عن أيّ مسيحيّة نتكلّم في القيامة الأبهى؟!

اني بل

عضو نشيط
عضو نشيط
إنضم
17 يوليو 2007
المشاركات
36,143
مستوى التفاعل
1,341
النقاط
0
كلّ الحياة توق إلى المجد الأبهى المعطى للخليقة من القيامة. الفصح هو المجد، وبه تمزّقت أسس الجحيم، بعد أن سُبِيَتْ بانحدار الحياة إليها، وطغيانها على تلك المملكة العبثيّة إلى اللانهاية. لم تعطَ للخليقة إمكانيّة الوجود والحياة لو لم يقم المسيح، قيامته وحدها أوجدت وجودًا متحرّكًا مولودًا من قلب الأزل، متوشّحًا بأبديّة الابن المتحقّقة بقيامته من بين الأموات. لم تأت حضارة من الحضارة بهذا الأنموذج، ولم يحقّق دين من الأديان ذلك النصر المتعلّق بحضور الله في التاريخ وانبلاج الحضور الإلهيّ في الإنسان إلاّ بالمسيح يسوع المتألّم والظافر. وإيمان المسيحيين العقيديّ غير القابل للنقاش والجدل بأنّ المسيح مات ثمّ قام كما قال بولس الرسول.

8765712_1428905930.jpg



ليست القيامة محصورة بالمسيح فقط. هي للإنسان المولود على صورة الله ومثاله، والرؤية الجوهريّة، أن يعود بالقيامة إلى الله بالوليد الحبيب القائم من بين الأموات، أي أن يتحقّق مجده بمجد الله. ليس من مجد في هذا العالم قائمًا بحدّ ذاته لو لم يصطبغ بالنور. كل الفنون والثقافات والآداب والشعر والموسيقى وأنواع العلوم كافّة، لم تصنع العالم بالمطلق، لو لم تَتَمَسْحَن، لو لم يدخل المسيح عمقها ويرقد في ليلها، فيكتبها به، لتنتقل بألسنة البشر وأقلامهم أو تشرق بكلماتهم وألوانهم وموسيقاهم وأشعارهم، والسؤال الذي حيّر كبار العلماء، كيف ألّف بيتهوفن السمفونيّة التاسعة بهذه الروعة وهو أطرش؟ لم يستطع أحد الإجابة على هذا السؤال، سوى واحد قال: "هذا هو ينبوع المحبة المتدفّق فيه، ومن تدفقّه ولدت السمفونيّة، لم يؤّلّفها هذا العملاق بل هبطت عليه ومن ثمّ سطعت"، وكل هذا يتم بهذا الاستدخال ما بين البهاء الإلهي والتوق البشريّ للتكامل به بكل الرؤى والجمالات المختلفة والمتنوعة.مجد العالم وجد بمحطتين كانتا ثورة وجوديّة وتكوينيّة تجلّت بولادة خليقة جديدة، هما الصليب والقبر رحما تلك الولادة. بهاء المسيح الكامل ظهر حين علّق على الخشبة، وفي لحظة إسلامه روحه، تمّ الفصح، فتوشّح الإنسان توًّا بحلّة النور، وصار جزءًا من مجد الله. وحين خرج من القبر وأتمّ ظهوراته لمريم المجدليّة وتوما وتلميذي عَمَّاوس، استعاد الإنسان صورة الله فيه، وهو المجد الذي انسكب عليه وأعطي له قبل السقوط. ليس البحث الآن في السقوط ومعناه، البحث مأخوذ إلى القيامة، وبها الإنسان قد غدا حبيب الله بالمسيح نديمه وشريكه في الخلق وفي كل إبداع خالد، وبات غير مائت. كيف هو غير مائت، وينتهي في القبر؟ بعد قيامة المسيح لم يعد السؤال جائزًا عن تحلل الجسد وعودته إلى التراب، فالجواب واضحٌ، وهو أنّ الإنسان يعود توًّا إلى الله، بطاقة القيامة وقوتها المنسكبة في داخله، والآية القرآنية القائلة "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، هي الحقيقة المسيحيّة التي نجيء منها، بالمسيح القائم من بين الأمواتالذي حقّقها، وجسّدها ويجسّدها بسكناه في مملكة الموت، ليس موته، بل موتنا، مقيمًا في الأجساد المتحلّلة لأنها في الأصل كتبت باسمه، في المعموديّة، إلى أن يأتي بمجده هو فتنهض من جديد بقوّة قيامته هو. ألم يقل يوحنّا الذهبيّ الفم: "قام المسيح والجحيم صرعت، قام المسيح ولا ميت في القبر، تمرمرت الجحيم؟" تلك هي حقيقة القيامة أننا نعود إلى الله بها ولم يعد للموت من سلطة علينا.
الفصح البهيّ هو عبور بهيّ وأبديّ. لم يعد العبور حالة جغرافيّة، بل هالة سرمديّة. ما يفرح وما يحزن في آن، أنّ الكنائس اكتظّت بالمؤمنين الوافدين إليها في هذا الموسم الطيّب وبالتحديد في الشعانين والجمعة العظيمة، وتنتهي قصّة الناصريّ فور انتهاء الموسم.كلّ هذا لا يشير إلى الارتباط العميق ما بين المسيحيين وإيمانهم وجذورهم العميقة، المسيح مات وقام وغرس بقيامته تلك الجذور التي كلّفت دمًا مهراقًا في عصور التأسيس، والمسيحيون يعيشون في مسرى المواسم يطربون لها، ويستلذّون نغماتها، في حين أنّ الفصح ليس محصورًا بالموسم بل ممدود في تفاصيل حياتنا، الشخصيّة منها والأمميّة، في الليتورجيا يوم الأحد، وفي أعمالنا وتجوالنا ومعاناتنا. كل أحد عند المسيحيين هو فصح، وفي القداس الإلهيّ يوم الأحد نحتفل بكل هذا الموسم من الأسبوع العظيم المقدس وصولاً إلى القيامة وتتكرّر عملية كسر الخبز التي تمت يوم الخميس العظيم المقدّس، ويتم الدفن الإلهي في الذبيحة الإلهيّة... الطامة الكبرى أنّ هذا الموسم ينتهي عند المؤمنين المفروض أنّه قد ابتدأ من تلك اللحظة لحظة الموت والقيامة.
في هذا الموسم يجدر بنا التساؤل عن أيّ مسيحيّة نتكلّم، إذا ظلّ المسيحيون محصورين بشكل الطقوس، وبقوا مدّة حياتهم يعيشون ككائنات بيولوجيّة، لا يذوقون المسيح بأعماقه هو؟ لماذا يسهل اقتلاعنا من الآخرين، والآخرون يتمدّدون ويتطوّرون، ويشار إلينا عدديًّا فيما نحن وهجُ المشرق، نوره وملحه؟ لم يصل أحد إلى جواب دقيق فيما هو واضح على كلّ الأصعدة. مسألتنا أننا فقدنا هويتنا الجوهريّة، وانتماءنا العظيم بهذا الذي سفك دمه وسرت في عروقنا حتى يبقى بنا ويستمر ويوجد ويتحرّك. يسوع هو رأس خلاصنا والإنجيل دستورنا، ولا يذاق المسيح إلاّ بالكلمة والخبز، وخارج ذلك ليس من مسيح. وعندما نفقد هويتنا نفقد حقيقتنا ليسهل مضغنا ونتوقع سلخنا. القضية روحية وكيانية وسياسيّة وإنمائيّة، الكنيسة معنيّة بها بكلّ مؤسساتها التعليميّة والاستشفائيّة والتبشيريّة، والنخب الفكريّة واللاهوتيّة والسياسيّة الغائبة عن الوعي والمنهمكة بالسجالات حينًا والمباحثات الهذيانيّة معنيّة بها بالمقدار عينه، حركات الشبيبة لها دورها الكبير في تحديد مستقبل المسيحيّة. بولس الرسول العظيم كتب قائلاً: "لو لم يقم المسيح لكان إيماننا باطلاً"، المسيحية بهويتها ووجودها كتبت بالقيامة، الكنيسة سارت بقوة القيامة، فأين الشرائح تلك من قيامة المخلّص التي تسير وتسري فينا؟ يتراءى لكثيرين مثلي بأنّنا بتنا في بون كبير بين المسيحيين وبين القيامة على كلّ المستويات. المسيحية الأولى تأسست بالدم، تكاثر الاضطهاد فكان لنا شهداؤنا، اشتهى مسيحيو ذلك الزمن الشهادة أنهم أحبوا يسوع. المشهد يتكرر اليوم في العراق وسوريا، فما معنى أن نخاف إذا كنا نحب المسيح من كل قلوبنا وأعماقنا، لمن نصلّي ونعمل؟ وفي الوقت عينه يبقى أن نشير بأن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، بمعنى أن المؤسسات المسيحيّة لم تعد تنتمي إلى الحقيقة المسيحية الترجمة بالمحبة المجانية كما وصفها الأب ألكسندر شميمن.
خلال الموسم علت أصوات طالبت بتوحيد العيد بتوقيت واحد. الكنيستان الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة المشرقيتان مدعوّتان لتوحيده... لماذا رهن توقيته بحسابات فلكيّة فيما الجوهر أن ننشد معًا المسيح قام حقًّا قام... لماذا لا يتمّ الاتفاق على توقيت وموعد واحد يكون على سبيل المثال لا الحصر الأحد الثاني أو الثالث من نيسان؟ ألا يستحق مسيحيو المشرق، ألا يستحق يسوع المسيح أن نعيّد له بتوقيت واحد هو الّذي افتدانا بدمه؟ لا يقنع الكلام مطلقًا بالصلاة لتحقيق الوحدة على الأقل في الفصح. الوحدة إرادة وليست تمنيًّا وصلاة، يسوع المسيح ينادينا للوحدة.
تعالوا إلى الفصح البهيّ نتشارك به ونتشح بضيائه لتمتلئ نفوسنا به وتتحرّك أجسادنا بنصره، حينئذ لن يبتلعنا الموت، ويمزّقنا اضطهاد، فنبقى شهودًا له بصرخة وجودية واحدة المسيح قام حقًّا قام.
 
أعلى