ديمومة الشهادة للمسيح

sam_msm

عضو مبارك
عضو مبارك
إنضم
18 مايو 2007
المشاركات
1,549
مستوى التفاعل
382
النقاط
83



شهداء العصور الأولى:
_______________________


مما يلفت النظر في سِيَر الشهداء في العصور الأولى أنهم لم يكونوا وجلين من الموت، بل على العكس كانوا يفرحون بهذه الصورة من الموت. وكان الكثيرون منهم يصيحون وهم في طريق الموت: ”الشكر لله“! وكانت تسودهم الفكرة بأن الإنسان إن ظل أميناً لله خلال العذابات وحتى الموت، فسينال منه المجازاة. ونقرأ في التقليد المسيحي ببساطة عن ”معمودية الدم“، فإن دم الشهيد يُطهِّر مَن لم يتقبَّل معمودية الماء، ويمحو خطايا من اعتمد فعلاً بالماء كمعمودية ثانية.

والإيمان الراسخ حتى الموت يُعطي الشهيد رجاءً ثابتاً في الخلود والقيامة، ويجعله حقاً في مركز ممتاز لدى الله، إذ يُحسَب أنه إناء لروح الله. وكانت تُعلَن له الأحلام والرؤى المتنوعة.

إن ما يدفع الشهيد إلى الاستشهاد هو شهوته إلى اقتفاء آثار المسيح والاقتداء بسيده، وحَمْل الصليب مثله. وكان يحسب ذلك امتيازاً يشكر الله من أجله، لأنه كان يرى فيه الطريق الذي يقوده إلى الشركة الحقيقية مع الرب.

وتُعتبر رسالة القديس إغناطيوس الأنطاكي إلى رومية شهادة مؤيِّدة لهذا الاتجاه، إذ كان يعتبر أن استشهاده ”ذبيحة إفخارستية“: فإنه لا يريد أن يأكل ويشرب الإفخارستيا فقط، بل أن يصبح هو نفسه إفخارستيا كيما يصير متحداً بالمسيح في فعل محبة فائق، كما أنه يرجو أيضاً أن يكون له نصيب كامل كتلميذ على مثال الرسل. ويشير إيرينيئوس أسقف ليون إلى إغناطيوس ليؤكِّد أهمية هذا التفسير الإفخارستي للشهيد

ويوضِّح أيضاً الشهيد بوليكاربوس صراحةً كيف يواجه الشهيد العذابات بقوله: ”... لنكن، إذن، متشبِّهين بصبر المسيح. وإن كنا نتألم من أجل اسمه، فلنمجِّده، فهذا هو المثال الذي قدَّمه لنا في ذاته، وهذا هو ما آمنا به“ (إلى الفيليبيين 9: 1).

وتُعتبر صلاة القديس بوليكاربوس، وهو على كومة الحطب المهيَّأة لحرقه، مَثَلاً من أجمل الأمثلة على الفكر الإفخارستي الذي كان يُحرِّك فؤاده وهو يتقدَّم للشهادة: ”يا أيها الآب الذي للابن المبارك المحبوب يسوع، أُباركك لأنك جعلتني أهلاً أن أُحسب في عداد شهدائك، وأن أُشارك في كأس مسيحك من أجل قيامة النفس والجسد في الحياة الأبدية، في عدم فساد الروح القدس“(2).

صدى الاستشهاد في الكنيسة:
_____________________________

إن شهادة الشهيد هي تشجيع للمؤمنين، وتقوية لإيمانهم بحقائق الكرازة، وخاصة حقيقة الإيمان بالقيامة. ولأن المسيح نفسه هو الذي ينتصر في الشهيد مجدَّداً على قوات الشر؛ لذلك فالشهيد بشهادته يشهد، إذن، لاستمرارية تدبير الخلاص وحضور الرب وسط خاصته. وعلى ذلك فالكنيسة تقبل شهادة الشهداء على أنها شهادة للمسيح، لكونه هو المتألِّم والمتكلِّم فيهم، ولذا تُكتب سِيَر الشهداء وتُحفظ للأجيال، وتُقرأ في أثناء عبادة الكنيسة: ”فأنتم الذين تتعلَّمون بهذه السيَر ستدخلون في شركة مع الشهداء القديسين، وبواسطتهم مع ربنا يسوع المسيح“(3).

إن كل شهيد يدل، بقبوله الاستشهاد، على النصرة المحقَّقة على الشيطان. وسِيَر الشهداء مُفعمة بالإشارات إلى الحرب الكائنة بين المسيح والشيطان، وذلك في نصوص اعتراف الشهداء ومحاكماتهم وموتهم، حيث البطل الأرضي هنا هو ببساطة مجرد منفِّذ لعمل المسيح فيه: ”وبما أن المسيح هو الذي يغلب وينتصر في الشهداء، فإن النصرة تعود دلالتها وثمارها ليس على الشهيد نفسه فقط، بل على الجماعة كلها، فتنعم بالسلام وانحسار قوة الشيطان عنها...“(4).

مؤازرة الكنيسة للشهداء والمعترفين:
__________________________________________

إن الكنيسة لم يكن لها دور تجاه الشهداء في استشهادهم سوى الصلاة من أجلهم وتشجيعهم على الثبات والجَلَد حتى ينالوا إكليلهم. أما المعترفون، فكان دور الكنيسة قاصراً على تقديم المعونات المادية والروحية لهم طيلة حياتهم وحتى الموت. وبغيرة مذهلة كان المسيحيون وخاصة الشمامسة - وهذا هو دورهم - يزورون المعترفين، بل وغيرهم أيضاً، في سجونهم كيما يُحضروا لهم الطعام وليعزوهم بحضورهم أو برسائل المؤمنين إليهم. وزيادة على ذلك، فالجماعات آزرت المعترفين بصلواتهم التي كانت هي الرباط الأساسي بين الإخوة في جسد المسيح الواحد(5). وفي ذلك يقول القديس كبريانوس:

[إننا بصورةٍ ما في السجن معكم، ونعتقد أننا نحس بالكرامة التي يسبغها عليكم صلاح الله، طالما نحن متحدون معكم بالقلب. وإذ نذكركم ليلاً ونهاراً، نطلب من الله في الصلوات العامة وطوال تقديم الذبيحة، كما أيضاً في الصلوات الخاصة التي نقيمها في بيوتنا، أن يحفظكم الله في كل شيء وأن يهبكم الشجاعة المجيدة]

ولم تعرف الكنيسة على مدى تاريخها كله أي حركات للمقاومة أو الاحتجاج أو التذمُّر، بأية صورة، ضد السلطات الحاكمة، بسبب الاضطهاد والتعسُّف؛ بل واجهت كل هذا بالتسليم المطلق لمشيئة الله، أفراداً وجماعات، وبالصلاة من أجل الحُكَّام والرؤساء، ليتكلَّم الله ”في قلبه بالسلام نحو كنيستك وكل شعبك...“ (قداس اللقان).

أثر الاستشهاد في العالم غير المسيحي:
_____________________________________________

كان صدى شهادة الشهداء في العالم الوثني قديماً على وجهين:

- فمن ناحية، قوبلت حوادث الاستشهاد بلا مبالاة واحتقار، إذ يقول تاسيتوس: ”إن المسيحيين قُهروا من حقد الجنس البشري“(7)، ويرى فيهم بليني: ”عناداً وصلابة رأي لا تلين“(8). أما الإمبراطور مرقس أوريليوس فيرى فيهم: ”الجرأة الفظة التي يندفعون بها إلى الموت“(9).

- ومن ناحية أخرى، كان ثبات الشهداء يثير اهتمام وإعجاب الوثنيين كما يقول ترتليانوس: ”من ذا الذي عند مشاهدة منظر الشهداء لا تهتز مشاعره، ولا يبحث في أعماق هذا السر؟ ومَن ذا الذي إذا عثر على هذا السر لا ينضم إلينا“(10)؟ وربما كان ترتليانوس بذلك يوضِّح الدوافع الخاصة لإيمانه.

ويعترف يوستينوس الشهيد أن توبته كانت بسبب رؤية شجاعة الشهداء: ”وإذ رأيتهم جسورين بإزاء الموت... فهمتُ أنه ما كان ذلك ممكناً قط لو أنهم كانوا قد عاشوا في الرذيلة أو محبة الشهوات“(11). وما أكثر إقرارات التوبة التلقائية للمشاهدين، فنحن نعرف ذلك عن:

+ ذاك الذي قاد يعقوب بن زبدي للمحاكمة.

+ وكذا الجندي واسيليدس عند استشهاد بوطامينا.

+ وأيضاً الجندي بودنس عند استشهاد برباتوا وصاحباتها

[ لقد امتلأ كل العالم دهشة عند نظر هذه الأعاجيب، وأقبل عدد كبير إلى الإيمان بواسطة الشهداء، بل وأصبحوا هم أنفسهم بدورهم شهداءَ من أجل الله]

فحقاً كان للشهداء المسيحيين في العصور الأولى دور تبشيري، حتى قال ترتليانوس عبارته المشهورة: ”دماء الشهداء بذار الإيمان“

ديمومة الشهادة في الكنيسة:
______________________________________________

لم يكن شهداء العصور الأولى علامة مميزة لكنيسة عصرهم فحسب، بل أيضاً لكنيسة جميع العصور، فهم أعضاء في شركة القديسين. وقد أقرَّ القديس أُغسطينوس ذلك مُسْبقاً بقوله:

[كل الأرض قد احمرَّت من دماء الشهداء، والسماء قد أزهرت من أكاليلهم، والكنائس قد تزيَّنت بقبورهم، والفصول قد تميَّزت بأعيادهم، وصحة النفس والجسد لدى كثيرين قد تشدَّدت بقوتهم](17).

ويردِّد هذا المعنى أحد المؤرِّخين المعاصرين مُعبِّراً عن الرباط الروحي بين الشهداء وبيننا بقوله:

[إن مثال موت الشهداء يؤثِّر فينا لأنهم أعضاؤنا ولنا علاقة بهم، فإن عزيمتهم الثابتة يمكن أن تصنع عزيمتنا]

لكن تطويب الإنجيل للاضطهادات(19)، ليس مُنصبّاً على المسيحيين الأوائل فقط، بل هو إحدى العلامات الأساسية للمسيحية. وفي جميع العصور كان هناك شهداء حافظوا مثل تلاميذ المسيح على المُثُل العُليا للحياة المسيحية، وأفضلهم على الأقل كان يسعى من تلقاء ذاته لأن يحيا بنفس الروح، ولو كان ذلك بدون سفك دم.

شهداء كل يوم:
_________________________
حينما انتهى عصر الاضطهاد بسفك الدم، صارت الاضطهادات قليلة ومحلية، لكنها لم تكفَّ تماماً قط، بل إن مواجهة الهرطقات والتوسُّع التبشيري في البلاد الوثنية والمواجهة مع السلطات المقاوِمة للكنائس المستقيمة الرأي؛ أدَّت بكثير من المسيحيين إلى تقديم حياتهم حبّاً وأمانة للمسيح.

نعم، يتهيَّأ للشهادة، كل مؤمن يقبل برضا النتائج البعيدة لعهود معموديته، وللشهادة لحبه للمسيح وللناس، حتى الموت ضمناً، معتمداً في ذلك ليس على قواه الخاصة بل على الروح القدس الذي يتكلَّم في الرسل (مت 10: 20؛ يو 15: 27،26).

ويُعتبر شهيداً حقاً ذاك الذي يُقابل موتاً عنيفاً، مُكمِّلاً بتصميم هذا الالتزام مُعطياً - كالمسيح - البرهان الأعظم لأعظم حب وهو يموت من أجل مَن يحبهم (يو 15: 13).

إن حالة الاضطهاد هي الحالة العادية للكنيسة في العالم، كما هو مكتوب: «جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون» (2تي 3: 12). لذا فكثيراً ما كان يحدث الاضطهاد لأتقياء الله حتى على يدي إخوتهم ورفقائهم أيضاً من نفس الإيمان.

واستشهاد المسيحي هو الحالة العادية لاعترافه، فالاستشهاد هو أُفق الحياة المسيحية. وبينما كان الاستشهاد في العهد القديم يُظهر كم كان المعتقد اليهودي قوياً في نفوس أتباعه، فإن الاستشهاد في العهد الجديد يُعلن عن صليب المسيح الذي صار لتلاميذ الرب بمثابة نعمة. موت المسيح بالنسبة لنا هو إعلان عن مجد الحب الإلهي، أما موت الشهيد فهو إعلان عن مجاهرته بالمسيح المصلوب.

الاستشهاد الباطني:
__________________________

إن كان الاستشهاد بالدم هو أكمل وسيلة لتبعية المسيح وتحقيق الوجود المسيحي، فهو لن يكون الوسيلة الوحيدة، من حيث إن فرصته ليست مُقدَّمة للجميع، ولا ينبغي حتى أن تُطلب. لذلك فإنه بعد انقضاء زمان الاضطهاد، صارت هناك طُرق أخرى للقداسة يمكن أن تُحسَب أنها مساوية للاستشهاد، ونعني بها أنماط حياة إنكار الذات والمحبة الكاملة المطلوبة من كل تلميذ للمسيح، وكبرهان على استعداد النفس للاستشهاد لو طُلِبَ ذلك منها فعلاً.

فالبتولية والحياة الرهبانية مثلاً، بما تتضمنه من إخلاء كامل، صارت طرقاً مماثلة جداً للاستشهاد.
 

قلم حر

المفدي بالنعمه
مشرف سابق
إنضم
16 أغسطس 2006
المشاركات
8,812
مستوى التفاعل
21
النقاط
0
الإقامة
بلاد الشام
بحث مختصر رائع جدا .
شكرا جزيلا .
ربنا يبارك كل أعمالك .
 

KOKOMAN

.
مشرف سابق
إنضم
9 سبتمبر 2007
المشاركات
122,437
مستوى التفاعل
414
النقاط
0
الإقامة
ALEX
راااااااائع استاذ سام
مرسىىىىىى جدا
ربنا يباركك ويعوض تعب محبتك
 

فراشة مسيحية

ميكو قلب ماما
مشرف سابق
إنضم
22 نوفمبر 2006
المشاركات
25,378
مستوى التفاعل
156
النقاط
63
الإقامة
قلب إلهي يسوع المسيح
116.gif
 
أعلى