.
وحشتك إزاي بس يا ست نعومة أنا كنت هنا من أسبوعين فقط!
ربنا يباركك أشكرك يا أمي الغالية على محبتك الكبيرة. وصلني إشعارين لأجلك لا إشعار واحد، ولم يكن ممكنا بالتالي أن أتجاهل رسائلك التي بالأحرى أمتن لها كثيرا. أشكرك على الكلمات الطيبة والثقة الكبيرة التي أرجو أن أكون أهلا لها. فقط سامحيني إذا لم أستطع الحضور أحيانا بغض النظر كم يصلني من إشعارات.
أيضا صدقيني: الأفضل من كل كلماتي ورسائلي هو أن أصلي يا أمي لأجلك، وهو بالفعل ما أقوم به دون سؤال. أصلي أن يمد الرب يده بالشفاء لجسدك وروحك، أن يمنحك القوة والصبر والقدرة على التحمل، أن يغسل عن عينيك الدموع وعن قلبك الهموم والأحزان، وأن تشرق نعمته بروحك فيملأك سلام الرب وتبتهجين بالفرح والمسرة، بصلاوات العنبر المختار سيدتي البتول سلوى القلوب كنز البركات وملجأ البنين القديسة العذراء مريم كلية الطهر.
***
تقولين برسالتك الأخرى:
انا ولا حاجة انا شوية تراب لا رحت ولا جيت انا انسانة خاطئة باكذب كثيراً وباتعصب كثيراً وانا باتذمر كثيراً على وصعي الصحي التعبان وانا مش بركة ابداً دا كله من ذوقك اخونا المبارك الغالي خادم البتول
تمام يا ست نعومة.. "التذمر".. هو هذا التذمر هو المشكلة كلها يا أمي الغالية! 
عندما يمرض الإنسان أو يتألم فهو يشعر بمشاعر سيئة عديدة وتدور أفكاره كلها بالتالي في فلك واحد: أرفض هذا التعب ـ اكره هذا المرض ـ لا أريد أن أبقى هكذا ـ يا رب ارحمني ـ يا رب متى ترحمني ـ ما عدت أحتمل ـ ما عدت أطيق.. إلخ
هكذا يعاني الإنسان، ولكن ما هو حقا سبب المعاناة هنا؟ هل هو حقا التعب أو المرض أو حتى الألم؟ لا، على الإطلاق! السبب الحقيقي لمعاناتنا هو بالأحرى "هذه الأفكار" نفسها يا أمي. بل أكثر من ذلك: هذه الأفكار هي نفسها المعاناة. معنى أنك تعانين هو أن عقلك ببساطة يمتلئ بهذه الأفكار!
نحن بالتالي لا نعيش في هذا الواقع حقا أو حسب ما يفرض الواقع علينا. نحن بالأحرى نعيش في "عقولنا" لا في الواقع، ونحن بالتالي نتألم ونشقى (أو نسعد ونفرح) حسب "أفكارنا"! أو كما كتبت لكِ قديما: نحن لا نعاني بسبب ما يحدث لنا، نحن نعاني بسبب "مقاومتنا" لما يحدث لنا.
بعبارة أخرى: أنتِ لا تعانين يا أمي بسبب التعب أو المرض، وإنما هذه "الأفكار" نفسها (أرفض.. أكره.. أتذمر.. إلخ) هي سبب المعاناة! أنتِ لا تعيشين المرض حقا كما تعتقدين (والذي ربما لو عشتيه حقا لوجدتي فيه بالعكس بعض المعاني "الجميلة"). أنتِ بالأحرى تعيشين "المقاومة"، تعيشين "هذه الأفكار"، ولذلك تعانين!
.
الآن لنفترض أن أفكارنا ـ حين يشتد المرض علينا ـ راحت تدور بالأحرى في فلك آخر يختلف تماما. على سبيل المثال: أقبل هذا التعب ـ أوافق على حضوره ـ أحتضنه دون خوف ـ أعيشه في شجاعة ـ أتأمله في شموخ ـ أحتمله وأعرف أن قوة الرب معي تساعدني على احتماله ـ لا بل أريد هذا التعب ما دامت هذه مشيئته سبحانه ـ أقبل يا رب كل ما تقبل ـ أريد يا رب كل ما تريد ـ لأني أثق بمشيئتك الصالحة لأجلي ـ لأني أثق بمحبتك الفائقة.. إلخ
الآن هل يمكن ـ مع هذه الأفكار ـ أن تعانين؟ مطلقا. حتى لو كان هناك ألم جسدي فسوف يظل القلب رغم ذلك في سلام لا يهتز وربما يرقص حتى في فرح أيضا!
السبب ببساطة هو أن انتقلنا من "المقاومة" ـ التي هي السبب الحقيقي للمعاناة ـ إلى "القبول" ـ الذي هو في الحقيقة أساس المحبة ومنبع السعادة!
.
ثم هناك ما هو أعلى حتى من القبول أيضا، ألا وهو "الامتنان" يا أمي! تأملي على سبيل المثال القديسة مارجريت (مارغريت) ـ لؤلؤة اسكتلندا، والتي كنا بالمصادفة نحتفل بتذكارها منذ أيام. تأملي "أفكار" هذه القديسة وماذا كان يدور بعقلها أثناء حزنها الشديد (بعد أن جاءها فجأة خبر وفاة ابنها وزوجها معا في الحرب). كانت مارجريت تقول في صلاتها الشهيرة:
«أشكرك إيها الإله القدير، إذ أرسلت لي كل هذا الحزن العظيم كي أتنقى من خطاياي».
لقد أدركت هذه القديسة أن الحزن ليس مجانا وأن التجارب لا تأتي عبثا أو اعتباطا. لقد أدركت أن كل ما بالكون هو بالأحرى تعبير عن الله وعن "محبة" الله التي تتجاوز كل وصف أو تعبير! لقد أدركت أن الآلام بالأحرى تطهّرنا وتنقّينا، وأننا بقدر ما نضعف ونعجز وننقص جسديا، بقدر ما أننا ـ ما دمنا مع الرب ـ بالعكس نزيد ونرتفع ونحلّق روحيا!
هكذا ترتفع با أمي من فكر "المقاومة" إلى فكر "القبول"، فكر الرضا والتسليم بمشيئة الرب في حياتنا، ثم ها نحن نرتفع مرة أخرى من فكر القبول إلى فكر "الامتنان"، فكر العرفان والتقدير والشكر العميق لكل هذه المعاني ولكل النعم والبركات التي تحملها لأجلنا هذه التجارب!
.
وما هي الألام حقا، ولماذا نشعر بأي ألم في حياتنا؟
السبب أن داخل كل منا جدران عالية حجبت عن القلب نور الشمس. نحن نعيش يا أمي داخليا في ظلام. ولكن الرب الرحوم لا يتركنا، بل يرسل إلينا المعاول والمطارق كي تهدم هذه الجدران. وحين تضرب المعاول وتهوي المطارق ويبدأ سحق الحجارة داخلنا: عندئذ نشعر بالألم!
الألم بالتالي هو هذه الثغرات التي تفتحها التجارب في قلوبنا كي ينفذ الشعاع أخيرا إلينا! من ثم كلما كان الألم أكبر، عرفنا أن الفتحة التي سوف يمر منها النور أكبر. وهكذا حتى تسقط أخيرا كل الجدران التي بنيناها عبر السنين داخلنا ـ كل الأحقاد، كل المخاوف والهواجس، كل إحساس دفين بالذنب أو العار، كل حزن أخفيناه عميقا وتركناه حبيسا داخلنا، كل كذبة أقدمنا بإرادتنا عليها، وأخيرا كل رغبة ما زالت تربطنا بهذا العالم! هذه هي الجدران التي بنيناها داخلنا فحجبت عنا وجه الشمس رويدا رويدا، وتلك هي التجارب التي ـ بنعمة الرب ومن فيض محبته ورحمته ـ سمح بها كي تنهدم كل هذه الجدران فيغمرنا عندئذ بهاء شمسه ونسبح في بحر محبته ونذوب في حضرة أنواره، حضرة القدرس سبحانه حيث لا حزن بعد ذلك أبدا!
.