشكل واثق في يدي أبي، بسلام، بعذوبة. يهوذا ماتَ مشَنْوقا قبل ساعات قليلة، في يأسِ، كما يَمُوتُ الجبناءَ والخونة، كما يموت أولئك الذين لا يَحبّونَ أبي ولِذلك فأنهم لا يَثِقونَ فى مغفرتِه."
فجأة عاد النور وتَلاشتْ الظلمة. برُؤية مفاجأتِي، تكلم السيد المسيح مِنْ على الصليبِ.
" هذا النور الذى رأيته منذ قليل، يَنهالُ على رسلِي لينيرهم ويسَاعَدَهم، كان من خلال روحِي، الذى كُنْتُ أَضِعه في يدي الأبِّ. أنه سيَجيءُ ليذكرهم بكُلّ ما سَمعوني أقوله وليسَاعَدَهم على جعل هذه المعرفةِ تَتغلغلُ فيهم بغاية العمق, كي تَسْمحُ لهم هذه المعرفة أن يكتِسبوا, من خلال قوّته, كُلّ الحكمة والقداسة الضروريتان، بالنسبة لي كي أمتد فيهم. بهذه الطريقة أواصل المسير بينكم، كي أواصل الإبراء، كي أواصل التطويب، كي أواصل الخلاص . . .
كُلّ هذا كَانَ لابد أن يُشاهد مِن قِبل شهودِ، كي تُفهم القيمة الحقيقية لتضحيةِ إنسان تَنازلُ عن حياتَه طوعاً، في هبة للإله وللبشريةِ.
لَمْ يُخبرْني الرب بهذا، لَكنِّي فَهمتُ أنّه كَانَ نفس الروحِ، الذي سيسْكبُ نفسه على ورثةِ الرسلِ، لأنه بطريقةٍ ما كَانَ يشير إلى الكهنةِ والأشخاصِ العلمانيّينِ الملتزمينِ. . .
ثمّ واصل السيد المسيح كلامه لي: " لقد نفّذتُ إرادة الأبِّ. ها أنا أُرجعُ إلى الأبِّ وأنتم، أنتم الذين أحبّبتموَني، سَتُضطَهدون أيضاً، سيفتري عليكم، سيسَاء معاملتكم, ستُهانون. لَكنَّكم لَسْتَم بمفردكم. أنى باق مَعكم، وسأَتْركُ مَعكم من هى أثمنُ شئ في حياتِي، أمّي، التي سَتَكُونُ من الآنَ فَصَاعِدَاً أمَّكِم."
بينما كان السيد المسيح يَنهي قوله هذا، رأيت جندي يقترب، وأَخْذ رمح، لقد هْمسُ بشّيء لم أَفْهمه تماماً. وبتعبيرِ ينم عن الشفقةِ بدا على وجهِه، طْعنُ جنبَ الرب، ونزلت كمية عظيمة مِنْ الدمِّ والماءِ، بللا وجهِ الجندي الذى غطّي عينَيه بيَدِّه وسقط على الأرضِ.
كَانَ صدر الفادى ممتلئ بالنور، في سيمفونية من الأشكالِ التي لا يُمْكن أنْ توْصَفَ. من ذلك الجنب المفتوح، جاء شيء ماً مثل الماءِ، لكنه مُنير جداً، بعد ذلك، أختلطُ الدمّ بذلك الماءِ. لقد بْدءا بفَتْح شقوقِ فى الأرضِ. وحيثما جرى الدمّ ، تَظْهرُ زنابقَ بيضاءَ بشكل رائع.
اختفي صليب السيد المسيح. أنى أَرى مكانِه الآن كنيسة ضخمة، وهذه الزهورِ تَدْخلها، كما لو أنَّها تنزلق. لكن مِنْ الجانبِ الآخرِ هناك كثيرين جداً مِنْ الشبابِ، يرتدون تونيات بيضاءِ، يَدْخلُون الكنيسة أيضاً.
فجأة، رأيت نفسي داخل تلك الكنيسةِ وكنت أَتأمّلَ: كُلّ تلك الزهورِ البيضاءِ كانت أمام المذبحِ، وتحوّلتَ الآن إلى شابّاتِ. وعلى الجانبِ الآخرِ شبابَ، يرتدون التونيات البيضاءِ. رجالُ ونِساءُ ساجدين في صلاةِ منسحقة، أياديهم ممدودة إلى جوانبِهم تُشكّلُ صليب. فْهمُت أنّهم النِساءَ والرجالَ الذين يُكرّسونَ أنفسهم، الذين يُسلّمُون حياتَهم إلى الرب.
سمعت كورس رائع، مثل الكورس الذى أسَمعه أحيانا أثناء القدّاسِ الإلهيِ، ورأيت السيد المسيح القائم من الموت، متمنطق بكل العظمة، كملك، وصنع فى الحال إيماءة وبدأ الشباب يقتربون مِنْه واحداً تلو الآخر. لقد كان يَدْهنُ أياديهم بنفسه، بينما كان يَبتسمُ بالحبِّ الذي أَراه أحياناً، في نظرة أَبّ، يَنْظرُ إلى أولاده.
نظر إلى السيد المسيح لبِضْع ثواني وبعد ذلك، قال لى بينما كان يسير نحو منتصفِ المذبحِ : “ من خلال رتبةِ الكهنوت، بسلطةِ الروحِ القدس، سَتَُغْفرُ كُلّ آثام الإنسانِ، وهم سَيَفْتحونَ أبواب السماءِ لَكم. . . لكني مُحب غيور، أطْلبُ منهم كُلّ إرادتهم. أنى أَتوقع كُلّ شيءَ مِنْ النفس طبقاً للمهمةِ التي دُعِيتْ إليها ذات يومَ وتتّوافق مع الدعوةِ بأن أُواصلُ الامتداد إليكم جميعاً، خلال أحوال كُلّ أيام حياتكم. ”
في تلك اللحظةِ، عادت رؤية موسى والسيد المسيح عَلى نَحوٍ رهيب. سَأُحاولُ وَصْفها بإخلاص بقدر ما أستطيع.
رَأيتُ موسى يقف على أرض مستوية على جبلِ سيناء. كَانَ يَحْملُ في كلتا يديه حجرين كبيرينِ ببَعْض النقوشِ عليهما. عْرفُت إِنَّهُمْ الوصايا العشرةَ. بأسفل كَان هناك الشعب وسطِ ضجيجِ كريهِ ومشاهدِ قذرةِ، لقد كان الشعب يَتمرّد. لقد بَدوا كوحوش أكثرَ من كونهم بشر. تحول وجهُ النبي إلى اللون الأرجواني تقريباً، مُتَوَهّجا. رَأيتُه يَتمايل يمينا ويسارا، وبعد ذلك يلقي كلا الحجرين علي الشعب بقوةِ وغضبِ.
كما لو أنّ مئات من الأطنان من الديناميتِ قد سَقطَ عليهم لأن عديد مِنْ الناسِ تبخروا وكثيرين مِنْ الآخرين ظلوا يتساقطون صارخين فى فتحة عظيمة في الأرضِ.
بعد ذلك، رَأيتُ السيد المسيح مرَفوعَا على الصليبِ، وخلفه، يوجد ملاكان هائلان بوجوهِ بغاية التألّق، لكن يُظهران تعبير قوي جداً مِنْ الغضبِ. احدهم كَانَ يَحْملُ بَعْض "الألواح"، (فلندعها هكذا) مثل الأحجارِ التي كان يَحْملُها موسى، لكن هذه صُنِعتْ من اللحمِ. بدوا كما لو أنها تُشكل قلبا عندما يُضعون معاً. مكتوب على مجموعة منها " أَحبُّوا الرب قبل كل شيء " وعلى المجموعة ألآخري " أَحبُّوا قريبكم كنفسكم." كان الملاك الآخر يَحْملُ في كلا يديه كأس ضخم مَمتلئ بالدمِّ.
بينما كان الملاكان عَلى وَشَكِ ألقاء " تلك الألواحِ اللحميةِ " وكأس الدمِّ على الكرة الأرضيةِ, سُمع صوت يقولَ: " توقّفا. . . أنا سَأَغْرسُ ناموسي في قلوبِهم. هم سَيَكُونواَ شعبَي، وأنا سَأكُونُ إلهَهم. . ."
اعتقدُ أننا سنهلك جميعاً. متلقّين عقاب آثامِنا، إن لم نَطْلبَ المغفرة بكل ما فينا من قوة.
أمام هذا المشهد اَنتقلت لا لأعْمَلُ أي شيءُ سوي لأن أطلب أن يرحم الرب العالمِ.
أَنى متيقنة من أن القارئ لهذه الشهادةِ سَيفْهمُ فى أي لحظةَ نحن نَعِيشُ. والقارئ سَيَكُونُ متحد معي فى الرأي، بأننا إن لم نَسْجدُ أمام السيد المسيح الحيّ في العشاء الرباني المُبارك الذى على المذبحِ، فاعلين إصلاحاً وموحدين صلواتَنا، فأن ذلك الكأسِ سَيَفِيضُ وجزء عظيم مِنْ الإنسانيةِ سَيَُفقد .
بعد ذلك رَأيتُ العذراءِ الكلية القدّاسةِ تَجْلسُ على الأرضِ، مَع السيد المسيح راقداً على قطعة قماش، رأسه على صدرِها. كَانتْ تُداعبُه وتُقبّلُه ساكبة دموعَ وفيرةَ.
أَنا أمّ، وعندما يعاني أولادي أحياناً ولكَونهم مبتعدين عني، أشَعر بألم روحي وجسدي. في مُحَاوَلَة لشَرْح هذا أَقُولُ بأنّ صدرَي، الذى أرضع الأبن الذي يَعاني الآن أَو لديه مشاكلُ، يُتوجّعُ.
في تَأَمُّل هذه الصورةِ والتُفكّير فى قلبِ أمِّنا، تأثرت بمثل هذا الاحترام الذي أَعتقدُ بأنّ لَيْسَ للمرء خيارُ آخرُ سوي أن يطِرح نفسه على الأرضِ أمامه. كانت هناك امرأة، ممسّكُة برأس أبنها الميتِ، متقْبلُة الألمَ الذي يَطْعنُ قلبَها.
عندما يموت شخصِ غالي علينا، نتْركُ فى الألمِ. إن الشخص الراحل لا يَأْخذُ معه الحُزنِ.
في هذه الحالةِ، من أول قبول للعذراءِ المقدّسةِ حتى هذه اللحظةِ، كانت حياتها هي وأبنها الإلهي متّحدة بغاية القوة بحيث أن كل منهما كان ممْكِنُ أَنْ يتألم أَو يفرح بمشاعرِ الآخر.
إن أعلنت الكنيسةَ بأنّ كُلّ معاناة إنسانية لَها قيمةُ افْتَدائيةُ، إن أعلنت أنّها مفيدة لاهتداء النفوس، عندما تُقدم للرب بحبِّ، كَيْفَ يستطيع أي أحد أن يَشْعرُ بالمُهَانة بسماع أنّ مريم كَانتْ شريكة فداء أسفل الصليبِ؟
العلاقة التي تَرْبطُ امرأةَ سفر التكوينِ، التي سيَسْحق نسلها رأسَ الحية، مَع المرأة المتسربلة بالشمسِ في سفر الرؤيا، ألَيستْ هذه العلاقة بالضبط علاقة مشاركة الفداء؟ مشاركتها الفعالة، أيضاً كذبيحة، في تلك التضحيةِ المقدّسةِ التى كملَت أسفل الصليبِ.
أنى أَسْألُ المغفرةً لما قلته تَواً إن كنت أهنتُ أناسَ، بيد أنّي أتَركَ أمَّنا الكنيسةَ تَجيز الحكم على هذا، لكون تشكيلِي لَيسَ كافيَ بالنسبة لمحاولُة أن أقدم رأي فى هذا الموضوعِ. لكن الحبَّ يُميز بالحبِّ، ولهذا، لا ضرورة للذكاء.
بعد ذلك، ظهرت ثانية أمام عيناي الكنيسةَ العظيمةَ، لم يكن كهنةَ المستقبل فقط والنِساءَ المُكَرَّساتَ الذين كَانوا يَدْخلونِ، بل أيضاً عددَ لانهائيَ مِنْ النِساءِ والرجالِ، صغار وكبار السن وأطفال. . .
شيء ما جعلني أَنْظرُ نحو قبةِ الكنيسةِ. كانت هناك مريمُ العذراء، تغطي بعظمة كل المشهدِ بعباءة زرقاء. بابتسامة جميلة، مثل أُمّ تُحتضن طفلها الرضيعَ، تحْميه بحبِّ عظيمِ.
فى الداخل كَانَ السيد المسيح، مكتسي كما في صورةِ السيد المسيح الملك. كَانَ يَحتفلُ بالقدّاسِ الإلهي وكان يحتفل مَعه كُلّ أولئك الشبابِ الذين قَدْ دُهِنوا من قبل. فشَعرتُ بسعادةً عظيمة في قلبِي.
بعد ذلك أخبرني السيد المسيح : " اخبري كُلّ أبنائي أنّه ليس كافيا أن يَعْرفونَ الخمس عشرَ محطة مِنْ محطاتِ طريقِ الصليبِ عن ظهر قلب, بل يجب أن يعَيْشوا ذلك ويتَمَتُّعون به، كي يكون كُلّ قدّاس إلهي حقاً حفل تأبين لآلامي .
أخبرْيهم أنّه مِنْ على الصليبِ، اتّكأتُ على كل واحد مِنْهم، لأن قوةَ الحبِّ مَنحَتهم أن يَكُونوا مسيحاً آخر."
في تلك اللحظة رَأيتُ غرفة بجدرانَ ولاحظت نافذةً كبيرةً جداً والسيد المسيح، متألقاً، الجميع يرتدون ملابس بيضِاء، كَانَ يَنْفخُ على حوارييه ويَقُول لهم: " أقبلوا الروحَ القدس. . . من غفرتم له يُغْفرُ له فى السماء . . ."
في هذه النقطةِ أَنْقلُ كلمات السيد المسيح الأخيرة التى أعطاها لى لكم في الوقت الذى كُنْتُ أَتمُّم كتابة هذه الشهادةِ في مطلعِ فجر عيدِ الغطاس.
" أَخّي العزيز، إن هذه الشهادةِ كَانتْ من أجلَك، ليتك تَكُون قادر أن تحيى وقت قليل في تأملِ عميقِ حول الإتحادِ الذي أُريدُ أَنْ يَكُونَ لى مَعك، ومن خلالك، يكون مَع شعبِي.
لا تسْمحُ لعقلانيةِ العالمِ أن تستبدل ردائك الأبيض بمنجلة ومطرقة . مكتبتكَ يجب أنْ تكون لأجل تَأَمُّلي على الصليبِ. أسلحتكَ، وأسلحة كُلّ مسيحي يَجِبُ أَنْ تكُونَ الصلاةً وشركة أمِّي وبابِ النجاة هو العشاء الرباني المقدس.
لكن تأكّدُ دائماً بأنّ احتفالك لهو مثل احتفال يوم خميسِ العهد، ذلك الاحتفال الذي يُحرّكُ بعمق قلوبَ جموع العلمانيين. تذكّرْ بأنّ شعبَي يُريدُ القداسةً في رعاتهم."