القديس مار يعقوب البرادعي

Mor Antonios

النقاش بالدليل
عضو مبارك
إنضم
1 يونيو 2007
المشاركات
1,587
مستوى التفاعل
18
النقاط
38
الإقامة
سوريا
القديس مار يعقوب البرادعي

كان القس ثيوفيل ابن السيد معنو كاهناً تقياً يرعى أنفس المؤمنين السريان في مدينة " تل موزل" ولكنه مثل زكريا الكاهن لم يكن له ولد، فصام وصلى هو وزوجته الورعة وبذلا الحسنات ونذرا نذراً لله وهو أن يقدما الإبن البكر الذي يرزقانه خادماً للرب في دير " فسيلتا" المجاور لبلدهما، فاستجاب الله دعاءهما ورزقهما ولداً ذكراً أطلقا عليه عند عماده إسم يعقوب، ربياه على سنن التقوى والفضيلة. وبدت على الصغير دلائل النجابة والذكاء، فأقبل على مطالعة العلوم الروحية والأدبية باللغتين السريانية واليونانية بشوق ولهفة، وكان والده خير معين له في هذا المجال.
وعندما بلغ يعقوب مبلغ الشباب طفق والده الفاضل يمهد لوفاء نذره، فكان يعظ ابنه ويحثه على التحلّي بالتقى ومكارم الأخلاق، ويبصّره بشدّة احتياج كنيسته السريانيّة المجيدة الى خدام يكرّسون حياتهم لخدمة أبناء الرعية بغيرة وتجرد، فكان الفتى الهادئ ينصت باهتمام الى حديث أبيه الحكيم ويتقبل نصائحه الغالية بسرور. ولما نمت البذور الصالحة التي ألقاها الوالدان التقيان في قلب وحيدهما، وتحققا من ذلك إذ ظهرت دلالاتها في سلوكه، أخذاه إلى دير فسيلتا بعض الهدايا، وأستودعاه ذمّة الأب أوسطاثيوس رئيس الدير الذي رحب بهم وقبل الفتى يعقوب بفرح عظيم.
إجتاز يعقوب مدة التجربة بنجاح، ولمس رئيسه مبلغ تواضعه وحقيقة زهده ولياقته للرهبانية، فألبسه الاسكيم المقدس، فراح الراهب الجديد يتبارى في ميدان الفضيلة مواظباً على الصوم والصلاة ومنكبّاً على الدرس والمطالعة، حتى حذق السريانية واليونانية، وتعمّق في دراسة الكتب المقدسة والعلم اللاهوتي.
وفي يوم، قصدت أمه الدير لتأخذه الى المدينة وتتعزى برؤيته، ولكن الراهب الشاب لم يمضِ معها، وعندما ألحت عليه قال لها: " كفي يا أماه أرجوك فإني للمسيح غدوت بكليتي، وليس لك فيّ بعد الآن نصيب". وبعد سنة من هذا التاريخ توفيت الوالدة البارة، ولحق بها الوالد التقي بعد ثلاث سنوات، تاركين لوحيدهما كل ما يملكان، وكان في تلك التركة عبدان أعتقهما يعقوب، مانحاً أياهما البيت وما فيه من أثاث ومال وهو يقول: " ليعط مال الدنيا للدنيا ".
وكان يكتسي يعقوب بثوب غليظ يقسم الى شطرين، يرتدي أحدهما ويتّشح بالآخر، ولم يكن يغيّره لا صيفاً ولا شتاءً، حتى أمسى كله رقعاً أشبه شيء بالبردعة، ومن هنا جاءت تسميته بالبرادعي.
وبعد زمن يسير اقتبل درجة الشماسية فالقسوسية المقدسة، ثم نيطت به رئاسة الدير فقام بأعبائها خير قيام، ولم تنحصر عنايته في أهل الدير فقط ، وإنما تجاوزتها الى المنطقة المحيطة به، حيث كان يفتقد الرعية في تلك الاوقات العصيبة ويشجعهم ويثبتهم بغيرة رسولية فصار سبباً لخلاص مئات الألوف من المؤمنين الذين كانوا أشبه برعية لا راعي لها بسبب الإضطهاد الخلقيدوني.
وسمعت الملكة السريانية ثيودورة بأخباره، كما جرى ذكره العاطر في مجلس الحارث بن جبلة أمير العرب الغساسنة النصارى، فاشتاق كل منهما إلى رؤيته واقتبال بركته. وهذا الأخير جاءه يوماً مع وفد من إشراف قومه محمّلين بالهدايا ليلتمسوا من القديس أن يصلي عوضاً عنهم فيزول الوباء من أرضهم، وعندما عبر الوفد نهر الفرات واقترب من الدير ظهر لهم مار يعقوب بزيه النسكي المهيب وابتدر الحارث بقوله: "أيها الرجل، لماذا شككت بقدرة الله العلي؟ عد إلى أرضك مع أمرائك واطلق سراح رجل الله الطورسيني الموثق لدى أحد رجال قبيلتك فتنجو أنت وقبيلتك من هذه الضائقة، لأن ما أنتم به إنما هو بسبب ذلك الرجل البار، أما الوباء فإنه لن يفتك بكم من الآن وحتى تعودوا إلى بلدكم، لأني سألت الله ذلك، وأما الذهب الذي جئت به فأعده معك، لأننا لا نريد أن نقتني فوق محبة الله شيئاً".
وجم الحارث ومن معه لدى سماعهم هذا الكلام، وعادوا حالاً إلى بلادهم فرأوا القوم في فرحة لأن الوباء كفّ عنهم، وجدّ الحارث في البحث فرأى راهباً جليلاًً موثقاً في خيمة أعرابي، فاستشاط غضباً واقتص من الاعرابي وأطلق سراح الراهب وأعاده الى ديره في طورسينا مكرّماً، ومن ذلك اليوم كان الحارث في شوق لرؤية مار يعقوب والتحدّث إليه.
وفي سنة 543 وقيل 544 اقترح عليه المؤمنون أن يتوجه الى القسطنطينية فامتنع، ولكن القديسين سويريوس ويوحنا أسقف التل (1). ظهرا له في الحلم وطلبا منه التوجه الى العاصمة مصطحباً معه رجلاً فاضلاً اسمه سرجيس رسمه القديس فيما بعد أسقفاً، ولما بلغ القسطنطينية وانتشر فيها خبر وصوله ان قد وافى الناسك يعقوب سُرَّ الشعب الأرثوذكسي سروراً عظيماً، لا سيما الملكة التقية ثيودورة التي أعدت له بيتاً خاصاً لسكناه. وبلغ خبر حضوره الى العاصمة مسامع الحارث بن جبلة فحضر هو أيضاً واجتمع بالقديس مع جمع من أبناء قبيلته وسر به سروراً عظيماً، والتمس من ثم الأمير العربي الحسيب من الإمبراطورة أن تسعى لرسامة أسقفين أو ثلاثة لسوريا فلبّت الإمبراطورة طلبهم، وجرى الإنتخاب وقر رأي البطريرك ثيودوسيوس الإسكندري والآباء الأرثذوكسيين الذين معه على رجلين فاضلين، أحدهما مار يعقوب البرادعي ليرسم أسقفاً للرها وبلاد الشام وآسيا الصغرى، والآخر هو الراهب ثيودور الغيور الذي وجد يومذاك في العاصمة وسيم أسقفاً على العرب وحتى أورشليم ومركزه بُصرى (2). وقام برسامتهما البطريرك ثيودوسيوس والآباء الذين معه وزوّدهما برسائل الى المؤنين الذين في المشرق، وطفق القديس يتفقد المؤمنين متنكراً، فزار بلاد الشام وأرمينية وقباقودية وقيليقية وايسورية وبمفيلية ولوقانيا وفروجية وقارية وآسيا الصغرى وجزائر قبرص ورودس وخيو ومدللي وما بين النهرين وفارس والإسكندرية والنوبة والحبشة، متفقداً الكنائس التي حُرمت من الرعاة زمناً طويلاً مرشداً المؤمنين المستقيمي الإيمان ومشجعاً إياهم. ولما كان القانون الكنسي يُحتِم أن لا يُرسَم أسقف إلا بوجود ثلاثة أساقفة، فإنه تشاور مع بعض أهل الرأي وأخذ معه راهبين مشهود لهما بالفضيلة وهما جيورجي وغريغوريوس وتوجه بهما إلى العاصمة وكرّسهما أسقفين، ورسم من ثم بتفويض البطريرك وبمساعدة هذين الأسقفين سبعة وعشرين أسقفاً وقسوساً وشمامسة بلغ عددهم بضعة آلاف، وكانت قوة الله تسنده حيثما حل وأنى توجّه وسار، الأمر الذي أثار عليه ضغينة الأساقفة الخلقيدونيين الذين دبت آكلة الآكباد في صدورهم فأمعنوا بعد وفاة ثيودورة سنة 548 في التنيكل بالأرثوذكسيين بمساعدة يوسطنيان الذي أصدر أمراً يقضي بإلقاء القبض على مار يعقوب، وعيّن جائزة ثلاثمائة دينار لمن يأتي به إليه، ولكن عناية الله حفظته فلم يقع في أيدي أعداء الحق. كان يتنقل من مكان الى آخر في سرعة الغزال، فكان يقطع في اليوم الواحد أربعين ميلاً دون أن يشعر بتعب، ولم يتحول رغم جهاده المضني وتنقلاته المستمرة عن الصوم الدائم وحياة التقشف.
وعندما جلس يوسطينوس الثاني ( 565-578 ) على سدة الملك، كانت أول أمنية تشتهيها نفسه هي أن يسود السلام أرجاء الكنيسة، وكان له وزير حكيم اسمه يوحنا، أرسله يوماً في مهمة الى بلاد فارس، فلما مر في طريقه بمدينة الرقة، قابله فيها مار يعقوب وأخبره عن الشدائد التي يحتملها الأرثوذكسيون بسبب تمسكهم بإيمان الرسل والمجامع المسكونية الثلاثة، فقال له الوزير: متى انتهيت من مهمتي في بلاد فارس فإني أرجو أن أجتمع بكم في مدينة دارا.
فطفق مار يعقوب يمّهد لهذا الإجتماع، فجمع الأساقفة ورؤساء الأديرة في دارا، وعندما حضر الوزير يوحنا إجتمع به القديس ومن معه وكلموه في أمر الصلح، وبينما كان الوزير في دارا تلقى رسائل من الملك، وفيها يشدّد عليه في تحقيق الصلح، فأوعز الوزير إلى مار يعقوب وأصحابه أن يسبقوه إلى الرقة ريثما ينتهي من بعض قضايا الدولة.وفي الرقة اجتمع في دير مار زكى جمع غفير جاؤوا من القرى المجاورة للإطلاع على نتائج الإجتماع. وقبل حضور الوزير حدثت بلبلة في صفوف المجتمعين، وفي جو مشحون بالتوتر وقف الوزير يوحنا وألقى خطاباً هذا بعض ما جاء فيه: "... إن ملكنا محب السلام يريد أن تتحد جميع الكنائس، فأطلب إليكم أن تستهدفوا أنتم أيضاً ذلك بنية صالحة. إننا نرى في الكتاب أنه ليس الآباء فقط تنازلوا عن التدقيق في بعض الأمور وأصدروا مقررات سلمية كهذه للفائدة العامة، وإنما رسل السيد المسيح أنفسهم- كما تشهد الكتب المقدسة- ساروا في هذا السبيل الحكيم. فإن بولس الرسول عندما أراد أن يتلمذ تيموثاوس ختنه أولاً ثم قدمه الى العهد الجديد، وقد عمل هذا لأن الديانة اليهودية كانت هي السائدة يومئذ، ولم تكن المسيحية قد انتشرت بعد انتشارها الواسع، ولكن عندما عاين فيما بعد أن المسيحية قد اتسعت رقعتها والختان قد بطل، لم يضطر إلى ختانة تيطس الذي كان وثنياًً، ثم كتب إلى أهل غلاطية: " هوذا بولس أقول لكم إن كنتم تختتنون فالمسيح لا ينفعكم شيئاً" فالذي ختن تيموثاوس قديماً خوفاً من اليهود عاد يكرز أخيراً أن الختان لا ينفع شيئاً. ويوحنا أسقف انطاكية الذي سقط في البداية في شِباك نسطور، قبله القديس كيرلس لمجرد اعترافه أن مريم هي والدة الإله وأَعطاه يمين الشركة، ولم يقدم كيرلس على هذا العمل بعد تدقيق وتحميص، وإنما تساهل، وهادن مستهدفاً الفائدة العامة. من المحال أن يتم الصلح بين الكنائس ما دمتم خارج كراسيكم، وإنما سيتم ما سمح به ربنا وأمر به ملكنا الظافر، وعليكم جميعاً أن تقبلوا ذلك برضى فتصيروا من خواصه، أما ما تبقى من الأمور فإن الأيام كفيلة بإصلاحها، وأنا أدرى الناس بما يرمي إليه مليكنا، إنه لا يرضى أبداً بوجود الشقاق في الكنائس.
كان بودّي أن أشير عليكم بأكثر مما تقدم، ولكني أكتفي الآن بهذا، فإن قبلتموه وعملتم به أعتقد بأنكم ستفلحون، وإن أبيتم وكابرتم فإن السلام سيبطل من الكنائس، وعندها ستندمون حيث لا ينفع الندم وإن ما نطالبكم به نحن الآن ستسلمون بصحته وتطالبون أنتم به بعد زمن ولا يصل الى أيديكم". وهنا طلب منه الاساقفة أن يبين لهم وجهة نظر الملك، فأرسل إليهم المنشور الملكي وهذا نصه: " واحد هو قانون الإيمان المقبول منا، الذي وضعه الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر في نيقية وثبته الآباء الذين اجتمعوا في القسطنطينية وأفسس ولانعرف ولا نعترف بحد آخر غيره وهو: نؤمن بآله واحد الآب الضابط الكل والخ..
ونقبل ونسلم بمولد ابن الله الكلمة من الآب أولاً قبل كل الدهور وفي آخر الأزمنة من مريم العذراء، ونؤمن بكلمة الله الوحيد أنه حقاً مكث بلاهوته بدون تغيير، وهو ذاته تألم بالجسد واجترح العجائب باللاهوت وليس منقسماً. ليس المسيح واحداً والله آخر، بل هو واحد من طبعين إلهي وناسوتي، أقنوم واحد وناسوت واحد، وليس أقنومين ووجهين وابنين، بل أقنوم واحد لله الكلمة المتجسد.
ونحرم كل البدع ولا سيما بدعة آريوس واونوميوس ومقدونيوس ونسطور الذي قطعه وحرمه قلسطينوس وكيرلس، ونحرم كذلك ثيودورس ورسالة هيبا ومؤلفت ثاودوريطس وكل الذين يعتقدون مثلهم أو يشبهونم بالنفاق والشقاق. ونقبل ونجل المغبوط مار سويريوس البطريرك مبطلين الحرم الذي صدر في حقه ظلماً وبغير حق، كما نبطل جميع الحروم التي تمت من عهد القديس كيرلس ونلغي سلطان القائلين بها وننبذهم نبذاً باتاً".
عندما اطلع الأساقفة على مضمون المنشور الملكي قدموا معروضاً طلبوا فيه تعديل بعض العبارات فيه وهذه أهمها:
1- طبيعة واحدة أي أقنوم واحد لله الكلمة المتجسد.
2- ليس أقنومين ووجهين وابنين ولا طبيعتين.
بعد إجراء هذه التعديلات على الكتاب السالف الذكر باتفاق كل المجمع وأعد ليقدّم للوزير يوحنا، ضجَّ بغتة رهبان الأديرة في الرقة وطلبوا الإطلاع على محتويات الكتاب، فأمر الأساقفة بتلاوته، وعند الإنتهاء منه هاج الرهبان وماجوا حتى أن الراهب قوزما تجاسر ومزّق الكتاب في وسط المجمع، فاضطرب جو المكان، ولما سمع الوزير بهذا الخبر تألم وأنتقل الى ساحل الفرات ولم يتذوّق الطعام الذي أعدِّ له. فخف إليه مار يعقوب ومار ثيودور وغيرهما من الأساقفة وقالوا له: " ليس من المناسب أن يعطّل صلح الكنيسة بسبب خصومات يثيرها أناس غير مهذبين وأعداء الصلح" فقبل الوزير يوحنا هذا الكلام، وطلب منهم أن يقدموا له كتاباً آخر مشابهاً للكتاب الذي أُعدم ففعلوا، ولما أحس الرهبان المشاغبون بالأمر عادوا إلى هياجهم وصاحوا في وجه مار يعقوب: " إذا أنت لا تبطل الكتاب الذي قدّمته فإننا نرفضك، ولن نقبل ان تكون أسقفاً علينا"، فلما رأى الوزير ذلك ألغى الكتاب تهدئة لطيش الرهبان الذين لم يفهم سبب هياجهم.
وانتهت هذه الأخبار الى الملك يوسطينوس الثاني فتميز غيظاً ولكنه كتم غيظه وتذرّع بالصبر وأرسل الى وزيره كتاباً هذا مضمونه: " قد صدر الأمر من مقامنا الى يعقوب وثيودور ليحضرا إلينا للبحث في شؤون الكنيسة، فأطلب منك ومن سرغون أمير دارا أن تبذلا جهدكما لإقناعهما وحملهما على الإمتثال لرغبتنا بالحضور إلينا، لأننا نريد- والله على ما نقول شهيد- أن تتحد الكنائس وتصير واحدة. بناءً عليه أود أن لا تتغاضى عما آمرك به حبّاً بخلاص النفوس فلا نكون مضطهدين للمؤمنين المستقيمي الرأي أمثال هؤلاء، كما إننا لا نريد البتة أن يصير في أيامنا أمر سيء مثل هذه الأمور، التي تحول دون الإتحاد واستتباب السلام، وأنا أدري بأن قيام هؤلاء الأشرار الذين أفسدوا مشروع الصلح إن هو إلا بسبب خطايانا، هذا وقد كتبنا إلى استيفانس وأمرناه أن يدفع لهما نفقات السفر". توجه الأسقف ثيودور إلى العاصمة فاستقبله الملك بتجلة واحترام وأكرام مثواه، أما مار يعقوب فقد حال مَن معه دون سفره ظناً منهم أن في الأمر مكيدة ولعلمهم بأنه إذا أصابه سوء فإن الرعية الأرثوذكسية ستتعرض للخطر بفقد راعيها الحريص على سلامتها، ولكن يوحنا السرمي بطريرك القسطنطينية الخلقيدوني إتخذ من ذلك وسيلة للنيل من مار يعقوب، فأوغر عليه صدر الملك وحمله على أصدار أوامر قاسية ضد الكنائس والأساقفة والكهنة الذين يخالفون رأيه، كما تمكن من الحصول على تفويض ملكي وفيه " أن يُلزم الأرثوذكسيين قسراً بقبول المجمع الرابع الخلقيدوني"، وكان الملك- المحدودة معلوماته الدينية - يرمي من وراء توحيد الإيمان حفظ وحدة الدولة وسلامتها، ولكن الخلقيدونيين استغلوا مرسومه استغلالاً سيئاً، ولكي يضمنوا تأييد الملك لهم أطلقوا على أنفسهم لقب ( الملكيون). وبدأ الإضطهاد من جديد يصيب الأرثوذكسيين رعاةً وكهنة وأفراداً، ولأذكر حادثتين على سبيل المثال:
1- حوالي عام 558 رسم مار يعقوب البرادعي الراهب يوحنا مطراناً لأفسس على الأرثوذكسييّن فنُسِب إليها وإلى آسيا الصغرى، فكان يُدعى “يوحنّا الأفسسي” و”يوحنّا الآسيوي"، وكان حبراً رسولياً في علمه وسيرته وجهاده، وضع تصانيف ممتعة في التاريخ، كما هدى الى النصرانية ثمانين ألفاً من الوثنيين، بانياً لهم اثنتين وتسعين كنيسة وعشرة أديار، وفي سنة 566 خلف ثاودوسيوس الإسكندري في رعاية شؤون الأرثوذكسيين في القسطنطينية وسائر بلاد الروم، وفي عام 571 عندما أمعن يوسطينوس الثاني وأساقفة العاصمة الملكيون في التنكيل بالأرثوذكسيين قبض يوحنا السرمي الخلقيدوني على يوحنا هذا وألقاه في السجن ولننصت إلى هذا الحَبرالصالح يقص علينا ما عاناه في سجنه المضني:
" .. وفي السجن ابتُليت بقروح في يدي ورجلي، فكان البق والذباب يحط فوقها ويؤذيني، وأما فراشي القذر فكان يغطيه القمل والفسفس، وكانت الجرذان قد أتخذت من وسادتي البالية مسكناً، وإذ أنا على تلك الحال، دخل علي يوماً شاب بهي الطلعة يرتدي ثوباً ناصعاً من الحرير الأبيض، وابتدرني قائلاً: السلام لك أيها الأب، ما بالك تئن وتتوجع ومما تشكو؟ فقلت له وقد ظننته من بيت الملك: أنظر يا بني في أية شدّة أنا. فقال الشاب: تشجّع أيها الأب وأشكر الله وثق بأني سأرفع أمرك إلى الملك وأخبره بما تعانيه من ضيق، ثم سألني: هل أنت عطشان؟ فأجبته: أجل يا ولدي أنا عطشان. فغاب عني لحظة عاد بعدها وبيده كأس ماء ما أن شربتها حتى أحسست بأوجاعي تتلاشى، فحمدت الله وشكرت الشاب قائلاً: ليتحنّن الله عليك يا ابني لأنك افتقدتني في ضيقي وعزيتني. أما الشاب فجلس بالقرب مني وطفق يشجعني ويؤكد لي بأن الإيمان الذي من أجله احتمل كل هذه الشدائد إنما هو الإيمان الحق، وكان يتحدث يدعم كلامه بآيات من كتاب الله العزيز حتى دهشت من سعة معلوماته و رسوخ كعبه في العلم الإلهي. وظل الشاب يفتقدني لمدة ثمانية أيام وفي نفس الوقت ويقول لي: تشدّد وتقوّى وابتهج لأن أجراً عظيماً ينتظرك. وفي نهاية الأيام الثمانية جاءني خادم يوحنا السرمي، وقبل أن يفتح فمه صحت في وجهه قائلاً: ولئن سلمنا جدلاً بأن إيمانكم مستقيم فإننا لن نتّحد معكم أبداً لأنكم قساة الى هذا الحد، إنكم لم تدعوا أحد تلاميذي يخدمني في مرضي، فقال: لم يكن لنا علم بمرضك. ثم أرسل فاستدعى أحد تلاميذي، وعندما حضر كف ذلك الشاب البهي الطلعة والأنيس المعشر عن زيارتي. وسألت عنه فلم أجد جواباً شافياً، فعرفت عندئذٍ بأنه إنما كان ملاكاً أرسله الله جلت قدرته لتشجيعي وتعزيت، وتأكد لي ذلك عندما صحّت الكلمة التي قالها لي: إنك في اليوم الفلاني تخرج من السجن، وفعلاً في ذلك اليوم خرجت من السجن القاسي". خرج يوحنا الأفسي من سجنه لا ليعود الى رعيته وإنما ليُبعَد الى إحدى جزر البحر لمدة أربعين شهراً وتسعة أيام، ثم ليُخفَر بحراس ثلاث سنوات، ويُعتقل ثانية ويُخلى سبيله، وفي عهد الملك طيباريوس أُعتُقل ثالثة وأبعد من العاصمة هو وصحبه في أيام عيد الميلاد سنة 578- وفي سنة 586 كف قلبه الكبير عن الخفقان، فطارت روحه الطاهرة الى الخدور العلوية حيث لا ظلم ولا اضطهاد.
2- ألقى يوحنا السرمي القبض على الأسقف الأرثوذكسي اسطيفانس ورماه في السجن، ثم أرسل إليه جنوداً جلدوه جلداً قاسياً حتى أن الدم لطخ جسمه، ثم استحضره وعرض عليه قبول رسامة ثانية، فصاح الأسقف الأرثوذكسي في وجهه قائلاً: " إنني لا أرضى أن أتجرد من الكهنوت أبداً حتى تجرّدوني من معموديتي أولاً. وحينئذ حدثت فتنة عظيمة تمكن اسطيفانس في أثنائها من أن يرى الملك ويصرخ: " لقد بادت المسيحية وفسدت الرتب والقوانين. لقد مضت عليّ عشرون سنة وأنا أسقف، ولأنني الآن أبذل نفسي في طاعتكم يريد يوحنا السرمي أن يجردني من كهنوتي ويرسمني من جديد على زعمه، فليبيّن إلى أي قانون يستند في هذا؟ فإما أنه لا يدري ولا علم له بالقوانين الكنسية، أو أنه يعرفها ويدوسها عناداً وجهلاً جالباً المذمّة والويل على مملكتك، فإن كان بأمرك يقوم بهذه الأعمال فمره أن يبطل أيضاً المعمودية الأولى ويعمّد الأرثوذكسيين مرة ثانية. إن القانون التاسع عشر من قوانين الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر ( مجمع نيقية) يأمر بتعميد أتباع بدعة بولس السمسياطي مرة ثانية بعد ارتدادهم وهكذا تجب رسامتهم أيضاً، فليُرنا يوحنا السرمي القانون الذي يستند إليه وبموجبه يبطل كهنوتنا ويكرر رسامتنا".
انتفض يوسطينوس الثاني لدى سماعه هذا الكلام واستنكر المظالم التي ارتبكها السرمي، وأصدر أمراً سريعاً وفيه: " ان لا يجتريء أحد على تعطيل الكهنوت إلاّ مَن كان من أصحاب البدع التي تنصّ عليها القوانين المقدسة"، ولكن السرمي لم يكفّ عن أعماله العدائية، بل أنه دخل يوماً على الملك ليغريه من جديد على اضطهاد الأرثوذكسيين، فعقد الملك ما بين حاجبيه وقال غاضباً: " قل لي أوثنيون هم هؤلاء الذين تحرّضني على اضطهادهم؟" فأجاب السرمي: كلا. فقال الملك: " لقد اعترفت بلسانك بأنهم نصارى، فكيف تغريني على التنكيل بهم؟ كيف تطلب أن أكون مضطهداً للمؤمنين مثل ديوقلطيان الوثني وسواه؟ امضِ والزم كنيستك ولا تؤذنا بجرائرك ومظالمك"، وصرفه من حضرته. وقال الملك إياه لاوطاخي خليفة السرمي ومشابهه عندما أراد أن يهيّج الملك على الأرثوذكسيين: " يا ناس تكفينا حرب البرابرة، ليس لنا طاقة على إثارة حروب أخرى، فنلقي الفتنة بين المسيحيين فيحارب بعضهم بعضاً، اهدأوا وكفوا عن إثارة الضغائن والشرور، إن تمكنتم من إقناعهم بالمنطق والكلام كان به، وإلا فدعوهم وشأنهم، وإياكم أن تضطهدوهم أو أن تمسوهم بسوء".في هذه الأثناء كان مار يعقوب البرادعي يتجول بين الكنائس مثبتاً دعائم الأرثوذكسية بهمة لا يتطرق إليها التعب، وقد ساعده في عمله الرسولي هذا، الآباء الغيارى الذين أقامهم رعاة على خراف المسيح الوديعة، متأثرين بسيرته ومتوسّمين خطاه، حتى أن كثيرين من الأساقفة والكهنة جالوا وبشروا بكلمة الإنجيل بين الأمم والشعوب، وجذبوا الألوف الى حظيرة المسيح. منهم مار يوحنا الأفسسي الذي سبقت سيرته، والشهيد مار أحودامه الذي قلده القديس البرادعي عام 559 مطرانية بلاد المشرق فنصّر القبائل العربية الضاربة ما بين نصيبين وبلد والمنطقة المحيطة بنينوى، منشئاً لهم ديرين وبعض الكنائس، وشرّفه الله بعمل العجائب تأييداً لدعوته، ولأنه نصّر أميراً من البيت المالك قبض عليه الملك كسرى أنو شروان ( 531-578) وأودعه السجن، ثم أمر بقطع رأسه وذلك في 2 آب عام 575 فدُفن أولاً في بلدة ماحوزي ثم نقل إلى قروتنا فتكريت فالموصل حيث بُنيت فوق ضريحه الطاهر كنيسة ما زالت عامرة. ومنهم أيضاً القديس يوليان الذي دفعته غيرته الى أن يبشر شعب النوبة والحبشة الوثنيين، ولما أخبر الملكة الصالحة ثيودورة بعزمه سُرت بذلك وأثنت عليه وكتبت الى حاكم طيبة ليسهّل مهمته، فمضى يوليان ونصّر أولاً الملك والأعيان ثم تلمذ الشعب ومكث هناك سنتين يعظ ويعمّّد الجماهير الغفيرة في مغاور مملوءة ماء كل يوم من الساعة الثالثة وحتى العاشرة، وهو غائص في الماء لا يبدو منه غير الصدر والعنق. وفي انتهاء السنتين سلمهم إلى أسقف استقدمه من طيبة لرعايتهم وعاد الى القسطنطينية حيث رقد بسلام.هذه الحوادث وأمثالها كانت تعزّي الأورثوذكسيين وتلهيهم عن التفكير بالمظالم التي كان الخلقيدونيون يصبّونها فوق رؤوسهم.
وفي عام 550 رسم مار يعقوب بمعاونة أوكين أسقف سلوقيا بولس آل أوكاما القبطي الجنس بطريركاً لكرسي انطاكية الشاغر، وعندما أصدر الملك يوسطينوس الثاني منشوره وفيه أن يقبل الأرثوذكسيون مقررات المجمع الخلقيدوني شارك بولس الملكيين على رجاء الإتحاد، وإذ لمس خبث طوية الخلقيدونيين ندم وهرب الى سوريا وقدم توبة فقبله الآباء الأرثوذكسيون وفرضوا عليه قانون توبة مدته ثلاث سنوات، وعند انتهاء هذه المدة قبله مار يعقوب ومجمع الآباء. ولما بلغ خبر قبوله إلى الإسكندريين اغتاظوا وكتبوا الى مار يعقوب قائلين: " إن قبلت بولس ننقم عليك ولا نقبلك أسقفاً البتة" فأجابهم مار يعقوب برقة قائلاً: " ها نحن قادمون إليكم ومهما حَسُنَ للجمهور فإننا مستعدون لقبوله". وفي الإسكندرية تقرر قطع بولس قطعاً غير مقترن بحرم، وعاد القديس البرادعي الى سوريا واجتمع الى رؤساء الأديار في دير مار حننيا وتباحثوا في أمر إنتخاب بطريرك جديد، ولكن الأساقفة رفضوا إنتخاب خلف لبولس لأنه لم يُشجب قانونياً. فتأكد عندئذ مار يعقوب من أن العقدة إنما هي في الإسكندرية، فشدّ إليها الرحال ومعه ثمانية أساقفة، ولكن عندما وصلوا الى دير مار رومانوس المعروف بدير قسيان، شاء الله جلّت قدرته أن يريح صفيه البرادعي من أتعابه فنقله إليه وذلك في 30 تموز عام 578- فخف دميانوس بطريرك الإسكندرية إلى الدير واحتفل مع الأحبار بتجنيز الجسد الطاهر ودفن بإكرام في الكنيسة، ووجّه من ثم الى الكنيسة السريانية رسالة تعزية لطيفة هذا مقطع منها:

".. إن ذلك الرجل القديس انتقل الى الراحة الدائمة وهو في مأمن من خمير الهراطقة وزارعي الشقاق، وقد صان طوال مدة حياته كيان كنائسكم في المشرق وكنائسنا في مصر بلا كلل على الدوام... لم تكن للقديس في حياته يد في الشقاق الحاصل بين الكنائس، بل كان في تجواله بيننا وبينكم يحكم رباط المحبة ويقدمه على أي شيء آخر، فلا تحزنوا النفس البارّة التي ارتقت إلى السماء بأن تتخطّوا الحدود القديمة التي وضعها آباونا في المجامع الثلاثة الأولى المقدسة مجمع نيقية ومجمع قسطنطينية ومجمع افسس..". وفي سنة 621 أراد مارزكى أسقف مدينة التل أن ينقل جسد القديس البرادعي إلى ديره، فأوفد أربعة رجال إلى دير مار رومانس عادوا ومعهم رفاته الطاهر. قال المؤرخ موسهيم: " كان يعقوب البرادعي بليغاً في مواعظه قديراً في جهاده"، ولكن ما انتهى إلينا من إنتاجه الأدبي ضئيل، فله ليتورجية أولها : " اللهم يا أبا السلام الكلي القداسة"، وأربع رسائل نشرت في كتاب الاسناد، وثلاث موجهة إلى مار يوحنا الأفسسي، ورسائل عامة إلى الأساقفة والكهنة. طيب الله ثراه ونفعناً بمقبول دعاه?

Mor Antonios​
[/B][/COLOR]
:36_33_7:​
[/CENTER]
 

kalimooo

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
23 يونيو 2008
المشاركات
143,884
مستوى التفاعل
1,788
النقاط
113
الإقامة
LEBANON
القديس مار يعقوب البرادعي

كان القس ثيوفيل ابن السيد معنو كاهناً تقياً يرعى أنفس المؤمنين السريان في مدينة " تل موزل" ولكنه مثل زكريا الكاهن لم يكن له ولد، فصام وصلى هو وزوجته الورعة وبذلا الحسنات ونذرا نذراً لله وهو أن يقدما الإبن البكر الذي يرزقانه خادماً للرب في دير " فسيلتا" المجاور لبلدهما، فاستجاب الله دعاءهما ورزقهما ولداً ذكراً أطلقا عليه عند عماده إسم يعقوب، ربياه على سنن التقوى والفضيلة. وبدت على الصغير دلائل النجابة والذكاء، فأقبل على مطالعة العلوم الروحية والأدبية باللغتين السريانية واليونانية بشوق ولهفة، وكان والده خير معين له في هذا المجال.
وعندما بلغ يعقوب مبلغ الشباب طفق والده الفاضل يمهد لوفاء نذره، فكان يعظ ابنه ويحثه على التحلّي بالتقى ومكارم الأخلاق، ويبصّره بشدّة احتياج كنيسته السريانيّة المجيدة الى خدام يكرّسون حياتهم لخدمة أبناء الرعية بغيرة وتجرد، فكان الفتى الهادئ ينصت باهتمام الى حديث أبيه الحكيم ويتقبل نصائحه الغالية بسرور. ولما نمت البذور الصالحة التي ألقاها الوالدان التقيان في قلب وحيدهما، وتحققا من ذلك إذ ظهرت دلالاتها في سلوكه، أخذاه إلى دير فسيلتا بعض الهدايا، وأستودعاه ذمّة الأب أوسطاثيوس رئيس الدير الذي رحب بهم وقبل الفتى يعقوب بفرح عظيم.
إجتاز يعقوب مدة التجربة بنجاح، ولمس رئيسه مبلغ تواضعه وحقيقة زهده ولياقته للرهبانية، فألبسه الاسكيم المقدس، فراح الراهب الجديد يتبارى في ميدان الفضيلة مواظباً على الصوم والصلاة ومنكبّاً على الدرس والمطالعة، حتى حذق السريانية واليونانية، وتعمّق في دراسة الكتب المقدسة والعلم اللاهوتي.
وفي يوم، قصدت أمه الدير لتأخذه الى المدينة وتتعزى برؤيته، ولكن الراهب الشاب لم يمضِ معها، وعندما ألحت عليه قال لها: " كفي يا أماه أرجوك فإني للمسيح غدوت بكليتي، وليس لك فيّ بعد الآن نصيب". وبعد سنة من هذا التاريخ توفيت الوالدة البارة، ولحق بها الوالد التقي بعد ثلاث سنوات، تاركين لوحيدهما كل ما يملكان، وكان في تلك التركة عبدان أعتقهما يعقوب، مانحاً أياهما البيت وما فيه من أثاث ومال وهو يقول: " ليعط مال الدنيا للدنيا ".
وكان يكتسي يعقوب بثوب غليظ يقسم الى شطرين، يرتدي أحدهما ويتّشح بالآخر، ولم يكن يغيّره لا صيفاً ولا شتاءً، حتى أمسى كله رقعاً أشبه شيء بالبردعة، ومن هنا جاءت تسميته بالبرادعي.
وبعد زمن يسير اقتبل درجة الشماسية فالقسوسية المقدسة، ثم نيطت به رئاسة الدير فقام بأعبائها خير قيام، ولم تنحصر عنايته في أهل الدير فقط ، وإنما تجاوزتها الى المنطقة المحيطة به، حيث كان يفتقد الرعية في تلك الاوقات العصيبة ويشجعهم ويثبتهم بغيرة رسولية فصار سبباً لخلاص مئات الألوف من المؤمنين الذين كانوا أشبه برعية لا راعي لها بسبب الإضطهاد الخلقيدوني.
وسمعت الملكة السريانية ثيودورة بأخباره، كما جرى ذكره العاطر في مجلس الحارث بن جبلة أمير العرب الغساسنة النصارى، فاشتاق كل منهما إلى رؤيته واقتبال بركته. وهذا الأخير جاءه يوماً مع وفد من إشراف قومه محمّلين بالهدايا ليلتمسوا من القديس أن يصلي عوضاً عنهم فيزول الوباء من أرضهم، وعندما عبر الوفد نهر الفرات واقترب من الدير ظهر لهم مار يعقوب بزيه النسكي المهيب وابتدر الحارث بقوله: "أيها الرجل، لماذا شككت بقدرة الله العلي؟ عد إلى أرضك مع أمرائك واطلق سراح رجل الله الطورسيني الموثق لدى أحد رجال قبيلتك فتنجو أنت وقبيلتك من هذه الضائقة، لأن ما أنتم به إنما هو بسبب ذلك الرجل البار، أما الوباء فإنه لن يفتك بكم من الآن وحتى تعودوا إلى بلدكم، لأني سألت الله ذلك، وأما الذهب الذي جئت به فأعده معك، لأننا لا نريد أن نقتني فوق محبة الله شيئاً".
وجم الحارث ومن معه لدى سماعهم هذا الكلام، وعادوا حالاً إلى بلادهم فرأوا القوم في فرحة لأن الوباء كفّ عنهم، وجدّ الحارث في البحث فرأى راهباً جليلاًً موثقاً في خيمة أعرابي، فاستشاط غضباً واقتص من الاعرابي وأطلق سراح الراهب وأعاده الى ديره في طورسينا مكرّماً، ومن ذلك اليوم كان الحارث في شوق لرؤية مار يعقوب والتحدّث إليه.
وفي سنة 543 وقيل 544 اقترح عليه المؤمنون أن يتوجه الى القسطنطينية فامتنع، ولكن القديسين سويريوس ويوحنا أسقف التل (1). ظهرا له في الحلم وطلبا منه التوجه الى العاصمة مصطحباً معه رجلاً فاضلاً اسمه سرجيس رسمه القديس فيما بعد أسقفاً، ولما بلغ القسطنطينية وانتشر فيها خبر وصوله ان قد وافى الناسك يعقوب سُرَّ الشعب الأرثوذكسي سروراً عظيماً، لا سيما الملكة التقية ثيودورة التي أعدت له بيتاً خاصاً لسكناه. وبلغ خبر حضوره الى العاصمة مسامع الحارث بن جبلة فحضر هو أيضاً واجتمع بالقديس مع جمع من أبناء قبيلته وسر به سروراً عظيماً، والتمس من ثم الأمير العربي الحسيب من الإمبراطورة أن تسعى لرسامة أسقفين أو ثلاثة لسوريا فلبّت الإمبراطورة طلبهم، وجرى الإنتخاب وقر رأي البطريرك ثيودوسيوس الإسكندري والآباء الأرثذوكسيين الذين معه على رجلين فاضلين، أحدهما مار يعقوب البرادعي ليرسم أسقفاً للرها وبلاد الشام وآسيا الصغرى، والآخر هو الراهب ثيودور الغيور الذي وجد يومذاك في العاصمة وسيم أسقفاً على العرب وحتى أورشليم ومركزه بُصرى (2). وقام برسامتهما البطريرك ثيودوسيوس والآباء الذين معه وزوّدهما برسائل الى المؤنين الذين في المشرق، وطفق القديس يتفقد المؤمنين متنكراً، فزار بلاد الشام وأرمينية وقباقودية وقيليقية وايسورية وبمفيلية ولوقانيا وفروجية وقارية وآسيا الصغرى وجزائر قبرص ورودس وخيو ومدللي وما بين النهرين وفارس والإسكندرية والنوبة والحبشة، متفقداً الكنائس التي حُرمت من الرعاة زمناً طويلاً مرشداً المؤمنين المستقيمي الإيمان ومشجعاً إياهم. ولما كان القانون الكنسي يُحتِم أن لا يُرسَم أسقف إلا بوجود ثلاثة أساقفة، فإنه تشاور مع بعض أهل الرأي وأخذ معه راهبين مشهود لهما بالفضيلة وهما جيورجي وغريغوريوس وتوجه بهما إلى العاصمة وكرّسهما أسقفين، ورسم من ثم بتفويض البطريرك وبمساعدة هذين الأسقفين سبعة وعشرين أسقفاً وقسوساً وشمامسة بلغ عددهم بضعة آلاف، وكانت قوة الله تسنده حيثما حل وأنى توجّه وسار، الأمر الذي أثار عليه ضغينة الأساقفة الخلقيدونيين الذين دبت آكلة الآكباد في صدورهم فأمعنوا بعد وفاة ثيودورة سنة 548 في التنيكل بالأرثوذكسيين بمساعدة يوسطنيان الذي أصدر أمراً يقضي بإلقاء القبض على مار يعقوب، وعيّن جائزة ثلاثمائة دينار لمن يأتي به إليه، ولكن عناية الله حفظته فلم يقع في أيدي أعداء الحق. كان يتنقل من مكان الى آخر في سرعة الغزال، فكان يقطع في اليوم الواحد أربعين ميلاً دون أن يشعر بتعب، ولم يتحول رغم جهاده المضني وتنقلاته المستمرة عن الصوم الدائم وحياة التقشف.
وعندما جلس يوسطينوس الثاني ( 565-578 ) على سدة الملك، كانت أول أمنية تشتهيها نفسه هي أن يسود السلام أرجاء الكنيسة، وكان له وزير حكيم اسمه يوحنا، أرسله يوماً في مهمة الى بلاد فارس، فلما مر في طريقه بمدينة الرقة، قابله فيها مار يعقوب وأخبره عن الشدائد التي يحتملها الأرثوذكسيون بسبب تمسكهم بإيمان الرسل والمجامع المسكونية الثلاثة، فقال له الوزير: متى انتهيت من مهمتي في بلاد فارس فإني أرجو أن أجتمع بكم في مدينة دارا.
فطفق مار يعقوب يمّهد لهذا الإجتماع، فجمع الأساقفة ورؤساء الأديرة في دارا، وعندما حضر الوزير يوحنا إجتمع به القديس ومن معه وكلموه في أمر الصلح، وبينما كان الوزير في دارا تلقى رسائل من الملك، وفيها يشدّد عليه في تحقيق الصلح، فأوعز الوزير إلى مار يعقوب وأصحابه أن يسبقوه إلى الرقة ريثما ينتهي من بعض قضايا الدولة.وفي الرقة اجتمع في دير مار زكى جمع غفير جاؤوا من القرى المجاورة للإطلاع على نتائج الإجتماع. وقبل حضور الوزير حدثت بلبلة في صفوف المجتمعين، وفي جو مشحون بالتوتر وقف الوزير يوحنا وألقى خطاباً هذا بعض ما جاء فيه: "... إن ملكنا محب السلام يريد أن تتحد جميع الكنائس، فأطلب إليكم أن تستهدفوا أنتم أيضاً ذلك بنية صالحة. إننا نرى في الكتاب أنه ليس الآباء فقط تنازلوا عن التدقيق في بعض الأمور وأصدروا مقررات سلمية كهذه للفائدة العامة، وإنما رسل السيد المسيح أنفسهم- كما تشهد الكتب المقدسة- ساروا في هذا السبيل الحكيم. فإن بولس الرسول عندما أراد أن يتلمذ تيموثاوس ختنه أولاً ثم قدمه الى العهد الجديد، وقد عمل هذا لأن الديانة اليهودية كانت هي السائدة يومئذ، ولم تكن المسيحية قد انتشرت بعد انتشارها الواسع، ولكن عندما عاين فيما بعد أن المسيحية قد اتسعت رقعتها والختان قد بطل، لم يضطر إلى ختانة تيطس الذي كان وثنياًً، ثم كتب إلى أهل غلاطية: " هوذا بولس أقول لكم إن كنتم تختتنون فالمسيح لا ينفعكم شيئاً" فالذي ختن تيموثاوس قديماً خوفاً من اليهود عاد يكرز أخيراً أن الختان لا ينفع شيئاً. ويوحنا أسقف انطاكية الذي سقط في البداية في شِباك نسطور، قبله القديس كيرلس لمجرد اعترافه أن مريم هي والدة الإله وأَعطاه يمين الشركة، ولم يقدم كيرلس على هذا العمل بعد تدقيق وتحميص، وإنما تساهل، وهادن مستهدفاً الفائدة العامة. من المحال أن يتم الصلح بين الكنائس ما دمتم خارج كراسيكم، وإنما سيتم ما سمح به ربنا وأمر به ملكنا الظافر، وعليكم جميعاً أن تقبلوا ذلك برضى فتصيروا من خواصه، أما ما تبقى من الأمور فإن الأيام كفيلة بإصلاحها، وأنا أدرى الناس بما يرمي إليه مليكنا، إنه لا يرضى أبداً بوجود الشقاق في الكنائس.
كان بودّي أن أشير عليكم بأكثر مما تقدم، ولكني أكتفي الآن بهذا، فإن قبلتموه وعملتم به أعتقد بأنكم ستفلحون، وإن أبيتم وكابرتم فإن السلام سيبطل من الكنائس، وعندها ستندمون حيث لا ينفع الندم وإن ما نطالبكم به نحن الآن ستسلمون بصحته وتطالبون أنتم به بعد زمن ولا يصل الى أيديكم". وهنا طلب منه الاساقفة أن يبين لهم وجهة نظر الملك، فأرسل إليهم المنشور الملكي وهذا نصه: " واحد هو قانون الإيمان المقبول منا، الذي وضعه الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر في نيقية وثبته الآباء الذين اجتمعوا في القسطنطينية وأفسس ولانعرف ولا نعترف بحد آخر غيره وهو: نؤمن بآله واحد الآب الضابط الكل والخ..
ونقبل ونسلم بمولد ابن الله الكلمة من الآب أولاً قبل كل الدهور وفي آخر الأزمنة من مريم العذراء، ونؤمن بكلمة الله الوحيد أنه حقاً مكث بلاهوته بدون تغيير، وهو ذاته تألم بالجسد واجترح العجائب باللاهوت وليس منقسماً. ليس المسيح واحداً والله آخر، بل هو واحد من طبعين إلهي وناسوتي، أقنوم واحد وناسوت واحد، وليس أقنومين ووجهين وابنين، بل أقنوم واحد لله الكلمة المتجسد.
ونحرم كل البدع ولا سيما بدعة آريوس واونوميوس ومقدونيوس ونسطور الذي قطعه وحرمه قلسطينوس وكيرلس، ونحرم كذلك ثيودورس ورسالة هيبا ومؤلفت ثاودوريطس وكل الذين يعتقدون مثلهم أو يشبهونم بالنفاق والشقاق. ونقبل ونجل المغبوط مار سويريوس البطريرك مبطلين الحرم الذي صدر في حقه ظلماً وبغير حق، كما نبطل جميع الحروم التي تمت من عهد القديس كيرلس ونلغي سلطان القائلين بها وننبذهم نبذاً باتاً".
عندما اطلع الأساقفة على مضمون المنشور الملكي قدموا معروضاً طلبوا فيه تعديل بعض العبارات فيه وهذه أهمها:
1- طبيعة واحدة أي أقنوم واحد لله الكلمة المتجسد.
2- ليس أقنومين ووجهين وابنين ولا طبيعتين.
بعد إجراء هذه التعديلات على الكتاب السالف الذكر باتفاق كل المجمع وأعد ليقدّم للوزير يوحنا، ضجَّ بغتة رهبان الأديرة في الرقة وطلبوا الإطلاع على محتويات الكتاب، فأمر الأساقفة بتلاوته، وعند الإنتهاء منه هاج الرهبان وماجوا حتى أن الراهب قوزما تجاسر ومزّق الكتاب في وسط المجمع، فاضطرب جو المكان، ولما سمع الوزير بهذا الخبر تألم وأنتقل الى ساحل الفرات ولم يتذوّق الطعام الذي أعدِّ له. فخف إليه مار يعقوب ومار ثيودور وغيرهما من الأساقفة وقالوا له: " ليس من المناسب أن يعطّل صلح الكنيسة بسبب خصومات يثيرها أناس غير مهذبين وأعداء الصلح" فقبل الوزير يوحنا هذا الكلام، وطلب منهم أن يقدموا له كتاباً آخر مشابهاً للكتاب الذي أُعدم ففعلوا، ولما أحس الرهبان المشاغبون بالأمر عادوا إلى هياجهم وصاحوا في وجه مار يعقوب: " إذا أنت لا تبطل الكتاب الذي قدّمته فإننا نرفضك، ولن نقبل ان تكون أسقفاً علينا"، فلما رأى الوزير ذلك ألغى الكتاب تهدئة لطيش الرهبان الذين لم يفهم سبب هياجهم.
وانتهت هذه الأخبار الى الملك يوسطينوس الثاني فتميز غيظاً ولكنه كتم غيظه وتذرّع بالصبر وأرسل الى وزيره كتاباً هذا مضمونه: " قد صدر الأمر من مقامنا الى يعقوب وثيودور ليحضرا إلينا للبحث في شؤون الكنيسة، فأطلب منك ومن سرغون أمير دارا أن تبذلا جهدكما لإقناعهما وحملهما على الإمتثال لرغبتنا بالحضور إلينا، لأننا نريد- والله على ما نقول شهيد- أن تتحد الكنائس وتصير واحدة. بناءً عليه أود أن لا تتغاضى عما آمرك به حبّاً بخلاص النفوس فلا نكون مضطهدين للمؤمنين المستقيمي الرأي أمثال هؤلاء، كما إننا لا نريد البتة أن يصير في أيامنا أمر سيء مثل هذه الأمور، التي تحول دون الإتحاد واستتباب السلام، وأنا أدري بأن قيام هؤلاء الأشرار الذين أفسدوا مشروع الصلح إن هو إلا بسبب خطايانا، هذا وقد كتبنا إلى استيفانس وأمرناه أن يدفع لهما نفقات السفر". توجه الأسقف ثيودور إلى العاصمة فاستقبله الملك بتجلة واحترام وأكرام مثواه، أما مار يعقوب فقد حال مَن معه دون سفره ظناً منهم أن في الأمر مكيدة ولعلمهم بأنه إذا أصابه سوء فإن الرعية الأرثوذكسية ستتعرض للخطر بفقد راعيها الحريص على سلامتها، ولكن يوحنا السرمي بطريرك القسطنطينية الخلقيدوني إتخذ من ذلك وسيلة للنيل من مار يعقوب، فأوغر عليه صدر الملك وحمله على أصدار أوامر قاسية ضد الكنائس والأساقفة والكهنة الذين يخالفون رأيه، كما تمكن من الحصول على تفويض ملكي وفيه " أن يُلزم الأرثوذكسيين قسراً بقبول المجمع الرابع الخلقيدوني"، وكان الملك- المحدودة معلوماته الدينية - يرمي من وراء توحيد الإيمان حفظ وحدة الدولة وسلامتها، ولكن الخلقيدونيين استغلوا مرسومه استغلالاً سيئاً، ولكي يضمنوا تأييد الملك لهم أطلقوا على أنفسهم لقب ( الملكيون). وبدأ الإضطهاد من جديد يصيب الأرثوذكسيين رعاةً وكهنة وأفراداً، ولأذكر حادثتين على سبيل المثال:
1- حوالي عام 558 رسم مار يعقوب البرادعي الراهب يوحنا مطراناً لأفسس على الأرثوذكسييّن فنُسِب إليها وإلى آسيا الصغرى، فكان يُدعى “يوحنّا الأفسسي” و”يوحنّا الآسيوي"، وكان حبراً رسولياً في علمه وسيرته وجهاده، وضع تصانيف ممتعة في التاريخ، كما هدى الى النصرانية ثمانين ألفاً من الوثنيين، بانياً لهم اثنتين وتسعين كنيسة وعشرة أديار، وفي سنة 566 خلف ثاودوسيوس الإسكندري في رعاية شؤون الأرثوذكسيين في القسطنطينية وسائر بلاد الروم، وفي عام 571 عندما أمعن يوسطينوس الثاني وأساقفة العاصمة الملكيون في التنكيل بالأرثوذكسيين قبض يوحنا السرمي الخلقيدوني على يوحنا هذا وألقاه في السجن ولننصت إلى هذا الحَبرالصالح يقص علينا ما عاناه في سجنه المضني:
" .. وفي السجن ابتُليت بقروح في يدي ورجلي، فكان البق والذباب يحط فوقها ويؤذيني، وأما فراشي القذر فكان يغطيه القمل والفسفس، وكانت الجرذان قد أتخذت من وسادتي البالية مسكناً، وإذ أنا على تلك الحال، دخل علي يوماً شاب بهي الطلعة يرتدي ثوباً ناصعاً من الحرير الأبيض، وابتدرني قائلاً: السلام لك أيها الأب، ما بالك تئن وتتوجع ومما تشكو؟ فقلت له وقد ظننته من بيت الملك: أنظر يا بني في أية شدّة أنا. فقال الشاب: تشجّع أيها الأب وأشكر الله وثق بأني سأرفع أمرك إلى الملك وأخبره بما تعانيه من ضيق، ثم سألني: هل أنت عطشان؟ فأجبته: أجل يا ولدي أنا عطشان. فغاب عني لحظة عاد بعدها وبيده كأس ماء ما أن شربتها حتى أحسست بأوجاعي تتلاشى، فحمدت الله وشكرت الشاب قائلاً: ليتحنّن الله عليك يا ابني لأنك افتقدتني في ضيقي وعزيتني. أما الشاب فجلس بالقرب مني وطفق يشجعني ويؤكد لي بأن الإيمان الذي من أجله احتمل كل هذه الشدائد إنما هو الإيمان الحق، وكان يتحدث يدعم كلامه بآيات من كتاب الله العزيز حتى دهشت من سعة معلوماته و رسوخ كعبه في العلم الإلهي. وظل الشاب يفتقدني لمدة ثمانية أيام وفي نفس الوقت ويقول لي: تشدّد وتقوّى وابتهج لأن أجراً عظيماً ينتظرك. وفي نهاية الأيام الثمانية جاءني خادم يوحنا السرمي، وقبل أن يفتح فمه صحت في وجهه قائلاً: ولئن سلمنا جدلاً بأن إيمانكم مستقيم فإننا لن نتّحد معكم أبداً لأنكم قساة الى هذا الحد، إنكم لم تدعوا أحد تلاميذي يخدمني في مرضي، فقال: لم يكن لنا علم بمرضك. ثم أرسل فاستدعى أحد تلاميذي، وعندما حضر كف ذلك الشاب البهي الطلعة والأنيس المعشر عن زيارتي. وسألت عنه فلم أجد جواباً شافياً، فعرفت عندئذٍ بأنه إنما كان ملاكاً أرسله الله جلت قدرته لتشجيعي وتعزيت، وتأكد لي ذلك عندما صحّت الكلمة التي قالها لي: إنك في اليوم الفلاني تخرج من السجن، وفعلاً في ذلك اليوم خرجت من السجن القاسي". خرج يوحنا الأفسي من سجنه لا ليعود الى رعيته وإنما ليُبعَد الى إحدى جزر البحر لمدة أربعين شهراً وتسعة أيام، ثم ليُخفَر بحراس ثلاث سنوات، ويُعتقل ثانية ويُخلى سبيله، وفي عهد الملك طيباريوس أُعتُقل ثالثة وأبعد من العاصمة هو وصحبه في أيام عيد الميلاد سنة 578- وفي سنة 586 كف قلبه الكبير عن الخفقان، فطارت روحه الطاهرة الى الخدور العلوية حيث لا ظلم ولا اضطهاد.
2- ألقى يوحنا السرمي القبض على الأسقف الأرثوذكسي اسطيفانس ورماه في السجن، ثم أرسل إليه جنوداً جلدوه جلداً قاسياً حتى أن الدم لطخ جسمه، ثم استحضره وعرض عليه قبول رسامة ثانية، فصاح الأسقف الأرثوذكسي في وجهه قائلاً: " إنني لا أرضى أن أتجرد من الكهنوت أبداً حتى تجرّدوني من معموديتي أولاً. وحينئذ حدثت فتنة عظيمة تمكن اسطيفانس في أثنائها من أن يرى الملك ويصرخ: " لقد بادت المسيحية وفسدت الرتب والقوانين. لقد مضت عليّ عشرون سنة وأنا أسقف، ولأنني الآن أبذل نفسي في طاعتكم يريد يوحنا السرمي أن يجردني من كهنوتي ويرسمني من جديد على زعمه، فليبيّن إلى أي قانون يستند في هذا؟ فإما أنه لا يدري ولا علم له بالقوانين الكنسية، أو أنه يعرفها ويدوسها عناداً وجهلاً جالباً المذمّة والويل على مملكتك، فإن كان بأمرك يقوم بهذه الأعمال فمره أن يبطل أيضاً المعمودية الأولى ويعمّد الأرثوذكسيين مرة ثانية. إن القانون التاسع عشر من قوانين الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر ( مجمع نيقية) يأمر بتعميد أتباع بدعة بولس السمسياطي مرة ثانية بعد ارتدادهم وهكذا تجب رسامتهم أيضاً، فليُرنا يوحنا السرمي القانون الذي يستند إليه وبموجبه يبطل كهنوتنا ويكرر رسامتنا".
انتفض يوسطينوس الثاني لدى سماعه هذا الكلام واستنكر المظالم التي ارتبكها السرمي، وأصدر أمراً سريعاً وفيه: " ان لا يجتريء أحد على تعطيل الكهنوت إلاّ مَن كان من أصحاب البدع التي تنصّ عليها القوانين المقدسة"، ولكن السرمي لم يكفّ عن أعماله العدائية، بل أنه دخل يوماً على الملك ليغريه من جديد على اضطهاد الأرثوذكسيين، فعقد الملك ما بين حاجبيه وقال غاضباً: " قل لي أوثنيون هم هؤلاء الذين تحرّضني على اضطهادهم؟" فأجاب السرمي: كلا. فقال الملك: " لقد اعترفت بلسانك بأنهم نصارى، فكيف تغريني على التنكيل بهم؟ كيف تطلب أن أكون مضطهداً للمؤمنين مثل ديوقلطيان الوثني وسواه؟ امضِ والزم كنيستك ولا تؤذنا بجرائرك ومظالمك"، وصرفه من حضرته. وقال الملك إياه لاوطاخي خليفة السرمي ومشابهه عندما أراد أن يهيّج الملك على الأرثوذكسيين: " يا ناس تكفينا حرب البرابرة، ليس لنا طاقة على إثارة حروب أخرى، فنلقي الفتنة بين المسيحيين فيحارب بعضهم بعضاً، اهدأوا وكفوا عن إثارة الضغائن والشرور، إن تمكنتم من إقناعهم بالمنطق والكلام كان به، وإلا فدعوهم وشأنهم، وإياكم أن تضطهدوهم أو أن تمسوهم بسوء".في هذه الأثناء كان مار يعقوب البرادعي يتجول بين الكنائس مثبتاً دعائم الأرثوذكسية بهمة لا يتطرق إليها التعب، وقد ساعده في عمله الرسولي هذا، الآباء الغيارى الذين أقامهم رعاة على خراف المسيح الوديعة، متأثرين بسيرته ومتوسّمين خطاه، حتى أن كثيرين من الأساقفة والكهنة جالوا وبشروا بكلمة الإنجيل بين الأمم والشعوب، وجذبوا الألوف الى حظيرة المسيح. منهم مار يوحنا الأفسسي الذي سبقت سيرته، والشهيد مار أحودامه الذي قلده القديس البرادعي عام 559 مطرانية بلاد المشرق فنصّر القبائل العربية الضاربة ما بين نصيبين وبلد والمنطقة المحيطة بنينوى، منشئاً لهم ديرين وبعض الكنائس، وشرّفه الله بعمل العجائب تأييداً لدعوته، ولأنه نصّر أميراً من البيت المالك قبض عليه الملك كسرى أنو شروان ( 531-578) وأودعه السجن، ثم أمر بقطع رأسه وذلك في 2 آب عام 575 فدُفن أولاً في بلدة ماحوزي ثم نقل إلى قروتنا فتكريت فالموصل حيث بُنيت فوق ضريحه الطاهر كنيسة ما زالت عامرة. ومنهم أيضاً القديس يوليان الذي دفعته غيرته الى أن يبشر شعب النوبة والحبشة الوثنيين، ولما أخبر الملكة الصالحة ثيودورة بعزمه سُرت بذلك وأثنت عليه وكتبت الى حاكم طيبة ليسهّل مهمته، فمضى يوليان ونصّر أولاً الملك والأعيان ثم تلمذ الشعب ومكث هناك سنتين يعظ ويعمّّد الجماهير الغفيرة في مغاور مملوءة ماء كل يوم من الساعة الثالثة وحتى العاشرة، وهو غائص في الماء لا يبدو منه غير الصدر والعنق. وفي انتهاء السنتين سلمهم إلى أسقف استقدمه من طيبة لرعايتهم وعاد الى القسطنطينية حيث رقد بسلام.هذه الحوادث وأمثالها كانت تعزّي الأورثوذكسيين وتلهيهم عن التفكير بالمظالم التي كان الخلقيدونيون يصبّونها فوق رؤوسهم.
وفي عام 550 رسم مار يعقوب بمعاونة أوكين أسقف سلوقيا بولس آل أوكاما القبطي الجنس بطريركاً لكرسي انطاكية الشاغر، وعندما أصدر الملك يوسطينوس الثاني منشوره وفيه أن يقبل الأرثوذكسيون مقررات المجمع الخلقيدوني شارك بولس الملكيين على رجاء الإتحاد، وإذ لمس خبث طوية الخلقيدونيين ندم وهرب الى سوريا وقدم توبة فقبله الآباء الأرثوذكسيون وفرضوا عليه قانون توبة مدته ثلاث سنوات، وعند انتهاء هذه المدة قبله مار يعقوب ومجمع الآباء. ولما بلغ خبر قبوله إلى الإسكندريين اغتاظوا وكتبوا الى مار يعقوب قائلين: " إن قبلت بولس ننقم عليك ولا نقبلك أسقفاً البتة" فأجابهم مار يعقوب برقة قائلاً: " ها نحن قادمون إليكم ومهما حَسُنَ للجمهور فإننا مستعدون لقبوله". وفي الإسكندرية تقرر قطع بولس قطعاً غير مقترن بحرم، وعاد القديس البرادعي الى سوريا واجتمع الى رؤساء الأديار في دير مار حننيا وتباحثوا في أمر إنتخاب بطريرك جديد، ولكن الأساقفة رفضوا إنتخاب خلف لبولس لأنه لم يُشجب قانونياً. فتأكد عندئذ مار يعقوب من أن العقدة إنما هي في الإسكندرية، فشدّ إليها الرحال ومعه ثمانية أساقفة، ولكن عندما وصلوا الى دير مار رومانوس المعروف بدير قسيان، شاء الله جلّت قدرته أن يريح صفيه البرادعي من أتعابه فنقله إليه وذلك في 30 تموز عام 578- فخف دميانوس بطريرك الإسكندرية إلى الدير واحتفل مع الأحبار بتجنيز الجسد الطاهر ودفن بإكرام في الكنيسة، ووجّه من ثم الى الكنيسة السريانية رسالة تعزية لطيفة هذا مقطع منها:

".. إن ذلك الرجل القديس انتقل الى الراحة الدائمة وهو في مأمن من خمير الهراطقة وزارعي الشقاق، وقد صان طوال مدة حياته كيان كنائسكم في المشرق وكنائسنا في مصر بلا كلل على الدوام... لم تكن للقديس في حياته يد في الشقاق الحاصل بين الكنائس، بل كان في تجواله بيننا وبينكم يحكم رباط المحبة ويقدمه على أي شيء آخر، فلا تحزنوا النفس البارّة التي ارتقت إلى السماء بأن تتخطّوا الحدود القديمة التي وضعها آباونا في المجامع الثلاثة الأولى المقدسة مجمع نيقية ومجمع قسطنطينية ومجمع افسس..". وفي سنة 621 أراد مارزكى أسقف مدينة التل أن ينقل جسد القديس البرادعي إلى ديره، فأوفد أربعة رجال إلى دير مار رومانس عادوا ومعهم رفاته الطاهر. قال المؤرخ موسهيم: " كان يعقوب البرادعي بليغاً في مواعظه قديراً في جهاده"، ولكن ما انتهى إلينا من إنتاجه الأدبي ضئيل، فله ليتورجية أولها : " اللهم يا أبا السلام الكلي القداسة"، وأربع رسائل نشرت في كتاب الاسناد، وثلاث موجهة إلى مار يوحنا الأفسسي، ورسائل عامة إلى الأساقفة والكهنة. طيب الله ثراه ونفعناً بمقبول دعاه?

mor antonios​
[/b][/color]
:36_33_7:​
[/center]


:01f577~130: :01f577~130:

:01f577~130:

سلام المسيح
 
أعلى