محو الآثار المسيحيّة لا يمحو المسيحيّة

paul iraqe

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
3 يناير 2014
المشاركات
15,606
مستوى التفاعل
1,314
النقاط
113
الإقامة
IRAQ-BAGHDAD
Metropolitan-Elias-Audi-web.jpg


عبّر متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده عن موقفه من تحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، في عظة قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، فقال:
"أحبّائي، نعيّد اليوم لآباء المجمع المسكونيّ الرّابع، الّذي انعقد في مدينة خلقيدونيا (في القسم الشّرقيّ من تركيا الحاليّة). أهمّيّة هذا المجمع المقدّس أنّه وضع حدًّا للقائلين بأنّ للرّبّ يسوع طبيعة واحدة إلهيّة فقط، وأنّ هذه الطّبيعة ابتلعت الطّبيعة البشريّة في التّجسّد. وضع المجمع الرّابع تحديدًا عقائديًّا يقول: إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساو للآب في الألوهة ومساو لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدّهور ولد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، ولد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريّة. واحد هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الرّبّ، الّذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين من دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحد هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الرّبّ يسوع المسيح.
أكّد هذا المجمع المقدّس أنّ المسيح يحوي طبيعتين كاملتين: إلهيّة وبشريّة، إنّه إله أزليّ مساو للآب في الأزليّة، وفي الوقت نفسه مولود من مريم العذراء. لقاء الطّبيعتين في المسيح يسوع يجعل خلاص الإنسان متاحًا لكلّ من يتّحد بالمسيح، لأنّ المسيح هو الطّريق والحقّ والحياة بالنّسبة إلينا، والحقّ لا يخفى ولا يغلب.
سمعنا في إنجيل اليوم: لا يمكن أن تخفى مدينة واقعة على جبل، ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، لكن على المنارة ليضيء لجميع الّذين في البيت. إلّا أنّ بعض قادة هذا العالم يحبّون الظّلام أكثر من النّور، ويرغبون في أن تبقى شعوبهم سائرة في الظّلمة وظلال الموت حتّى لا يخرجوا إلى النّور فيعرفوا الحقيقة وينالوا الحكمة الإلهيّة الّتي تحرّرهم من العبوديّة المرّة. إخوتي الأحبّة، إنّ كنيستنا المقدّسة تعترف بسبعة مجامع مسكونيّة، اجتمعت كلّها في مناطق من آسيا الصّغرى، تركيا الحاليّة: نيقيا، القسطنطينيّة، أفسس، خلقيدونيا. تمّ تحديد إيماننا المسيحيّ عقائديًّا في تلك البقعة من الأرض، وانتشر إلى كلّ المسكونة. في تلك المنطقة، اعترف بالمسيح إلهًا حقًّا. هناك كان مهد الأرثوذكسيّة، أيّ الإيمان القويم. آسيا الصّغرى، لم تكن فقط مركزًا للايمان القويم، بل كانت أيضًا مركزًا بالغ الأهمّيّة للفنّ المعماريّ، وخصوصًا على عهد الإمبراطور يوستينيانوس، الّذي لم يقبل بدعوة مهندسين من مدينة الفنون روما، إنّما كلّف مهندسين وطنيّين لبناء أشهر كنائس تلك الحقبة، وكلّ الحقبات التّالية، أعني كنيسة الحكمة الإلهيّة (Hagia Sophia) يقول المؤرّخون إنّ الإمبراطور يوستينيانوس، لشدّة جمال الكنيسة، لم يطلق عليها إسم أيّ من القدّيسين، بل دعاها الحكمة الإلهيّة.
نرتّل في يوم الفصح المجيد: أيّها المسيح الفصح الأجل الأمثل، يا حكمة الله وكلمته وقوته، أنعم علينا بأن نساهمك بأوفر حقيقة، في نهار ملكك الّذي لا يغرب أبدًا. إذًا، المسيح يسوع إلهنا هو الحكمة الإلهيّة، الّتي يذخر الكتاب المقدّس في الحديث عنها، وقد وضعت من أجلها عدّة أسفار دعيت الأسفار الحكميّة. نقرأ في سفر الحكمة: الحكمة بهاء كلّها، وبهاؤها لا يبهت (6: 12). هذا ما عاشه آباؤنا، ونعيشه في المسيحيّة. مرّت على المسيحيّة قرون من الاضطهادات والتّنكيلات ومحاولات طمس الحقيقة الإلهيّة، لكن هذه الحقيقة لم تبهت ولم تتأثّر، بل هي موجودة حتّى يومنا هذا، ومسنودة ومبنيّة على صخرة الإيمان القويم، على مخلّصها يسوع المسيح. كلّ من حاول النّيل من المؤمنين عبر التّاريخ، نال جزاءه من لدن الله، إذ أنّنا قوم نتّكل على الرّبّ وعلى قضائه العادل، ولسنا من دعاة العنف وحمل الأسلحة. يقول سفر الحكمة: إسمعوا أيّها الملوك وتعقّلوا. أصغوا أيّها المتسلّطون على الجماهير، أيّها المفتخرون بكثرة الخاضعين لكم من الأمم: جبروتكم من الرّبّ، ومن العليّ سلطانكم. وهو سيفحص أعمالكم ونيّاتكم، فما أنتم إلّا حكامه في خدمته، فإذا لم تحكموا بالعدل وتعملوا بأحكام الشّريعة وتسيروا حسب مشيئته، فسينزل عليكم بغتة عقابًا شديدًا... الّذي هو ربّ الجميع لا يخاف أحدًا ولا يهاب عظمة أحد... إليكم، إذًا، أيّها الملوك أوجه كلامي، لتتعلّموا الحكمة فلا تضلّوا (6: 9-1). فهل من له أذنان للسّمع لكي يسمع؟
الأسبوع الماضي، غرز سيف في ظهر إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك وفي قلب وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السّلام العالميّ والعيش المشترك الّتي تمّ توقيعها في أبو ظبي العام الفائت. تقول هذه الوثيقة إنّ الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يؤازره ويحبّه. هذه الوثيقة دعت صنّاع السّياسات الدّوليّة بإسم الأخوّة الّتي أرهقتها سياسات التّعصّب والتّفرقة، الّتي تعبث بمصائر الشّعوب ومقدّراتهم، وأنظمة التّربّح الأعمى، والتّوجّهات الأيديولوجيّة البغيضة، إلى العمل جدّيًّا على نشر ثقافة التّسامح والتّعايش والسّلام، فأين التّسامح والتّعايش والسّلام في ما حدث بكنيسة الحكمة الإلهيّة؟ خلق الله البشر متساوين، لا فضل للواحد على الآخر، لذلك إنّ احترام الآخر وقبوله هما من الحقوق والواجبات المقدّسة، وكلّ من ينقضهما يكون مجرمًا في حقّ البشريّة ككلّ. غريب جدًّا، أنّنا مقسومون، في القرن الحادي والعشرين، بين من يدعون إلى الأخوّة والتّسامح، وبين من يغتالون الإخوة ويبثّون التّفرقة والحقد. هل يعقل أنّ ثمّة من يكره السّلام ويعبث بمقدّسات الآخرين وفي الوقت نفسه يعلن افتتاح بيت صلاة لإله السّلام؟ الكنيسة مكان يرفع فيه المؤمنون قلوبهم إلى الله، يسبّحونه ويمجّدونه ويشكرونه على كلّ شيء. ما الضّير في ذلك؟ وهل إذا حوّلت إلى مسجد يسبّح الله بطريقة أفضل؟
العالم اليوم، ما عدا بعض الشّواذ، يبشّر بالأخوّة والتّسامح والانفتاح وبالتّنوّع والتّعدّد والاعتراف المتبادل كما جاء في إعلان الأزهر، فكيف يفسّر تحويل متحف كان كنيسة إلى مسجد، في بلد كان يتغنّى بعلمانيّته؟ وفي زمن، أحوج ما يكون الإنسان فيه إلى طيّ صفحات الطّغيان والحروب السّوداء، ونسيان الأحقاد والعمل على إرساء روح السّلام في العالم، والأخوّة بين الشّعوب. الدّين ليس أداة يستعملها السّياسيّون لأغراضهم، وبيوت الله أماكن للعبادة لا للشّعبويّة وبناء الأمجاد.
يا أحبّة، كنيستنا هي كنيسة آبائيّة، وقد علّمنا الآباء القدّيسون أن نبني على تعب من سبقونا، لا أن نهدم بناءهم ونبني غيره. هكذا البشريّة أيضًا، لا تستطيع أن تتطوّر إن بقينا نهدم التّاريخ لنصنع غيره. التّاريخ تراكم حقبات، ومن ينكر من سبقه سينكره من يخلفه. إنّ طمس معالم تاريخ الإخوة ليس بطولة، بل إجرام ومحاولة اغتيال فاشلة، لأنّ التّاريخ لا يطمس وفي الوقت نفسه لا يرحم. التّاريخ يفضح المجرمين ولو بعد قرون. تذكّروا مكتبة بغداد، الّتي لم ينس النّاس على مرّ العصور أنّها كانت تحفة فريدة، بينما نسوا الّذي ظنّ أنّه بطل وأحرقها، لكنّهم يدينون فعلته في كلّ يوم ومناسبة. الشّعبيّة السّياسيّة والدّينيّة لا تبنى على أنقاض الكنائس وتغيير ملامحها وإخفاء أيقوناتها. الأيقونات لا تختفي لأنّ كلّ مؤمن هو أيقونة بذاته، إذ خلقه الله على صورته ومثاله، والهياكل لا تنقض لأنّ كلّ مؤمن هو هيكل للرّوح القدس (1كو 6: 19). ليس مؤمنًا من يقفل الكنائس، حتّى ولو ظهر كذلك في نظر جزء من أبناء جنسه. شتّان بين الإيمان المنفتح على كلّ آخر، وبين التزمّت والتّشدّد الّذي يعمي البصر والبصيرة ولا يعود صاحبه يرى أحدًا سوى نفسه.
كنيسة الحكمة الإلهيّة شمخت عبر العصور، رغم احتراقها عدّة مرّات، وتعرّضها للزّلازل تارّة وتغيير وجهة استعمالها طورًا، لكنّها ستبقى شامخة لأنّها تحفة دينيّة فنّيّة شاهدة على عصرها، الأمر الّذي لن يستطيع أحد تغييره أو إنكاره. إنكار التّاريخ ليس بطولة، ومحو الآثار المسيحيّة لا يمحو المسيحيّة الّتي لن تغلبها قوى الظّلام والتّعصّب. يقول الرّسول بولس في رسالته إلى العبرانيّين: لأنّ ليس لنا هنا مدينة باقية، لكنّنا نطلب العتيدة (عب 13: 14). همّ المسيحيّ الأوحد هو ألّا يخسر الملكوت. كلّ الأشياء والمناصب على هذه الأرض زائلة، لكنّ إيماننا ورجاءنا بالله السّرمديّ عظيمان، وهو ما عبّر عنه النّبيّ داود في سفر المزامير قائلاً: الله حماية لنا وعزّة، ونصير عظيم في الضّيق. فلا نخاف وإن تزحزحت الأرض، ومالت الجبال إلى قلب البحار، وتدفّقت مياهها وجاشت، وارتعشت من ارتفاعها الجبال. جداول النّهر تفرح مدينة الله، مساكن العليّ المقدّسة. الله في داخلها فلن تتزعزع. ينصرها ما طلع الصّبح. تضجّ الأمم وتتزعزع الممالك، وعلى صوت الله تموج الأرض (مز 46: 1-7).
أخيرًا، نقول مع يشوع بن سيراخ إنّ رأس الحكمة وكمالها وتاجها وأصلها هي مخافة الرّبّ (1: 20-14). نحن نخاف الرّبّ ونؤمن به وبحكمته ومشيئته، لذلك لن نتزعزع أبدًا. أمّا الّذين يظنون أنّهم يستطيعون أن يغلبوا المتوكّلين على الرّبّ، فهم واهمون لأنّ المؤمن المتوكّل على الله يصرخ بلسان النّبيّ داود: بالرّبّ احتميت، فكيف تقولون لي: أهرب إلى الجبال كالعصفور؟ لأنّ الأشرار يحنون القسيّ ويسدّدون سهامهم في الظّلام ليرموا كلّ مستقيم القلب... الرّبّ في هيكله المقدّس، الرّبّ في السّماء عرشه، عيناه تبصران بني البشر...(مز 11).
دعائي أن يشدّدنا الرّبّ في كلّ امتحان إيمان يواجهنا، وأن نبقى صامدين في وجه الرّياح العاصفة، لأنّ الحقّ لا يموت، والحقّ هو المسيح ابن الله وكلمته وحكمته
 
أعلى